نسخ التلاوة والحكم - مناقشات الآيات المدعى نسخها 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 16362

2 ـ نسخ التلاوة والحكم:
ومثلوا لنسخ التلاوة والحكم معا بما تقدم نقله عن عائشة في الرواية العاشرة من نسخ التلاوة في بحث التحريف، والكلام في هذا القسم كالكلام على القسم الأول بعينه.
3 ـ نسخ الحكم دون التلاوة:
وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسرين، وقد ألف فيه جماعة من العلماء كتبا مستقلة، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ. منهم العالم الشهير أبوجعفر النحاس، والحافظ المظفر الفارسي، وخالفهم في ذلك بعض المحققين، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن. وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك، وعلى وجود آيات في القرآن ناسخة لأحكام ثابتة في الشرائع السابقة، ولأحكام ثابتة في صدر الإسلام.

ــ[285]ــ

ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول: إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة:
1 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة، أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم (عليه السلام) وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا ونقلا، فان ثبت في مورد فهو المتبع، وإلا فلا يلتزم بالنسخ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ، ومبينة لرفعه، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى "وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى".
3 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق، ولا مبينة لرفعه، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة.
والتحقيق: أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال الله عز وجل:
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} ( 4: 82).
ولكن كثيرا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة، وحتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا

ــ[286]ــ

كانت إحدى الآيتين قرينة عرفية على بيان المراد من الآية الأخرى، كالخاص بالنسبة إلى العام، وكالمقيد بالإضافة إلى المطلق، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشبهها، ومنشأ هذا قلة التدبر، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي، واستعماله في ذلك وإن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه، ولكن إطلاقه - بعد ذلك - مبتني على التسامح لا محالة.
مناقشة الآيات المدعى نسخها:
وعلى كل فلا بد لنا من الكلام في الآيات التي ادعي النسخ فيها. ونذكر منها ما كان في معرفة وقوع النسخ فيه وعدم وقوعه غموض في الجملة. أما ما كان عدم النسخ فيه ظاهرا - بعد ما قدمناه - فلا نتعرض له في المقام "وسنتعرض لذلك عند تفسيرنا الآيات إن شاء الله تعالى".
وليكن كلامنا في الآيات على حسب ترتيبها في القرآن الكريم:
1 ـ {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير} "2: 109".
فعن ابن عباس وقتادة والسدي، أنها منسوخة بآية السيف. واختاره أبو جعفر النحاس (1). وآية السيف هو قوله تعالى:
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع "الناسخ والمنسوخ" ص 26، طبع المكتبة العلامية بمصر.

ــ[287]ــ

ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }(9: 29).
والالتزام بالنسخ ـ هنا ـ يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين:
الأول: أن يكون ارتفاع الحكم المؤقت بانتهاء وقته نسخا، وهذا واضح الفساد، فان النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأبيد. فإن الحكم إذا كان موقتا ـ وإن كان توقيته على سبيل الإجمال ـ كان الدليل الموضح لوقته، والمبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفا، وليس هذا من النسخ في شيء. فإن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام وعدم الاختصاص بزمان مخصوص.
وقد توهم الرازي أن من النسخ بيان الوقت في الحكم الموقت بدليل منفصل وهو قول بين الفساد، وأما الحكم الذي صرح فيه بالتأبيد، فعدم وقوع النسخ فيه ظاهر.
الثاني: أن يكون أهل الكتاب أيضا ممن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقتالهم، وذلك باطل، فان الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر. وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين، لقوله تعالى:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (2 : 190).
أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين، لقوله تعالى بعد ذلك:
{والفتنة أشد من القتل} ( 2: 191).

ــ[288]ــ

أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للآية المتقدمة، وأما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر، كما هو صريح الآية الكريمة.
وحاصل ذلك: أن الأمر في الآية المباركة بالعفو والصفح عن الكتابيين، لأنهم يودون أن يردوا المسلمين كفارا - وهذا لازم عادي لكفرهم - لا ينافيه الأمر بقتالهم عند وجود سبب آخر يقتضيه، على أن متوهم النسخ في الآية الكريمة قد حل لفظ الأمر من قوله تعالى:
{حتى يأتي الله بأمره}(2 : 109).
على الطلب، فتوهم أن الله أمر بالعفو عن الكفار إلى أن يأمر المسلمين بقتالهم فحمله على النسخ.
وقد اتضح للقارئ أن هذا ـ على فرض صحته ـ لا يستلزم النسخ ولكن هذا التوهم ساقط، فإن المراد بالأمر هنا الأمر التكويني وقضاء الله تعالى في خلقه، ويدل على ذلك تعلق الإتيان به، وقوله تعالى بعد ذلك:
{إن الله على كل شيء قدير} (2: 109).
وحاصل معنى الآية الأمر بالعفو والصفح عن الكتابيين بودهم هذا، حتى يفعل الله ما يشاء في خلقه من عز الإسلام، وتقوية شوكته، ودخول كثير من الكفار في الإسلام، وإهلاك كثير من غيرهم، وعذابهم في الآخرة، وغير ذلك مما يأتي الله به من قضائه وقدره.

* * * * *

2 ـ {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم} (115:2).

ــ[289]ــ

فقد نسب إلى جماعة منهم ابن عباس، وأبو العالية، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، والسدى، وزيد بن أسلم أن الآية منسوخة(1) واختلف في ناسخها فذكر ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى:
{وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ( 150:2).
وذهب قتادة إلى أن الناسخ قوله تعالى:
{فول وجهك شطر المسجد الحرام} (2: 150).
كذلك ذكر القرطبي (2)، وذكروا في وجه النسخ أن النبي (صلى الله عليه وآله) وجميع المسلمين كانوا مخيرين في الصلاة إلى أية جهة شاؤوا وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اختار من الجهات جهة بيت المقدس، فنسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى خصوص بيت الله الحرام.
ولا يخفى ما في هذا القول من الوهن والسقوط، فان قوله تعالى:
{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}( 2: 143).
صريح في أن توجهه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى لمصلحة كانت تقتضي ذلك، ولم يكن لاختيار النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك دخل أصلا.
والصحيح أن يقال في الآية الكريمة: إنها دالة على عدم اختصاص جهة خاصة بالله تعالى، فانه لا يحيط به مكان، فأينما توجه الإنسان في صلاته ودعائه وجميع عباداته فقد توجه إلى الله تعالى. ومن هنا استدل بها أهل البيت (عليهم السلام) على الرخصة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير: 1 / 157، 158.
(2) تفسير القرطبي: 2 / 74.

ــ[290]ــ

للمسافر أن يتوجه في نافلته إلى أية جهة شاء، وعلى صحة صلاة الفريضة فيما إذا وقعت بين المشرق والمغرب خطأ، وعلى صحة صلاة المتحير إذا لم يعلم أين وجه القبلة. وعلى صحة سجود التلاوة إلى غير القبلة، وقد تلاها سعيد بن جبير (رحمه الله) لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض (1) فهذه الآية مطلقة، وقد قيدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوجه فيها إلى بيت المقدس تارة، وإلى الكعبة تارة أخرى، وفي النافلة أيضا في غير حال المشي على قول. وأما ما في بعض الروايات من أنها نزلت في النافلة فليس المراد أنها مختصة بذلك "وقد تقدم أن الآيات لا تختص بموارد نزولها".
وجملة القول: ان دعوى النسخ في الآية الكريمة يتوقف ثبوتها على أمرين:
الأول: أن تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة، وهذا معلوم بطلانه، وقد وردت روايات من طريق أهل السنة في أنها نزلت في الدعاء وفي النافلة للمسافر، وفي صلاة المتحير، وفي من صلى إلى غير القبلة خطأ(2) وقد مر عليك ـ آنفا ـ استشهاد أهل البيت (عليهم السلام) بالآية المباركة في عدة موارد.
الثاني: أن يكون نزولها قبل نزول الآية الآمرة بالتوجه إلى الكعبة وهذا أيضا غير ثابت، وعلى ذلك فدعوى النسخ في الآية باطلة جزما. وفي بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) التصريح بأن الآية المباركة ليست منسوخة. نعم قد يراد من النسخ معنى عاما شاملا للتقييد، فإذا أريد به ذلك في المقام فلا مانع منه، ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد ابن عباس من النسخ فيها، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.

