الشبهة العبائية - فرعان في المقام 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5976


 بقي الكلام في إشكال آخر على استصحاب الكلي منسوب إلى السيد الصدر (قدس سره) وهو المعروف بالشبهة العبائية، ومبني على القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، وملخص هذا الاشكال: أ نّه لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد طرفي العباء ثم غسلنا أحد الطرفين، فلا إشكال في أ نّه لا يحكم بنجاسة الملاقي لهذا الطرف المغسول، للعلم بطهارته بعد الغسل، إمّا بالطهارة السابقة أو بالطهارة الحاصلة بالغسل، وكذا لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الآخر، لأنّ المفروض عدم نجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، ثمّ لو لاقى شيء مع الطرفين فلا بدّ من الحكم بعدم نجاسته أيضاً، لأ نّه لاقى طاهراً يقينياً وأحد طرفي الشبهة، والمفروض أنّ ملاقاة شيء منهما لا توجب النجاسة، مع أنّ مقتضى استصحاب الكلي هو الحكم بنجاسة الملاقي للطرفين، فلا بدّ من رفع اليد عن جريان الاستصحاب في الكلي، أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، لعدم إمكان الجمع بينهما في المقام.

 وقد أجاب عنه المحقق النائيني(1) (قدس سره) بجوابين في الدورتين:

 الجواب الأوّل: أنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباء ليس من استصحاب الكلي في شيء، لأن استصحاب الكلي إنّما هو فيما إذا كان الكلي المتيقن مردداً بين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير، كالحيوان المردد بين البق والفيل على ما هو المعروف، بخلاف المقام فانّ التردد فيه في خصوصية محل النجس مع العلم بخصوصية الفرد، والتردد في خصوصية المكان أو الزمان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فوائد الاُصول 4: 421 و 422، أجود التقريرات 4: 94 و 95.

ــ[132]ــ

لا يوجب كلية المتيقن، فليس الشك حينئذ في بقاء الكلي وارتفاعه حتى يجري الاستصحاب فيه، بل الشك في بقاء الفرد الحادث المردد من حيث المكان وذكر لتوضيح مراده مثالين:

 الأوّل: ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار فانهدم الطرف الشرقي منها، فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه، ولو كان في الطرف الغربي فهو حي، فحياة زيد وإن كانت مشكوكاً فيها إلاّ أ نّه لا مجال معه لاستصحاب الكلي، والمقام من هذا القبيل بعينه.

 الثاني: ما إذا كان لزيد درهم واشتبه بين ثلاثة دراهم مثلاً، ثمّ تلف أحد الدراهم، فلا معنى لاستصحاب الكلي بالنسبة إلى درهم زيد، فانّه جزئي واشتبه بين التالف والباقي.

 وهذا الجواب غير تام، فانّ الاشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباء باستصحاب الكلي، بل الاشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لا يجتمع مع القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة، سواء كان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلي أو الجزئي، فكما أ نّه لا مانع من استصحاب حياة زيد في المثال الأوّل، كذلك لا مانع من جريان الاستصحاب في مسألة العباء. وأمّا المثال الثاني فالاستصحاب فيه معارض بمثله، فانّ أصالة عدم تلف درهم زيد معارض بأصالة عدم تلف درهم غيره، ولو فرض عدم الابتلاء بالمعارض لا مانع من جريان الاستصحاب فيه، كما إذا اشتبه خشبة زيد مثلاً بين أخشاب لا مالك لها لكونها من المباحات الأصلية فتلف أحدها، فتجري أصالة عدم تلف خشبة زيد بلا معارض.

 الجواب الثاني: أنّ الاستصحاب المدعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد كان الناقصة، بأن يشار إلى طرف معيّن من العباء ويقال: إنّ هذا الطرف كان

ــ[133]ــ

نجساً وشك في بقائها، فالاستصحاب يقتضي نجاسته، وذلك لأن أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، وليس لنا يقين بنجاسة طرف معيّن يشك في بقائها ليجري الاستصحاب فيها.

 نعم، يمكن إجراؤه في مفاد كان التامة بأن يقال: إنّ النجاسة في العباء كانت موجودة وشك في ارتفاعها فالآن كما كانت، إلاّ أ نّه لا تترتب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلاّ على القول بالأصل المثبت، لأنّ الحكم بنجاسة الملاقي يتوقف على نجاسة ما لاقاه وتحقق الملاقاة خارجاً، ومن الظاهر أنّ استصحاب وجود النجاسة في العباء لا يثبت ملاقاة النجس إلاّ على القول بالأصل المثبت، ضرورة أنّ الملاقاة ليست من الآثار الشرعية لبقاء النجاسة، بل من الآثار العقلية، وعليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباء.

 ونظير ذلك ما ذكره الشيخ(1) (قدس سره) في استصحاب الكرية فيما إذا غسلنا متنجساً بماء يشك في بقائه على الكرية، من أ نّه إن اُجري الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بأن يقال: إنّ هذا الماء كان كراً فالآن كما كان، فيحكم بطهارة المتنجس المغسـول به، لأن طهارته تتوقف على أمرين: كرية الماء، والغسل فيه، وثبت الأوّل بالاستصحاب والثاني بالوجدان، فيحكم بطهارته، بخلاف ما إذا اُجري الاستصحاب في مفاد كان التامة بأن يقال: كان الكر موجوداً والآن كما كان، فانّه لا يترتب على هذا الاستصحاب الحكم بطهارة المتنجس إلاّ على القول بالأصل المثبت، لأنّ المعلوم بالوجدان هو غسله بهذا الماء، وكريته ليست من اللوازم الشرعية لوجود الكر، بل من اللوازم العقلية له.

