6 ـ الاستصحاب التعليقي \ تفصيل الأنصاري بين العقود التعليقية وغيرها 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5214

 

التنبيه السادس

 في الاستصحاب التعليقي، اعلم أنّ الحكم تارةً يكون فعلياً من جميع الجهات، واُخرى يكون فعلياً من بعض الجهات دون بعض، ويعبّر عن الثاني بالحكم التعليقي مرةً وبالحكم التقديري اُخرى، كما يعبّر عن الأوّل بالحكم التنجيزي.

 والكلام في جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي إنّما هو بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية التنجيزية، لأ نّه مع الالتزام بعدم جريان الاستصحاب فيها ـ كما هو المختار ـ كان البحث عن جريان الاستصحاب في الأحكام التعليقية ساقطاً.

 وقبل التكلم في جريان الاستصحاب التعليقي وعدمه لا بدّ من بيان مقدمة، وهي أنّ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على أقسام:

 فتارةً يكون أخذ العنوان لمجرد الاشارة إلى حقيقة المعنون بلا دخل للعنوان في ثبوت الحكم، بحيث يفهم العرف من نفس الدليل الدال على الحكم أنّ الحكم ثابت لهذا الموضـوع مع تبدل العنوان المأخوذ بعنوان آخر، كعنوان الحنطة والشعير مثلاً فانّه إذا دلّ دليل على أنّ الحنطة حلال، يستفاد منه عرفاً

ــ[162]ــ

أنّ الحلية ثابتة لحقيقة الحنطة ولو مع تبدل هذا العنوان كما إذا صار دقيقاً ثمّ عجيناً ثمّ خبزاً، فيستفاد من حليتها الحلية في جميع هذه التبدلات، ففي مثل ذلك لا نشك في بقاء الحكم في حال من الحالات حتى نحتاج إلى الاستصحاب.

 واُخرى يكون الأمر بعكس ذلك ـ أي يفهم العرف من نفس الدليل أنّ الحكم دائر مدار العنوان فيرتفع بارتفاعه ـ كما في موارد الاستحالة كاستحالة الكلب ملحاً ونحوها من موارد الاستحالات. وقد يستفاد ذلك في غير موارد الاستحالة كما في حرمة الخمر فانّها تابعة لصدق عنوانه، فاذا تبدل عنوانه لم يحتمل بقاء حكمه، ففي أمثال ذلك نقطع بارتفاع الحكم بمجرد تبدل العنوان، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

 وثالثةً لا يستفاد أحد الأمرين من نفس الدليل، فنشك في بقاء الحكم بعد تبدل العنوان لاحتمال مدخلية العنوان في ترتب الحكم، وهذا كالتغير المأخوذ في نجاسة الماء، فانّه لا يعلم أنّ النجاسة دائرة مدار التغير حدوثاً وبقاءً، أو أ نّها باقية بعد زوال التغير أيضاً لكونه علةً لحدوثها فقط. وهذا القسم هو محل الكلام في جريان الاستصحاب.

 وظهر بما ذكرنا من تحقيق موارد الاستصحاب التعليقي أنّ تمثيلهم له بماء الزبيب غير صحيح، فانّ الاستصحاب إنّما هو فيما إذا تبدلت حالة من حالات الموضوع فشك في بقاء حكمه، والمقام ليس كذلك، إذ ليس المأخوذ في دليل الحرمـة هو عنوان العنب ليجري استصحاب الحرمة بعد كونه زبيباً، بل المأخوذ فيه هو عصير العنب وهو الماء المخلوق في كامن ذاته بقدرة الله تعالى، فانّ العصير ما يعصر من الشيء من الماء، وبعد الجفاف وصيرورته زبيباً لا يبقى ماؤه الذي كان موضوعاً للحرمة بعد الغليان. وأمّا عصير الزبيب فليس هو إلاّ ماء آخر خارج عن حقيقته وصار حلواً بمجاورته، فموضوع

ــ[163]ــ

الحرمة غير باق ليكون الشك شكاً في بقاء حكمه فيجري فيه الاستصحاب.

 وبعد الغض عن المناقشة في المثال نقول: إنّ الشك في بقاء الحكم الشرعي يتصور على وجوه ثلاثة لا رابع لها:

 الأوّل: ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الكلي في مرحلة الجعل لاحتمال النسخ.

 الثاني: ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الجزئي لاحتمال عروض تغير في موضوعه الخارجي ويعبّر عنه بالشبهة الموضوعية، كما إذا علمنا بطهارة ثوب واحتملنا نجاسته لاحتمال ملاقاته البول مثلاً.

 الثالث: ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الكلي المجعول لأجل الشك في سعة موضوعه وضيقه في مقام الجعل، ويعبّر عنه بالشبهة الحكمية، كما إذا شككنا في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال لاحتمال أن يكون الموضوع لحرمة الوطء خصوص المرأة حال رؤيتها الدم، أو المحدث بحدث الحيض، ليعمّ من لم تغتسل بعد وإن انقطع الدم عنها.

