الأخبار التي استدل بها على التخيير بين المتعارضين \ التخيير بدوي أو استمراري ؟ 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4329


ــ[508]ــ

 بقي الكلام في الأخبار التي استدل بها على التخيير بين المتعارضين، ولم نجد منها إلاّ ثمان روايات:

 منها: ما عن فقه الرضا (عليه السلام): «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضة وهي عشرة أيام، وتستظهر بثلاثة أيام ثمّ تغتسل. فاذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة، وقد روي ثمانية عشرة يوماً، وروي ثلاث وعشرين يوماً وبأيّ هذه الأحاديث اُخذ من جهة التسليم جاز»(1).

 ودلالة هذه الرواية وإن كانت تامة إلاّ أ نّه قد ذكرنا في بحث الفقه(2) أ نّه لم تثبت حجية الكتاب المذكور، فلا يمكن الاعتماد على الروايات المذكورة فيه.

 ومنها: ما في ذيل المرفوعة من قوله (عليه السلام) بعد فرض الراوي كلا الخبرين موافقاً للاحتياط أو مخالفاً له: «إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»(3).

 وفيه: ما تقدّم من عدم صحة الاعتماد على هذه الرواية لضعفها من جهات. مضافاً إلى أنّ حكم الإمام (عليه السلام) فيها بالتخيير إنّما هو بعد فرض الراوي الشهرة في كل من المتعارضين، فيكون موردها الخبرين المقطوع صدورهما على ما ذكرناه(4) من أنّ المراد بالشهرة هو معناها اللغوي، وحكم الإمام (عليه السلام) بالتخيير فيما إذا كان كل من المتعارضين قطعي الصدور

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 2: 47 / أبواب النفاس ب 1 ح 1.

(2) مصباح الفقاهة 1: 13.

(3) تقدّم سندها والخدشة فيه في ص 486.

(4) في ص 495.

ــ[509]ــ

لا يدل على التخيير فيما إذا كان كل منهما ظنياً من حيث الصدور كما هو محل الكلام. وتوهم أنّ المورد لا يكون مخصصاً قد تقدم دفعه فلا نعيد.

 ومنها: ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي عن الحسن بن الجهم عن الرضا (عليه السلام) «قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا نعلم أ يّهما الحق؟ قال (عليه السلام): فاذا لم تعلم فموسّع عليك بأ يّهما أخذت»(1).

 وهذه الرواية من جهة الدلالة لا بأس بها، إلاّ أ نّها مرسلة لا يعمل بها.

 ومنها: ما رواه أيضاً مرسلاً عن الحارث بن مغيرة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسّع عليك حتى ترى القائم، فتردّ عليه»(2).

 وهذه الرواية ـ مضافاً إلى ضعف سندها بالارسال ـ لا دلالة لها على حكم المتعارضين كما ترى، ومفادها حجية أخبار الثقة إلى ظهور الحجة.

 ومنها: ما رواه الكليني (قدس سره) عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عثمان ابن عيسى وحسن بن محبوب جميعاً عن سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه: أحدهما يأمر بالأخذ والآخر ينهاه، كيف يصنع؟ قال (عليه السلام): يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه»(3).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 121 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 40.

(2) الوسائل 27: 122 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 41.

(3) الكافي 1: 66 / باب اختلاف الحديث ح 7، الوسائل 27: 108 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 5.

ــ[510]ــ

 ومورد هذه الرواية دوران الأمر بين المحذورين حيث إنّ أحد الخبرين يأمر والآخر ينهى، والعقل يحكم فيه بالتخيير بين الفعل والترك، وقول الإمام (عليه السلام): «فهو في سعة... إلخ» لا يدل على أزيد منه.

 ومنها: ما رواه الشيخ (قدس سره) باسناده عن أحمد بن محمّد عن العباس ابن معروف عن علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبدالله بن محمّد إلى أبي الحسن (عليه السلام) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلّهما في المحمل، وروى بعضهم لا تصلّهما إلاّ على الأرض، فوقّع (عليه السلام) : موسّع عليك بأية عملت»(1).

 ومورد هذه الرواية هو التخيير في نافلة الفجر بين الاتيان بها في المحمل، والاتيان بها على الأرض، وقد حكم الإمام (عليه السلام) في الحقيقة بجواز الاتيان بها في المحمل، فانّ ظاهر حكمه (عليه السلام) بالتخيير أنّ التخيير واقعي، إذ لو كان الحكم الواقعي غيره لكان الأنسب بيانه، لا الحكم بالتخيير بين الحديثين، ولا إطلاق لكلام الإمام (عليه السلام) ولا عموم حتى يتمسك بهما ويتعدى عن مورد الرواية إلى غيره.

