أدلّة صاحب الفصول 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4553


أدلّة صاحب الفصول

استدلّ صاحب الفصول (قدّس سرّه)(1) على مدّعاه بأدلّة ثلاثة :

الدليل الأول : هو أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة إنّما هو العقل المدرك للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، ومن الظاهر أنّه لا يدرك إلاّ الملازمة بين طلب شيء وطلب ما يقع في سلسلة علّة وجود ذلك الشيء في الخارج ، وأمّا ما ينفك عنه ، ولا يترتّب عليه في الخارج ، فالعقل لا يدرك الملازمة بين طلبه وطلب ما يتوقّف عليه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفصول الغروية : 86 .

ــ[404]ــ

الدليل الثاني : تجويز العقل بتصريح الآمر بعدم إرادة غير المقدّمة الموصلة وجواز هذا التصريح دليل على وجوب خصوص الموصلة . مثلا للمولى أن يقول لعبده : اُريد الحج ، واُريد المسير الذي يوصل إلى بيت الله الحرام ، ولا اُريد المسير الذي لا يوصل . ومن الواضح أنّ المولى لا يتمكّن من القول بعدم إرادة جميع المقدّمات الموصلة ، وغيرها . وكذا لا يسوغ له التصريح بعدم إرادة خصوص المقدّمة الموصلة ، وهذا آية اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة .

الدليل الثالث : أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة إنّما هو إيصالها إلى الواجب ووقوعها في سبيل حصوله ، وإلاّ فلا غرض للمولى في وجود المقدّمة ، فلا جرم يكون التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي معتبراً في مطلوبيتها ، والوجدان شاهد بأنّه إذا اشتاق إلى شيء فلا يشتاق إلاّ إلى المقدّمات التي توصله إلى ما تعلّقت إرادته به . فالإتيان بالطبيب إلى المريض إنّما يكون محبوباً حيث يوصل إلى تداويه وأمّا زيارته إلى داره وعدم مداواته له فهو خال عن المحبوبية ، وهكذا سائر الأمثلة ممّا كان الوجدان حاكماً فيها بعدم محبوبية غير الموصل من المقدّمات ، هذا .

وقد ناقش صاحب الكفاية (رحمه الله)(1) في الأدلّة الثلاثة المتقدّمة .

أمّا مناقشته في الأول فحاصلها : أنّ العقل لا يفرق في الحكم بالملازمة بين المقدّمة الموصلة وغيرها ، وذلك لوجود الملاك في جامع المقدّمة وطبيعيها ، وهو التمكّن من إتيان الواجب وتوقّف القدرة على الإتيان بالواجب عليها . فلا وجه لاختصاص الوجوب بالموصلة .

ولكن الجواب عن هذه المناقشة ظهر ممّا تقدّم(2)، حيث بيّنا أنّ القدرة على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 118 .

(2) في ص401 وما بعدها .

ــ[405]ــ

الواجب يتوقّف على القدرة على مقدّمته ، لا على وجودها . والغاية المطلوبة من وجودها إنّما هي خصوص إيصالها إلى الواجب وترتّبه عليها ، فالعقل إنّما يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب خصوص مقدّماته الموصلة إليه ، وأمّا المقدّمات غير الموصلة فالعقل لا يدرك الملازمة بين وجوبه ووجوبها .

وأمّا مناقشته في الثاني فحاصلها : أنّ تصريح الآمر بعدم إرادة المقدّمات غير الموصلة جزاف صرف ، كيف والملاك ـ وهو التمكّن من إتيان الواجب ـ حاصل في كلتا المقدّمتين : الموصلة وغير الموصلة .

ولكن الجواب عن ذلك واضح بعد ما عرفت من اختصاص ملاك الوجوب بالموصلة ، وعدم شموله لغيرها .

وأمّا مناقشته في الثالث : فهي منحلّة إلى مناقشتين : صغرى ، وكبرى .

أمّا مناقشته في الصغرى : فبأنّ الغاية من إيجاب المقدّمة ليس إلاّ التمكّن من إتيان الواجب النفسي ، لا ترتّبه عليها ، وهذه موجودة في الموصلة وغيرها .

وأمّا مناقشته في الكبرى : فبأنّ الوجدان قاض بأنّ ما اُريد من الإتيان به لأجل غاية من الغايات ، وتجرّد عن الغاية بحيث لم تحصل بعده ، فلا محالة يقع ذلك المأتي به على صفة الوجوب . فإيجاب المقدّمة وإن سلّمنا أنّ الغاية له هو ترتّب الواجب عليه ، لكن الغاية لا تكون قيداً للواجب ، بحيث لو تجرّد عنها لم يقع على صفة الوجوب .

ولا يخفى ما فيهما ، أمّا المناقشة في الصغرى فقد مرّ ما فيها من أنّ التمكّن من الإتيان بذي المقدّمة ليس موقوفاً على الإتيان بالمقدّمة ، بل هو متوقّف على القدرة على المقدّمة ، سواء وجدت المقدّمة في الخارج أم لم توجد .

وأمّا المناقشة في الكبرى : فيردّها أنّ الشيء إذا وجب لغاية من الغايات وكانت الغاية هي التي اقتضت الوجوب ، فكيف يمكن تحقّق الوجوب في مورد مع

ــ[406]ــ

فرض عدم تحقّق الغاية فيه . فإذا فرض أنّ الغاية من إيجاب المقدّمة إنّما هي إيصالها إلى الواجب وترتّبه عليها ، فلو تجرّدت عن هذه الغاية ولم يترتّب الواجب عليها ، فكيف تتّصف بالوجوب .

