القسم الثالث من التزاحم في كلام المحقق النائيني - مرجحات التزاحم 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4985


 ثمّ إنّ المحقق النائيني(2) (قدس سره) ذكر قسماً آخر من التزاحم وسمّاه التزاحم من غير ناحية القدرة كما في القسم السابق، ومثّل له بما لو كان المكلف مالكاً لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر، ثمّ ملك بعيراً آخر، فمقتضى أدلة الزكاة هو وجوب خمس شياه عند انقضاء حول الخمس والعشرين، ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول الست والعشرين، ولكن قام الدليل على أنّ المال لا يزكى في عام واحد مرتين، فيقع التزاحم بين الحكمين من جهة هذا الدليل الخارجي، لا من جهة عدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً، فلا بدّ من سقوط ستة أشهر، إمّا من حول الخمس والعشرين، وإمّا من حول الست والعشرين، إذ لولا السقوط يلزم تزكية المال في ظرف ستة أشهر مرتين، وهي الستة الوسطى من ثمانية عشر شهراً، لكونها منتهىً لنصاب الخمس والعشرين، ومبدءاً لنصاب الست والعشرين، فيلزم احتسابها مرتين ووجوب الزكاة فيها مرتين. وهذا هو التزاحم من جهة الدليل الخارجي لا من جهة عدم قدرة المكلف. ولا يكون من باب التعارض، لعدم التـنافي من حيث المدلول بين

ـــــــــــــ
(2) أجود التقريرات 4: 278، فوائد الاُصول 4: 707.

ــ[430]ــ

ما يدل على وجوب خمس شياه في الخمس والعشرين، وما يدل على وجوب بنت مخاض في الست والعشرين، هذا محصّل كلامه زيد في علو مقامه.

 ولم يتضح لنا وجهٌ لكون هذا المثال من باب التزاحم، فانّه من قبيل تعارض الدليلين في مسألة الظهر والجمعة بعينه، إذ لا تنافي بين ما يدل على وجوب الظهر وما يدل على وجوب الجمعة، لامكان الجمع بينهما، ولكنّ التنافي بينهما إنّما هو من جهة الدليل الخارجي، وهو الاجماع والضرورة القاضية بعدم وجوب ست صلوات في يوم واحد كما تقدم. فالصحيح إدخال المثال المذكور في التعارض دون التزاحم، وانحصار التزاحم بما إذا كان المكلف عاجزاً عن امتثال الحكمين معاً.

 ثمّ إنّه ينبغي التعرض لبعض مرجحات باب التزاحم، فنقول: إنّهم ذكروا لترجيح أحد المتزاحمين على الآخر اُموراً:

 الأوّل: كون أحدهما مما لا بدل له، فيرجّح على ما يكون له البدل، سواء كان البدل طولياً أو عرضياً.

 والأوّل كالواجب الموسع، فاذا وقعت المزاحمة بينه وبين الواجب المضيق، وجب ترجيح المضيق بلا لحاظ الأهمية بينه وبين الموسع، بل ولو كان الموسع بمراتب من الأهمية بالنسبة إلى المضيّق، كالصلاة بالنسبة إلى جواب السلام مثلاً، فانّه لا شبهة في كونها من أهم الفرائض وعمود الدين كما في الخبر(1)، ومع ذلك يجب تقديم جواب السلام عليها، لما لها من البدل الطولي باعتبار الزمان.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 4: 27 / أبواب أعداد الفرائض ب 6 ح 12.

ــ[431]ــ

 الثاني: أي ما كان له البدل العرضي، كالواجب التخييري، فاذا وقع التزاحم بينه وبين الواجب التعييني، وجب تقديم التعييني عليه، والاكتفاء بالبدل العرضي للواجب التخييري، كما إذا وجب على المكلف إحدى الكفارات الثلاث تخييراً وكان عليه دين، ووقع التزاحم بين أدائه وبين الاطعام مثلاً، فيجب تقديم الدين على الاطعام، لما له من البدل العرضي وهو الصيام.

