خاتمة: فيما يتعلّق بالاجتهاد و التقليد 

الكتاب : القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول) - ج4   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6989

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 365‌

خاتمة: فيما يتعلّق بالاجتهاد و التقليد.

فصل: عرّف الاجتهاد بتعاريف:

منها: استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي.

و هذا التعريف من العامّة، و هو ساقط عندنا، للمنع عن العمل بالظنّ عموما و بالظنّ القياسي خصوصا.

و ليعلم أنّ لفظ «الاجتهاد» بالمعنى المصطلح لم يرد في رواية موضوعا لحكم.

فالأولى تعريفه بما جعل به موضوعا للحكم الشرعي. و ما تعلّق بالمجتهد في الروايات من الأحكام أحكام ثلاثة: حرمة تقليده الغير، و جواز تقليد الغير إيّاه، و القضاء.

أمّا حرمة تقليده الغير: فإن كان موضوعها من تكون له ملكة الاستنباط و لو لم يستنبط فعلا- كما نقل الشيخ دعوى الإجماع على ذلك عن صاحب الضوابط «1»- فنعرّف الاجتهاد- الذي هو موضوع لهذا الحكم- ب‍ «ملكة استنباط الأحكام عن أدلّتها التفصيليّة».

______________________________
(1) قال في مصباح الأصول 3: 435: فادّعى شيخنا الأنصاري رحمه اللّه- في رسالته الخاصّة بمباحث الاجتهاد و التقليد- قيام الإجماع على عدم جواز رجوعه إلى الغير. انتهى.

و لم نعثر على تلك الرسالة.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 366‌

و إن كان موضوعها من يكون مستنبطا للحكم فعلا و عالما بالحكم فعلا عن دليله التفصيليّ، فلا يجوز التقليد لمثل هذا الشخص، فإنّه يرى خطأ غيره و جهله، فرجوعه إلى من رجوع العالم إلى الجاهل، فنعرّفه بأنّه «العلم بالحكم عن دليله التفصيليّ».

و أمّا جواز تقليد الغير إيّاه: فموضوعه بحسب الروايات و الآيات هو عنوان «الفقيه» و «أهل الذّكر» و «العالم بالأحكام» عن أخبار الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و شبهها لا عن الجفر و الرمل و نحوهما، فلا بدّ من تعريف الاجتهاد الذي هو موضوع لهذا الحكم بما عرّف به الفقهاء الفقه، و هو العلم بالأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة. فلو فرض أنّ أحدا لا يعرف من الأحكام إلّا حكما أو حكمين أو مقدارا لا يكون به مصداقا للفقيه و أهل الذّكر بالحمل الشائع، لا يجوز للغير تقليده، بل لا بدّ من معرفته بالأحكام بمقدار معتدّ به بحيث يصدق عليه عرفا أنّه فقيه و عالم و من أهل الذّكر، و هكذا لا يجوز تقليد من يكون عالما بالأحكام من طريق الرمل و الجفر و شبههما و إن كان علمه حجّة له، لكن هذا الشخص ليس موضوعا لهذا الحكم- يعني جواز تقليد الغير إيّاه- في الأدلّة.

و أمّا القضاء: فموضوعه في المقبولة هو «من روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» «1» فلا بدّ من صدق هذه العناوين بأن كان عارفا بالأحكام بالمقدار المعتدّ به عن الطرق الشرعيّة لا عارفا بحكم أو حكمين، و لا عارفا عن طريق الرمل و نحوه.

______________________________
(1) الكافي 1: 67- 10 و 7: 412- 5، التهذيب 6: 218- 514 و 302- 845، الوسائل 27: 136- 137، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 367‌

نعم، في بعض روايات القضاء «من عرف شيئا من قضايانا» «1».

و من هنا ظهر أنّ من يرى انسداد باب العلم- كالمحقّق القمّي- لا يجوز له القضاء، و لا يجوز أيضا للغير تقليده.

أمّا على الحكومة: فواضح، فإنّ العمل بالظنّ على ذلك ليس عملا بالطريق الشرعي، بل يكون نظير العمل بالظنّ في مورد اشتباه القبلة و ضيق الوقت عن الصلاة إلى أزيد من جهة واحدة، فاللازم هو الصلاة إلى الطرف الذي يظنّ أنّ القبلة فيه بمعنى أنّه امتثال ظنّي في ظرف عدم التمكّن من الامتثال العلمي، لحكم العقل بعدم وجوب أزيد من ذلك، و العامل بالظنّ الانسدادي ليس عالما لا بالحكم الواقعي و لا بالحكم الظاهري، و هو بنفسه يعترف بأنّه جاهل، غاية الأمر أنّه لا يجوز له تقليد غيره، فإنّه يرى القائل بالانفتاح جاهلا جهلا مركّبا.

و أمّا على الكشف: فهو و إن كان عالما بالحكم، إذ الظنّ- على الكشف- طريق شرعي إلّا أنّه طريق لمن تمّت عنده مقدّمات دليل الانسداد، التي منها بطلان تقليد الغير، و المقلّد يجوز له تقليد الغير فكيف يصحّ له تقليد من لا يكون ظنّه حجّة إلّا لنفسه!؟ فإنّ التقليد باطل في حقّه لا المقلّد.

