أدلّة وجوب المقدّمة 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4345


وأمّا المقام الثاني : فالذي يمكن أن يستدلّ به على الوجوب أدلّة ثلاثة :

الدليل الأول : استدلال الأشاعرة وفي مقدّمتهم أبو الحسن الأشعري(1)وحاصله  : أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق ، وإلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه مطلقاً إلى كونه مشروطاً .

بيان ذلك : أنّ المولى إذا أوجب شيئاً فلابدّ له من إيجاب جميع مقدّمات ذلك الشيء ، فلو لم يوجب تلك المقدّمات لجاز تركها ، وهذا يستلزم أحد محذورين : إمّا أن يبقى وجوب ذي المقدّمة بحاله ، وهو محال ، لأنّه تكليف بما لا يطاق . أو يزول الوجوب إلاّ عند حصول مقدّمته ، فيلزم انقلاب المطلق إلى المشروط .

ولا يخفى ما فيه ، فإنّنا نلتزم بعدم الملازمة بين عدم المنع من ترك المقدّمة والمنع من ترك ذيها ، إذ المقدّمة وإن لم تجب بحكم الشرع ، إلاّ أنّها واجبة بحكم العقل  ، وحينئذ فإن ترك المكلّف الواجب النفسي بترك مقدّمته فقد عصى ، ويكون سقوط الوجوب من جهة العصيان ، لا من جهة ترخيص الشارع في الترك ، فلا يلزم التكليف بما لا يطاق أو انقلاب الوجوب من المطلق إلى المشروط .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لم نعثر على تصريح بنسبته إلى أبي الحسن الأشعري ، نعم ذكر ما يقرب منه الرازي في المحصول 2 : 189 ، وكذا أبو الحسين البصري المعتزلي في (المعتمد في اُصول الفقه1) : 94 ـ 95 ، بل ناقشه الآمدي في كتابه (الإحكام في اُصول الأحكام 1 : 96) بعد حكايته عن أبي الحسين البصري المعتزلي وبعد أن ذكر ما نصّه : اتّفق أصحابنا والمعتزلة على أنّ ما لا يتمّ ... .

ــ[425]ــ

وبعبارة اُخرى : أنّ الترخيص الشرعي وإن أمكن بالنسبة إلى المقدّمة ، إلاّ أنّ حكم العقل باللاّبدية والتوقّف لا يسمح للعبد أن يخالف ويترك ذلك ، إذ لازم ترخيص المولى لترك المقدّمة أنّه لا عقاب يترتّب من قبله على نفس ترك المقدّمة من حيث هي ، أمّا من حيث فوات الواجب النفسي الذي هو ذو المقدّمة ، فالمولى له الحقّ في المعاقبة والمؤاخذة ، ولا مفرّ للعبد من ذلك .

وعلى تقدير أن يرخّص المولى بالترك مع حكم العقل بالإتيان ، ففوات الواجب النفسي من العبد إنّما كان بالعصيان ، إذ بإمكانه المبادرة إلى الفعل ما دام العقل حاكماً باللاّبديّة التي لا يستطيع من التخلّف عنها ، نعم لو اُريد من عدم الوجوب عدم الوجوب العقلي لصحّ كلامه ، إلاّ أنّه خارج عن المقام .

الدليل الثاني : ما جاء به في الكفاية(1) من أنّ الكتاب والسنّة وسائر الأوامر العرفية مصرّحة بالأمر بالمقدّمة حين إرادة ذيها ، مثل قوله تعالى : (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)(2) وقوله (عليه السلام) : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه »(3) وفي الأوامر العرفية ، مثل اخرج إلى السوق واشتر اللحم . فالأوامر هنا لابدّ لها من ملاك ، وهو إمّا أن يكون غير ملاك ذي المقدّمة ، فيلزم أن تكون واجبة بالوجوب النفسي ، وهو خلاف الفرض . أو يكون الملاك هو المقدّمية إلى الواجب النفسي .

وإذا ثبت هذا المعنى في مثل هذه الموارد فالتعدّي إلى غيرها لجهة وحدة الملاك أمر جائز ، وحينئذ فالوجوبات التي وردت وغيرها لابدّ من كونها مولوية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 126 .

(2) المائدة 5 : 6 .

(3) الوسائل 3 : 405 / أبواب النجاسات ب8 ح2 .

ــ[426]ــ

غيرية ، وإلاّ لزم كونها واجبات نفسية ، ولا يقول بها أحد .

وغير خفي أنّ الاستدلال المذكور إنّما يتم إن ثبت وجوب هذه الموارد وجوباً غيرياً ، وأمّا بناءً على أنّه إرشاد إلى ما تعلّق به من الجزئية ، والشرطية والمانعية ـ كما هو الصحيح ـ فالاستدلال باطل .

والذي يدلّ على ما قلناه أمران :

الأمر الأول : ما ورد من أمثال هذه الأوامر في الأجزاء ، كما جاء في بعض فقرات رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) : « وإذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتّى ترجع مفاصلك ، وإذا سجدت فاقعد مثل ذلك . وإذا كان في الركعة الاُولى والثانية ، فرفعت رأسك من السجود فاستتم جالساً حتّى ترجع مفاصلك » إلخ(1)، فإنّها ترشد إلى الجزئية ، دون أن تكون مأموراً بها بالأمر المولوي الغيري ، وإلاّ لكان نقضاً لما قاله (قدّس سرّه) سابقاً من عدم اتّصاف الأجزاء بالمقدّمية ، فإنّ الأجزاء لا تتصف بالوجوب الغيري . إذن فما ذلك إلاّ لأنّ الأمر بها إرشاد إلى جزئيتها للصلاة .