 وهذا الذي ذكروه من تقديم الواجب المضيق على الموسع، وتقديم الواجب التعييني على التخييري وإن كان مما لا إشكال فيه، إلاّ أنّ إدراج المثالين في التزاحم والحكم بأنّ التقديم المذكور إنّما هو لترجيح أحد المتزاحمين على الآخر، ليس بصحيح، لما ذكرناه من أنّ ملاك التزاحم أن لا يكون المكلف متمكناً من امتثال الحكمين معاً، بحيث يكون امتثال أحدهما متوقفاً على مخالفة الآخر كمسألة إنقاذ الغريقين. والمثالان ليسا كذلك، بداهة أ نّه لا مزاحمة بين الواجب الموسع والواجب المضيق، لقدرة المكلف على امتثال كليهما، إذ التكليف في الواجب الموسع متعلق بالطبيعة ملغىً عنها الخصوصيات الفردية، والمكلف قادر على امتثال التكليف بالطبيعة في ضمن الفرد غير المزاحم للواجب المضيق. نعم، الفرد الخاص من الطبيعة مزاحم للواجب المضيق، وليس هو الواجب، بل الواجب هو الطبيعة، وهو فرد منه.

 وكذا الكلام في الواجب التخييري والتعييني، فانّه لا مزاحمة بينهما، لقدرة المكلف على امتثال كليهما، لأنّ التكليف في الواجب التخييري أيضاً متعلق بالجامع، وإن كان أمراً انتزاعياً، كعنوان أحد الأمرين. ولا مزاحمة بين التكليف بالكلي والواجب التعييني، وإنّما المزاحمة بين فرد خاص منه والواجب التعييني، وليس هو الواجب إلاّ على قول سخيف في الواجب التخييري، وهو أنّ الواجب ما يختاره المكلف، وقد تبرّأ من هذا القول كل من الأشاعرة والمعتزلة، ونسبه

ــ[432]ــ

إلى الآخر، فلا مزاحمة بين الواجبين في المثالين. ووجوب التقديم فيهما إنّما هو بحكم العقل، لكون المكلف قادراً على امتثال التكليفين، فيجب عليه امتثالهما عقلاً بتقديم المضيق والاتيان بالموسع بعده، وباتيان الواجب التعييني والعدل غير المزاحم له من أفراد الواجب التخييري. ولا يجوز تقديم الموسع والواجب التخييري، فانّه يوجب فوات الواجب المضيق والواجب التعييني من قبل نفسه.

 المرجح الثاني: كون أحد الواجبين غير مشروط بالقدرة شرعاً، فيقدّم على واجب مشروط بها شرعاً.

 والمراد بالثاني ما يكون ملاكه متوقفاً على القدرة، ففي صورة العجز ليس له ملاك أصلاً، بخلاف الأوّل فانّ المراد به ما يكون ملاكه غير متوقف على القدرة، فهو تام الملاك ولو مع العجز، وإن كان المكلف معذوراً في فواته عقلاً، كما إذا دار الأمر بين حفظ النفس المحترمة من الهلاك، وبين الوضوء فانّ ملاك حفظ النفس ومصلحته غير متوقف على القدرة، وإن كان العاجز معذوراً عقلاً، بخلاف الوضوء فانّه مشروط بالقدرة شرعاً بقرينة مقابلة الأمر به للأمر بالتيمم المقيد بفقدان الماء. والمراد به عدم القدرة على الوضوء، إذ من المعلوم أنّ مجرد وجدان الماء لا يرفع التكليف بالتيمم، ولو مع عدم القدرة على الاستعمال. وبعد كون التكليف بالتيمم مشروطاً بعدم القدرة على الوضوء يكون التكليف بالوضوء مشروطاً بالقدرة لا محالة، لأنّ التقسيم قاطع للشركة كما ذكرناه سابقاً، فيجب تقديم حفظ النفس وينتقل من الوضوء إلى التيمم، لأ نّه مع تقديمه لا تفوت عن المكلف مصلحة أصلاً، فان مصلحة حفظ النفس محفوظة بالامتثال، ومع صرف القدرة فيه ينتفي التكليف بالوضوء بانتفاء

ــ[433]ــ

موضوعه وهو القدرة، فليس له ملاك ليفوت، بخلاف تقديم الوضوء، فانّه يوجب تفويت مصلحة حفظ النفس، لعدم كونها مشروطة بالقدرة على الفرض.