______________________________
(1) الكافي 7: 412- 4، الفقيه 3: 2- 1، التهذيب 6: 219- 516، الوسائل 27: 13، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 369‌

فصل: ينقسم الاجتهاد إلى مطلق و تجزّ،

فالمطلق ما لا يكون مقيّدا ببعض الأحكام دون بعض، بل يكون ساريا في جميع الأحكام، و التجزّي ما يكون مقيّدا بذلك. و الأولى التعبير بالاجتهاد المقيّد، و التعبير بالتجزّي مسامحة، فإنّ الاجتهاد- سواء عرّف بالعلم بالأحكام أو القدرة على استنباطها عن مداركها- عرض غير قابل للتجزية.

و قد مرّ الكلام في المطلق، و أنّه يحرم على المجتهد المطلق تقليده الغير، و يجوز له الإفتاء و القضاء على التفصيل المتقدّم،

و أمّا التجزّي ففيه مواضع من الكلام:

الأوّل: في إمكانه.

و اختلف في ذلك، فقيل باستحالته، نظرا إلى أنّ الاجتهاد عبارة عن الملكة، و هي بسيطة غير قابلة للتجزية. و قيل بكونه ضروريّا- كما في الكفاية «1»- بدعوى أنّ الاجتهاد المطلق لا محالة مسبوق بالتجزّي، لاستحالة الطفرة.

و الحقّ هو إمكانه و بطلان القول بالاستحالة أو الوجوب.

أمّا إذا عرّف بالعلم بالأحكام: فواضح، ضرورة إمكان العلم ببعض المسائل دون بعض.

و أمّا إذا عرّف بملكة الاستنباط و القدرة عليه: فلأنّ النزاع ليس في لفظ التجزّي حتى يقال: إنّ الاجتهاد ملكة و هي بسيطة غير قابلة للتجزّي، بل‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 533.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 370‌

البحث في أنّه هل يمكن أن يوجد أحد يكون قادرا على استنباط مسائل باب من أبواب الفقه، كباب الطهارة مثلا دون مسائل سائر الأبواب، أو لا؟ و من الواضح إمكان ذلك، فإنّ القدرة على الاستنباط في كلّ مسألة مغايرة لها في أخرى، فإذا فرض شخص لا يعرف اللغة و ليس له اطّلاع في النقليّات أصلا لكنّه طويل الباع و كثير الاطّلاع في العقليّات و لمهارته فيها استنبط مسائل اجتماع الأمر و النهي و مقدّمة الواجب و اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن الضدّ و الترتّب و غير ذلك من المسائل العقليّة غير المربوطة بمعرفة اللغات و الروايات، فهو مجتهد في هذه المسائل دون غيرها.

و من ذلك ظهر الجواب عمّا في الكفاية، فإنّ الطفرة و إن كانت مستحيلة كما قرّر في محلّه إلّا أنّها غير متصوّرة في مثل المقام الذي لا ترتّب بين المسائل، لتغاير كلّ قدرة مع قدرة أخرى متعلّقة باستنباط مسألة أخرى، فمن الممكن حصول القدرة على استنباط مسألتين معا، كما يمكن حصول القدرة على استنباط إحداهما دون أخرى أو قبل حصولها على استنباط المسألة الثانية.

و بالجملة، حيث لا ترتّب بين المسائل فلا تتصوّر فيه الطفرة، فإنّها مختصّة بما يكون متدرّجا في الوجود و لا يعقل وجوده دفعة واحدة، كالمشي في المكانين.

نعم، الاستنباط الخارجي لا محالة يكون متدرّجا في الوجود، و لا يعقل استنباط جميع المسائل دفعة واحدة، و هذا بخلاف الملكة و القدرة على استنباط جميع المسائل، حيث لا محذور في حصولها دفعة واحدة أصلا.

الموضع الثاني: في أنّه هل يحرم على المتجزّي تقليده الغير

فيما استنبطه من الأحكام أو لا؟ و لا ريب في حرمة ذلك، فإنّ رجوعه إلى غير مع علمه بخطئه من رجوع العالم إلى الجاهل و رجوع البصير إلى الأعمى، و كيف‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 371‌

يكون قول من يرى خطأه حجّة في حقّه!؟

الموضع الثالث: في جواز رجوع الغير إليه فيما استنبطه، و عدمه.

و لا ريب في جوازه لو كان مدرك جواز التقليد بناء العقلاء، لجريان سيرتهم على ذلك، كما إذا كان طبيب متخصّصا في طبابة العين دون سائر الأعضاء، فإنّه يرجع إليه في ذلك و لو لم تكن له معرفة بحال سائر الأعضاء أصلا، بل ربّما يجب الرجوع إليه إذا كان أعلم من غيره في ذلك.

و أمّا إذا كان المدرك هو الروايات و الآيات الممضية للسيرة مع اعتبار أمور أخر، فلا بدّ من صدق ما أخذ في الروايات موضوعا لهذا الحكم من عنوان «الفقيه» و «العالم» و «أهل الذّكر» و «العارف بالأحكام» و من المعلوم عدم صدق ذلك على العارف بحكم أو حكمين.

نعم، يصدق على العارف بالأحكام بالمقدار المعتدّ به و لو لم يكن عارفا بجميع الأحكام.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 373‌

فصل: يتوقّف الاجتهاد على معرفة اللغة و الصرف و النحو

بمقدار يتوقّف فهم معنى الروايات و آيات الأحكام عليه، و لا يلزم أزيد من ذلك، كمعرفة الفرق بين الحال و التميز و البدل و عطف البيان و غير ذلك ممّا لا يوجب الجهل بها الجهل بمعنى الكلام، و على معرفة علم الرّجال في الجملة لمعرفة الرّواة و تميز ثقاتهم عن غيرهم و لكنّ الاحتياج إليه قليل جدّاً، لما قرّر في محلّه من كفاية كون الرواية موثوقا بها بأن تكون معمولا بها عند الأصحاب، فإذا كانت كذلك، تكون حجّة و لو كان رواتها مجهولي الحال بل معلومي القدح، و عدم حجّيّة الرواية التي أعرض عنها الأصحاب و لو كان جميع رواتها معدّلين بعدلين، فإذا لا ينظر إلى حال الرّواة مع عمل الأصحاب أو أعراضهم، بل يعمل بها أو تطرح.