                                                                       * * * * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 2 / 75.
(2) تفسير الطبري: 1 / 400 ـ 402.

ــ[291]ــ

3 ـ {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} (2: 178).
فقد ادعي انها منسوخة بقوله تعالى:
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} (5 : 45).
ومن أجل ذلك ذهب الجمهور من أهل السنة إلى أن الرجل يقتل بالمرأة من غير أن يرد إلى ورثته شيء من الدية(1) وخالف في ذلك الحسن وعطاء، فذهبا إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة. وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة (2) وذهبت الإمامية إلى أن ولي دم المرأة مخير بين المطالبة بديتها، ومطالبة الرجل القاتل بالقصاص، بشرط أداء نصف دية الرجل.
والمشهور بين أهل السنة: أن الحر لا يقتل بالعبد، وعليه إجماع الإمامية، وخالفهم في ذلك أبوحنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وداود، فقالوا: إن الحر يقتل بعبد غيره (3)، وذهب شواذ منهم إلى أن الحر يقتل بالعبد وإن كان عبد نفسه (4).
والحق: أن الآية الأولى محكمة ولم يرد عليها ناسخ، والوجه في ذلك: أن الآية الثانية مطلقة من حيث العبد، والحر، والذكر، والأنثى فلا صراحة لها في حكم العبد، وحكم الأنثى. وعلى كل فان لم تكن الآية في مقام البيان من حيث خصوصية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 2 / 229.
(2) تفسير ابن كثير: 1 / 210.
(3) نفس المصدر ص 209. وقال ابن كثير: قال البخاري وعلي بن المديني، وإبراهيم النخعي، والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده.
(4) أحكام القرآن للجصاص: 1 / 137.

ــ[292]ــ

القاتل والمقتول، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط، على ما هو مفاد قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2: 194).
كانت مهملة ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للآية الأولى، وإن كانت في مقام البيان من هذه الناحية ـ وكانت ظاهرة في الإطلاق وظاهرة في ثبوت الحكم في هذه الأمة أيضا، ولم تكن للاخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط ـ كانت الآية الأولى مقيدة لإطلاقها، وقرينة على بيان المراد منها، فإن المطلق لا يصلح لأن يكون ناسخا للمقيد وإن كان متأخرا عنه، بل يكون المقيد قرينة على التصرف في ظهور المطلق على ما هو الحال في المقيد المتأخر، وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحر بالعبد.
وأما الرواية التي رووها عن علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"(1) فهي - على تقدير تسليمها - مخصصة بالآية، فان دلالة الرواية على جواز قتل الحر بالعبد إنما هي بالعموم.
ومن البين أن حجية العام موقوفة على عدم ورود المخصص عليه المتقدم منه والمتأخر. وأما ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطريق الحسن، عن سمرة فهو ضعيف السند، وغير قابل للاعتماد عليه. قال أبوبكر بن العربي: "ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه ورووا في ذلك حديثا عن الحسن، عن سمرة قال النبي (صلى الله عليه وآله): من قتل عبده قتلناه (2)، وهذا حديث ضعيف"(3).
أقول: هذا، مضافا إلى أنها معارضة برواية عمرو بن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن أبي داود: كتاب الجهاد، رقم الحديث: 2371. وسنن ابن ماجه: كتاب الديات، رقم الحديث: 2673. عن ابن عباس.
(2) سنن أبي داود: كتاب الديات، رقم الحديث: 3914، وسنن الترمذي كتاب الديات، رقم الحديث: 1334. وسنن النسائي: كتاب القسامة، رقم الحديث: 4655.

ــ[293]ــ

شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي (صلى الله عليه وآله) ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به(1). وبما رواه ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) وبما رواه جابر، عن عامر، عن علي(عليه السلام): " لا يقتل حر بعبد"(2)، وبما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن أبابكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد(3).
وقد عرفت أن روايات أهل البيت (عليهم السلام) مجمعة على أن الحر لا يقتل بالعبد، وأهل البيت هم المرجع في الدين بعد جدهم الأعظم (صلى الله عليه وآله) وبعد هذا فلا يبقي مجال لدعوى نسخ الآية الكريمة من جهة قتل الحر بالعبد.
وأما بالإضافة إلى قتل الرجل بالمرأة فليست الآية منسوخة أيضا، بناء على مذهب الإمامية والحسن وعطاء، نعم تكون الآية منسوخة على مسلك الجمهور، وتوضيح ذلك أن ظاهر قوله تعالى:
{كتب عليكم القصاص} ( 2: 178).
إن القصاص فرض واجب، ومن الواضح أنه إنما يكون فرضا عند المطالبة بالقصاص من ولي الدم، وذلك أمر معلوم من الخارج، ويدل عليه من الآية قوله تعالى فيها:
{فمن عفي له من أخيه شيء} (2 : 178).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي: 1 / 27.
(2) سنن البيهقي: 8 / 36.
(3) نفس المصدر: ص 34، 35.
(4) نفس المصدر: ص 34.

ــ[294]ــ

وعلى ذلك فالمستفاد من الآية الكريمة أن القاتل يجب عليه أن يخضع لحكم القصاص إذا طالبه ولي الدم بذلك، ومن الواضح أن هذا الحكم إنما يكون في قتل الرجل رجلا، أو قتل المرأة رجلا أو امرأة، فإن الرجل إذ قتل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقصاص بمجرد المطالبة، وله الامتناع حتى يأخذ نصف ديته، ولا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك.
وبتعبير آخر: تدل الآية المباركة على أن بدل الأنثى هي الأنثى، فلا يكون الرجل بدلا عنها، وعليه فلا نسخ في مدلول الآية، نعم ثبت من دليل خارجي أن الرجل القاتل يجب عليه أن ينقاد للقصاص حين يدفع ولي المرأة المقتولة نصف ديته، فيكون الرجل بدلا عن مجموع الأنثى ونصف الدية، وهو حكم آخر لا يمس بالحكم الأول المستفاد من الآية الكريمة، وأين هذا من النسخ الذي يدعيه القائلون به.
وجملة القول: أن ثبوت النسخ في الآية يتوقف على إثبات وجوب الانقياد على القاتل بمجرد مطالبة ولي المرأة بالقصاص، كما عليه الجمهور. وأنى لهم إثباته؟ فإنهم قد يتمسكون لإثباته بإطلاق الآية الثانية على ما صرحوا به في كلماتهم، وبعموم قول النبي(صلى الله عليه وآله): "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقد عرفت ما فيه.
وقد يتمسكون لإثبات ذلك بما رووه عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة وقادهم بها.
وعن ليث، عن الحكم، عن علي وعبدالله قالا: "إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود".
وعن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن

ــ[295]ــ

رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن الرجل يقتل بالمرأة"(1).
وهو باطل من وجوه:
1 ـ إن هذه الروايات - لو فرضت صحتها - مخالفة للكتاب، وما كان كذلك لا يكون حجة. وقد عرفت - فيما تقدم - قيام الإجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2 ـ إنها معارضة بالروايات المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) وبما رواه عطاء والشعبي، والحسن البصري، عن علي (عليه السلام) أنه قال في قتل الرجل امرأة: "إن أولياءالمرأة إن شاؤوا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية، وإن شاؤوا أخذوا نصف دية الرجل"(1).
3 ـ إن الرواية الأولى منها من المراسيل، فان ابن المسيب ولد بعد مضي سنتين من خلافة عمر(2) فتبعد روايته عن عمر بلا واسطة، وإذا سلمنا صحتها فهي تشتمل على نقل فعل عمر، ولا حجية لفعله في نفسه، وأن الرواية الثانية ضعيفة مرسلة، وأما الرواية الثالثة فهي على فرض صحتها مطلقة، وقابلة لأن تقيد بأداء نصف الدية.
ونتيجة ما تقدم:
أن الآية الكريمة لم يثبت نسخها بشيء، وأن دعوى النسخ إنما هي بملاحظة فتوى جماعة من الفقهاء، وكيف يمكن أن ترفع اليد عن قول الله تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو؟ ومما يبعث على العجب أن جماعة يفتون بخلاف القرآن مع إجماعهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام القرآن للجصاص: 1 / 139.
(2) نفس المصدر: 1 / 120.
(3) تهذيب التهذيب: 4 / 86.

ــ[296]ــ

على أن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. وقد اتضح مما بيناه أن قوله تعالى:
{ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} (17 : 33).
وقوله تعالى:
{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}( 2: 179).
لا يصلحان أن يكونا ناسخين للآية المتقدمة التي فرقت بين الرجل والأنثى، وبين الحر والعبد - وسيأتي استيفاء البحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة إن شاء الله تعالى - .

*****

4 ـ {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} (2 : 180).
فقد ادعى جمع أنها منسوخة بآية المواريث، وادعى آخرون أنها منسوخة بما عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: "لا وصية لوارث"(1).
والحق: أن الآية ليست منسوخة. أما القول بنسخها بآية المواريث، فيرده أن الآيات قد دلت على أن الميراث مترتب على عدم الوصية، وعدم الدين. ومع ذلك فكيف يعقل كونها ناسخة لحكم الوصية؟ وقد قيل في وجه النسخ للآية: إن الميراث في أول الإسلام لم يكن ثابتا على الكيفية التي جعلت في الشريعة بعد ذلك، وإنما كان الإرث يدفع جميعه للولد، وما يعطى الوالدان من المال فهو بطريق الوصية فنسخ ذلك بآية المواريث.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 20.

ــ[297]ــ

وهذا القول مدفوع:
أولا: بأن هذا غير ثابت، وإن كان مرويا في صحيح البخاري، لأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعا.
ثانيا: إنه موقوف على تأخر آية المواريث عن هذه الآية، وأنى للقائل بالنسخ إثبات ذلك؟ أما دعوى القطع بذلك من بعض الحنفية فعهدتها على مدعيها.
ثالثا: إن هذا لا يتم في الأقربين، فانه لا إرث لهم مع الولد، فكيف يعقل أن تكون آية المواريث ناسخة لحكم الوصية للاقربين؟ وعلى كل فإن آية المواريث من حيث ترتبها على عدم الوصية تكون مؤكدة لتشريع الوصية ونفوذها، فلا معنى لكونها ناسخة لها.
وأما دعوى نسخ الآية بالرواية المتقدمة فهي أيضا باطلة من وجوه:
1 ـ ان الرواية لم تثبت صحتها، والبخاري ومسلم لم يرضياها. وقد تكلم في تفسير المنار على سندهما(1).
2 ـ إنها معارضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت (عليهم السلام) الدالة على جواز الوصية للوارث، ففي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن الوصية للوارث فقال: تجوز. قال: ثم تلا هذه الآية:
{إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} ( 2: 180).
وبمضمونها روايات أخرى(2).
3 ـ إن الرواية لو صحت، وسلمت عن المعارضة بشيء فهي لا تصلح لنسخ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير المنار: 2 / 138.
(2) الكافي: 7 / 10، باب الوصية للوارث، رقم الحديث: 5.

ــ[298]ــ

الآية، لأنها لا تنافيها في المدلول. غاية الأمر أنها تكون مقيدة لإطلاق الآية فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع، وبمن لا يرث من الأقربين وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الآية فقد تقدم أن خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخا للقران بإجماع المسلمين، فالآية محكمة وليست منسوخة.
ثم ان الكتابة عبارة عن القضاء بشيء، ومنه قوله تعالى:
{كتب على نفسه الرحمة} (6: 12 ).
والعقل يحكم بوجوب امتثال حكم المولى وقضائه ما لم تثبت فيه رخصة من قبل المولى. ومعنى هذا أن الوصية للوالدين والأقربين واجبة بمقتضى الآية، ولكن السيرة المقطوع بثبوتها بين المسلمين، والروايات المأثورة عن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) والإجماع المتحقق من الفقهاء في كل عصر قد أثبت لنا الرخصة فيكون الثابت من الآية بعد هذه الرخصة هو استحباب الوصية المذكورة، بل تأكد استحبابها على الإنسان، ويكون المراد من الكتابة فيها هو: القضاء بمعنى التشريع لا بمعنى الإلزام.

*****

5 ـ {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ( 183:2).
فقد ادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (2: 187).
وذكروا في وجه النسخ: أن الصوم الواجب على الأمة في بداية الأمر كان مماثلا

ــ[299]ــ

للصوم الواجب على الأمة السالفة، وأن من أحكامه أن الرجل إذا نام قبل أن يتعشى في شهر رمضان لم يجز له أن يأكل بعد نومه في ليلته تلك، وإذا نام أحدهم بعد المساء حرم عليه الطعام والشراب والنساء، فنسخ ذلك بقوله تعالى:
{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} (2:187).
وبقوله تعالى:
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (2: 187).
وقد اتفق علماء أهل السنة على أن آية التحليل ناسخة(1) ثم اختلفوا فقال بعضهم: هي ناسخة للآية السابقة، فانهم استفادوا منها أن الصوم الواجب في هذه الشريعة مماثل للصوم الواجب على الأمم السالفة، وقال بذلك أبوالعالية، وعطاء، ونسبه أبو جعفر النحاس إلى السدي أيضا(2) وقال بعضهم: إن آية التحليل ناسخة لفعلهم الذي كانوا يفعلونه.
ولا يخفى أن النسخ للآية الأولى موقوف على إثبات تقدمها على الآية الثانية في النزول، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثباته، وعلى أن يكون المراد من التشبيه في الآية تشبيه صيام هذه الأمة، بصيام الأمم السالفة، وهو خلاف المفهوم العرفي، بل وخلاف صريح الآية، فان المراد بها تشبيه الكتابة بالكتابة فلا دلالة فيها على أن الصومين متماثلان لتصح دعوى النسخ، وإذا ثبت ذلك من الخارج كان نسخا لحكم ثابت بغير القرآن، وهو خارج عن دائرة البحث.
                                                                 * * * * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 24.
(2) نفس المصدر: ص 21.

