اثبات المعجزات بالبراهين المنطقية 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 12612


ــ[103]ــ

 

حـول سـائر المعجزات
 

ــ[104]ــ


* إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية.
* محاسبة المدارك التي استند إليها منكرو تلك المعجزات.
* بشارة التوراة والإنجيل بنبوة محمد.
* إسلام كثير من اليهود والنصارى.
* الدليل القطعي على إثبات هذه البشارة.
* معجزات النبي أولى بالتصديق من معجزات الأنبياء السابقين.

ــ[105]ــ

لا يشك باحث مطلع في أن القرآن أعظم معجزة جاء بها نبي الإسلام، ومعنى هذا أنه أعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء والمرسلون جميعا. وقد ذكرنا في المباحث المتقدمة بعضا من نواحي إعجازه، وأوضحنا تفوق كتاب الله على جميع المعجزات، ولكنا نقول ههنا: إن معجزة النبي (صلى الله عليه وآله) لم تكن منحصرة بالقرآن الكريم، ولقد شارك جميع الأنبياء في معجزاتهم واختص من بينهم بمعجزة الكتاب العزيز. والدليل على قولنا هذا أمران:
الأول: أخبار المسلمين المتواترة الدالة على صدور المعجزات منه، وقد ألف المسلمون - على اختلاف مللهم ونحلهم في هذه المعجزات - مؤلفات كثيرة فليراجعها من يرغب في الإطلاع عليها. ولهذه الأخبار جهتان من الامتياز على أخبار أهل الكتاب بمعجزات أنبيائهم.
الجهة الأولى: قرب الزمان، فان الشيء إذا قرب زمانه كان تحصيل الجزم بوقوعه أيسر منه إذا بعد زمانه.
الجهة الثانية: كثرة الرواة، فإن أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) الذين شاهدوا معجزاته أكثر - بألوف المرات - من بني إسرائيل، ومن المؤمنين بعيسى الناقلين لمعجزاتهما.

ــ[106]ــ

فإن المؤمنين بعيسى (عليه السلام) في عصره كانوا لقلتهم يعدون بالأصابع، وإن نقل معجزاته لابد وأن ينتهي إلى هؤلاء المؤمنين القليلين في العدد، فإذا صحت دعوى التواتر في معجزات موسى وعيسى صحت دعوى التواتر في معجزات نبي الإسلام بطريق أولى. وقد أوضحنا فيما تقدم أن التواتر في معجزات الأنبياء السابقين غير ثابت في الأزمنة اللاحقة، ودعواه دعوى باطلة.
الثاني: ان نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) قد أثبت للأنبياء السابقين معجزات كثيرة، ثم ادعى أنه هو أفضل هؤلاء الأنبياء جميعا، وأنه خاتمهم. وهذا يقتضي صدور تلك المعجزات منه على نحو أتم، فإنه لا يعقل أن يدعي أحد أنه أفضل من غيره، وهو يعترف بنقصانه عن ذلك الغير في بعض صفات الكمال. وهل يعقل أن يدعي أحد أنه أعلم الأطباء جميعا، وهو يعترف بأن بعض الأطباء الآخرين قادر على معالجة مرض هو غير قادر عليها؟! إن ضرورة العقل تمنع ذلك. ولهذه الجهة نرى أن جملة من المتنبّين الكاذبين قد أنكروا الإعجاز، وجحدوا كل معجزة للأنبياء السابقين، وصرفوا اهتمامهم إلى تأويل كل آية دلت على وقوع الإعجاز، حذرا من أن يطالبهم الناس بأمثالها فيستبين عجزهم.
وقد كتب بعض الجهلاء، والمموهين على البسطاء أن في آيات القرآن ما يدل على نفي كل معجزة للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) غير القرآن وأن القرآن هو معجزته الوحيدة ليس غير، وهو حجته على نبوته. ونحن نذكر هذه الآيات التي احتجوا بها، ونذكر وجه احتجاجهم، ثم نوضح فساد ذلك.
فمن هذه الآيات قوله تعالى:
{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (17: 59).

