الواجب المعلّق 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4540


ــ[347]ــ

الواجب المعلّق

قسّم صاحب الفصول (قدّس سرّه)(1) الواجب إلى مشروط يرجع القيد فيه إلى مدلول الهيئة ، وإلى مطلق لم يقيّد فيه مدلول الهيئة . ثمّ قسّم المطلق إلى منجّز كان الواجب فيه كالوجوب فعلياً ، ومعلّق كان الوجوب فيه فعلياً ولكن الواجب مقيّد بزمان متأخّر ، وبذلك دفع الإشكال عن وجوب المقدّمات قبل مجيء زمان الحجّ .

ولكن الشيخ (قدّس سرّه)(2) حيث يرى استحالة رجوع القيد إلى الهيئة وأنّ الواجب المعلّق باصطلاح صاحب الفصول (قدّس سرّه) هو بعينه من المشروط عنده ، أنكر وجود القسم الثالث ، فالواجب عنده إمّا مشروط أو مطلق .

ففي الحقيقة أنّ إنكاره للواجب المعلّق يرجع إلى إنكار المشروط الذي يرجع القيد فيه إلى مفاد الهيئة ، وحيث ثبت إمكان الوجوب المشروط لم يبق مجال لإنكار الشيخ (قدّس سرّه) على صاحب الفصول .

نعم يرد على صاحب الفصول (قدّس سرّه) أنّ الفعل المقيّد بزمان متأخّر ينحل إلى اُمور : ذات الفعل ، وتقيّده بالزمان المتأخّر ، ونفس الزمان . أمّا ذات الفعل وتقيّده فهما أمران اختياريان قد تعلّق الوجوب بهما على الفرض ، فالوجوب فعلي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفصول الغروية : 79 .

(2) راجع مطارح الأنظار : 51 ، 52 .

ــ[348]ــ

والواجب متأخّر . وأمّا الزمان نفسه فلا يعقل تعلّق الأمر به ، لأنّه غير اختياري فلابدّ من فرض وجوده في الإيجاب ، فيكون شرطاً للوجوب لا محالة ، لكنّه على نحو الشرط المتأخّر . وعليه فالوجوب المعلّق قسم من الوجوب المشروط ، لا المطلق .

أدلّة استحالة الواجب المعلّق

ويقع النزاع في إمكان الواجب المعلّق واستحالته ، وقد ادّعى بعضهم استحالة الواجب المعلّق ، مستدلا عليه بأمرين :

الأمر الأول : ما جاء في الكفاية(1) ـ ولعلّه للعلاّمة الإصفهاني (قدّس سرّه) ـ من أنّ الإيجاب والطلب إنّما يكون بازاء الإرادة المحرّكة للعضلات نحو المراد ، فكما أنّ الإرادة التكوينية لا تنفكّ زمناً عن تحريك العضلات ، والتحريك لا ينفك زمناً عن الحركة وإن تأخّرت عنه رتبة ، كذلك الإرادة التشريعية لا تنفك عن الأمر غير المنفك عن التحريك ، غير المنفك عن الحركة .

نعم الفرق بينهما إنّما هو في متعلّق الإرادة ، فإنّ الإرادة التكوينية إنّما تتعلّق بفعل نفس المريد ، بينما الإرادة التشريعية تتعلّق بفعل الغير ، وهذا لا يوجب اختلافاً من ناحية المراد . فعلى هذا يستحيل تعلّق الإرادة بالأمر المتأخّر ، ونحن إذا لاحظنا الواجب المعلّق نجد المراد فيه متأخّراً زماناً عن الإرادة ، وهو غير صحيح .

وأجاب صاحب الكفاية (قدّس سرّه) عن الإشكال بأنّ القائل بذلك قد توهّم من تعريف الإرادة أنّ التحريك نحو المتأخّر لا يكاد يمكن ، ولكنّه غفل عن أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 102 ] في حاشية المشكيني (قدّس سرّه) 1 : 511 نسبة هذا الوجه إلى المحقّق النهاوندي (قدّس سرّه) [ .

