الاستدلال على ذلك بسيرة العقلاء - الكلام في شمول أخبار الاستصحاب لقاعدة اليقين والشك الساري 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5758


 وقد يتمسك لاثبات هذه القاعدة بسيرة العقلاء، بدعوى استقرارها على الحكم بوجود المعلول بعد العلم بوجود المقتضي مع الشك في وجود المانع.

 وفيه: أ نّه لم يثبت لنا استقرار هذه السيرة، بل ثبت خلافها، فانّه لو رمى

ــ[287]ــ

حجراً إلى أحد وشك في وجود المانع عن وصوله إليه مع العلم بأ نّه لو وصل إليه لقتله، فهل يحكم العقلاء بتحقق القتل وجواز القصاص؟

 فتحصل مما ذكرناه: أن قاعدة المقتضي والمانع ليست مشمولة لأدلة الاستصحاب، ولم يتضح لنا دليل آخر على حجيتها.

 والعمدة في المقام هو الكلام في أنّ أدلة الاستصحاب شاملة لقاعدة اليقين وموارد الشك الساري أم لا؟ وليعلم أنّ احتمال اختصاص الأخبار بقاعدة اليقـين ساقط، لكون مورد جملة منها هو الاستصحاب والشك الطارئ كصحيحتي زرارة الاُولى والثانية(1) وعدّة من الروايات الاُخر. ولا يمكن الالتزام بخروج المورد، فيدور الأمر بين اختصاص الأخبار بالاستصحاب وشمولها له ولقاعدة اليقين أيضاً.

 وذكر المحقق النائيني(2) (قدس سره) ـ لاختصاصها بالاستصحاب وعدم شمولها للقاعدة ـ وجوهاً:

 الوجه الأوّل: أنّ التعبد الاستصحابي ناظر إلى البقاء في ظرف الشك فيه بعد كون الحدوث محرزاً، بخلاف القاعدة فانّ التعبد فيها إنّما هو بالحدوث بعد كونه غير محرز، وفرض الاحراز وفرض عدمه لا يمكن جمعهما في دليل واحد.

 الوجه الثاني: أنّ اليقين في القاعدة ليس مغايراً لليقين في الاستصحاب، إذ تغاير أفراد اليقين إنّما هو بتغاير متعلقاته كعدالة زيد وقيام عمرو، ومتعلق اليقين في القاعدة والاستصحاب شيء واحد كعدالة زيد يوم الجمعة مثلاً، فاذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمتا في ص 14، 58.

(2) أجود التقريرات 4: 189 ـ 191، فوائد الاُصول 4: 588 ـ 590.

ــ[288]ــ

تيقنا بعدالة زيد يوم الجمعة وتعقبه الشك في البقاء المعبّر عنه بالشك الطارئ، يكون مورداً للاسـتصحاب، وإذا تعقّبه الشك في مطابقته للواقع المعبّر عنه بالشك الساري يكون مورداً للقاعدة، فهذا اليقين الواحد محكوم بحرمة النقض حال وجـوده في باب الاسـتصحاب، ومحكوم بحرمة النقض حال عدمه في القاعدة. ولايمكن إنشاء حكم واحد على وجود الشيء وعدمه في دليل واحد، وحيث إنّ قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» ناظر إلى جهة طريقية اليقين كما أ نّها ذاتية له، فلا يشمل موارد القاعدة، لأنّ طريقية اليقين فيها قد زالت بتبدله بالشك الساري.

 ودعوى أنّ المشتق موضوع للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ فيشمل موارد الاستصحاب باعتبار وجود اليقين الفعلي، وموارد القاعدة باعتبار وجود اليقين السابق.

 مدفوعة بأنّ الوضع للأعم على تقدير التسليم إنّما هو في المشتقات الاصطلاحية كاسم الفاعل والمفعول وأمثالهما، لا في الجوامد وما هو شبيه بها. والمذكور في الأخبار لفظ اليقين وهو من الجوامد، أو شبيه بها في عدم كونه موضوعاً للقدر المشترك بين وجود صفة اليقين وعدم وجودها. نعم، لو كان المذكور في الأخبار لفظ المتيقن، لأمكن دعوى شموله للمتيقن باليقين السابق باعتبار كون المشتق موضوعاً للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ.

 إن قلت: لا مانع من شمول الأخبار لموارد القاعدة باعتبار وجود اليقين سابقاً، فيكون المعنى لا تنقض اليقين الذي كان موجوداً بالشك.

 قلت: هذا المعنى خلاف الظاهر، فان ظاهر قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» هو حرمة نقض اليقين الفعلي بالشك.