فالاحتياج إلى علم الرّجال إنّما يختصّ بما إذا لم يثبت أحد الأمرين لا العمل و لا الإعراض بأن كان الفرع غير معنون في كلام الأصحاب و وردت فيه رواية، أو كان معنونا و لكنّ الرواية الواردة فيه لم تكن موجودة في المجاميع، فحينئذ لا بدّ من إحراز وثاقة رواة الرواية بالرجوع إلى علم الرّجال، و من المعلوم أنّه في غاية الندرة.

نعم، لو قلنا بمقالة صاحب المدارك من اختصاص حجّيّة الروايات بما إذا كان جميع رواتها معدّلين بعدلين، لكان الاحتياج إلى علم الرّجال كثيرا جدّاً.

و هكذا لا بدّ من معرفة علم الأصول من مباحث الألفاظ و مباحث الحجج و الأصول العمليّة و التعادل و التراجيح، و هي العمدة في مقام الاستنباط، و لا بدّ من معرفة ذلك بالاجتهاد لا تقليدا عن الشيخ قدّس سرّه أو غيره من علماء الأصول،

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 374‌

فإنّ استنباط الحكم عن مدرك تقليدي حقيقته هي التقليد، و ليس من الاجتهاد في شي‌ء، إذ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

و بالجملة، لا مناص عن معرفة هذه المباحث عن دليل و اجتهاد، و بما أنّها لم تدوّن في علم من العلوم دوّنها الأصوليّون على حدة، و سمّوها بعلم الأصول، كما أنّ صاحب الحدائق دوّنها في مقدّمة كتابه، و تدوينها على حدة لا يوجب كونها بدعة.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 375‌

فصل: لا ريب في ثبوت التخطئة في العقليّات،

فإذا رأى أحد جواز اجتماع الأمر و النهي، و الآخر امتناعه، فلا محالة أحدهما مخطئ، إذ الأمر الواحد لا يمكن أن يكون ممتنعا بالذات في حقّ أحد و ممكنا بالذات في حقّ آخر.

و أمّا النقليّات: فأجمعت العدليّة على التخطئة فيها أيضا، و ادّعى بعضهم تواتر الأخبار على أنّ له- تبارك و تعالى- في كلّ واقعة حكما يشترك فيه العالم به و الجاهل. و لو لم يكن في المقام إجماع و لم ترد الروايات أيضا، لكان مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التخطئة، لأنّ أدلّة الأحكام مطلقة غير مقيّدة بالعالمين بها، فمقتضى إطلاقها هو ثبوتها في الشريعة المقدّسة في حقّ جميع المكلّفين:

العالمين بها و الجاهلين، و لا دخل للعلم و الجهل في ثبوت الأحكام و فعليّتها.

نعم، صاحب الكفاية قدّس سرّه قد تكرّر في كلماته أنّ الأحكام قبل العلم بها أحكام إنشائيّة، و في بعض كلماته: أحكام فعليّة من بعض الجهات، و بالعلم يصير فعليّا أو تتمّ فعليّته «1». و قد ذكرنا ما فيه في محلّه.

و بالجملة، لا ريب في ثبوت التخطئة و لو على القول بالسببيّة التي يقول بها بعض العدليّة فرارا عن شبهة ابن قبة، بمعنى أنّ قيام الأمارة سبب لحدوث مصلحة في سلوك الأمارة. و قد ذكرنا في محلّه أنّها عين الطريقيّة.

نعم، السببيّة الأشعريّة و المعتزليّة ملازمة للتصويب، و لكنّ الأولى محال، و الثانية مجمع على بطلانها، كما قرّر في مقرّه.

______________________________
(1) انظر: كفاية الأصول: 320.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 377‌

فصل: إذا تبدّل رأي المجتهد،

فلا كلام فيما انقضى إذا لم يكن له أثر فعلا، كما إذا ذبح ذبيحة بغير الحديد و أكلها، ثمّ رأى بعد ذلك حرمتها.

و هكذا لا إشكال في حرمة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل إذا كان الموضوع باقيا، كما إذا ذبحها بغير حديد و لم يأكلها بعد، فإنّه يحرم عليه أكلها حينما تبدّل رأيه بالحرمة.

و إنّما الإشكال فيما إذا لم يكن الموضوع باقيا و لكن له أثر فعلا، كما إذا صلّى بغير سورة ثمّ رأى في الوقت أو خارجه وجوب السورة، فهل تجب عليه إعادة الصلاة أو قضاؤها أو لا؟ و قد مرّ الكلام في ذلك مفصّلا في بحث الإجزاء، و قلنا هناك: إنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة هو عدم الإجزاء في جميع الموارد: العبادات و المعاملات إلّا أن يدلّ دليل في مورد خاصّ على الإجزاء، كما في خصوص الصلاة، فإنّ حديث «لا تعاد» «1» دلّ على عدم وجوب الصلاة من غير ناحية الإخلال بالخمس المستثناة في الحديث، فبناء على ما اخترناه من شموله للجهل عن قصور أيضا مقتضاه هو عدم وجوب إعادة المجتهد الصلوات التي أتى بها بغير سورة بعد ما رأى وجوب السورة.