ــ[107]ــ

ووجه دلالتها -على ما يزعمون - أنها ظاهرة في أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يأت بآية غير القرآن. وأن السبب في عدم الإرسال بالآيات هو أن الأولين من الأمم السابقة قد كذبوا بالآيات التي أرسلت إليهم.
والجواب:
إن المراد بالآيات التي نفتها الآية الكريمة، والتي كذب بها الأولون من الأمم هي الآيات التي اقترحتها الأمم على أنبيائها، فالآية الكريمة تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يجب المشركين إلى ما اقترحوه عليه من الآيات، ولا تنفي عنه صدور المعجزة مطلقا، ويدل على أن المراد هي الآيات الاقتراحية أمور:
الأول: ان الآيات جمع آية بمعنى العلامة، وهو جمع معرف بالألف واللام.
والوجوه المحتملة في معناه ثلاثة:
فإما أن يراد منه جنس الآية الذي يصلح للانطباق على كل فرد من الآيات، ومعنى هذا أن الآية الكريمة تنفي وقوع كل آية تدل على صدق مدعي النبوة، ولازم هذا أن يكون بعث الرسول لغوا، إذ لا فائدة في إرساله إذا لم تكن معه بينة تقوم على صدقه، وأن يكون تكليف الناس بتصديقه، ولزوم اتباعه تكليفا بما لا يطاق.
وإما أن يراد به جميع الآيات، وهذا التوهم أيضا فاسد، لأن إثبات صدق النبي يتوقف على آية ما من الآيات، ولا يتوقف على إرساله بجميع الآيات. ولم يقترح المقترحون عليه أن يأتي بجميعها، فلا معنى لحمل الآية عليه.
فلا بد وأن يراد بهذه الآية الممنوعة خصوص آيات معهودة من الآيات الإلهية.
الثاني: أن تكذيب المكذبين لو صلح أن يكون مانعا عن الإرسال بالآيات، لكان مانعا عن الإرسال بالقرآن أيضا إذ لا وجه لتخصيص المنع بالآيات الأخرى.

ــ[108]ــ

وقد أوضحنا أن القرآن أعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء، وقد تحدّى به النبي (صلى الله عليه وآله) جميع الأمم لإثبات نبوته ما دامت الليالي والأيام. وهذا يدلنا أيضاً على أن الآيات الممنوعة قسم خاص وليست مطلق الآيات.
الثالث: أن الآية الكريمة صرحت بأن السبب المانع عن الإرسال بالآيات هو تكذيب الأولين بها، وهذا من قبيل تعليل عدم الشيء بوجود مانعه. ومن البين أن التعليل بوجود المانع لا يحسن في نظر العقل إلا إذا كان السبب المقتضي لوجود ذلك الشيء موجودا، ولذلك يقبح عند العقلاء أن يعلل عدم احتراق الخشبة - مثلا - بوجود الرطوبة عليها إذا كانت النار غير موجودة، وذلك واضح لا يقبل الشك.
وإذن فلا بد وأن يكون المقتضي للإرسال بالآيات موجودا، ليصح تعليل عدمه بوجود التكذيب. والمقتضي للإرسال لا يخلو من أن يكون هي الحكمة الإلهية لإرشاد العباد وهدايتهم إلى سعادتهم. وأن يكون اقتراح الأمة على النبي شيئا من الآيات زائدا على المقدار اللازم من الآيات لإتمام الحجة. أما إذا كان المقتضي للإرسال بالآيات هي الحكمة الإلهية، فلا بد من إرسال هذه الآيات، ويستحيل أن يمنع من تأثير الحكمة الإلهية شيء، لأنه يستحيل على الحكيم أن يختار في عمله ما تنافيه حكمته، سواء في ذلك وجود التكذيب وعدمه.
على أن تكذيب الأمم السابقة لو صلح أن يكون مانعا عن تأثير الحكمة الإلهية في الإرسال بالآيات، لصلح أن يكون مانعا عن إرسال الرسول. وهذا باطل بالضرورة. وخلاف للمفروض أيضا. فتعين أن يكون المقتضي للإرسال بالآيات هو اقتراح المقترحين. ومن الضروري أن المقترحين إنما يقترحون أمورا زائدة على الآيات التي تتم بها الحجة، فان هذا المقدار من الآيات مما يلزم على الله أن يرسل به لإثبات نبوة نبيه، وما زاد على هذا المقدار من الآيات لا يجب على الله أن يرسل به