ــ[300]ــ

6 ـ {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له} (2 : 184).
فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (185:2).
ودعوى النسخ في هذه الآية الكريمة واضحة الثبوت لو كان المراد من الطوق (الطاقة) السعة والقدرة، فان مفاد الآية على هذا: أن من يستطع الصوم فله أن لا يصوم ويعطي الفدية: طعام مسكين بدلا عنه، فتكون منسوخة.
ولكن من البين أن المراد من الطاقة: القدرة مع المشقة العظيمة. وحاصل المراد من الآية: أن الله تعالى بعد أن أوجب الصوم وجوبا تعيينيا في الآية السابقة، وأسقطه عن المسافر والمريض، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلا عنه، أراد أن يبين حكما آخر لصنف آخر من الناس وهم الذين يجدون في الصوم مشقة عظيمة وجهدا بالغا، كالشيخ الهم، وذي العطاش، والمريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان الآخر، فأسقط عنهم وجوب الصوم أداء وقضاء، وأوجب عليهم الفدية، فالآية المباركة حيث دلت على تعيين وجوب الصوم على المؤمنين في الأيام المعدودات، وعلى تعين وجوبه قضاء في أيام أخر على المريض والمسافر، كانت ظاهرة في أن وجوب الفدية تعيينا إنما هو على غير هذين الصنفين اللذين تعين عليهما الصوم، ومع هذا فكيف يدعى أن المستفاد من الآية هو الوجوب التخييري بين الصوم والفدية لمن تمكن من الصوم، وإن أخبار أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة بما ذكرناه في تفسير الآية(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع التهذيب: 4 / 236، باب العاجز عن الصيام.

 
 

ــ[301]ــ

ولفظ الطاقة وإن استعمل في معنى القدرة والسعة إلا أن معناه اللغوي هو القدرة مع المشقة العظيمة، وإعمال غاية الجهد. ففي لسان العرب: "الطوق الطاقة أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكنه أن يفعله بمشقة منه". ونقل عن ابن
الأثير والراغب أيضا التصريح بذلك.
ولو سلمنا أن معنى الطاقة هي السعة كان لفظ الإطاقة بمعنى إيجاد السعة في الشيء، فلابد من أن يكون الشيء في نفسه مضيقا لتكون سعته ناشئة من قبل الفاعل، ولا يكون هذا إلا مع إعمال غاية الجهد.
قال في تفسير المنار نقلا عن شيخه: "فلا تقول العرب: أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة شديدة"(1).
فالآية الكريمة محكمة لا نسخ لها، ومدلولها حكم مغاير لحكم من وجب عليه الصوم أداء وقضاء. وجميع ما قدمناه مبني على القراءة المعروفة. أما على قراءة ابن عباس، وعائشة، وعكرمة، وابن المسيب حيث قرؤوا يطوقونه بصيغة المبني للمجهول من باب التفعيل (2) فالأمر أوضح. نعم بناء على قول ربيعة ومالك، بأن المشايخ والعجائز لا شيء عليهم إذا أفطروا (3) تكون الآية منسوخة، ولكن الشأن في صحة هذا القول، والآية الكريمة حجة على قائله.

*****

7 ـ {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} (2 : 191).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تفسير المنار: 2 / 156.
(2) أحكام القرآن للجصاص: ص 177.
(3) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 23.

ــ[302]ــ

قال أبو جعفر النحاس: وأكثر أهل النظر على هذا القول أن الآية منسوخة، وأن المشركين يقاتلون في الحرم وغيره. ونسب القول بالنسخ إلى قتادة أيضا(1).
والحق: أن الآية محكمة ليست منسوخة. فإن ناسخ الآيةإن كان هو قوله تعالى:
{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}(9 : 5).
فهذا القول ظاهر البطلان، لأن الآية الأولى خاصة، والخاص يكون قرينة على بيان المراد من العام، وإن علم تقدمه عليه في الورود، فكيف إذا لم يعلم ذلك؟ وعلى هذا فيختص قتال المشركين بغير الحرم، إلا أن يكونوا هم المبتدئين بالقتال فيه، فيجوز قتالهم فيه حينئذ.
وإن استندوا في نسخ الآية إلى الرواية القائلة أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بقتل ابن خطل ـ وقد كان متعلقا بأستار الكعبة ـ فهو باطل أيضا.
أولا: لأنه خبر واحد لا يثبت به النسخ.
ثانيا: لأنه لا دلالة له على النسخ، فانهم رووا في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: "إنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهارها"(2)، وصريح هذه الرواية أن ذلك من خصائص النبي (صلى الله عليه وآله) فلا وجه للقول بنسخ الآية إلا المتابعة لفتاوى جماعة من الفقهاء، والآية حجة عليهم.

*****

8 ـ {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير}( 2: 217).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر: ص 28.
(2) فتح القدير للشوكاني: 1 / 168.

ــ[303]ــ

قال أبو جعفر النحاس. أجمع العلماء على أن هذه الآية منسوخة، وأن قتال المشركين في الشهر الحرام مباح، غير عطاء فانه قال: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم (1).
وأما الشيعة الإمامية فلا خلاف بينهم نصا وفتوى على أن التحريم باق، صرح بذلك في التبيان (2) وجواهر الكلام (3)، وهذا هو الحق، لأن المستند للنسخ إن كان هو قوله تعالى:
{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}(9 : 5).
كما ذكره النحاس فهو غريب جدا، فان الآية علقت الحكم بقتل المشركين على انسلاخ الأشهر الحرم، فقد قال تعالى:
{فإذا أنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}(9 : 5). فكيف يمكن أن تكون ناسخة لحرمة القتال في الشهر الحرام؟
وإن استندوا فيه إلى إطلاق آية السيف وهي قوله تعالى:
{قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}( 9: 36).
فمن الظاهر أن المطلق لا يكون ناسخا للمقيد، وإن كان متأخرا عنه.
وإن استندوا فيه إلى ما رووه عن ابن عباس وقتادة أن الآية منسوخة بآية السيف.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 32.
(2) التبيان: 2 / 207، "سورة البقرة: 217".
(3) جواهر الكلام: 21/ 32، كتاب الجهاد.

ــ[304]ــ

فيرده:
أولا: أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
وثانيا: أنها ليست رواية عن معصوم، ولعلها اجتهاد من ابن عباس وقتادة.
وثالثا: أنها معارضة بما رواه إبراهيم بن شريك، قال: حدثنا أحمد - يعني ابن عبدالله بن يونس - قال: حدثنا الليث، عن أبي الأزهر، عن جابر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو"(1) فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ (2)، ومعارضة بما رواه أصحابنا الإمامية عن أهل البيت (عليهم السلام) من حرمة القتال في الأشهر الحرم.
وإن استندوا في النسخ إلى ما نقلوه من مقاتلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هوازن في حنين، وثقيفا في الطائف شهر شوال، وذي القعدة، وذي الحجة من الأشهر الحرم.
فيرده:
أولا: إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
وثانيا: إن فعل النبي إذا صحت الرواية ـ مجمل يحتمل وقوعه على وجوه، ولعله كان لضرورة اقتضت وقوعه، فكيف يمكن أن يكون ناسخا للآية.

*****

9 ـ {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}(221:2).
فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد: باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 14056.
(2) الكافي: 1 / 357، رقم الحديث: 16، والتهذيب: 6 / 142، باب 23، رقم الحديث: 3.

ــ[305]ــ

{والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} (5 : 5).
ذهب إليه ابن عباس، ومالك بن أنس، وسفيان بن سعيد، وعبدالرحمن بن عمر، والأوزاعي، وذهب عبدالله بن عمر إلى أن الآية الثانية منسوخة بالآية الأولى، فحرم نكاح الكتابية(1).
والحق: أنه لا نسخ في شيء من الآيتين فان المشركة التي حرمت الآية الأولى نكاحها، إن كان المراد منها التي تعبد الأصنام والأوثان ـ كما هو الظاهر ـ فإن حرمة نكاحها لا تنافي إباحة نكاح الكتابية التي دلت عليها الآية الثانية، لتكون إحداهما ناسخة والثانية منسوخة، وإن كان المراد من المشركة ما هو أعم من الكتابية ـ كما توهمه القائلون بالنسخ ـ كانت الآية الثانية مخصصة للآية الأولى ويكون حاصل معنى الآيتين جواز نكاح الكتابية دون المشركة.
نعم المعروف بين علماء الشيعة الإمامية أن نكاح الكتابية لا يجوز إلا بالمتعة، إما لتقييد إطلاق آية الإباحة بالروايات الدالة على تحريم النكاح الدائم، وإما لدعوى ظهور الآية الكريمة في المتعة دون العقد الدائم، ونقل الحسن والصدوقين جواز الدائم أيضا "وسنتعرض للكلام كل في محله إن شاء الله تعالى".