 ومنها: مكاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان (أرواحنا فداه) على ما في احتجاج الطبرسي، وقد سئل في هذه المكاتبة عن استحباب التكبير بعد التشهد الأوّل وعدمه، إلى أن قال (عليه السلام) «في الجواب عن ذلك حديثان، أمّا أحدهما فاذا انتقل من حالة إلى اُخرى فعليه التكبير، وأمّا الآخر فانّه روي أ نّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التهذيب 3: 228 / ح 583، الوسائل 27: 122 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 44.

ــ[511]ــ

جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير. وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأ يّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(1).

 ومورد هذه الرواية خارج عن محل الكلام، فانّ النسبة بين الخبرين اللذين دلت هذه الرواية على التخيير بينهما هي العموم المطلق، ومقتضى الجمع العرفي هو التخصيص والحكم بعدم استحباب التكبير في مورد السؤال، فحكم الإمام (عليه السلام) بالتخيير إنّما هو لكون المورد من الاُمور المستحبة، فلا بأس بالأخذ بكل من الخبرين، إذ مقتضى التخصيص وإن كان عدم استحباب التكبير، إلاّ أنّ الأخذ بالخبر والاتيان بالتكبير أيضاً لا بأس به، لأنّ التكبير ذكر في نفسه.

 وبالجملة: لا بدّ من الاقتصار على مورد الرواية، إذ ليس في كلام الإمام (عليه السلام) إطلاق أو عموم يوجب التعدي عن موردها إلى غيره.

 ومنها: مرسلة الكافي حيث قال: وفي رواية اُخرى «بأ يّهما أخذت من باب التسليم وسعك»(2).

 وهذه المرسلة إن كانت إحدى الروايات السابقة، فلا حاجة إلى الجواب المستقل عنها، وإن كانت غيرها، فهي مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

 فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام: أنّ التخيير بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح لأحدهما مما لا دليل عليه، بل عمل الأصحاب في الفقه على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27: 121 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 39.

(2) الكافي 1: 66 / باب اختلاف الحديث، ذيل الحديث 7، الوسائل 27: 108 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 6.

ــ[512]ــ

خلافه، فانّا لم نجد مورداً أفتى فيه بالتخيير واحد منهم فراجع.

 ولا يخفى أنّ البحث عن كون التخيير بين المتعارضين بدوياً أو استمرارياً ساقط بناءً على ما ذكرناه من سقوط كلا المتعارضين عن الحجية مع فقد المرجح لأحدهما كما هو ظاهر، وعلى تقدير تسليم تمامية أدلة التخيير، فهل التخيير ابتدائي أو استمراري.

 اختار صاحب الكفاية (قدس سره)(1) الثاني لوجهين:

 أحدهما: التمسك باستصحاب بقاء التخيير الثابت قبل الأخذ بأحدهما.

 ثانيهما: التمسك باطلاقات أدلة التخيير، فانّ مقتضاها ثبوته ولو بعد الأخذ بأحدهما.

 وفي كلا الوجهين ما لا يخفى، أمّا الأوّل ففيه أوّلاً: عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية على ما تقدم الكلام فيه في بحث الاستصحاب(2). وثانياً: أنّ استصحاب بقاء التخيير في نفسه لا يجري، لأنّ التخيير الثابت قبل الأخذ بأحدهما عبارة عن تفويض الشارع أمر الحجية إلى المكلف، بأن يجعل ما ليس حجة في حقه حجة، إذ لا يكون أحد من الخبرين المتعارضين حجة قبل الأخذ، وهذا المعنى من التخيير غير قابل للبقاء بعد الأخذ بأحدهما، فانّه بعد الأخذ بأحدهما تتعيّن عليه الحجة، فليس له التخيير في سلب الحجية عن الحجة، فيجري استصحاب بقاء حجية المأخوذ به بلا معارض.

 وأمّا الثاني ففيه: أنّ خطابات التخيير متوجهة إلى المكلف الذي جاءه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 446.

(2) في ص 42 وما بعدها.

ــ[513]ــ

الحديثان المختلفان ولم يأخذ بشيء منهما، فانّ المخاطب بقوله (عليه السلام): «بأ يّهما أخذت فموسّع عليك» هو الذي لم يأخذ بواحد من الخبرين، فلا تشمل من أخذ بأحدهما. وبعبارة اُخرى: هذا التخيير تخيير في تعيين الحجة لمن لا تكون عنده حجة معيّنة، فلا يثبت لمن تعيّنت له الحجة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net