الكلام في دلالة الصحيحة على حجية الاستصحاب 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5662


 وأمّا الثاني: فنقول قد ذكر فيها فقرتان:

 الفقرة الاُولى: هي قول الراوي: الرجل ينام إلخ... وهذا سؤال عن شبهة حكمية، وهي أنّ الخفقه والخفقتان توجب الوضوء أم لا، ووجه الشبهة أمران: الأوّل: هو الاشتباه المفهومي في النوم، بأن يكون الراوي لا يعلم أنّ النوم هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا، فيكون من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر. الثاني: احتمال كون الخفقة والخفقتين ناقضاً للوضوء مستقلاً كسائر النواقض من


ــ[16]ــ

دون أن يكون داخلاً في مفهوم النوم، وعلى كل حال أجابه الإمام (عليه السلام) بعدم انتقاض الوضوء بالخفقة والخفقتين بقوله (عليه السلام): يا زرارة إلخ... وإنّما جمع بين نوم العين والاُذن وترك نوم القلب، للتلازم بين نوم القلب ونوم الاُذن على ما ذكره بعضهم، فذكر نوم الاُذن يكفي عن ذكر نوم القلب، وهذه الفقرة لا دخل لها بالمقام.

 الفقرة الثانية: هي قول الراوي: فان حرّك في جنبه شيء إلخ... وهذا سؤال عن شبهة موضوعية مع العلم بأصل الحكم، باعتبار أ نّه قد تحصل للانسان حالة لا يرى فيها ولا يسمع لاشتغال قلبه بشيء، ولا سيما قبل عروض النوم، فيشك في تحقق النوم، فأجاب الإمام (عليه السلام) بعدم وجوب الوضوء مع الشك في تحقق النوم بقوله (عليه السلام): «لا، حتى يستيقن أ نّه قد نام» أي لا يجب عليه الوضوء في صورة الشك إلى أن يتيقن.

 ولا إشكال في دلالة الرواية على حجية الاستصحاب في موردها، فانّ البناء على الوضوء مع الشك في الحدث مما لا إشكال فيه ولا خلاف، إنّما الكلام في التعدي عن المورد والحكم بالتعميم، وهو مبنيٌ على أحد أمرين: الأوّل ما ذكره الشيخ(قدس سره)(1) ووافقه صاحب الكفاية (قدس سره)(2)، وهو أنّ الجواب ـ للشرطية المذكورة بقوله (عليه السلام) وإلاّ ـ محذوف، أي لا يجب عليه الوضوء، وقام التعليل وهو قوله (عليه السلام): «فانّه على يقين من وضوئه» مقام الجواب، وهو كثيرٌ في الآيات وغيرها، كقوله تعالى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ ا لْعَالَمِينَ)(3). ومن المعلوم أ نّه ليس الجواب هو قوله تعالى: (فَإنَّ اللهَ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 563.

(2) كفاية الاُصول: 389.

(3) آل عمران 3: 97.

ــ[17]ــ

 

غَنِيٌّ عَنِ ا لْعَالَمِينَ )، لعدم ترتبه على الشرط المذكور، فانّ الله غني عن العالمين كفروا أم لم يكفروا، فالجواب محذوف وهو: لن يضر الله، وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ ) تعليل قام مقام الجواب، ونقل الفاء من الجواب واُدخل على التعليل لقيامه مقام الجواب، وكذا في المقام حيث إنّ الجواب يعلم مما ذكر قبل الشرط، وهو قوله (عليه السلام) «لا، حتى يستيقن» فحذف واُقيم التعليل مقامه.

 ولهذا التعليل ـ وهو قوله (عليه السلام): «فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك» في بدو النظر ـ احتمالات ثلاثة:

 الأوّل: أن يكون المراد من اليقين والشك في قوله (عليه السلام) «ولا ينقض اليقين بالشك» هو اليقين والشك المذكورين، أي اليقين المتعلق بالوضوء والشك المتعلق بالنوم المفروضين في كلام زرارة، فيكون المراد لا ينقض يقينه بالوضوء بالشك في النوم.

