سخافات وخرافات في معارضة سورتين من القرآن 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 6488

سخافات وخرافات:
ذكر كاتب رسالة "حسن الإيجاز"(1) في رسالته هذه أنه يمكن معارضة القرآن بمثله، وذكر جملا اقتبسها من نفس القرآن، وحور بعض ألفاظها وزعم أنه يعارض بها القرآن، فأظهر مبلغه من العلم، ومقدار معرفته بفنون البلاغة وهنا نذكر للقارئ ذلك العبارات، ونوضح له وجوه الفساد في المعارضة  الوهمية وقد تعرضنا لها في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتيب صدر من المطبعة الانكليزية الأمريكية ببولاق مصر سنة1912.

ــ[96]ــ

كتبانا" نفحات الإعجاز"(1).
ذكر هذا المتوهم في معارضة سورة الفاتحة قوله: "الحمد للرحمن رب الأكوان، الملك الديان، لك العبادة، وبك المستعان، اهدنا صراط الإيمان" وتخيل أن قوله هذا واف بجميع معاني سورة الفاتحة، مع أنه أخصر منها.
ولست أدري ماذا أقول لكاتب هذه الجمل، وهو بهذا المقدار من التمييز بين غث الكلام وسمينه؟! وليته عرض قوله هذا على علماء النصارى العارفين منهم بأساليب الكلام، وفنون البلاغة قبل أن يفضح نفسه بهذه الدعوى، أولم يشعر بأن المألوف في معارضة كلام بمثله، أن يأتي الشاعر أو الكاتب بكلام يتحد مع الكلام المعارض في جهة من الجهات أو غرض من الأغراض، ولكنه يأتي بكلام مستقل في ألفاظه وتركيبه وأسلوبه؟ وليس معنى المعارضة أن يقلد الكلام المعارض في تركيبه وأسلوبه، ويتصرف فيه بتبديل بعض ألفاظه ببعض، وإلا لأمكنت معارضة كل كلام بهذا النحو من المعارضة. وقد كان أيسر شيء لمعاصري النبي (صلى الله عليه وآله) من العرب، ولكنهم لمعرفتهم بمعنى المعارضة الصحيحة ومعرفتهم بوجوه البلاغة في القرآن لم تمكنهم المعارضة، واعترفوا بالعجز فآمن به من آمن منهم وجحد به من جحد:
{فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} (74: 24).
على أنه كيف تصح المقايسة بين جمله هذه التي أتعب بها نفسه، وبين فاتحة الكتاب حتى يتوهم أنها وافية بمعناها؟ أو لم يكف هذا الكاتب جهله بفنون البلاغة حتى دل الناس على عيوبه بالجهر بها؟!! وكيف تصح المقايسة بين قوله: "الحمد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتبناه ردا على " حسن الايجاز" طبع في المطبعة العلوية في النجف الأشرف سنة 1342(المؤلف).

ــ[97]ــ

للرحمن" مع قول الله تعالى: {الحمد لله} (1: 2).
وقد فوّت بجملته هذه المعنى المقصود من قول الله تعالى. فان كلمة "الله " علم للذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال، ومن صفات الكمال الرحمة التي أشار إليها في البسملة، فذكر كلمة "الرحمن" يوجب فوت الدلالة على بقية جهات الكمال المجتمعة في الذات المقدسة، والتي يستوجب بها الحمد من غير ناحية الرحمة. وكذلك استبدال قوله: " رب الأكوان " بقوله تعالى:
{رب العالمين * الرحمن الرحيم} (1: 3).
فان فيه تفويتا لمعنى هاتين الآيتين، فان فيهما دلالة على تعدد العوالم الطولية والعرضية، وأنه تعالى مالك لجميعها ومربيها، وأن رحمته تشمل جميع هذه العوالم على نحو مستمر غير منقطع ، كما يدل عليه ذكر لفظ "الرحيم" بعد لفظ "الرحمن". وسنوضح ذلك في تفسير البسملة.
وأين من هذه المعاني قول هذا القائل: "رب الأكوان"؟ فان الكون معناه الحدوث والوقوع والصيرورة والكفالة(1) وهو بجميع هذه المعاني معنى مصدري لا يصح إضافة كلمة الرب إليه وهي بمعنى المالك المربي. نعم يصح إضافة كلمة الخالق إليه. فيقال: خالق الأكوان. على أن لفظ الأكوان لا يدل على تعدد عوالم الموجودات الذي يدل عليه لفظ العالمين، ولا على سائر الجهات التي تدل عليها الآية الكريمة.
وكذلك استبداله جملة "الملك الديان" بقول الله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع لسان العرب مادة "كون ".