 أقول: لو اعتبر في موضوع أحد التكليفين القدرة الشرعية، بمعنى أن لا يكون المكلف بالفعل مشغول الذمة بواجب آخر لا يجتمع معه في الوجود، فلا إشكال في تقديم ما هو غير مشروط بها على المشروط، فانّ المفروض أنّ نفس توجه التكليف بما هو غير مشروط يمنع عن تحقق موضوع المشروط، ولكن هذا الفرض خارج عن التزاحم، لما ذكرناه سابقاً (1) من أنّ الملاك في التزاحم أن يكون امتثال أحد التكليفين موجباً لارتفاع موضوع الآخر، وليس المقام كذلك فان نفس التكليف بغير المشروط رافع لموضوع المشروط وتعجيز للمكلف عنه، ولذا ذكرنا في بحث الترتب أ نّه لو لم يصرف قدرته في غير المشروط، لا يصح المشروط ولو على القول بامكان الترتب.

 وأمّا لو كانت القدرة المعتبرة في موضوع أحد التكليفين عبارة عن تمكن المكلف من الاتيان بمتعلقه خارجاً، فلا إشكال حينئذ في فعلية المشروط ووجود المصلحة فيه لتحقق موضوعه، كما أ نّه لا إشكال في فعلية غير المشروط بها، وبما أنّ المكلف غير متمكن من الجمع بينهما، فلا محالة يتحقق التزاحم بينهما، إلاّ أ نّه لا دليل حينئذ على تقديم غير المشروط على المشروط، إذ المفروض تمامية الملاك في الطرفين وعدم تمكن المكلف من استيفائهما معاً، فلا بدّ من ملاحظة الأهمية في مقام الترجيح.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 427 ـ 428.

ــ[434]ــ

 ثمّ إنّهم رتّبـوا على ما ذكر ـ من تقديم غير المشروط بالقدرة شرعاً على المشروط بها ـ أ نّه لو كان عند المكلف مقدار من الماء، ودار الأمر بين صرفه في الوضوء وصرفه في تطهير ثوبه أو بدنه، تعيّن صرفه في تطهير الثوب، وينتقل من الوضوء إلى التيمم، لكونه مشروطاً بالقدرة شرعاً، بخلاف تطهير الثوب.

 ولكنّ الصحيح أنّ الكبرى المذكورة لا تنطبق على المثال المذكور لوجهين:

 الوجه الأوّل: أنّ الوضوء ليس متعلقاً للتكليف النفسي وكذا تطهير الثوب كي يتوهم التزاحم بينهما ويقدّم أحدهما على الآخر للمرجّح المذكور، بل الأمر المتعلق بهما إرشاد إلى شرطية كل منهما للصلاة، ولذا لا يعاقب المكلف على تركهما، بل العقاب إنّما هو على ترك الصلاة المقيدة بهما، فالمأمور به هي الصلاة مع الطهارة المائية مشروطة بالقدرة، ومع العجز يكون البدل هي الصلاة مع الطهارة الترابية، فقولنا: التيمم بدل عن الوضوء مسامحة في التعبير. وكذا الأمر بالنسبة إلى التطهير، فانّ المأمور به هي الصلاة في ثوب طاهر مع القدرة، وفي صورة العجز يكون البدل هي الصلاة في ثوب نجس ـ كما هو الصحيح ـ أو الصلاة عرياناً ـ كما عليه المشهور ـ فلا فرق بينهما من هذه الجهة، لاشتراط كل منهما بالقدرة، وثبوت البدل لكل منهما مع العجز.

 الوجه الثاني: أنّ المثال المذكور خارج عن باب التزاحم رأساً، فانّ التزاحم إنّما هو فيما إذا كان هناك واجبان لا يتمكن المكلف من امتثالهما معاً، وليس المقام كذلك، فانّ الواجب في المقام واحد، وهو الصلاة المقيدة بقيود: منها الطهارة من الحدث والخبث، ومع العجز عن الاتيان بها جامعة للشرائط كما في المثال يسقط الأمر رأساً، فانّ الأمر بالمجموع تكليف بما لا يطاق، ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل، خرجنا عن ذلك في باب الصلاة بما دل على عدم سقوط