 وهذا الاحتمال بعيد جداً، لأنّ مفاد التعليل حينئذ يكون عين الحكم المعلل به، فيلزم التكرار المسـتهجن، إذ يصير مفاد مجموع الكلام من الحكم المعلل والتعليل أ نّه لا يجب الوضوء على من تيقن بالوضوء وشك في النوم، لأ نّه على يقين من وضوئه ولا ينقض يقينه بالوضوء بالشك في النوم، ومعنى عدم نقض هذا اليقين بذاك الشك هو عدم وجوب الوضوء، وهذا هو التكرار.

 الثاني: أن يكون المراد من اليقين هو اليقين السابق، أي اليقين المتعلق بالوضوء، ولكنّ المراد من الشك مطلق الشك في الناقض لا خصوص الشك في النوم بالغاء الخصوصية عن الشك، للقطع بعدم دخل خصوصية النوم في الحكم بعدم وجوب الوضوء، فيكون المراد أنّ المتيقن بالوضوء لاينقض يقينه بالوضوء بالشك في الحدث، سواء كان الشك في النوم أم في غيره من النواقض، فيكون قوله (عليه السلام) «لا ينقض اليقين بالشك» قاعدةً كلّيةً في باب الوضوء فقط.

ــ[18]ــ

 الثالث: أن يكون المراد من اليقين هو مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء بالغاء الخصوصية عن اليقين أيضاً، كالغاء الخصوصية عن الشك، فيكون المعنى أنّ المتيقن بشيء ـ سواء كان الوضوء أم غيره ـ لا ينقض يقينه بالشك فيه، فيكون قاعدةً كلّيةً في الوضوء وغيره، وهو المطلوب.

 والظاهر أنّ الاحتمال الثالث هو المتعين، لظهور التعليل في العموم، لأنّ قوله (عليه السلام) «فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك» جواب مقنع لزرارة، ومن المعلوم أنّ سؤاله لم يكن مبنياً على خصوصية الوضوء، بل بناء سؤاله على أنّ المتطهر إذا شك في الحدث هل يجب عليه تحصيل الطهارة أم لا، سواء كان متطهراً بالوضوء أم بالغسل، فكما تعدّينا عن الشك في النوم إلى غيره من النواقض لعدم دخل لخصوصية النوم في الحكم، كذلك نتعدى عن خصوصية الوضوء أيضاً إلى غيره، فيكون حاصل جواب الإمام (عليه السلام) أنّ هذا المتيقن بالوضوء الشاك في النوم لا يجب عليه الوضوء، لأ نّه كان متيقناً بالوضوء، وكل من تيقن بشيء لا ينقض يقينه بالشك فيه، فيكون التعليل راجعاً إلى قاعدة ارتكازية وهي عـدم نقض الأمر المبرم وهو اليقين بالأمر غير المبرم وهو الشك، ويتم المطلوب من عدم جواز نقض اليقين بالشك بلا اختصاص بمورد الرواية.

 الأمر الثاني: أن لايكون الجواب محذوفاً، بل الجواب هو قوله (عليه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشك» ويكون قوله (عليه السلام) «فانّه على يقين من وضوئه» توطئة للجواب، أو الجواب هو قوله (عليه السلام): «فانّه على يقين من وضوئه».

 ويقع الكلام في موضعين: الأوّل في صحة هذا التركيب. والثاني: في استفادة حجية الاستصحاب على تقدير صحته.