ــ[349]ــ

المحرّكية قد تكون نحو فعل غير متوقّف على مقدّمات كالضرب مثلا ، وقد تكون نحو فعل له مقدّمات كثيرة ، كالأكل والشرب ، فإنّهما لا يتحقّقان بمجرد الاشتياق إليهما بل لابدّ من تحقّق مقدّماتهما بتحريك العضلات لإيجاد المقدّمات . فحركة العضلات أعم من كونها مقصودة بنفسها ، أو مقدّمة له .

ثمّ ترقّى (قدّس سرّه) وادّعى أنّ مرادهم من الوصف في تعريف الإرادة بيان حدّها ، وأنّها مرتبة من الشوق ، وليس في صدد أنّها لو حصلت لتحقّق تحريك العضلات بعدها ، لما عرفت من أنّه يمكن تحقّق الشوق المؤكّد بالنسبة إلى أمر استقبالي ليس له مقدّمات سابقة ، وإن لم يكن هناك تحريك فعلا .

مضافاً إلى ذلك أنّ البعث لا يكاد يتعلّق إلاّ بأمر متأخّر عن زمان البعث ضرورة أنّ البعث إنّما هو لأجل إحداث الداعي في نفس المكلّف نحو العمل ، وهذا يحتاج إلى تصوّر الفائدة وما شاكلها ، ثمّ تهيئة ما يلزم له ، ثمّ إيقاعه خارجاً ، وهذا يستلزم التفكيك قهراً بحسب الزمان بين البعث والمراد نفسه . وقصر الزمان وطوله لا يوجب اختلافاً في الاستحالة بنظر العقل ، وعليه فلا يرد الإشكال على الفصول .

والصحيح أن يقال في جواب الإشكال : هو أنّ الإرادة إن اُريد بها الشوق الحاصل من مقدّمات اختيارية وغير اختيارية فهذا لا محذور فيه من جهة تعلّقها بأمر متأخّر ، إذ الشوق كما يتعلّق بأمر فعلي كذلك يتعلّق بأمر استقبالي ، كالشوق إلى مشاهدة زيد غداً . بل يتعلّق حتّى بالأمر الممتنع ، أو بالجمع بين الضدّين ، أو النقيضين . إلاّ أنّ القائل باستحالة التفكيك لا يقصد من الإرادة هذا المعنى ، فإنّ إمكان التفكيك بهذا المعنى ليس بمستحيل .

وإن اُريد من الإرادة الاختيار ، أعني به إعمال القدرة في الفعل ، فهي فعل من أفعال النفس ، لا من صفاتها . فالإرادة التكوينية أو التشريعية لا يمكن تعلّقها بأمر متأخّر .

ــ[350]ــ

أمّا في الإرادة التكوينية فلأنّ إعمال القدرة إنّما يمكن حيث يمكن صدور الفعل خارجاً ، فإذا فرضنا أنّ متعلّق الإرادة أمر متأخّر فكيف تتعلّق الإرادة التكوينية به فعلا . وعلى الجملة : الإرادة بمعنى الاختيار إنّما يمكن تحقّقه حيث يمكن صدور الفعل خارجاً ، والأمر المتأخّر مستحيل صدوره فعلا ، فيستحيل تعلّق الإرادة به .

وأمّا في الإرادة التشريعية فالأمر أوضح ، لأنّ تعلّق الإرادة بهذا المعنى بفعل الغير أمر مستحيل ، سواء كان المتعلّق أمراً فعلياً أو متأخّراً ، لأنّ فعل الغير ليس واقعاً تحت قدرة المولى حتّى يعملها فيه ، بل هو تحت اختيار المكلّف نفسه . نعم إعمال القدرة في تشريع الحكم وجعله على المكلّف أمر ممكن ، وأنّ تسميته بالإرادة التشريعية بالنظر إلى متعلّقها وأنّه أمر تشريعي لا مانع منه ، إلاّ أنّها في الحقيقة بهذا المعنى إرادة تكوينية لا محالة .