*****

10 ـ {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (2: 256).
فقد قال جماعة: إنها منسوخة بقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 58.

ــ[306]ــ

{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} (9: 73).
وذهب بعضهم إلى أنها مخصوصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يقاتلون لكفرهم، وقد عرفت ذلك فيما تقدم.
والحق: أن الآية محكمة وليست منسوخة، ولا مخصوصة، وتوضيح ذلك: أن الكره في اللغة يستعمل في معنيين، أحدهما: ما يقابل الرضا، ومنه قوله تعالى:
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}(2: 216).
وثانيهما: ما يقابل الاختيار، ومنه قوله تعالى:
{حملته أمه كرها ووضعته كرها}(46 : 15).
فان الحمل والوضع يكونان في الغالب عن رضى، ولكنهما خارجان عن الاختيار، والقول بالنسخ أو بالتخصيص يتوقف على أن الإكراه في الآية قد استعمل بالمعنى الأول، وهو باطل لوجوه:
1 ـ إنه لا دليل على ذلك: ولا بد في حمل اللفظ المشترك على أحد معنييه من وجود قرينة تدل عليه.
2 ـ إن الدين أعم من الأصول والفروع، وذكر الكفر والإيمان بعد ذلك ليس فيه دلالة على الاختصاص بالأصول فقط، وإنما ذلك من قبيل تطبيق الكبرى على صغراها، ومما لا ريب فيه أن الإكراه بحق كان ثابتا في الشرع الإسلامي من أول الأمر على طبق السيرة العقلائية، وأمثلته كثيرة، فمنها إكراه المديون على أداء دينه، وإكراه الزوجة على إطاعة زوجها، وإكراه السارق على ترك السرقة، إلى أمثال ذلك، فكيف يصح أن يقال: إن الإكراه في الشريعة الإسلامية لم يكن في زمان.

ــ[307]ــ

3 ـ إن تفسير الإكراه في الآية بالمعنى الأول "ما يقابل الرضا" لا يناسبه قوله تعالى:
{قد تبين الرشد من الغي}(2: 256).
الا بأن يكون المراد بيان علة الحكم، وان عدم الإكراه إنما هو لعدم الحاجة إليه من جهة وضوح الرشد وتبينه من الغي، وإذا كان هذا هو المراد فلا يمكن نسخه، فإن دين الإسلام كان واضح الحجة، ساطع البرهان من أول الأمر، إلا أن ظهوره كان يشتد شيئا فشيئا، ومعنى هذا أن الإكراه في أواخر دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) أحرى بأن لا يقع لأن برهان الإسلام في ذلك العهد كان أسطع، وحجته أوضح، ولما كانت هذه العلة مشتركة بين طوائف الكفار، فلا يمكن تخصيص الحكم ببعض الطوائف دون بعض، ولازم ذلك حرمة مقاتلة الكفار جميعهم، وهذه نتيجة باطلة بالضرورة.
فالحق: أن المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الاختيار، وأن الجملة خبرية لا إنشائية، والمراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الآيات القرآنية كثيرا، من أن الشريعة الإلهية غير مبتنية على الجبر، لا في أصولها ولا في فروعها، وإنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، كما قال تعالى:
{إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} (76: 3).
وحاصل معنى الآية أن الله تعالى لا يجبر أحدا من خلقه على إيمان ولا طاعة، ولكنه يوضح الحق يبينه من الغي، وقد فعل ذلك، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار، ومن اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار والله سبحانه وإن كان قادرا على أن يهدي البشر جميعا ـ ولو شاء لفعل ـ لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير

ــ[308]ــ

مجبورين على أعمالهم، بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل، فقد قال عز من قائل:
{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئوكم بما كنتم فيه تختلفون 5 : 48. قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 6: 149. وقال الذين أشركوا لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين 16: 35}.

*****

11 ـ {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا 4: 15. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: 16}.
فذهب بعضهم، ومنهم عكرمة وعبادة بن الصامت في رواية الحسن عن الرقاشي عنه أن الآية الأولى منسوخة بالثانية والثانية منسوخة في البكر من الرجال والنساء إذا زنى بأن يجلد مائة جلدة، وينفى عاما، وفي الثيب منهما أن يجلد مائة، ويرجم حتى يموت، وذهب بعضهم كقتادة ومحمد بن جابر إلى أن الآية الأولى مخصوصة بالثيب والثانية بالبكر، وقد نسخت كلتاهما بحكم الجلد والرجم، وذهب ابن عباس ومجاهد ومن تبعهما، كأبي جعفر النحاس إلى أن الآية الأولى مختصة بزناء النساء من ثيب أو بكر، والآية الثانية

ــ[309]ــ

مختصة بزناء الرجال ثيبا كان أو بكرا، وقد نسخت كلتاهما بحكم الرجم والجلد(1).
وكيف كان فقد ذكر أبوبكر الجصاص أن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين (2).
والحق: أنه لا نسخ في الآيتين جميعا، وبيان ذلك: أن المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش، وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطا، وقد يكون بين ذكر وأنثى فيكون زنى، ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعا ولا انصرافا، ثم ان الالتزام بالنسخ في الآية الأولى يتوقف.
أولا: على أن الإمساك في البيوت حد لارتكاب الفاحشة.
ثانيا: على أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد وكلا هذين الأمرين لا يمكن إثباته، فان الظاهر من الآية المباركة أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، وهذا من قبيل دفع المنكر، وقد ثبت وجوبه بلا إشكال في الأمور المهمة كالأعراض، والنفوس، والأمور الخطيرة، بل في مطلق المنكرات على قول بعض، كما أن الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب، فكيف يكون منه الجلد والرجم، وهل ترضى المرأة العاقلة الممسكة في البيت مرفهة الحال أن ترجم أو تجلد، وكيف يكون الجلد أو الرجم سبيلا لها وإذا كان ذلك سبيلا لها فما هو السبيل عليها؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ: ص 98.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 2 / 107.

ــ[310]ــ

وعلى ما تقدم: فقد يكون المراد من الفاحشة خصوص المساحقة، كما أن المراد بها في الآية الثانية خصوص اللواط، "وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى"، وقد يكون المراد منها ما هو أعم من المساحقة والزنا، وعلى كلا هذين الاحتمالين يكون الحكم وجوب إمساك المرأة التي ارتكبت الفاحشة في البيت حتى يفرج الله عنها، فيجيز لهما الخروج إما للتوبة الصادقة التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، وإما لسقوط المرأة عن قابلية ارتكاب الفاحشة لكبر سنها ونحوه، وإما بميلها إلى الزواج وتزوجها برجل يتحفظ عليها، وإما بغير ذلك من الأسباب التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة. وهذا الحكم باق مستمر، وأما الجلد أو الرجم فهو حكم آخر شرع لتأديب مرتكبي الفاحشة، وهو أجنبي عن الحكم الأول، فلا معنى لكونه ناسخا له.
وبتعبير آخر: إن الحكم الأول شرع للتحفظ عن الوقوع في الفاحشة مرة أخرى والحكم الثاني شرع للتأديب على الجريمة الأولى، وصونا لباقي النساء عن ارتكاب مثلها فلا تنافي بين الحكمين لينسخ الأول بالثاني. نعم إذا ماتت المرأة بالرجم أو الجلد ارتفع وجوب الإمساك في البيت لحصول غايته، وفيما سوى ذلك فالحكم باق ما لم يجعل الله لها سبيلا.
وجملة القول: إن المتأمل في معنى الآية لا يجد فيها ما يوهم النسخ، سواء في ذلك تأخر آية الجلد عنها وتقدمها عليها.
وأما القول بالنسخ في الآية الثانية فهو أيضا يتوقف:
أولا: على أن يراد من الضمير في قوله تعالى: {يأتيانها} الزنا.
ثانيا: على أن يراد بالإيذاء الشتم والسب والتعيير ونحو ذلك، وكلا هذين