ــ[19]ــ

 أمّا الكلام في الموضع الأوّل: فالظاهر عدم صحة كون الجواب أحد المذكورين، أمّا قوله (عليه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشك» فلكون الواو مانعاً عن كونه جواباً. وأمّا قوله (عليه السلام): «فانّه على يقين من وضوئه» فلأ نّه إن بني على ظاهره من كونه جملةً خبريةً، فلا يصح كونه جواباً، لعدم ترتبه على الشرط المستفاد من قوله (عليه السلام): «وإلاّ» لأنّ المراد من اليقين في قوله (عليه السلام): «فانّه على يقين من وضوئه» هو يقينه بالوضوء السابق، وهذا اليقين حاصل له على الفرض سواء استيقن بالنوم بعده أم لا، فلا يكون مترتباً على الشرط المستفاد من قوله (عليه السلام) «وإلاّ» أي وإن لم يستيقن أ نّه قد نام، فلا يصح كونه جواباً عنه. وإن بني على كونه جواباً وكونه إنشاءً في المعنى، أي يجب عليه المضي على يقينه من حيث العمل كما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) (1)، فالظاهر عدم صحته أيضاً، لأ نّا لم نعثر على استعمال الجملة الاسمية في مقام الطلب، بأن يقال زيد قائمٌ مثلاً ويراد به يجب عليه القيام. نعم، الجمل الخبرية الفعلية استعملت في مقام الطلب كثيراً: أعاد أو يعيد، أو «من زاد في صلاته استقبل استقبالاً»(2) وأمّا الجملة الاسمية فلم يعهد استعمالها في مقام إنشاء الطلب. نعم، الجملة الاسمية تستعمل لانشاء المحمول، كما يقال: أنتِ طالق، أو أنت حرّ في مقام إنشاء الطلاق وإنشاء الحرية، وكذا غيرهما من الانشاءات غير الطلبية، مضافاً إلى أ نّا لو سلّمنا كونها في مقام الطلب، لا يستفاد منها وجوب المضي والجري العملي على طبق اليقين، بل تكون طلباً للمادة أي اليقين بالوضوء، كما أنّ الجملة الفعلية في مقام الطلب تكون طلباً للمادة، فان قوله: أعاد أو يعيد طلب للاعادة، فيكون قوله (عليه السلام) «فانّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فوائد الاُصول 4: 336.

(2) الوسائل 8: 231 / أبواب الخلل ب 19 ح 1 (باختلاف يسير).

ــ[20]ــ

على يقين من وضـوئه» طلباً لليقين بالوضوء، ولا معنى له، لكونه متيقناً بالوضوء على الفرض.

 وأمّا الكلام في الموضع الثاني: فالظاهر استفادة حجية الاستصحاب من الصحيحة على تقدير كون الجواب هو قوله (عليه السلام): «فانّه على يقين من وضوئه» أو قوله (عليه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشك» وإن كانت دلالة الصحيحة على حجية الاستصحاب على تقدير كون الجواب محذوفاً أظهر، إلاّ أ نّها دالةٌ عليها على تقدير كون الجواب أحد الأمرين المذكورين أيضاً، للقرينة الخارجية والداخلية:

 أمّا القرينة الخارجية: فهي ذكر هذه الفقرة الدالة على عدم جواز نقض اليقين بالشك في روايات متعددة واردة في أبواب اُخر، غير مسألة الشك في الحدث كما يأتي ذكرها (1) إن شاء الله تعالى، فتدلّ على أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشك قاعدة كلّية لا اختصاص لها بباب الوضوء.

 وأمّا القرينة الداخلية فاُمور:

 أحدها: أنّ اليقين والشك من الصفات ذات الاضافة، كالحب والبغض وغيرهما من ذوات الاضافة، وهي مشتركة مع باقي الأعراض الخارجية في الاحتياج إلى الموضوع، وممتازة عنها بالاحتياج إلى المتعلق مضافاً إلى الموضوع، فانّ اليقين كما يحتاج في وجوده إلى الموضوع وهو المتيقن ـ بالكسر ـ كذا يحتاج إلى المتعلق وهو المتيقن ـ بالفتح ـ فلا وجود لليقين إلاّ متعلقاً بشيء، فكلّما ذكر اليقين في كلام، لا بدّ من ذكر متعلقه، وإلاّ لم يتم الكلام في الافادة. فذكر الوضوء ـ في قوله (عليه السلام): «فانّه على يقين من وضوئه» ـ لا يدل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 57، 69 وغيرهما.