نعم، لو صلّى مدّة عند استتار القرص، ثمّ رأى أنّ وقت ذهاب الحمرة هو المغرب، تجب عليه الإعادة أو القضاء، لأنّ الوقت من الخمس المستثناة في الحديث.

______________________________
(1) الفقيه 1: 181- 857، التهذيب 2: 152- 597، الوسائل 4: 312، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 379‌

فصل: في التقليد.

و قد عرّف بتعاريف:

منها: ما في الكفاية من أنّه أخذ قول الغير للعمل به في الفرعيّات أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّدا «1».

و منها: ما هو أوسع من الأوّل، و هو أنّه مجرّد الالتزام بالعمل بقول الغير- و لو لا يعلمه تفصيلا- فإذا التزم بالعمل على طبق رسالة مجتهد، فهو تقليد و لو لم يتعلّم فتوى من فتاواه.

و منها: أنّه هو نفس العمل على طبق رأي الغير، و جعل الغير مسئولا في هذا العمل.

و الصحيح هو الأخير، و هو المناسب لمعناه اللغوي و العرفي الدارج فعلا، يقال: «قلّد السيف زيدا» إذا جعله قلادة عليه. و معنى التقليد في العمل جعل العمل على رقبة من يقلّده و على عهدته كالقلادة، فقد أستعير لفظ القلادة للعمل كما أنّ تقليد الدعاء و الزيارة، الذي هو مستعمل في اللسان الدارج المتعارف فعلا فيقال: «قلّدتك الدعاء و الزيارة» معناه جعلت الدعاء و الزيارة على عهدتك و رقبتك، فادع لي وزر. و المستفاد من بعض الروايات أيضا هو هذا المعنى، كما دلّ على أنّ «على المفتي وزر من عمل بفتياه» «2» و ما ورد حينما سأل من استفتى أحدا في مسألة فأفتى بفتيا ثلاث مرّات: «على رقبتك؟»‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 539.

(2) الكافي 7: 409- 2، الوسائل 27: 20، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 380‌

فلم يجبه المفتي، من أنّه: «نعم على رقبته قال نعم أو لم يقل» «1».

و بالجملة، المعنى الأخير هو الموافق للّغة و العرف و الروايات.

و أمّا ما في الكفاية «2» من أنّه لو كان التقليد عبارة عن نفس العمل، للزم أن يكون العمل غير مسبوق بالتقليد فمن غرائب الكلام، إذ لم ترد آية و لا رواية على وجوب التقليد قبل العمل حتى يعدّ عدم مسبوقيّته به محذورا من المحاذير.

و الذي يسهّل الخطب أنّ هذا النزاع ليس له أثر عملي أصلا، إذ ليس التقليد بهذا اللفظ موضوعا لحكم من الأحكام في الأدلّة و إن وقع بهذا اللفظ متعلّقا للحكم في قوله عليه السّلام في بعض الروايات: «فللعوامّ أن يقلّدوه» «3».

ثمّ إنّ جواز التقليد- المساوق للوجوب التعييني في بعض الموارد كمورد لا يتمكّن فيه المكلّف من الاجتهاد و لا من العمل بالاحتياط، لعدم معرفته بموارده، أو لعدم كون المورد قابلًا له، و المساوق للوجوب التخييري بينه و بين أخويه أو بينه و بين أحد أخويه فيما إذا تمكّن من الاجتهاد و العمل بالاحتياط معا أو تمكّن من أحدهما فقط- ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، لجريان السيرة القطعيّة العمليّة عليه من زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى زماننا هذا، ضرورة أنّه لم يكن المسلمون بأجمعهم حاضرين عند النبي صلّى اللّه عليه و آله أو الأئمّة سلام اللّه عليهم، و لم يكن الطريق منحصرا بالسؤال عن المعصوم و بنقل الروايات عنهم سلام اللّه عليهم، بل كانت سيرتهم على السؤال عن أحكام الدين عمّن تعلّم من‌

______________________________
(1) الكافي 7: 409- 1، التهذيب 6: 223- 530، الوسائل 27: 220، الباب 7 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(2) كفاية الأصول: 539.

(3) الاحتجاج 2: 511- 337، الوسائل 27: 131، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 381‌

المعصوم عليه السّلام، و لم يكن بناء أصحاب الأئمّة- الذين تعلّموا منهم عليهم السّلام أحكام الدين- الاقتصار- عند سؤال العوام عنهم عن الأحكام- على نقل الروايات في مقام جوابهم، بل كان يسأل السائل مثلا عن السورة في الصلاة، فيجاب بأنّها واجبة.

و هذا مضافا إلى دلالة آية النفر على ذلك بالتقريب الذي تقدّم في بحث حجّيّة الخبر، و إجماله أنّ المستفاد من الآية الشريفة وجوب قبول قول المنذر المتفقّه في الدين عند إنذاره بما تفقّه من الأحكام، و تقييد وجوب القبول بصورة حصول العلم بالصدق بعيد و على خلاف الظاهر، و دلالة بعض الروايات، كما دلّ على وجوب اتّباع العلماء، و ما دلّ على أنّ للعوامّ تقليد الفقهاء، و مفهوم ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم، و ما دلّ على إظهاره عليه السّلام المحبّة لأن يرى في أصحابه من يفتي الناس، فإنّه بالمطابقة يدلّ على جواز الإفتاء، و بالملازمة العرفيّة بين الحكمين-: جواز الإفتاء و جواز التقليد- يدلّ على جواز اتّباع المفتي و الأخذ بفتواه.