ــ[311]ــ

الأمرين ـ مع أنه لا دليل عليه ـ مناف لظهور الآية.
وبيان ذلك: أن ضمير الجمع المخاطب قد ذكر في الآيتين ثلاث مرات، ولا ريب أن المراد بالثالث منها هو المراد بالأولين. ومن البين أن المراد بهما خصوص الرجال، وعلى هذا ليكون المراد من الموصول رجلين من الرجال، ولا يراد منه ما يعم رجلا وامرأة، على أن تثنية الضمير لو لم يرد منه الرجلان فليس لها وجه صحيح، وكان الأولى أن يعبر عنه بصيغة الجمع، كما كان التعبير في الآية السابقة كذلك. وفي هذا دلالة قوية على أن المراد من الفاحشة في الآية الثانية هو خصوص اللواط لا خصوص الزنا، ولا ما هو أعم منه ومن اللواط وإذا تم ذلك كان موضوع الآية أجنبيا عن موضوع آية الجلد.
وإذا سلمنا دخول الزاني في موضوع الحكم في الآية، فلا دليل على إرادة نوع خاص من الإيذاء الذي أمر به في الآية، عدا ما روي عن ابن عباس أنه التعيير وضرب النعال، وهو ليس بحجة ليثبت به النسخ، فالظاهر حمل اللفظ على ظاهره، ثم تقييده بآية الجلد، أو بحكم الرجم الذي ثبت بالسنة القطعية.
وجملة القول: أنه لا موجب للالتزام بالنسخ في الآيتين، غير التقليد المحض، أو الاعتماد على أخبار الآحاد التي لا تفيد علما ولا عملا.

*****

12 ـ {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (4: 24).
فقد قيل انها منسوخة بما دل من السنة على تحريم غير من ذكر في الآية من النساء، وثبوت هذه الدعوى موقوف على أن يكون الخاص المتأخر ناسخا للعام المتقدم لا مخصصا.

ــ[312]ــ

والحق: ان الخاص يكون مخصصا للعام تقدم عليه أو تأخر عنه، ولا يكون ناسخا له، ولأجل ذلك يكتفى بخبر الواحد الجامع لشرائط الحجية في تخصيص العام ـ على ما سيجيء من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ـ ولو كان الخاص المتأخر ناسخا لم يصح ذلك، لأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، أضف إلى ذلك أن الآية ليس لها عموم لفظي، وإنما هو ثابت بالإطلاق، ومقدمات الحكمة، فإذا ورد من الأدلة ما يصلح لتقييدها حكم بأن الإطلاق فيها غير مراد في الواقع.

*****

13 ـ {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} (2: 24).
فقد اشتهر بين علماء أهل السنة أن حلية المتعة قد نسخت، وثبت تحريمها إلى يوم القيامة، وقد أجمعت الشيعة الإمامية على بقاء حلية المتعة وأن الآية المباركة لم تنسخ، ووافقهم على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين.
قال ابن حزم: "ثبت على إباحتها (المتعة) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابن مسعود، ومعاوية، وأبو سعيد، وابن عباس، وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف، وجابر، وعمرو بن حريث، ورواه جابر عن جميع الصحابة ـ مدة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر (ثم قال) ومن التابعين طاووس، وسعيد بن جبير، وعطاء وسائر فقهاء مكة"(1).
ونسب شيخ الإسلام المرغيناني القول بجواز المتعة إلى مالك، مستدلا عليه بقوله: "لأنه ـ نكاح المتعة ـ كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هامش المنتقى للفقي: 2 / 520.
(2) الهداية في شرح البداية: ص 385 طبعة بولاق مع فتح القدير، وهذه النسبة قد أقرها الشيخ محمد البابرتي في شرحه على الهداية، نعم ان ابن الهمام الحنفي أنكر ذلك في فتح القدير والله العالم. وقال عبدالباقي المالكي الزرقاني في شرحه على مختصر أبي الضياء: 3 / 190: " حقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ مطلقا أن يقع العقد مع ذكر الأجل من الرجل أو المرأة أو وليها بأن يعلمها بما قصده، واما إذا لم يقع ذلك في العقد، ولكنه قصده الرجل، وفهمت المرأة ذلك منه فإنه يجوز، قاله مالك، وهي فائدة حسنة تنفع المتغرب". (المؤلف).

ــ[313]ــ

ونسب ابن كثير جوازها إلى أحمد بن حنبل عند الضرورة في رواية(1) وقد تزوج ابن جريح أحد الأعلام وفقيه مكة في زمنه سبعين امرأة بنكاح المتعة (2) وسنتعرض إن شاء الله تعالى للبحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة، ولكنا نتعرض هنا تعرضا إجماليا لإثبات أن مدلول الآية المباركة لم يرد عليه ناسخ. وبيان ذلك: أن نسخ الحكم المذكور فيها يتوقف:
أولا: على أن المراد من الاستمتاع في الآية هو التمتع بالنساء بنكاح المتعة.
ثانيا: على ثبوت تحريم نكاح المتعة بعد ذلك.
أما الأمر الأول: "إرادة التمتع بالنساء من الاستمتاع" فلا ريب في ثبوته وقد تظافرت في ذلك الروايات عن الطريقين، قال القرطبي: قال الجمهور المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، وقرأ ابن عباس، وأبي، وابن جبير: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن" (3)، ومع ذلك فلا يلتفت إلى قول الحسن بأن المراد منها النكاح الدائم، وأن الله لم يحل المتعة في كتابه، ونسب هذا القول إلى مجاهد، وابن عباس أيضا، والروايات المروية عنهما أن الآية نزلت في المتعة تكذب هذه النسبة.
وعلى كل حال فإن استفاضة الروايات في ثبوت هذا النكاح وتشريعه تغنينا عن تكلف إثباته، وعن إطالة الكلام فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير عند تفسير الآية المباركة: 1 / 474.
(2) راجع شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء: 8 / 76.
(3) تفسير القرطبي: 5 / 130، وقال ابن كثير في تفسيره: وكان ابن عباس وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي يقرؤون: "فما استمتعتم به
منهن إلى اجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة".

ــ[314]ــ

وأما الأمر الثاني: "تحريم نكاح المتعة بعد جوازه" فهو ممنوع، فإن ما يحتمل أن يعتمد عليه القائل بالنسخ هو أحد امور، وجميعها لا يصلح لأن يكون ناسخا، وهي:
1 ـ إن ناسخها هو قوله تعالى:
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}(65 :1).
ونسب ذلك إلى ابن عباس (1).
ولكن النسبة غير صحيحة، فإنك ستعرف أن ابن عباس بقي مصرا على إباحة المتعة طيلة حياته.
والجواب عن ذلك ظاهر، لأن الالتزام بالنسخ إن كان لأجل أن عدد عدة المتمتع بها أقل من عدة المطلقة فلا دلالة في الآية، ولا في غيرها. على أن عدة النساء لا بد وأن تكون على نحو واحد، وإن كان لأجل أنه لا طلاق في نكاح المتعة، فليس للآية تعرض لبيان موارد الطلاق، وأنه في أي مورد يكون وفي أي مورد لا يكون. وقد نقل في تفسير المنار عن بعض المفسرين أن الشيعة يقولون بعدم العدة في نكاح المتعة(2).
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. وهذه كتب فقهاء الشيعة من قدمائهم ومتأخريهم، ليس فيها من نسب إليه هذا القول، وإن كان على سبيل الشذوذ، فضلا عن كونه مجمعا عليه بينهم، وللشيعة مع هؤلاء الذين يفترون عليهم الأقاويل، وينسبون إليهم الأباطيل يوم تجتمع فيه الخصوم، وهنالك يخسر المبطلون (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 105.
(2) المنار: 5/ 13 و14.
(3) سنتعرض لبعض هذه الافتراءات عند تفسيرنا قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} من هذا المجلد.(المؤلف).