ــ[289]ــ

 الوجه الثالث: أنّ المتيقن غير مقيد بالزمان في باب الاستصحاب ومقيد به في القاعدة، فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد.

 توضـيح ذلك: أنّ اجتماع اليقين والشك في شيء واحد ـ على نحو يكون زمانهما واحداً مع وحدة زمان متعلقهما ـ مستحيل بالضرورة، فلا بدّ في اجتماعهما في شيء واحد من الاختلاف في الزمان، إمّا من حيث المتعلق كما في موارد الاستصحاب، فان متعلق اليقين هو عدالة زيد يوم الجمعة مثلاً، ومتعلق الشك هو عدالته يوم السبت، سواء كان حدوث اليقين والشك في زمان واحد أو في زمانين. وإمّا من حيث نفس اليقين والشك كما في موارد القاعدة، فان متعلق اليقين والشك فيها هو عدالة زيد يوم الجمعة مثلاً، مع كون الشك متأخراً عن اليقين زماناً، فيكون الزمان في موارد القاعدة قيداً للمتيقن، وفي موارد الاستصحاب ظرفاً لا قيداً، فكيف يمكن اعتبار كون الزمان قيداً وغير قيد في دليل واحد.

 هذه هي الوجوه التي ذكرها العلاّمة النائيني (قدس سره) لاختصاص الأخبار بالاستصحاب وعدم شمولها للقاعدة.

 وللنظر في كل واحد منها مجال واسع، أمّا الوجه الأوّل، ففيه: أنّ الموضوع هو اليقين المتعقب بالشك، وحكمه حرمة نقضه به، وكون الحدوث محرزاً أو غير محرز مما لا دخل له في الحكم المذكور، بل هما من خصوصيات الموارد، إذ الشك المسبوق باليقين قد يكون متعلقاً ببقاء ما تعلق به اليقين، فيكون حدوثه محرزاً باليقـين في ظرف الشك، وقد يكون متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين، فيكون حدوثه غير محرز، لكون الشك متعلقاً بحدوثه. والاختلاف الناشئ من خصوصيات الموارد لا يمنع عن التمسك باطلاق القضية الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك، كما أنّ اختلاف خصوصيات موارد الاستصحاب لا يمنع عن

ــ[290]ــ

شمول إطلاق أدلته لها، فيكون مفاد قوله (عليه السلام): «لا تنقض... » هو إلغاء الشك تعبداً، فإن كان متعلقاً بالبقاء فمفاده التعبد بالبقاء، وإن كان متعلقاً بالحدوث فمفاده التعبد بالحدوث.

 وأمّا الوجه الثاني، ففيه: أنّ اليقين في موارد القاعدة أيضاً كان موجوداً، فلا مانع من شمول الأخبار لها حال وجود اليقين، فالمتيقن بوجود شيء مكلف بعدم نقض يقينه بالشك، سواء كان الشك متعلقاً بالبقاء أو بالحدوث. وما ذكره من أن طريقية اليقين قد زالت في موارد القاعدة بتبدله بالشك، مدفوع بأنّ الطريقية الوجدانية مفقودة في مورد الاستصحاب أيضاً، لكون الشك متعلقاً بالبقاء، ومجرد اليقين بالحدوث لا يكون طريقاً وجدانياً إلى البقاء كما هو ظاهر. وأمّا الطريقية التعبدية فيمكن جعلها من قبل الشارع في المقامين، فلا فرق بين القاعدة والاستصحاب من هذه الجهة أيضاً.

 وأمّا الوجه الثالث: فيرد عليه ما ذكرناه في الوجه الأوّل، فان كون الزمان قيداً أو ظرفاً إنّما هو من خصوصيات المورد، فتارةً يكون الشك متعلقاً بالحدوث لاحتمال كون اليقين السابق مخالفاً للواقع، فيكون متعلق الشك واليقين واحداً حتى من حيث الزمان، وهو معنى كون الزمان قيداً. واُخرى يكون متعلقاً ببقاء ما تعلق به اليقين، وهو معنى كون الزمان ظرفاً، ولم يؤخذ في قوله (عليه السلام): «لا تنقض...» كون الزمان قيداً أو ظرفاً كي يقال: لايمكن اعتبار الزمان قيداً وغير قيد في دليل واحد، بل الموضوع فيه هو اليقين المتعقب بالشك والحكم حرمة نقضه به، وإطلاقه يشمل ما كان الزمان فيه قيداً أو ظرفاً، أي ما كان الشك متعلقاً بالحدوث أو بالبقاء.