فهذه الأدلّة مخصّصة لما دلّ على حرمة اتّباع غير العلم، و الذّم على التقليد من الآيات و الروايات لو لا المناقشة في دلالة بعضها، كقوله تعالى إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ «1»، فإنّ ذمّهم إنّما كان على تقليدهم من كان مثلهم في الجهل و الضلالة كما تكون لذلك قرينة في نفس الآية الشريفة.

ثمّ إنّ قياس الأحكام الفرعيّة بالأصول الاعتقاديّة في عدم جواز التقليد- مع كونه قياسا باطلا ليس من مذهبنا- مع الفارق، ضرورة كفاية معرفة الأصول‌

______________________________
(1) الزخرف: 23.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 382‌

الاعتقاديّة عن دليل كلّ بحسب فهمه و لو كان مثل الدليل المعروف من العجوزة، و هذا في غاية السهولة، بخلاف المسائل الفرعيّة التي يكون الاجتهاد فيها في غاية الصعوبة و أشدّ من طول الجهاد.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 383‌

فصل: في وجوب تقليد الأفضل و عدمه.

و الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في وظيفة المقلّد.

و الثاني: فيما يستفاد من الأدلّة.

أمّا المقام الأوّل:

فلا شكّ في وجوب الرجوع إلى الأفضل، لكونه متعيّن الحجّيّة، بخلاف غير الأفضل، حيث إنّه مشكوك الحجّيّة، و الشكّ في الحجّيّة مساوق لعدم الحجّيّة.

نعم، لو استقلّ عقله بتساوي الأفضل و غيره في ذلك، أو قلّد الأعلم في هذه المسألة و كانت فتواه جواز تقليد غير الأفضل، لصحّ الرجوع إلى غير الأفضل في سائر المسائل.

و قد استشكل في العروة «1» في الرجوع إلى غير الأفضل حتى فيما إذا أفتى الأفضل بجوازه إلّا إذا استقلّ عقله بالتساوي.

و لا وجه للإشكال، فإنّه في الحقيقة تقليد عن الأفضل.

و أمّا إذا أفتى الأفضل بعدم جواز تقليد المفضول و أفتى المفضول بجواز ذلك، فلا يصحّ الرجوع إلى المفضول في ذلك، فإنّ حجّيّة قوله هذا متوقّفة على جواز تقليده و عدم وجوب تقليد الأعلم، و هو متوقّف على حجّيّة قوله و عدم وجوب تقليد الأفضل، و هو دور واضح.

و أمّا المقام الثاني: ففيه موضعان:

______________________________
(1) العروة الوثقى، المسألة 46 من أحكام التقليد و الاجتهاد.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 384‌

الأوّل: فيما إذا علم تفصيلا أو إجمالا بمخالفتهما

و علم أيضا بعدم موافقة فتوى المفضول للاحتياط. و لا إشكال في وجوب تقليد الأعلم في هذه الصورة، لعدم شمول أدلّة جواز التقليد من السيرة و غيرها لهذه الصورة.

أمّا السيرة: فعلى الخلاف قطعا.

و أمّا الآيات و الروايات: فلا يعقل شمولها لكليهما، و لا لأحدهما، كما مرّ في الخبرين المتعارضين، فيتساقطان، و بعد التساقط لا دليل على جواز تقليد المفضول، و لا على التخيير، و ينحصر الدليل حينئذ ببناء العقلاء على اتّباع قول الأفضل.

الموضع الثاني: فيما إذا احتمل المخالفة احتمالا بدويّا.

و الظاهر جواز تقليد المفضول في هذه الصورة، لشمول الأدلّة لها أيضا حتى السيرة، فإنّ بناء العقلاء ليس على الرجوع إلى الأفضل من أرباب الصنائع بحيث يبقى غير الأفضل منهم قاعدين في دارهم لا يرجع إليهم أحد.

و أمّا توهّم كون الشبهة مصداقيّة، لأنّ الأدلّة اللفظيّة لا تشمل صورة المخالفة فمع الاحتمال يحتمل عدم الشمول، فمدفوع: بأنّ هذا الاحتمال مدفوع بالأصل، فإنّ الأصل عدم حصول المخالفة بينهما.

هذا، و قد استدلّ على وجوب الرجوع إلى الأعلم في هذه الصورة أيضا بوجوه كلّها ضعيفة:

منها: المقبولة «1».

و فيه أوّلا: أنّ موردها الحكومة، فالحكم على طبقها في مورد الفتوى قياس.

______________________________
(1) الكافي 1: 67- 68- 10، الفقيه 3: 5- 2، التهذيب 6: 301- 845، الوسائل 27:

106- 107، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 385‌

و ثانيا: أنّه قدّم في المقبولة قول من لا يكون قوله مقدّما في باب الفتوى قطعا كالأورع، فإنّ مقتضاها هو وجوب الرجوع إليه و لو كان غيره أعلم منه.

و ثالثا: أنّ مقتضاها هو وجوب الرجوع إلى الأفضل من الاثنين، و المدّعى لزوم الرجوع إلى أفضل الناس جميعا.

و من ذلك ظهر الجواب عمّا يدلّ على ذمّ من يفتي و في المصر من هو أفضل منه. و هكذا ظهر الجواب عن المنقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك» «1» فإنّ الكلام في وجوب الرجوع إلى الأفضل من جميع الناس لا الأفضل من علماء مصر من الأمصار.

هذا، مضافا إلى أنّ موردهما كمورد المقبولة مورد الحكومة، و التعدّي قياس مع الفارق.

و منها: أنّ قول الأفضل أقرب من غيره، فيلزم الأخذ به عقلا.