دليل أخر على إيجاب المقدّمة الموصلة

وممّا يستدلّ به على إيجاب خصوص المقدّمة الموصلة جواز تحريم المولى المقدّمات غير الموصلة ، مع استحالة تحريم مطلق المقدّمة ، أو خصوص الموصلة منها  ، والتفرقة بين الموصلة وغيرها بذلك دليل على عدم وجوب غير الموصلة منها  . وهذا الاستدلال منسوب إلى السيد صاحب العروة (قدّس سرّه)(1).

وأجاب صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(2) عن ذلك بجوابين :

الجواب الأول : أنّ ما ذكر خارج عن مورد النزاع ، لأنّ محل البحث هو ما كانت المقدّمات فيه مباحة ، وأمّا إذا كان بعضها محرّماً فعدم اتّصافها بالوجوب الغيري إنّما هو لوجود المانع ، وهو الاتّصاف بالحرمة ، لا لعدم المقتضي . فلا دلالة لجواز المنع عن المقدّمة غير الموصلة على اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة .

وهذا الجواب صحيح ، ويزيده وضوحاً جواز المنع عن بعض المقدّمات حتّى إذا فرض إيصالها إلى ذي المقدّمة أيضاً ، مع أنّه لا إشكال في عدم اختصاص الوجوب الغيري ببعض أقسام الموصلة دون بعضها الآخر .

الجواب الثاني : أنّ تصريح المولى بحرمة المقدّمة غير الموصلة غير معقول لأنّه مستلزم إمّا لطلب الحاصل ، أو لجواز تفويت الواجب النفسي مع الاختيار

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نسبه في أجود التقريرات 1 : 346 إلى صاحب الفصول ، راجع الفصول الغروية : 86 .

(2) كفاية الاُصول : 120 .

ــ[407]ــ

وكلاهما محال :

بيان الأول : هو أنّ وجوب ذي المقدّمة يتوقّف على القدرة عليه ، وهي تتوقّف على جواز مقدّمته ، وهو يتوقّف على الإتيان بالواجب النفسي ، إذ بدونه لا تتّصف المقدّمة بالجواز . ونتيجة ذلك : أنّ وجوب الواجب النفسي يتوقّف على الإتيان به ، وهو طلب الحاصل .

وأمّا بيان الثاني : فلأنّ المكلّف إذا لم يأت بالواجب النفسي كانت مقدّمته محرّمة على الفرض ، فلا يكون الواجب مقدوراً ، فيجوز له ترك الواجب اختياراً لأنّ تحصيل القدرة غير لازم .

وبعبارة اُخرى : أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط بالقدرة على نفس الواجب ، والقدرة عليه موقوفة على التمكّن من المقدّمة عقلا وشرعاً ، بحيث لو لم يكن متمكّناً منها لما تمكّن من امتثال الواجب النفسي ، وبما أنّ جواز المقدّمة لا يكون إلاّ عند الإتيان بالواجب النفسي ، فمع عدمه تكون المقدّمة محرّمة ، فلا يكون الواجب النفسي مقدوراً ، فمع مخالفته لا يستحق العقاب .

والجواب عن ذلك : أنّ الإيراد المذكور إنّما يتم لو اعتبر الإيصال قيداً في الوجوب ، فإنّ جواز المقدّمة حينئذ يكون مشروطاً بالإيصال الخارجي ، وأمّا لو اعتبر قيداً في الواجب فلا يلزم المحذور ، وذلك لأنّ جواز المقدّمة لا يتوقّف على الإيصال الخارجي ، وإنّما هو ثابت قبل تحقّقه خارجاً ، وإنّما تعلّق الجواز بالمقدّمة الموصلة ، والمفروض تمكّن المكلّف منها ، فلا يجوز بناءً على هذا ترك الواجب النفسي أصلا .

وبعبارة اُخرى : لمّا كان العبد قادراً على الإتيان بالمقدّمة الموصلة للقدرة على قيدها ، كان امتثال التكليف بالواجب النفسي مقدوراً ، فلا يستطيع العبد على مخالفته .

ــ[408]ــ

المقدّمة حال الإيصال

ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) بعد أن رأى أنّ الوجدان لا يساعد على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، ورأى أنّ الدليل لا يساعد على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، تابع صاحب حاشية المعالم (قدّس سرّه)(2) في اختيار مسلكه من أنّ المقدّمة واجبة من حيث الإيصال ، وإن خالفه في بعض صوره .

بيان ذلك : أنّه بناءً على أنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها شرعاً ، بمعنى أنّ المولى إذا أمر بشيء وكان موقوفاً على مقدّمة ، فلابدّ وأن يحكم بوجوب تلك المقدّمة ، لتوقّف الواجب عليها ، لا محالة يكون الغرض قائماً بخصوص المقدّمة الموصلة إلى ذلك الواجب ، وإلاّ فغير الموصلة لا ترتبط بمطلوبه ليتعلّق طلبه بها ، وهذا أمر وجداني .

إلاّ أنّ البرهان لمّا لم يساعد على تقييدها بالموصلة ـ لما ذكرنا سابقاً(3) في الإشكال على صاحب الفصول (رحمه الله) من استلزامه الدور أو التسلسل ـ تعيّن حينئذ أن نسلك مسلكاً آخر فنقول : إنّ قيد الإيصال لا يخلو أمره ، إمّا أن يعود إلى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 348 .

(2) هداية المسترشدين 2 : 177 .

(3) في ص399 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net