ــ[315]ــ

2 ـ إن ناسخها قوله تعالى:
{ولكم نصف ما ترك أزواجكم} ( 4: 12).
من حيث أن المتمتع بها لا ترث ولا تورث فلا تكون زوجة. ونسب ذلك إلى سعيد بن المسيب، وسالم بن عبدالله، والقاسم بن أبي بكر(1).
الجواب:
إن ما دل على نفي التوارث في نكاح المتعة يكون مخصصا لآية الإرث ولا دليل على أن الزوجية بمطلقها تستلزم التوارث. وقد ثبت أن الكافر لا يرث المسلم، وأن القاتل لا يرث المقتول، وغاية ما ينتجه ذلك أن التوارث مختص بالنكاح الدائم، وأين هذا من النسخ؟!!
3 ـ إن ناسخها هو السنة، فقد رووا عن علي (عليه السلام) أنه قال لابن عباس:
"إنك رجل تائه. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر"(2).
وروى الربيع بن سبرة، عن أبيه قال:
"رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائما بين الركن والباب وهو يقول: ياأيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما اتيتموهن شيئا"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 105 ـ 106.
(2) صحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: 2510. وسنن النسائي: كتاب النكاح، رقم الحديث: 3312.
(3) صحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: 2502.

ــ[316]ــ

وروى سلمة، عن أبيه قال:
"رخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها" (1).
والجواب:
أولا: إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، وقد تقدم مرارا.
ثانيا: إن هذه الروايات معارضة بروايات أهل البيت (عليهم السلام) المتواترة التي دلت على إباحة المتعة، وأن النبي لم ينه عنها أبدا.
ثالثا: إن ثبوت الحرمة في زمان ما على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكفي في الحكم بنسخ الآية، لجواز أن يكون هذا الزمان قبل نزول الإباحة، وقد استفاضت الروايات من طرق أهل السنة على حلية المتعة في الأزمنة الأخيرة من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى زمان من خلافة عمر، فإن كان هناك ما يخالفها فهو مكذوب ولا بد من طرحه.
ولأجل التبصرة نذكر فيما يلي جملة من هذه الروايات:
1 ـ روى أبو الزبير قال:
"سمعت جابر بن عبدالله يقول كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر حتى نهى عنه - نكاح المتعة - عمر في شأن عمرو بن حريث"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث 2499.
(2) نفس المصدر: رقم الحديث: 2497.

ــ[317]ــ

2 ـ و روى أبو نضرة قال:
"كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت، فقال: [ان] ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين - متعة الحج ومتعة النساء -فقال جابر: فعلناهما مع رسول (صلى الله عليه وآله) ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما"(1).
3 ـ و روى أبو نضرة عنه أيضا قال:
"متعتان كانتا على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) فنهانا عنهما عمر فانتهينا"(2).
4 ـ وروى أبونضرة عنه أيضا: "تمتعنا متعتين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحج والنساء فنهانا عنهما عمر فانتهينا"(3).
5 ـ و روى أبونضرة عنه أيضا قال:
"قلت إن ابن الزبير ينهى عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها، قال: ـ جابرـ على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الرسول، وإن القرآن هذا القرآن، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: كتاب الحج، رقم الحديث: 2192. وكتاب النكاح، رقم الحديث: 2498.
(2) مسند احمد: 3 / 325، كتاب باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 13955.
(3) مسند احمد: 3 / 356، باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 14305، و14387.

ــ[318]ــ

إحداهما متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة.."(1).
6 ـ وروى عطاء قال:
"قدم جابر بن عبدالله معتمرا، فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر"(2). وأخرج ذلك أحمد في مسنده، وزاد فيه: "حتى إذا كان في آخر خلافة عمر"(3).
7 ـ وروى عمران بن حصين قال:
"نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى، وعملنا بها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم تنزل آية تنسخها، ولم ينهى عنها النبي (صلى الله عليه وآله) حتى مات"(4). وذكرها الرازي عند لمسيره الآية المباركة بزيادة:
"ثم قال رجل برأيه ما شاء"(5).
8 ـ و روى عبدالله بن مسعود قال:
"كنا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس معنا نساء، قلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبدالله:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن البيهقي: 7/ 206، باب نكاح المتعة، وقال: أخرجه مسلم من وجه آخر عن همام.
(2) صحيح مسلم: 4 / 131، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة.
(3) مسند احمد: 3 / 380.
(4) نفس المصدر: كتاب الحج، رقم الحديث: 2158.
(5) راجع صحيح مسلم: 4 / 48، كتاب الحج باب جواز التمتع، رقم الحديث: 2158. تجد هذه الزيادة فيه.

ــ[319]ــ

{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتد ين} (5 : 87) (1).
أقول: إن قراءة عبدالله الآية صريحة في أن تحريم المتعة لم يكن من الله ولا من رسوله، وإنما هو أمر حدث بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)0
9 ـ وروى شعبة، عن الحكم بن عيينة قال:
"سألته عن هذه الآية ـ آية المتعة ـ أمنسوخة هي؟ قال لا. قال الحكم: قال علي لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي "(2).
وروى القرطبي ذلك عن عطاء، عن ابن عباس (3).
أقول: لعل المراد بالشقي ـ في هذه الرواية ـ هو ما فسر به هذا اللفظ في رواية أبي هريرة، قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة، ولا يترك لله معصية"(4).
10 ـ وروى عطاء قال:
"سمعت ابن عباس يقول: رحم الله عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم الله بها أمة محمد (صلى الله عليه وآله) ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: كتاب النكاح، رقم الحديث: 4686. وصحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: ص 249.
(2) تفسير الطبري عند تفسير الآية المباركة: 5 / 9.
(3) تفسير القرطبي: 5 / 130.
(4) مسند احمد: .2/ 349، باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 8239.
(5) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 147. الشفا: القليل.

ــ[320]ــ

ثم إن الروايات التي استند إليها القائل بالفسخ على طوائف.
منها: ما ينتهي سنده إلى الربيع بن سبرة، عن أبيه، وهي كثيرة، وقد صرح في بعضها بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام بين الركن والمقام، أو بين الباب والمقام، وأعلن تحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة(1).
ومنها: ما روي عن علي (عليه السلام) أنه روى تحريمها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومنها: ما روي عن سلمة بن الأكوع.
أما ما ينتهي سنده إلى سبرة، فهو وإن كثرت طرقه إلا أنه خبر رجل واحد "سبرة" وخبر الواحد لا يثبت به النسخ. على أن مضمون بعض هذه الروايات يشهد بكذبها، إذ كيف يعقل أن يقوم النبي (صلى الله عليه وآله) خطيبا بين الركن والمقام، أو بين الباب والمقام، ويعلن تحريم شيء إلى يوم القيامة بجمع حاشد من المسلمين، ثم لا يسمعه غير سبرة، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه، فأين كان المهاجرون والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وأفعاله؟ وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ إشارات يد النبي (صلى الله عليه وآله) ولحظات عينيه، ليشاركوا سبرة في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ ثم أين كان عمر نفسه عن هذا الحديث ليستغني به عن إسناد التحريم إلى نفسه؟! أضف إلى ذلك أن روايات سبرة متعارضة، يكذب بعضها بعضا، ففي بعضها أن التحريم كان في عام الفتح (2) وفي بعضها أنه كان في حجة الوداع (3) وعلى الجملة إن رواية سبرة هذه في تحريم المتعة لا يمكن الأخذ بها من جهات شتى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: 4 / 133، كتاب النكاح، رقم الحديث: 2502، 2503، و2509.
(2) صحيح مسلم: 4 / 133، كتاب النكاح، رقم الحديث: 2502، 2503، و2509.
(3) سنن ابن ماجة كتاب النكاح، رقم الحديث: 1952.