ــ[109]ــ

ابتداءً، ولا يجب عليه أن يجيب إليه إذا اقترحه المقترحون. نعم لا يستحيل عليه ذلك إذا اقتضت المصلحة أن يقيم الحجة مرة ثانية وثالثة، أو أن يجيب المقترحين إلى ما طلبوا.
وعلى هذا فاقتراح المقترحين إنما يكون بعد إتمام الحجة عليهم بما يلزم من الآيات، وتكذيبهم إياها. وإنما كان تكذيب الأمم السابقة مانعاً عن الإرسال بالآيات المقترحة في هذه الأمة، لأن تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين.
وقد ضمن الله تعالى رفع العذاب الدنيوي عن هذه الأمة إكراماً لنبيه(صلى الله عليه وآله) وتعظيماً لشأنه. فقد قال تعالى:
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (8: 33).
أما أن تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين فلأن الآية الإلهية إذا كانت مبتدأة كانت متمحضة في إثبات نبوة النبي، ولم يترتب على تكذيبها أكثر مما يترتب على تكذيب النبي من العقاب الأخروي.
وأما إذا كانت مقترحة كانت كاشفة عن لجاجة المقترح، وشدة عناده، إذ لو كان طالباً للحق لصدّق بالآية الأولى لأنها كافية في إثباته، ولأن معنى اقتراحه هذا أنه قد التزم على نفسه بتصديق النبي إذا أجابه إلى هذا الاقتراح، فإذا كذب الآية المقترحة بعد صدورها كان مستهزئاً بالنبي وبالحق الذي دعا إليه، وبالآية التي طلبها منه، ولذلك سمى الله تعالى هذا النوع من الآيات "آيات التخويف" كما في آخر هذه الآية الكريمة، وإلا فلا معنى لحصر مطلق الآيات بالتخويف، فإن منها ما يكون للرحمة بالعباد وهدايتهم وإنارة سبيلهم.

ــ[110]ــ

ومما يدلنا على أن المراد من الآيات الممنوعة هي آيات التعذيب والتخويف: ملاحظة مورد هذه الآية الكريمة وسياقها. فإن الآية التي قبلها هي قوله تعلى:
{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا}(17: 58).
وقد ذكرت فيها آية ثمود التي أعقبها نزول العذاب عليهم. وقصتهم مذكورة في سورة الشعراء، وختمت هذه الآية بقوله تعالى:
{وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (17: 59).
وكل هذه القرائن دالة على أن المراد بالآيات الممنوعة هي الآيات المقترحة التي تستلزم نزول العذاب.
ونحن إذا سبرنا الآيات القرآنية يظهر لنا ظهورا تاما لا يقبل التشكيك أن المشركين كانوا يقترحون إنزال العذاب عليهم، أو يقترحون آيات أخرى نزل العذاب على الأمم السابقة بسبب تكذيبها.
فمن القسم الأول قوله تعالى:
{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم 8: 32. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. 33. قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون 10: 50. ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه 11: 8. ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون 29: 53}.

ــ[111]ــ

ومن القسم الثاني قوله تعالى:
{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين ظلموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون 6: 124. فليأتنا بآية كما أرسل الأولون 21: 5. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون 28: 48}.
ويدلنا على أن نظير هذه الآيات المتقرحة قد كذبها الأولون فاستحقوا به نزول العذاب قوله تعالى:
{قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم واتاهم العذاب من حيث لا يشعرون 16: 26. كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون 39: 25}.
وما أكثر الشواهد على ذلك من الكتاب العزيز. وقد ورد في تفسير الآية عن طريق الشيعة وأهل السنة ما يؤكد هذا الذي استفدناه من ظاهرها.
فعن الباقر (عليه السلام):
"ان محمداً (صلى الله عليه وآله) سأله قومه أن يأتي بآية فنزل جبريل وقال: إن الله يقول: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم، فلذلك أخرنا عن قومك الآيات "(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير البرهان: 1 / 607.