 أمّا القسم الأوّل، فلا إشكال في جريان الاستصحاب التعليقي فيه إذا قلنا بجريان الاستصحاب التنجيزي فيه، فكما إذا شككنا في بقاء حرمة الخمر لاحتمال النسخ يجري استصحاب عدم النسخ، كذلك إذا شككنا في بقاء حكمه التعليقي كوجوب الحد على من شربه يجري استصحاب عدم النسخ أيضاً، ولكنّا سنذكر(1) عدم صحة جريان الاستصحاب في موارد الشك في النسخ مطلقاً.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في التنبيه السابع ص 175.

ــ[164]ــ

 وكذا القسم الثاني، فانّه مع الشك في بقاء الموضوع الخارجي على ما كان عليه، يحكم ببقائه على ما كان بمقتضى الاستصحاب، ويترتب عليه جميع أحكامه المنجّزة والمعلّقة.

 إنّما الكلام في القسم الثالث، والظاهر ابتناء هذا البحث على أنّ القيود المأخوذة في الحكم هل هي راجعة إلى نفس الحكم ولا دخل لها بالموضوع، أو راجعة إلى الموضوع، فعلى تقدير القول برجوعها إلى نفس الحكم، يكون الحكم الثابت للموضوع حصة خاصة من الحكم، فيثبت الحكم عند تحقق موضوعه، فاذا وجد العنب في الخارج في مفروض المثال، كان الحكم بحرمته الخاصة فعلياً لا محالة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه عند الشك في بقائه.

 وأمّا على تقدير القول برجوعها إلى الموضوع، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لكون الموضوع حينئذ مركباً من العصير وغليانه. وفعلية الحكم المترتب على الموضوع المركب متوقفة على وجود موضوعه بتمام أجزائه، لأن نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علته، ولا يمكن تحقق المعلول إلاّ بعد تحقق العلة بما لها من الأجزاء، فوجود أحد جزأي الموضوع بمنزلة العدم، لعدم ترتب الحكم عليه، فلم يتحقق حكم حتى نشك في بقائه ليكون مورداً للاستصحاب.

 وحيث إنّ الصحيح في القيود هو كونها راجعةً إلى الموضوع على ما ذكرنا في مبحث الواجب المشروط(1)، فلا مجال لجريان الاستصحاب في المقام.

 ولا فرق فيما ذكرناه من كون القيود راجعةً إلى الموضوع بحسب اللب بين أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 167.

ــ[165]ــ

يكون القيد مذكوراً في الكلام بعنوان الوصف، كما إذا قال المولى يجب الحج على المستطيع، أو بعنوان الشرط كما إذا قال يجب الحج على المكلف إن استطاع. نعم، بينهما فرق من جهة ثبوت المفهوم في الثاني دون الأوّل، لكنّه لا دخل له فيما نحن فيه من كون القيد راجعاً إلى الموضوع دون الحكم.

 فتحصّل مما ذكرناه: عدم تمامية الاستصحاب التعليقي.

 نعم، هنا شيء وهو أ نّه إذا كان الحكم مترتباً على الموضوع المركب ووجد أحد أجزائه، فيحكم العقل بأ نّه إن وجد جزؤه الآخر، لترتب عليه الأثر، وهذا ـ مع كونه حكماً عقلياً ـ معلوم البقاء في كل مركب وجد أحد أجزائه، فلا معنى لاستصحابه.

 وبالجملة: جريان الاستصحاب التعليقي متوقف على القول بكون القيود راجعةً إلى الحكم، وهو في غاية السقوط على ما تقدّم في مبحث الواجب المشروط، فلا يبقى مجال للاستصحاب التعليقي.

 ولعلّه لذلك عدل الشيخ(1) (قدس سره) عن الاستصحاب التعليقي في مسألة العصير الزبيبي إلى جريان الاستصحاب التنجيزي في السببية، بدعوى أنّ الغليان حال العنبية كان سبباً للحرمة، فالاستصحاب يقتضي بقاء السببية حال الزبيبية أيضاً. وهذه السببية لم تكن معلّقةً على تحقق الغليان في الخارج حتى يقال: إنّ استصحاب السببية أيضاً من الاستصحاب التعليقي، وذلك لأنّ السببية مستفادة من حكم الشارع بأنّ العصير يحرم إذا غلا، ومن المعلوم أنّ صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق الطرفين.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 654.