ــ[435]ــ

الأمر بها بحال، وعليه فيقع التعارض بين إطلاق دليل شرطية الوضوء وإطلاق دليل شرطية طهارة الثوب، إذ لنا علم إجمالاً بوجوب الصلاة في هذا الحال، إمّا مع الطهارة المائية في ثوب نجس، وإمّا مع الطهارة الترابية في ثوب طاهر، ولا ندري أنّ المجعول في الشريعة أ يّهما، وحيث إنّ مقتضى إطلاق دليل الوضوء هو الأوّل، ومقتضى إطلاق دليل طهارة الثوب هو الثاني، يقع التكاذب بينهما لا محالة، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض، ومع فقدها يرجع إلى الأصل العملي، وحيث إنّا نعلم بتقييد الصلاة بأحد الأمرين، واعتبار خصوصية كل منهما مجهول يرفع بأصالة البراءة، فالمكلف مخيّر بين صرف الماء في التطهير من الخبث، والاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية، وصرفه في الوضوء والاتيان بالصلاة في الثوب النجس أو عرياناً، وإن كان الأوّل أحوط، لوجود القول بالتعيين.

 المرجح الثالث: كون أحد المتزاحمين أهم من الآخر، فيجب تقديم الأهم على المهم بحكم العقل. وهذا المرجح من القضايا التي قياساتها معها، فانّ تقديم المهم يوجب تفويت المقدار الزائد من المصلحة، بخلاف تقديم الأهم. ومن الأمثلة الواضحة دوران الأمر بين إنقاذ ابن المولى وماله، فانّ العقل مستقل بتقديم الأوّل. وأوضح منه دوران الأمر بين إنقاذ نفس المولى وماله. وبالجملة: لا يحتاج الترجيح بهذا المرجح إلى مؤونة الاستدلال والبيان.

 المرجح الرابع: كون أحد الواجبين سابقاً على الآخر من حيث الزمان، بأن يكون ظرف امتثال أحدهما مقدّماً على الآخر زماناً، مع كون الوجوب فعلياً في كل منهما بنحو التعليق، كما إذا نذر أحد صوم يوم الخميس ويوم الجمعة، ثمّ علم بعدم قدرته على الصوم فيهما، فيختار صوم يوم الخميس، لكونه مقدّماً زماناً على صوم يوم الجمعة. وكذا إذا دار الأمر بين ترك القيام في صلاة الظهر

ــ[436]ــ

وتركه في صلاة العصر لعجزه عن القيام فيهما، فيقدّم ما هو المقدّم زماناً ـ وهو صلاة الظهر ـ ويأتي بصلاة العصر جالساً.

 والوجه في هذا الترجيح ظاهر أيضاً، فانّ الاتيان بالمقدّم زماناً يوجب عجزه عن المتأخر، فيكون التكليف به منتفياً بانتفاء موضوعه وهو القدرة، إذ المعتبر من القدرة في صحة التكليف عقلاً هي القدرة في ظرف الواجب، وهي مفقودة بالنسبة إلى المتأخر بعد الاتيان بالمتقدم، بخلاف الاتيان بالمتأخر زماناً، فانّه لا يوجب عجزه عن المتقدم في ظرفه، فليس معذوراً في تركه. فمن صام يوم الخميس ـ في مفروض المثال ـ يكون معذوراً في ترك الصيام يوم الجمعة لعجزه عنه فيه، وأمّا من صام يوم الجمعة لا يكون معذوراً في تركه يوم الخميس، لعدم عجزه عنه فيه، كما هو واضح. ومن هنا لم يلتزم أحد بجواز ترك الصوم في أوّل شهر رمضان والاتيان به في آخره لمن لا يقدر على الصيام إلاّ في بعض أيامه.

 نعم، إذا كان الواجب المتأخر زماناً أهم من الواجب المتقدم، يجب عليه التحفظ بقدرته على الأهم، فلا يجوز له الاتيان بالمهم، لأ نّه يوجب عجزه عن الاتيان بالأهم في ظرفه، كما إذا دار الأمر بين حفظ مال المولى الآن، وحفظ نفسه غداً، فانّ العقل في مثله مستقل بوجوب احتفاظ القدرة على حفظ نفس المولى بترك حفظ المال.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net