ــ[112]ــ

وعن ابن عباس قال:
"سأل أهل مكة النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا. فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتبي، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فان كفروا اهلكوا كما اهلك من قبلهم. قال: بل تستأني بهم فأنزل إلله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات..}(1).
وهناك روايات أخرى من أراد الإطلاع عليها فليراجع كتب الروايات وتفسير الطبري.
ومن الآيات التي استدل بها الخصم على نفي المعجزات للنبي (صلى الله عليه وآله) غير القرآن قوله تعالى:
{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا 7: 90. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا: 91. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا: 92. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا: 93}.
ووجه استدلال الخصم بهذه الآيات الكريمة: أن المشركين قد دعوا النبي إلى إقامة المعجزة شاهدة على صدقه بالنبوة، فامتنع عن ذلك واعترف لهم بالعجز، ولم يثبت لنفسه إلا أنه بشر أرسل إليهم. فالآيات دالة على نفي صدور المعجزة منه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري: 15/ 74.

ــ[113]ــ

الجواب:
أولا: إنا قد أوضحنا للقارئ حال الآيات المقترحة في جواب الاستدلال المتقدم. ولا شك في أن هذه المعجزات التي طلبها المشركون من النبي آيات مقترحة، وأن هؤلاء المشركين في مقام العناد للحق. ويدلنا على ذلك أمران:
1 ـ أنهم قد جعلوا تصديقهم بالنبي موقوفا على أحد هذه الأمور التي اقترحوها، ولو كانوا غير معاندين للحق لاكتفوا بكل آية تدل على صدقه، ولم تكن لهذه الأمور التي اقترحوها خصوصية على ما سواها من الآيات.
2 ـ قولهم: "أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " وأي معنى لهذا التقييد بإنزال الكتاب أفليس الرقي إلى السماء وحده آية كافية في الدلالة على صدقه؟ أو ليست في هذه التشهيات الباردة دلالة واضحة على عنادهم للحق. وتمردهم عليه؟!!
ثانيا: إن هذه الأمور التي اقترحها المشركون في الآيات المتقدمة منها ما يستحيل وجوده، ومنها ما لا يدل على صدق دعوى النبوة. فلو وجب على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يجيب المقترحين إلى ما يطلبونه، فليس هذا النوع من الأمور المقترحة مما تجب إجابته.
وإيضاح هذا: أن الأمور المقترحة على النبي(صلى الله عليه وآله) المذكورة في هذه الآيات ستة: ثلاثة منها مستحيلة الوقوع، وثلاثة منها غير مستحيلة، ولكنها لا تدل على صدق المدعي للنبوة(1). فالثلاثة المستحيلة:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الحديث الكامل - الذي يقص محاورة قريش مع النبي (صلى الله عليه وآله) في فرض هذه الأمور المستحيلة عليه، محاولة تعجيزه وتبكيته - في قسم التعليقات برقم (6).

ــ[114]ــ

أولها: سقوط السماء عليهم كسفا. فان هذا يلازم خراب الأرض، وهلاك أهلها، وهو إنما يكون في آخر الدنيا. وقد أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، ويدل عليه قولهم: "كما زعمت" وقد ذكر هذا في مواضع عديدة من القرآن الكريم منها قوله تعالي: {إذا السماء انشقت 84: 1. إذا السماء انفطرت 82: 1. إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء 34: 9}.
وإنما كان ذلك مستحيلا لأن وقوعه قبل وقته خلاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية من بقاء الخلق، وإرشادهم إلى كمالهم. ويستحيل على الحكيم أن يجري في أعماله على خلاف ما تقتضيه حكمته.
ثانيها: أن يأتي بالله بأن يقابلوه، وينظروا إليه. وذلك ممتنع لأن الله لا تدركه الأبصار، وإلا لكان محدودا في جهة، وكان له لون وله صورة. وجميع ذلك مستحيل عليه تعالى.
ثالثها: تنزيل كتاب من الله. ووجه استحالة ذلك أنهم أرادوا تنزيل كتاب كتبه الله بيده، لا مجرد تنزيل كتاب ما، وإن كان تنزيله بطريق الخلق والإيجاد، لأنهم لو أرادوا تنزيل كتاب من الله بأي طريق اتفق لم يكن وجه معقول لطلبهم إنزاله من السماء، وكان في الكتاب الأرضي ما في الكتاب السماوي من الفائدة والغرض، ولا شك أن هذا الذي طلبوه مستحيل لأنه يستلزم أن يكون الله جسما ذا جارحة. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأما الأمور الثلاثة الأخرى فهي وإن كانت غير مستحيلة، لكنها لا تدل على صدق دعوى النبوة. فان فجر الينبوع من الأرض، أو كون النبي (صلى الله عليه وآله) مالكا لجنة من نخيل وعنب مفجرة الأنهار. أو كونه يملك بيتا من زخرف، أمور لا ترتبط