ــ[98]ــ

{مالك يوم الدين} (1: 4).
مع أن جملته تلك لا تدل على وجود عالم آخر لجزاء الأعمال، وأن الله تعالى هو مالك ذلك اليوم، وليس فيه لأحد تصرف ولا اختيار، وأن الناس كلهم في ذلك اليوم تحت حكم الله تعالى ينفذ فيهم أمره، فبعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار. وغاية ما تدل عليه جملته تلك أن الله ملك يجازي بالأعمال، وأين هذا من معنى الآية الكريمة؟!
أما قوله تعالى:
{إياك نعبد وإياك نستعين}(1: 5).
فقد فهم هذا الكاتب من معناه أن العبادة لا بد من أن تكون لله، وأن الاستعانة لا تكون إلا به تعالى، فأبدلها بقوله: "لك العبادة، وبك المستعان" وقد فاته أن المقصود بالآية تلقين المؤمن أن يظهر توحيده في العبادة، وحاجته وافتقاره إلى إعانة الله عز وجل في عباداته وسائر أعماله، وأن يعترف بأنه وجميع المؤمنين لا يعبدون غير الله، ولا يستعينون بأحد سوى الله، بل يعبدونه وحده ويستعينون به. وأين هذا من عبارة هذا الكاتب على أنها ليست أخصر من الآية المباركة؟!! وقوله تعالى:
{اهدنا الصراط المستقيم} (1: 6).
أراد به طلب الهداية إلى أقرب طريق يوصل سالكه إلى مقاصده، من أعماله وملكاته وعقائده، ولم يحصره بطريق الإيمان فقط، وهذا لا يفي به قول الكاتب: "اهدنا صراط الإيمان". على أن معنى هذه الجملة طلب الهداية إلى طريق الإيمان، ولا دلالة فيها على أن ذلك الطريق مستقيم لا يضل سالكه.
وقد استغنى الكاتب بجملته هذه عن بقية السورة المباركة، وزعم أن هذه البقية

ــ[99]ــ

غير محتاج إليها، وهذا يدل على قصوره عن فهم معناها. فإن قوله تعالى:
{صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}(1: 7).
فيه دلالة على وجود طريق مستقيم سلكه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ووجود طرق أخرى غير مستقيمة سلكها المغضوب عليهم، من المعاندين للحق، والمنكرين له بعد وضوحه، والضالون الذين ضلوا طريق الهدى بجهلهم، وتقصيرهم في الفحص عنه، وفي اقتناعهم بما ورثوه من آثار آبائهم، فاتبعوهم تقليدا على غير هدى من الله ولا برهان. والقارئ المتدبر لهذه الآية الكريمة يتذكر ذلك فيحضر في ذهنه لزوم التأسي بأولياء الله المقربين في أعمالهم، وأخلاقهم وعقائدهم، والتجنب عن مسالك هؤلاء المتمردين الذين غضب الله عليهم بما فعلوا، والذين ضلوا طريق الحق بعد اتضاحه، وهل يعد هذا المعنى من الأمور التي لا يهتم بها كما يتوهمه هذا الكاتب؟!!
وذكر في معارضة سورة الكوثر: قوله: "إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وجاهر، ولا تعتمد قول ساحر" انظر كيف يقلد القرآن في نظمه وتركيبه ويغير بعض ألفاظه، ويوهم الناس أنه يعارض القرآن ثم انظر كيف يسرق قوله هذا من مسيلمة الكذاب الذي يقول: "إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وهاجر، وإن مبغضك رجل كافر". ومن الغريب أنه توهم أن المشابهة في السجع بين الكلامين تقتضي مشاركتهما في البلاغة، ولم يلتفت إلى أن إعطاء الجواهر لا تترتب عليه إقامة الصلاة والمجاهرة بها. وأن لله على عبده نعما عظيمة هي أشرف وأعظم من نعمة المال، كنعمة الحياة والعقل والإيمان، فكيف يكون السبب الموجب للصلاة لله هو إعطاء المال دون تلك النعم العظيمة؟! ولكن الذي يستأجر بالمال للتبشير يكون