و فيه أوّلا: منع الصغرى على إطلاقها، إذ كثيرا ما يكون غير الأفضل قوله أقرب منه، لاعتضاد بعضهم ببعض، و هل يكون قول فقيه واحد يكون أعلم من مائة فقيه أقرب إلى الحقّ من قول هذا الجمّ الغفير الذين يفتون على خلاف الأعلم و يرون خلاف ما يراه!؟

و ثانيا: أنّه لم يعلم أنّ تمام مناط حجّيّة قول الأعلم هو أقربيّته إلى الواقع.

نعم، لو كان المدرك لوجوب التقليد بناء العقلاء أو السيرة من دون تصرّف من الشارع، لكانت هذه الكبرى تامّة.

بقي شي‌ء،

و هو أنّهم ذكروا- فيما إذا علم إجمالا بأعلميّة أحد الشخصين- أنّه يتعيّن الأخذ بأحوط القولين. و هذا كما ذكروه. و فيما إذا لم يعلم‌

______________________________
(1) نهج البلاغة- بشرح محمد عبده-: 520.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 386‌

إجمالا بذلك ذكروا أنّه يتعيّن تقليد مظنون الأعلميّة أو محتملها، و يتخيّر إذا احتمل أعلميّة كلّ منهما.

و لنا في جميع ذلك إشكال، لما عرفت من عدم شمول الأدلّة لمورد التعارض بين الفتويين، و عرفت أنّ مقتضى القاعدة حينئذ هو التساقط و الرجوع إلى الأعلم ببناء العقلاء إن كان متعيّنا، و أمّا عند الاشتباه كمورد الكلام فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل، و لا دليل على ما ذكروه، فإنّ الظنّ بالأعلميّة لا يغني من الحق شيئا فضلا عن احتماله، فالرجوع إلى مظنون الأعلميّة أو محتملها بلا وجه. و هكذا التخيير في صورة احتمال أعلميّة كلّ منهما، فإنّه بلا دليل.

نعم، لو ثبت إجماع على عدم وجوب الاحتياط على المقلّد مطلقا حتى في مورد الكلام، لتمّ جميع ما ذكروه، لكن دون إثباته خرط القتاد، فإنّ الثابت به عدم وجوب الاحتياط في الأحكام لا مطلقا حتى في هذه الموارد، فالمتعيّن هو الرجوع إلى الاحتياط، أي الأخذ بأحوط القولين بعد قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط الكلّي و إدراك الواقعيّات.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 387‌

فصل: اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي

على أقوال عمدتها ثلاث:

الاشتراط مطلقا، و عدم الاشتراط مطلقا، و التفصيل بين التقليد الابتدائي فيشترط و الاستمراري فلا يشترط.

و استدلّ القائل بعدم الاشتراط بالاستصحاب بتقريب أنّه كان في زمان حياته جائز التقليد قطعا و كان رأيه حجّة، و بموته يشكّ في جواز بقائه، لاحتمال اشتراط الحياة في ذلك فالآن كما كان.

و هذا الاستصحاب لا إشكال فيه من حيث اليقين السابق، لأنّ الحجّيّة بأيّ معنى كانت- سواء كانت بمعنى المنجّزيّة و المعذّريّة، كما بنى عليه صاحب الكفاية «1»، أو بمعنى العلم و الطريقيّة، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ «2» قدّس سرّه، أو كان أمرا انتزاعيّا مجعولا بتبع جعل منشأ انتزاعه كإيجاب العمل على طبق المؤدّى، كما يستفاد من بعض كلمات الشيخ قدّس سرّه- حكم شرعي مجعول بنفسه أو بتبع جعل منشأ انتزاعه كان ثابتا قبل الموت يقينا.

و توهّم أن لا يقين بثبوته سابقا إلّا بالنسبة إلى الموجودين في زمانه فاسد، فإنّ فيه- مضافا إلى عدم تماميّته في التقليد الاستمراري، و في الابتدائي في حقّ من بلغ في زمان حياته و لم يقلّده فيه-: أنّ هذا الإشكال ليس إلّا إشكال استصحاب الأحكام الكلّيّة. و الجواب هو الجواب. و الكلام متمحّض فعلا في الإشكال من حيث احتمال اشتراط الحياة في المفتي مع الفراغ عن سائر‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 319.

(2) أجود التقريرات 2: 75.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 388‌

الجهات، و لا ريب في حجّيّة رأى الميّت على الموجودين بالفعل لو كانوا في زمان حياته، و أزيد من هذا المقدار ليس في استصحاب الأحكام الكلّيّة.

و هكذا لا إشكال من حيث الشكّ اللاحق، لأنّ موضوع الحجّيّة في الأدلّة ليس هو الفقيه و العالم حتى يرتفع بالموت عند العرف بنحو يعدّ عوده يوم القيامة عندهم من إعادة المعدوم و إن لم يكن كذلك في الحقيقة، بل الموضوع هو الرّأي، كما أنّ موضوع حجّيّة الخبر و الشهادة هو الرواية و الشهادة، و ليست الحجّيّة دائرة مدار الرّأي حدوثا و بقاء، بل الحجّيّة ثابتة إلى الأبد بمجرّد حدوث الرّأي لو لا احتمال اشتراط الحياة.