ــ[166]ــ

 وفيه: أنّ السببية من الأحكام الوضعية، وقد التزم الشيخ(1) (قدس سره) بأنّ الأحكام الوضعية بأجمعها منتزعة من الأحكام التكليفية، فلا معنى للالتزام بعدم جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع وهو التكليف، وجريان الاستصحاب في الأمر الانتزاعي وهو السببية مع أنّ الأمر الانتزاعي تابع لمنشأ الانتزاع. وكذا الحال على مسلكنا، فانّا وإن قلنا بأنّ بعض الأحكام الوضعية مجعول بالاستقلال على ما تقدّم تفصيله(2)، إلاّ أ نّه قد ذكرنا أنّ السببية والشرطية والملازمة من الاُمور الانتزاعية قطعاً، وتنتزع السببية والشرطية عن تقييد الحكم بشيء في مقام الجعل، وقد ذكرنا أنّ الفرق بين السبب والشرط مجرد اصطلاح، فانّهم يعبّرون عن القيد المأخوذ في التكليف بالشرط، فيقولون: إنّ الاستطاعة شرط لوجوب الحج، وعن القيد المأخوذ في الوضع بالسبب، فيقولون: العقد سبب للزوجية أو الملكية.

 وبالجملة: بعد الالتزام بكون الأحكام الوضعية منتزعةً من الأحكام التكليفية، لا معنى لاستصحاب السببية، والمفروض في المقام عدم تحقق التكليف الفعلي حتى تنتزع منه السببية، هذا مضافاً إلى أ نّه لا يمكن جريان الاستصحاب في السببية ولو قيل بأ نّها من المجعولات المستقلة، وذلك لأنّ الشك في بقاء السببية إن كان في بقائها في مرحلة الجعل لاحتمال النسخ، فلا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ فيه، ولكنّه خارج عن محل الكلام، وإن كان في بقائها بالنسبة إلى مرتبة الفعلية، فلم تتحقق السببية الفعلية بعد حتى نشك في بقائها، لأنّ السببية الفعلية إنّما هي بعد تمامية الموضوع بأجزائه،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 601 ـ 603.

(2) في ص 93 وما بعدها.

ــ[167]ــ

والمفروض في المقام عدم تحـقق بعض أجزائه وهو الغليان، فالتحقيق أنّ الاستصحاب التعليقي مما لا أساس له.

 بقي في المقام اُمور:

 الأوّل: ذكر الشيخ(1) (قدس سره) أنّ العقود التي لها آثار فعلية إذا شك في لزومها وجوازها، يتمسك لاثبات اللزوم باستصحاب بقاء تلك الآثار الفعلية، ولذا تمسك باستصحاب بقاء الملكية في المعاطاة وفي غير موضع من أبواب الخيارات(2). وأمّا العقود التي ليس لها آثار فعلية، بل لها آثار تعليقية كالوصية والتدبير والسبق والرماية، فانّه لا يترتب على هذه العقود والايقاعات أثر فعلاً، بل الأثر متوقف على شيء آخر من الموت كما في الوصية والتدبير، أو حصول السبق أو إصابة الهدف في الخارج كما في عقد السبق والرماية، فاذا شك في لزوم هذه العقود وجوازها، لا يجري الاستصحاب لاثبات اللزوم، لعدم ترتب أثر فعلي على هذه العقود حتى نقول الأصل بقاء هذا الأثر، فيكون الاستصحاب تعليقياً ولا مجال لجريانه.

 هذا ملخص ما ذكره الشيخ (قدس سره) في المقام، فالمتحصل من كلامه (قدس سره) هو التفصيل في جريان الاستصحاب التعليقي بين مسألة الزبيب وموارد العقود التعليقية، بالقول بجريانه في الاُولى بنحو استصحاب السببية على ما تقدّم(3)، دون الثانية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5: 14 و 23.

(2) راجع على سبيل المثال المكاسب 3: 51.

(3) في ص 165.

ــ[168]ــ

 والتحقيق يقتضي الالـتزام بعكس ما ذكره الشـيخ (قدس سره)، فانّ ما ذكرناه(1) من المانع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مسألة الزبيب لا يجري في موارد العقود التعليقية، لأنّ ملخص ما ذكرناه من المانع في مسألة الزبيب، هو أنّ موضوع الحرمة مركب، والمفروض أ نّه لم يتحقق بتمام أجزائه، فلم يتحقق حكمه لنستصحبه ونحكم ببقائه، وهذا بخلاف موارد العقود التعليقية فانّ الالتزام بمفاد العقد من المتعاقدين قد وقع في الخارج وأمضاه الشارع، فقد تحقق هو في عالم الاعتبار، فاذا شك في بقائه وارتفاعه بفسخ أحد المتعاقدين، فالأصل يقتضي بقاءه وعدم ارتفاعه بالفسخ.

 وبالجملة: الفسخ في العـقود نظير النسخ في التكاليف، وقد ذكرنا (2) أ نّه لا مانع من جريان الاستصحاب التعليقي في النسخ، فكذا لا مانع من جريانه في الفسخ. نعم، إذا بنينا على عدم جريان الاستصحاب في موارد الشك في النسخ، كان موارد الشك في بقاء الحكم بعد الفسخ أيضاً مثلها.
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1)، (2) في ص 164.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net