  
 

ــ[21]ــ

على اعتبار خصوصية الوضوء في عدم جواز نقض اليقين بالشك، بل ذكر المتعلق إنّما هو لعدم تمامية الكلام بدونه، وذكر خصوص الوضوء إنّما هو لكون مورد السؤال والجواب هو الوضوء ، فبعد كون ذكر الوضوء لما ذكرنا لا لاعتبار الخصوصية، يكون إطلاق قوله (عليه السلام) «ولا ينقض اليقين بالشك» هو المتبع، فلا اختصاص للاستصحاب بباب الوضوء.

 ثانيها: نفس لفظ النقض في قوله (عليه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشك» فانّه يدل على أنّ العبرة باليقين إنّما هو باعتبار أنّ اليقين أمر مبرم مستحكم، والشك تحير وغير مبرم، ولا يجوز نقض المبرم بأمر غير مبرم بلا اعتبار خصوصية الوضوء.

 ثالثها: قوله (عليه السلام): «أبداً» فانّه إشارة إلى أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشك قاعدة كلّية ارتكازية لا اختصاص لها بمورد دون مورد، وتكون هذه الكلمة في الصحيحة بمنزلة لا ينبغي في رواية اُخرى(1)، كما يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

 وربّما يتوهّم أنّ كون هذه القاعدة ارتكازية ينافي ما ذكرنا سابقاً من عدم تحقق السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب، وأنّ عملهم مبني على الاطمئنان أو الاحتياط أو الغفلة.

 وهو مدفوع: بأنّ قاعدة عدم جواز نقض اليقين بالشك قاعدة ارتكازية مسلّمة، فانّ اليقين والشك بمنزلة طريقين يكون أحدهما مأموناً من الضرر والآخر محتمل الضرر، فاذا دار الأمر بينهما، لا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطريق المأمون. وما أنكرناه سابقاً إنّما هو تطبيق هذه الكبرى الكلية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي صحيحة زرارة الثانية ويأتي ذكرها في ص 57.

ــ[22]ــ

على الاستصحاب، لعدم صدق نقض اليقين بالشك عرفاً، لأنّ اليقين متعلق بالحدوث فقط، والشك متعلق بالبقاء، فلم يتعلق اليقين بما تعلق به الشك حتى لا يجوز نقض اليقين بالشك فلا يصدق نقض اليقين بالشك عرفاً.

 فتطبيق هذه الكبرى الارتكازية على الاستصحاب إنّما هو بالتعبد الشرعي لأجل هذه الصحيحة وغيرها من الروايات الآتية. ولا مانع من كون الكبرى مسلّمةً ارتكازية مع كون بعض الصغريات غير واضحة، فان اجتماع الضدّين مما لا إشكال ولا خلاف في كونه محالاً، مع أ نّه وقع الخلاف بينهم في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهة أ نّه هل يكون اجتماعهما من قبيل اجتماع الضدّين أم لا.

 فتحصّل مما ذكرنا: أنّ الصحيحة تدل باطلاقها على حجية الاستصحاب مطلقاً، بلا فرق بين الأحكام الكلّية والجزئية، والموضوعات الخارجية، فانّها باطلاقها تدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك سواء كان متعلق اليقين هو الحكم الكلّي أو الجزئي، أو الموضوع الخارجي، ولا يلزم استعمال اللفظ في معنيين أصلاً. وقد ذكرنا (1) نظير ذلك في حديث الرفع من أ نّه باطلاقه شامل للشبهة الحكمية والموضوعية، ولا يلزم استعمال اللفظ في معنيين على ما نقله الشيخ (قدس سره)(2) عن بعضهم، فانّه يدل على أنّ الحكم المجهول مرفوع، سواء كان سبب الجهل عدم تمامية البيان من قبل الشارع كما في الشبهات الحكمية، أو كان سبب الجهل هي الاُمور الخارجية. وما نختاره من عدم حجية الاستصحاب في الأحكام الكلية إنّما هو للمانع الخارجي كما سنتعرّض له(3) إن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 304.

(2) نقله الشيخ في ذيل الاستدلال برواية الحِل، فرائد الاُصول 1: 372.

(3) في ص 42.

ــ[23]ــ

شاء الله، لا من جهة عدم شمول الصحيحة له.

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net