وإن اُريد بالإرادة الطلب والبعث نحو المطلوب ، فلا مانع منه ، والوجه في تسمية الطلب بالإرادة مشابهته لها في السببية لتحقّق الفعل . إلاّ أنّ تسرية أحكام الإرادة ولوازمها إلى الطلب والبعث لا وجه له ، فإنّ من جملة أحكامها عدم جواز تعلّقها بأمر متأخّر ، ولا يتّصف الطلب بهذا المعنى ، لجواز تعلّقه بأمر متأخّر ، وذلك فإنّ الإرادة من الاُمور التكوينية الحقيقية التي لا تخضع لاعتبار معتبر ، وأمّا الطلب فهو إبراز ما في النفس من الاعتبار خارجاً ، وهذا خفيف المؤونة .

نعم يختلف متعلّقه ـ وهو المعتبر ـ بحسب كيفية الاعتبار ، فقد يعتبر المولى الوجوب والواجب فعلياً ، كما لو قال لعبده : صلّ الآن . وقد يعتبر كليهما متأخّراً كما في الواجب المشروط ، مثل : أكرم زيداً غداً . وقد يعتبر الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً ، كما في الواجب المعلّق. فكان الاعتبار في جميع الصور فعلياً ولكن متعلّقه مختلف ، هذا كلّه في الدليل الأول .

الأمر الثاني : الذي استدلّ به على استحالة الواجب المعلّق ما جاء به شيخنا

ــ[351]ــ

الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) من أنّ القيد الذي فرضه صاحب الفصول (رحمه الله) قيداً للواجب إنّما هو غير اختياري ـ كالزمان ـ وهذا لا يمكن توجّه الطلب نحوه ، لأنّه غير مقدور ، فلابدّ من أخذه مفروض الوجود ، ومعه يعود القيد إلى الحكم ـ أي الهيئة ، دون المادّة ـ ومتى كان كذلك استحال تحقّق الوجوب قبل تحقّق القيد ، بناءً على ما سبق منّا من استحالة الشرط المتأخّر ، وعليه فليس عندنا إلاّ واجب مطلق ومشروط فقط ، أمّا الواجب المعلّق فمستحيل .

وغير خفي أنّ ما أفاده (قدّس سرّه) مبني على استحالة الشرط المتأخّر ، وقد عرفت ممّا تقدّم(2) إمكانه ، وأنّ ما يأخذه المولى شرطاً للحكم يمكن أن يكون متقدّماً عليه ، ومقارناً له ، ومتأخّراً عنه ، فإذا كان الشرط موجوداً على النحو الذي لاحظه المولى كان الحكم فعلياً . ففعلية الحكم لا تتوقّف على وجود الشرط فعلا فيما إذا كان الشرط هو الوجود المتأخّر .

نعم قد تقدّم(3) أنّ الالتزام بالشرط المتأخّر ممّا لا يساعد عليه ظاهر الأدلّة وأنّ الظاهر منها هو تقارن الحكم مع موضوعه بحسب الفعلية ، وأنّه لو لم تقم قرينة على الخلاف حكم بالتقارن ، ولكن في مثل قوله تعالى : (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا)(4) حكم بفعلية الوجوب عند تحقّق الاستطاعة ولكن نفس الواجب ـ وهو الحجّ ـ مأخوذ فيه التقيّد بأمر استقبالي وهو الزمان فالزمان شرط متأخّر للوجوب ، وتقيّد الفعل به من قيود صحّة الواجب ، وهو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 196 وما بعدها .

(2) في ص321 .

(3) في ص322 ـ 323 .

(4) آل عمران 3 : 97 .

ــ[352]ــ

مقدور للمكلّف . فلا مانع من طلبه .

وكيف كان ، فالواجب المعلّق أمر ممكن ، وليس بمستحيل ثبوتاً ، وإن كان محتاجاً إلى الدليل في مقام الإثبات .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net