 
 

ــ[321]ــ

وأما ما روي عن علي (عليه السلام) في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا، وذلك لاتقاق المسلمين على حليتها عام الفتح، فكيف يمكن أن يستدل علي (عليه السلام) على ابن عباس بتحريمها في خيبر، ولأجل ذلك احتمل بعضهم أن تكون جملة (زمن خيبر) في الرواية المتقدمة راجعة إلى تحريم لحوم الحمر الأهلية، لا إلى تحريم المتعة، ونقل هذا الاحتمال عن ابن عيينة كما في المنتقى، وسنن البيهقي في باب المتعة (1).
وهذا الاحتمال باطل من وجهين:
1 ـ مخالفته للقواعد العربية: لأن لفظ النهي في الرواية لم يذكر إلا مرة واحدة في صدر الكلام، فلا بد وأن يتعلق الظرف به، فالذي يقول: أكرمت زيدا وعمروا يوم الجمعة، لا بد وأن يكون مراده أنه أكرمهما يوم الجمعة، أما إذا كان المراد أن إكرامه لعمرو بخصوصه كان يوم الجمعة فلا بد له من أن يقول: أكرمت زيدا، وأكرمت عمروا يوم الجمعة.
2 ـ إن هذا الاحتمال مخالف لصريح رواية البخاري، ومسلم، وأحمد عن علي (عليه السلام) أنه قال: "نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الانسية"(2) وروى البيهقي ـ في باب المتعة ـ عن عبدالله بن عمر أيضا رواية تحريم المتعة يوم خيبر(3).
وأما ما روي عن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال:
"رخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها".
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن البيهقي: 7 / 220.
(2) المنتقى: 2 / 519. راجع صحيح البخاري: كتاب المخازي رقم الحديث: 3894 ، كتاب النكاح، رقم الحديث: 4723. وصحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: 2510. ومسند احمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة، رقم الحديث: 558. وسنن ابن ماجة: كتاب النكاح، رقم الحديث: 1951.
(3) سنن البيهقي: 7 / 202.

ــ[322]ــ

فهو خبر واحد، لا يثبت به النسخ، على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وعمرو بن حريث، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين وكيف يصح ذلك ولم يحرم أبوبكر المتعة أيام خلافته، ولم يحرمها عمر في شطر كبير من أيامه، وإنما حرمها في أواخر أمره.
وقد مر عليك كلام ابن حزم في ثبوت جماعة من الصحابة والتابعين على إباحة المتعة، ومما يدل على ما ذكره ابن حزم من فتوى جماعة من الصحابة بإباحة المتعة: ما رواه ابن جرير في تهذيب الآثار، عن سليمان بن يسار، عن أم عبدالله ابنة أبي خيثمة: "إن رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها، قالت: فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب، فأرسل إلي فسألني أحق ما حدثت؟ قلت: نعم. قال: فإذا قدم فآذنيني به، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه، فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر: أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح".
وما رواه ابن جرير أيضا، وأبو يعلى في مسنده، وأبو داود في ناسخه عن علي (عليه السلام) قال:

ــ[323]ــ

"لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة، ثم ما زنى إلا شقي" (1).
وفي هاتين الروايتين وجوه من الدلالة على أن التحريم إنما كان من عمر:
الأول: شهادة الصحابي، وشهادة علي (عليه السلام) على أن تحريم المتعة لم يكن في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) ولا بعده إلى أن حرمها عمر برأيه.
الثاني: شهادة العدول عن المتعة في الرواية الأولى، مع عدم نهيهم عنها تدل على أنهم كانوا يجوزونها.
الثالث: تقرير عمر دعوى الشامي أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينه عنها.
الرابع: قول عمر للشامي: "لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك" فانه صريح في أن عمر لم يتقدم بالنهي قبل هذه القصة، ومعنى ذلك: أن عمر قد اعترف بأن المتعة لم ينه عنها قبل ذلك.
الخامس: قول عمر: "بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح" فانه يدل على أن المتعة كانت شائعة بين المسلمين، فأراد أن يبلغ نهيه عن المتعة إليهم لينتهوا عنها بعد ذلك، ولعل لهذه القصة دخلا مباشرا أو غير مباشر في تحريم عمر للمتعة، فإن إنكاره على الشامي عمله هذا مع شهادة الحديث بأن التمتع كان أمرا شايعا بين المسلمين ووصول الخبر إليه، مع أن هذه الأشياء لا يصل خبرها إلى السلطان عادة، كل هذا يدلنا على أن في الأمر سرا جهلته الرواة، أو أنهم أغفلوه فلم يصل إلينا خبره. ويضاف إلى ذلك أن رواية سلمة بن الأكوع ليس فيها ظهور في أن النهي كان من النبي (صلى الله عليه وآله) فمن المحتمل ان لفظ "نهى" في الرواية بصيغة المبني للمفعول
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمال: 8 / 294.

ــ[324]ــ

وأريد منه نهي عمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعلى الجملة: انه لم يثبت بدليل مقبول نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المتعة ومما يدل على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينه عن المتعة: أن عمر نسب التحريم إلى نفسه حيث قال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما"(1). ولو كان التحريم من النبي (صلى الله عليه وآله) لكان عليه أن يقول: نهى النبي عنهما.
4 ـ ان ناسخ جواز المتعة الثابت بالكتاب والسنة هو الإجماع على تحريمها. والجواب عن ذلك:
إن الإجماع لا حجية له إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم وقد عرفت أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر، أفهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب الله وسنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا من الخطأ؟ ولو صح ذلك لأمكن نسخ جميع الأحكام التي نطق بها الكتاب، أو أثبتتها السنة القطعية، ومعنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة، أو الصيام، أو الحج بآراء المجتهدين، وهذا مما لا يرضى به مسلم.
أضف إلى ذلك: أن الإجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة، وكيف يدعى الإجماع على ذلك، مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده ولاسيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وإذن فلم يبق إلا تحريم عمر.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم ذلك في الرواية الخامسة من روايات جابر، ورواه ابوصالح كاتب الليث في نسخته والطحاوي، ورواه ابن جرير في تهذ يب الآثار، وابن  عساكر إلا ان عمر قال في ما روياه "واضرب فيهما"، راجع كنز العمال: 8 / 293، 294.

ــ[325]ــ

ومن البين أن كتاب الله وسنة نبيه أحق بالإتباع من غيرهما، ومن أجل ذلك أفتى عبدالله بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج، فقال له ناس:
"كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك، فقال لهم: ويلكم ألا تتقون... أفرسول الله (صلى الله عليه وآله) أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟"(1).
وخلاصة ما تقدم: أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الآية المباركة، الذي ثبت ـ قطعا ـ تشريعه في الإسلام.
ــــــــــــ
(1) مسند احمد: 2 / 95، مسند المكثرين من الصحابة، رقم الحديث: 5441.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net