الأمر الثاني : ما ورد نظيره في العقود بالمعنى الأعم ، كما جاء في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْل مِنْكُمْ)(2) فإنّ ذلك إرشاد إلى بطلان الطلاق بدون الإشهاد دون أن يكون الأمر غيرياً مولوياً ، إذ لا وجوب نفسي هنا ليتوقّف عليها . ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ قول المولى : إذا صلّيت فتطهّر ، إنّما هو إرشاد إلى بطلان الصلاة بدون الطهارة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 5 : 465 / أبواب أفعال الصلاة ب1 ح9 .

(2) الطلاق 65 : 2 .

ــ[427]ــ

الدليل الثالث : ما جاء به صاحب الكفاية(1)، وشيخنا الاُستاذ(2) (قدّس سرّهما) من شهادة الوجدان والارتكاز العقلي على ذلك ، فإنّ الإنسان إذا اشتاق إلى شيء وأراده فهو وإن لم يلتفت إلى مقدّمات ذلك الشيء ، إلاّ أنّه لو رجع إلى وجدانه والتفت إلى ما يتوقّف عليه نفس مراده لاشتاق إليها ، كاشتياقه إلى نفس الواجب بلا فرق في هذه الجهة بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، وإن اختلف المتعلّق في كل منهما عن الآخر .

وغير خفي أنّه إن اُريد من الإرادة الشوق المؤكّد ، الذي هو من الصفات النفسانية الخارجة عن حيّز القدرة والاختيار ، بمعنى أنّ الإنسان ربما يشتاق إلى فعل من الأفعال لتوجّه القوى الظاهرية والباطنية نحوه ، فيكثر شوقه حتّى يبلغ مبلغ الإرادة والطلب ، إمّا من نفسه أو غيره ، فهو يشتاق إلى مقدّمات ذلك الشيء إذا التفت إليها . ففيه : أنّ الإرادة بهذا المعنى ليست من سنخ الأحكام ، بل من الصفات النفسانية ، وقد عرفت أنّ الإرادة التشريعية إنّما هي من سنخ الأحكام الناشئة عن إرادة واختيار .

وإن اُريد منها إعمال القدرة نحو الفعل ، الذي هو معنى الاختيار كما ذكرناه غير مرّة من أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً ، فلابدّ وأن يبذل وسعه ، ويعمل قدرته في سبيل تحصيل الخير لنفسه ، فهذا وإن كان من مقولة الأفعال ، إلاّ أنّ الإرادة التشريعية بهذا المعنى باطلة ، وذلك فإنّ إعمال القدرة في فعل الغير ليس واقعاً تحت اختيار المولى وإرادته ، لا بنفسه ولا بمقدّماته .

وإن اُريد منها معنى آخر ، وهو أنّ المولى إذا تعلّق شوقه بفعل الغير يعتبر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 126 .

(2) أجود التقريرات 1 : 335 .

ــ[428]ــ

أمراً في نفسه ، ويبرزه بمبرز يدلّ عليه ، ويفيد أنّ الفعل ملقى على ذمّة المكلّف ، فهذا لا محذور فيه . إلاّ أنّ تسرية أحكام الإرادة التكوينية إلى الإرادة التشريعية غير ممكن ، لأنّه من إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر .

وبعبارة اُخرى : إن اُريد بها جعل شيء في ذمّة المكلّف ، فالوجدان لا يشهد بما ذكروه من أنّ المولى إذا جعل شيئاً على ذمّة شخص فلابدّ وأن يجعل في ذمّته مقدّمات ذلك الشيء ، إذ لا ملازمة بين الجعلين ، بل ربما لا يكون ملتفتاً إلى توقّفه على مقدّمات أصلا ، فكيف يجعلها في هذا الحال ، مع أنّ الجعل من أفعال النفس المتوقّفة على الالتفات .

فالصحيح أن يقال : إنّه لا دليل على وجوب المقدّمة وجوباً مولوياً شرعياً كما وأنّ الوجدان ليس بشاهد على تعلّق إرادة المولى بالمقدّمات بعد تعلّقها بشيء بل الوجدان شاهد على عدم ذلك ، للزوم اللغوية في الخطاب المولوي ، وذلك فإنّ العقل بعد أن رأى الواجب موقوفاً على مقدّمة ، ورأى العبد لا يستطيع على امتثال الواجب النفسي المأمور به إلاّ بعد الإتيان بمقدّمته ، يحكم ضرورة باتيان تلك المقدّمة والمبادرة نحوها ، توصّلا لامتثال الواجب النفسي .

فلو أمر الشارع المقدّس بوجوب المقدّمة أمراً مولوياً بعد اطّلاعه على حكم العقل بذلك ، يكون أمره لغواً ، لعدم ترتّب الأثر عليه ، نعم لو صدر الأمر منه بهذه الكيفية لا يكون أمره إلاّ إرشاداً إلى حكم العقل بذلك .

والحاصل : أنّ المقدّمة إنّما تجب بحكم العقل ، دون الشرع .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net