 وفي هذا الجواب أيضاً مناقشة ظاهرة، إذ يمكن جريان الاستصحاب في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 660، وراجع كتاب الطهارة 1: 161.

ــ[134]ــ

مفاد كان الناقصة مع عدم تعيين موضع النجاسة، بأن نشير إلى الموضع الواقعي ونقول: خيط من هذا العباء كان نجساً والآن كما كان، أو نقول: طرف من هذا العباء كان نجساً والآن كما كان، فهذا الخيط أو الطرف محكوم بالنجاسة للاستصحاب، والملاقاة ثابتة بالوجدان، إذ المفروض تحقق الملاقاة مع طرفي العباء، فيحكم بنجاسة الملاقي لا محالة.

 وما ذكره (قدس سره) ـ من أ نّه لا يمكن جريان الاستصحاب بنحو مفاد كان الناقصة، لأن أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر ـ جار في جميع صور استصحاب الكلي، لعدم العلم بالخصوصية في جميعها، ففي مسألة دوران الأمر بين الحدث الأكبر والأصغر يكون الحدث الأصغر مقطوع الارتفاع بعد الوضوء، والحدث الأكبر مشكوك الحدوث من أوّل الأمر، وهذا غير مانع عن جريان الاستصحاب في الكلي، لتمامية أركانه من اليقين والشك.

 فالانصاف في مثل مسألة العباء هو الحكم بنجاسة الملاقي لا لرفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة على ما ذكره السيد الصدر (قدس سره) من أ نّه على القول بجريان استصحاب الكلي لا بدّ من رفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة، بل لعدم جريان القاعدة التي نحكم لأجلها بطهارة الملاقي في المقام، لأنّ الحكم بطهارة الملاقي إمّا أن يكون لاستصحاب الطهارة في الملاقي، وإمّا أن يكون لجريان الاستصحاب الموضوعي وهو أصالة عدم ملاقاته النجس. وكيف كان يكون الأصل الجاري في الملاقي في مثل مسألة العباء محكوماً باستصحاب النجاسة في العباء، فمن آثار هذا الاستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي.

 ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في

ــ[135]ــ

مثل المقام، للأصل الحاكم على الأصل الجاري في الملاقي، فانّ التفكيك في الاُصول كثير جداً، فبعد ملاقاة الماء مثلاً لجميع أطراف العباء نقول: إنّ الماء قد لاقى شيئاً كان نجساً، فيحكم ببقائه على النجاسة للاستصحاب فيحكم بنجاسة الماء، فتسمية هذه المسألة بالشبهة العبائية ليست على ما ينبغي.

 ثمّ إنّ هنا فرعين لا بأس بالاشارة إليهما:

 الفرع الأوّل: إذا علمنا بنجاسة شيء فعلاً، وشككنا في أنّ نجاسته ذاتية غير قابلة للتطهير أو عرضية قابلة له، كما إذا علمنا بأنّ هذا الثوب من الصوف نجس فعلاً، ولكن لا ندري أنّ نجاسته لكونه من صوف الخنزير أو لملاقاة البول مثلاً، فعلى القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي كما هو المختار، نحكم بعدم كونه من صوف الخنزير وبطهارته بعد الغسل. وأمّا على القول بعدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي فيحكم بنجاسته بعد الغسل لاستصحاب كلي النجاسة، لدوران النجاسة حينئذ بين فرد مقطوع الارتفاع بعد الغسل وفرد متيقن البقاء.

 الفرع الثاني: إذا علمنا بطهارة شيء فعلاً لقاعدة الطهارة ثمّ عرضت له النجاسة فطهّرناه، فشككنا في ارتفاعها لاحتمال كون النجاسة ذاتية غير قابلة للتطهير، كما في الصابون الذي يؤتى به من الخارج ويحتمل كونه مصنوعاً من شحم الخنزير والميتة، فانّه محكوم بالطهارة فعلاً لقاعدة الطهارة، فاذا عرضت له النجاسة فغسلناه، فلا محالة نشك في طهارته، لاحتمال كونه مصنوعاً من نجس العين، ولكنّه مع ذلك محكوم بالطهارة بعد الغسل، ولا مجال لجريان استصحاب الكلي حتى على القول بعدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي، لأ نّه قبل طروء النجاسة العرضية عليه كان محكوماً بالطهارة لقاعدة الطهارة، وبعد كونه طاهراً بالتعبد الشرعي يجري عليه أحكام الطاهر، ومن جملتها أ نّه

ــ[136]ــ

يطهر من النجاسة العرضـية بالتطهير الشرعي، وبالجملة بعد الحكم بكونه طاهراً بالتعبد الشرعي يدخل تحت العمومات الدالة على أنّ المتنجسات تطهر بوصول المطر أو الماء الجاري إليها، فلا مجال لجريان استصحاب الكلي، لكونه محكوماً بالأصل الموضوعي. هذا تمام الكلام في القسم الثاني من استصحاب الكلي.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net