و الحاصل: أنّ بعض موضوعات الأحكام يكون الحكم تابعا له وجودا و عدما، كالخمر، فإنّ زوال عنوان الخمريّة مساوق لزوال حرمته، و لو كان بعد ذلك حراما، لكان بحسب الفهم العرفي حكما جديدا لموضوع جديد، و بعضها تكون الأحكام تابعة لحدوثه، و بمجرّد الحدوث يبقى الحكم إلى الأبد، كما في الرواية و الشهادة عند بعض، فإنّ مجرّد حدوثهما موضوع لوجوب القبول إلى الأبد فيبقى و لو مات الراوي و الشاهد، فلو كان موضوع الحجّيّة هو الفقيه و العالم مثلا، لكان الحكم مرتفعا بالموت قطعا و لم يكن شكّ في البقاء، لكنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الموضوع هو الرّأي، و نشكّ في حجّيّته بحدوثه ما دام الحياة أو إلى الأبد.

و أمّا ما في الكفاية من أنّ بقاء الرّأي ممّا لا بدّ منه في جواز التقليد، و لذا لو زال أو تبدّل لارتفعت الحجّيّة قطعا «1»، ففيه: أنّه لا فرق بين رأي المجتهد و رواية الراوي في موضوعيتهما للحكم في لسان الدليل، فكما أنّ الرواية‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 545.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 389‌

بحدوثها تكون موضوعا كذلك رأي المجتهد.

و أمّا زوال الحكم بتبدّل الرّأي فمن جهة أنّه حكم ظاهريّ يزول بانكشاف الخلاف، و الرواية و الشهادة أيضا كذلك، فإذا رجع الراوي عن روايته و قال: «اشتبهت في النقل» لارتفع حكمها. و هكذا الشاهد إذا رجع عن شهادته أو انكشف خطؤه.

و أمّا زوال الحكم بزوال الرّأي بجنون و نحوه فأوّلا بالإجماع كما ادّعي.

و ثانيا بالفرق بين الموت و غيره، فإنّ الموت يكون كمالا للإنسان، فالعرف و إن كان يرى الرّأي زائلا بالموت إلّا أنّه لا يرى صاحبه جاهلا عاميّا، بل يزور قبره و يقبّل ضريحه مثلا، و هذا بخلاف ما إذا زال رأيه بالجنون، فإنّ تقليده عندهم تقليد للعاميّ بل لمن يلحق بالحيوانات.

و الحاصل: أنّ مقتضى الاستصحاب هو حجّيّة الرّأي إلّا أن يدلّ دليل على خلافه من إجماع و نحوه، و لولاه لكان اللازم هو القول بحجّيّة رأي من صار مجنونا أيضا.

فظهر أنّ الاستصحاب من حيث اليقين السابق و الشكّ اللاحق لا إشكال فيه، و لكن مع ذلك لا يجري، لأمرين:

أحدهما: ما بنينا عليه سابقا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة إذا نشأ الشكّ من سعة دائرة الجعل و ضيقها.

ثانيهما: أنّ جريان الاستصحاب في مورد لم يكن فيه دليل في البين، و الدليل موجود في المقام، و هو إطلاقات الأدلّة من الآيات و الروايات، فإنّ المنع عن كونها في مقام البيان من هذه الجهة بلا وجه- و ليعلم أنّ المدّعى وجود الإطلاق فيما لم تعلم المخالفة بين الميّت و الحيّ في الفتوى، و سيجي‌ء الكلام في مورد العلم بالمخالفة- فإنّها في مقام بيان المقلّد و ما يعتبر فيه،

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 390‌

و المستفاد منها حجّيّة قول «المقلّد» و «الفقيه» و «أهل الذّكر» و «المنذر» و «راوي الحديث» على اختلاف التعابير، سواء كان المقلّد حيّا بعد الرجوع إليه أو لم يكن.

و السيرة المتشرّعة أيضا على ذلك، إذ لم يكن التوقّف بعد ممات المرجوع إليه معهودا ممّن رجع إلى أصحاب الأئمّة و أخذ منهم حكما.

و لو لم تكن السيرة المتشرّعة على ذلك، لكان في بناء العقلاء غنى و كفاية، و منكره منكر للأمر الضروري، ضرورة عدم توقّفهم في أمورهم إذا راجعوا أهل الخبرة بمجرّد موت من رجعوا إليه، فإذا راجعوا طبيبا فكتب نسخة و عيّن دواء ثمّ مات، لم يراجعوا طبيبا آخر.

هذا، لكنّ الإطلاقات غير شاملة لتقليد الميّت ابتداء، بل ظاهرها بحسب عناوينها و ما اعتبر فيها من القيود هو فعليّة هذه العناوين و القيود عند الرجوع إليه و السؤال عنه، فلا بدّ من صدق عنوان «السؤال عن أهل الذّكر» و «الرجوع إلى رواة الحديث» و «النّظر إلى من عرف الأحكام» و «تقليد من يكون من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه» و أمثال هذه التعابير، و من المعلوم أن لا تصدق عرفا هذه العناوين بعد الموت.

نعم، السيرة العقلائيّة جارية على الرجوع إلى رأي العالم مطلقا حتى ابتداء، فإنّهم كما لا يتوقّفون فيما رجعوا إلى الحيّ بعد موته كذلك يرجعون إلى الميّت ابتداء إذا كان من أهل الخبرة، فنرى أنّهم يرجعون إلى قانون «أبو علي سينا» فإذا رأوا أنّه عيّن فيه دواء لمرض خاصّ، يعالجون به مع تشخيصه.

لكن هذه السيرة مردوعة إمّا بالإجماع- و الظاهر كفاية هذا الإجماع، إذ لم ينسب إلى أحد من الطبقة الأولى و الطبقة الوسطى جواز تقليد الميّت ابتداء، و القول بالجواز إنّما نشأ من بعض المتأخّرين بعد الشهيدين،

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 391‌

و المحقّقين من الأصوليّين المحقّق القمّي في القوانين، و من الأخباريّين المحدّث الأسترآبادي و الكاشاني، و لا يضرّ خلافهم مع أنّ خلاف الأخباريّين من جهة أنّهم لا يرون أصل التقليد جائزا، و يرون العمل بقول المفتي هو العمل بالرواية لا الفتوى.