ــ[115]ــ

بدعوى النبوة، وكثيرا ما يتحقق أحدها لبعض الناس ثم لا يكون نبيا. بل فيهم من يتحقق له جميع هذه الأمور الثلاثة، ثم لا يحتمل فيه أن يكون مومنا، فضلا عن أن يكون نبيا، وإذا لم ترتبط هذه الأمور بدعوى النبوة، ولم تدل على صدقها كان الإتيان بها في مقام الاحتجاج عبثا، لا يصدر من نبي حكيم.
وقد يتوهم متوهم أن هذه الأمور الثلاثة لا تدل على صدق النبوة، إذا وجدت من أسباب عادية مألوفة. أما إذا وجدت بأسباب غير عادية فلا ريب أنها تكون آيات إلهية، وتدل على صدق النبوة.
الجواب:
إن هذا في نفسه صحيح، ولكن مطلوب المشركين أن تصدر هذه الأشياء ولو من أسبابها العادية، لأنهم استبعدوا أن يكون الرسول الإلهي فقيرا لا يملك شيئا.
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (43: 31).
فطلبوا من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون ذا مال كثير. ويدلنا على ذلك أنهم قيدوا طلبهم بأن تكون الجنة والبيت من الزخرف للنبي دون غيره، ولو أرادوا صدور هذه الأمور على وجه الإعجاز لم يكن لهذا التقييد وجه صحيح، بل ولا وجه لطلب الجنة أو البيت، فانه يكفي إيجاد حبة من عنب أو مثقال من ذهب.
وأما قولهم: "حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " فلا يدل على أنهم يطلبون الينبوع لهم لا للنبي وإنما يدل على أنهم يطلبون منه فجر الينبوع لأجلهم، وبين المعنيين فرق واضح. ولم يظهر النبي لهم عجزه عن الإتيان بالمعجزة كما توهمه هؤلاء القائلون. وإنما أظهر بقوله: "سبحان ربي" أن الله تعالى منزه عن العجز، وأنه قادر على كل أمر ممكن، وأنه منزه عن الرؤية والمقابلة. وعن أن يحكم عليه بشيء من

ــ[116]ــ

اقتراح المقترحين وأن النبي بشر محكوم بأمر الله تعالى، والأمر كله لله وحده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ومن الآيات التي استدل بها القائلون بنفي المعجزات للنبي عدا القرآن قوله تعالى:
{لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين}(10: 20).
ووجه الاستدلال: أن المشركين طالبوا النبي بآية من ربه، فلم يذكر لنفسه معجزة. وأجابهم بأن الغيب لله، وهذا يدل على أنه لم يكن له معجزة غير ما أتى به من القرآن.
وبسياق هذه الآية آيات أخرى تقاربها في المعنى، كقوله تعالى:
{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد 13: 7. وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون}(6: 37).
الجواب:
أولا: هو ما تقدم. فان هؤلاء المشركين وغيرهم لم يطلبوا من النبي إقامة آية ما من الآيات التي تدل على صدقه، وإنما اقترحوا عليه إقامة آيات خاصة. وقد صرح القرآن بها في مواضع كثيرة، منها ما تقدم.
ومنها قوله تعالى:
{وقالوا لولا أنزل عليه ملك 6: 8. وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك

ــ[117]ــ

لمجنون 15: 6. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين: 7. وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا 25: 7. أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا: 8 }.
وقد علمنا أن الآيات المقترحة لا تجب الإجابة إليها، ويدلنا على أن المشركين إنما يريدون الإتيان بما اقترحوه من الآيات: أنهم لو أرادوا من النبي أن يأتي بآية ما، تدل على صدقه لأجابهم على الأقل بالإتيان بالقرآن الذي تحدى به في كثير من مواضعه. نعم يظهر من الآيات المتقدمة التي استدل بها الخصم، ومما يشبهها من الآيات أمران:
1 ـ إن تحدي النبي (صلى الله عليه وآله) لعامة البشر إنما كان بالقرآن خاصة من بين سائر معجزاته. وقد أوضحنا فيما سبق أن الأمر لابد وأن يكون كذلك، لأن النبوة الأبدية العامة تستدعي معجزة خالدة عامة، وهي منحصرة بالقرآن، وليس في سائر معجزاته (صلى عليه الله وآله وسلم) ما يتصور له البقاء والاستمرار.
2 ـ إن الإتيان بالمعجزة ليس اختياريا للنبي (صلى الله عليه وآله) وإنما هو رسول يتبع في ذلك إذن الله تعالى، ولا دخل لاقتراح المقترحين في شيء من ذلك. وهذا المعنى ثابت لجميع الأنبياء. ويدل عليه قوله تعالى:
{وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب 13: 38. وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون 40: 78}.

ــ[118]ــ

ثانيا: ان في القرآن أيضا آيات دالة على صدور الآيات من النبي (صلى الله عليه وآله).
منها قوله تعالى:
{اقتربت الساعة وانشق القمر 54: 1. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر: 2. وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله 6: 124}0
ويدلنا على أن المراد من الآية هنا هي المعجزة: أنه عبر برؤية الآية، ولو كان المراد هو آيات القرآن لكان الصحيح أن يعبر بالسماع دون الرؤية وأنه ضم إلى ذلك انشقاق القمر. وأنه نسب إلى الآية المجيء دون الإنزال وما يشبهه. بل وفي قولهم: "سحر مستمر" دلالة على تكرر صدور المعجزة عنه (صلى الله عليه وآله) وإذاً: فلو سلمنا دلالة الآيات السابقة على نفي صدور المعجزة عنه، فلا بد وأن يراد من ذلك نفيه في زمان نزول هذه الآيات الكريمة، وما بمعناها، ولا يمكن أن يراد منه نفي الآية حتى بعد ذلك.
وحاصل جميع ما ذكرناه في هذا المبحث أمور:
1 ـ إنه لا دلالة لشيء من آيات القرآن على نفي المعجزات الأخرى سوى القرآن، بل وفي جملة من الآيات دلالة على وجود هذه المعجزات التي يدعي الخصم نفيها.
2 ـ إن إقامة المعجزة ليست أمرا اختياريا للرسول (صلى الله عليه وآله) وإن ذلك بيد الله سبحانه.
3 ـ إن اللازم في دعوى النبوة هو إقامة المعجزة التي تتم بها الحجة ويتوقف عليها التصديق. وأما الزائدة على ذلك، فلا يجب على الله إظهارها ولا تجب على النبي الإجابة إليها.

ــ[119]ــ

4 ـ إن كل معجزة يكون فيها هلاك الأمة وتعذيبها، فهي ممنوعة في هذه الأمة. ولا تسوغ إقامتها باقتراح الأمة، سواء أكان الاقتراح من الجميع أم كان من البعض.
5 - إن المعجزة الخالدة للنبي (صلى الله عليه وآله) التي تحدّى بها جميع الأمم إلى يوم القيامة، إنما هي كتاب الله المنزل إليه. وأما غيره من المعجزات، فهي وإن كثرت إلا أنها ليست معجزة باقية، وهي في هذه الناحية تشارك معجزات الأنبياء السابقين.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net