ــ[100]ــ

المال قبلته التي يصلي إليها، وهدفه الذي يسعى إلى تحصيله، وغايته التي يقدمها على كل غاية "وكل إناء بالذي فيه ينضح".
ولسائل أن يسأل هذا الكاتب عن معنى كلمة "الجواهر" التي جاء بها معرفة بالألف واللام، فان أراد بها جواهر معينة فليست في اللفظ قرينة تعين هذه الجواهر المقصودة، وإن أراد بها جميع الجواهر الموجودة في العالم من حيث أن الجمع المعرف بالألف واللام يدل على الاستغراق فهو كذب صريح. وما هو وجه المناسبة بين الجملتين السابقتين وبين قوله: "ولا تعتمد قول ساحر". وما هو المراد من لفظ ساحر، ومن قوله الذي لا يعتمد عليه؟ فان أراد به ساحرا معينا، وقولا مخصوصا من أقواله، كان عليه أن ينصب قرينة على هذا التعيين. وليس في جملته هذه ما يصلح للدلالة عليه، وإن أراد به كل قول لكل ساحر لأنهما نكرتان في سياق النهي لزم اللغو في هذا الكلام، لأنه لا يوجد سبب معقول لعدم الاعتماد على قول كل ساحر، ولو كان هذا القول في الأمور الاعتيادية مع الاطمئنان بقوله. وإن أراد أن لا يعتمد قول الساحر بما هو ساحر فهو غلط، لأن الساحر من حيث هو ساحر لا قول له، وإنما يسحر الناس ويفسد عليهم حالهم بحيله وأعماله.
وأما سورة الكوثر فقد نزلت في من شنأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إنه أبتر وسيموت وينقطع دينه واسمه، وقد أشار إلى ذلك بقوله تعالى:
{أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} (52: 30).
فأنزل الله تبارك وتعالى:
{إنا أعطيناك الكوثر} (108: 1).
وهو الخير الكثير من جميع الجهات. أما في الدنيا فشرف الرسالة، وهداية الخلق

 
 

ــ[101]ــ

وزعامة المسلمين، وكثرة الأنصار، والنصر على الأعداء وكثرة الذرية - من بضعته الصديقة الطاهرة - التي توجب بقاء اسمه ما دامت الدنيا باقية. وأما في الآخرة فالشفاعة الكبرى، والجنان العالية، والحوض الذي لا يشرب منه إلا هو وأولياوه إلى ما سوى ذلك من نعم الله عليه.
{فصل لربك وانحر} (108: 2).
شكرا له على هذه النعم، والمراد بالنحر: النحر بمنى، أو نحر الأضحية في الأضحى، أو رفع اليدين إلى النحر في تكبير الصلاة، أو استقبال القبلة بالنحر، والاعتدال في القيام، وجميع ذلك يناسب المقام لأنه نحو من الشكر لتلك النعم. وقد أنزل الله سبحانه:
{إن شانئك هو الأبتر} (108: 3).
فلا يبقى له اسم ولا رسم، فكانت العاقبة لهؤلاء الشانئين ما أخبر الله عنهم، فلم يبق لهم اسم ولا ذكر خير في الدنيا زيادة على جزائهم في الآخرة من العذاب الأليم، والخزي الدائم. وهل تقاس هذه السورة المباركة في معانيها السامية، وبلاغتها الكاملة بتلك الجمل الساقطة التي أجهد هذا الكاتب بها نفسه فقلد القرآن في نحو تركيبه، وأخذ من مسيلمة الكذاب ألفاظها وأسلوبها، وأتى بها كما شاء له العناد، بل كما شاء له الجهل الفاحش ليعارض بها عظمة القرآن في بلاغته وإعجازه؟!.

ــ[102]ــ




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net