 فتلخص مما ذكرناه في المقام: أ نّه لا مانع من شمول جعل واحد لقاعدة اليقين والاستصحاب في مقام الثبوت. نعم، لا يمكن شمول أخبار الباب للقاعدة

ــ[291]ــ

في مقام الاثبات، لأمرين: أحدهما: راجع إلى عدم المقتضي. ثانيهما: راجع إلى وجود المانع.

 أمّا الأوّل: فلأن ظاهر قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» عدم جواز نقض اليقين الفعلي بالشك الفعـلي، إذ ظاهر القضايا إثبات الأحكام للموضوعات الفعلية، بلا فرق بين كونها متكفلةً لبيان الأحكام الواقعية أو الظاهرية، فانّ ظاهر قولنا: الخمر حرام، إثبات الحرمة للخمر الفعلي لا لما كان خمراً في وقت وإن لم يكن خمراً بالفعل، وكذا ظاهر قوله (عليه السلام): «رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون»(1) رفع ما هو مجهول بالفعل لا رفع ما كان مجهولاً في وقت، فظاهر قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» حرمة نقض اليقين الفعلي بالشك. ولفظ النقض المستفاد من قوله (عليه السلام): «لا تنقض» ظاهر في وحدة متعلق اليقين والشك من جميع الجهات حتى من حيث الزمان، وإلاّ لا يصدق النقض.

 والتحفظ على هذين الظهورين مستحيل، لعدم إمكان اجتماع اليقين والشك الفعليين في شيء واحد من جميع الجهات حتى من حيث الزمان، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن الظهور الأوّل يوجب اختصاص الأخبار بموارد القاعدة، لعدم اليقين فيها، كما أنّ رفع اليد عن الظهور الثاني يوجب اختصاصها بالاستصحاب، لاختلاف متعلق اليقين والشك من حيث الزمان في موارد الاستصحاب، وحيث إنّ الإمام (عليه السلام) طبّقها على موارد اختلاف متعلق اليقين والشك من حيث الزمان، فانّه (عليه السلام) حكم بعدم جواز نقض اليقين بالشك في جواب سؤال الراوي بقوله: «فان حرّك في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 15: 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

ــ[292]ــ

جنبه شيء وهو لا يعلم»(1) ومن المعلوم أنّ متعلق اليقين هو الطهارة قبل حركة شيء في جنبه، ومتعلق الشك هو الطهارة بعدها، فعلم أنّ الظهور الثاني ليس بمراد قطعاً، فبقي الظهور الأوّل بحاله، فلا يشمل موارد قاعدة اليقين، لعدم وجود اليقين الفعلي فيها.

 وأمّا الثاني: أي عدم شمول الأخبار للقاعدة لوجود المانع، فلأنّ القاعدة معارضة بالاستصحاب دائماً، إذ الشك في موارد القاعدة مسبوق بيقينين يكون باعتبار أحدهما مورداً للاستصحاب، وباعتبار الآخر مورداً للقاعدة، فيقع التعارض بينهما، فاذا تيقنا بعدالة زيد يوم الجمعة مثلاً، وشككنا يوم السبت في عدالته يوم الجمعة لاحتمال كون اليقين السابق جهلاً مركباً، فباعتبار هذا اليقين تجري القاعدة، ومقتضاها الحكم بعدالة زيد يوم الجمعة، وحيث إنّه لنا يقين بعدم عدالته سابقاً وشك فيها يوم الجمعة، يجري الاستصحاب، ومقتضاه الحكم بعدم عدالته يوم الجمعة، فلا محالة يقع التعارض بينهما، فلا يمكن اجتماعهما في دليل واحد، إذ جعل الحجية للمتعارضين بجعل واحد غير معقول. نعم، لو دل دليل آخر ـ غير أدلة الاستصحاب ـ على حجية القاعدة، لم يكن مانع من الأخذ به.

 وتوهم أنّ التعبد بالمتعارضين مما لا يمكن ولو بدليلين، مدفوع بأ نّه مع تعدد الدليل نخصص دليل الاستصحاب بدليل القاعدة، بخلاف ما إذا كان الدليل واحداً، فانّ شموله للمتعارضين مما لا معنى له. نعم، يمكن فرض جريان القاعدة في مورد لا يكون فيه معارضاً بالاستصحاب، ولكنّه نادر لا يمكن حمل الأخبار عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت الرواية في ص 14.

ــ[293]ــ

 وظهر بما ذكرناه عدم إمكان شمول دليل واحد للاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع أيضاً، مع قطع النظر عما ذكرناه سابقاً (1)، فان قاعدة المقتضي والمانع أيضاً معارضة بالاستصحاب دائماً، فلا يمكن شمول دليل واحد لكليهما.
ــــــــــــــــ

(1) في ص 286.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net