و ممّا يؤكّد هذا الإجماع أنّه بناء على ما ذكرنا من أنّه مع العلم بالمخالفة لا تشمل الأدلّة شيئا من الفتاوى المختلف. «1». و الدليل حينئذ منحصر بالسيرة، و هي قائمة على تقليد الأعلم من غير فرق بين كونه حيّا أو ميّتا، و لازم ذلك هو الرجوع في كلّ عصر إلى من يكون أعلم من الجميع كان حيّا أو ميّتا، ففي عصر الشيخ الطوسي مثلا، لا بدّ من الرجوع إليه في زمانه و بعده حتى يأتي زمان يوجد فيه أحد أعلم منه، و هكذا إلى زماننا هذا، فينحصر مرجع التقليد بأشخاص مخصوصة، و هذا بعينه مذهب العامّة الذين حصروا مراجع تقليدهم بالأربع، و بذلك تأخّروا في الفقه و الأصول عن الشيعة تأخّرا فاحشا، و هو ممّا يقطع بأنّ الخاصّة على خلافه، بل ادّعي- و ليس ببعيد- أنّ بقاء العلم في الشيعة إنّما هو من جهة عدم تجويز تقليد الميّت و تجديد نظرهم يوما فيوما في مدارك الأحكام- الذي ادّعاه الأكابر على عدم جواز تقليد الميّت، أو بالأدلّة اللفظيّة التي حصر جواز التقليد فيها بالعناوين التي قلنا: إنّ صدقها يتوقّف على حياة المفتي عند الرجوع إليه.

و بالجملة، من ضمّ بعضها- و هو ما له مفهوم، كقوله عليه السّلام: «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه» «2» إلى آخره- إلى بعض يستفاد عدم جواز تقليد غير‌

______________________________
(1) مكان النقاط مخروم في الأصل.

(2) الاحتجاج 2: 511- 337، الوسائل 27: 131، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 392‌

المتّصف بالصفات المذكورة فيها.

هذا كلّه فيما إذا لم تعلّم مخالفة فتوى الميّت مع فتوى الحيّ، أمّا فيما إذا علم بالمخالفة، فلا ينبغي الشكّ في وجوب الرجوع إلى الحيّ إذا كان أعلم و كان قوله موافقا للاحتياط، إذ أمر الميّت لا يزيد عن الحيّ، و الرجوع من غير الأعلم إلى الأعلم واجب حتى في الحيّ.

و أمّا إذا كان الميّت أعلم و كان قول الحيّ مخالفا للاحتياط بأن أفتى الميّت بوجوب السورة، و الحيّ بعدم وجوبها، فالظاهر وجوب البقاء، لما مرّ من سقوط دليل حجّيّة قول كلّ منهما بالمعارضة، و لا دليل على جواز التقليد إلّا بناء العقلاء، و هو على اتّباع قول الأعلم من غير فرق بين الحيّ و الميّت.

نعم، إذا كان قول الحيّ موافقا للاحتياط، لا يجب البقاء بل يتخيّر.

و أمّا إذا لم تحرز أعلميّة أحدهما، فلو كان إجماع على عدم وجوب الاحتياط، يجوز البقاء، كما يجوز الرجوع إلى الحيّ، و إلّا- كما هو كذلك- يجب الاحتياط.

و الحاصل: أنّه لا بدّ من فرض الميّت حيّا، فيجري جميع ما جرى في المجتهدين المخالفين في الفتوى، إذ لا خصوصيّة للميّت بعد شمول إطلاق الدليل له، فتقع المعارضة بين فتواه و فتوى الحيّ، و يجري فيه ما ذكرنا هناك.

بقي أمران:

الأوّل: أنّ التقليد و إن كان عبارة عن نفس العمل كما ذكرنا إلّا أنّ جواز البقاء لا يحتاج إلى العمل، بل يكفي فيه التعلّم و السؤال و الأخذ للعمل، لشمول الأدلّة و جريان السيرة العقلائيّة، فإنّ السيرة قائمة على العمل بمجرّد الأخذ و التعلّم.

و بالجملة، العقلاء بعد الرجوع إلى من هو من أهل الخبرة فيما هو خبرة‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 393‌

فيه يعملون بقوله و لو مات و لم يعملوا به في زمان حياته.

و الموضوع في الأدلّة هو «الرجوع إلى رواة الحديث» و «السؤال من أهل الذّكر» و «النّظر إلى من عرف الأحكام» و أمثال ذلك، فإذا راجعه أو سأله، يجوز له العمل بقوله، و يكون حجّة عليه- و لو مات بعد ذلك- بمقتضى الإطلاق.

الثاني: أنّ معنى الأعلميّة و الأفقهيّة بحسب لفظ «أعلم» و «أفقه» هو أكثر علما و فقها، فإذا كان أحد عالما بألف مسألة من الفقه أو غيره، و آخر بألفين، يكون الثاني أعلم و أفقه، و المراد من لفظ «أفقههما» في مقبولة عمر بن حنظلة «1» أيضا هذا المعنى، فإنّه هو معناه العرفي.

لكن هذا المعنى غير مراد في المقام قطعا، لما ذكرنا من أنّ الرجوع إلى الأعلم لا دليل له إلّا السيرة، و من المعلوم أنّ السيرة غير قائمة على الرجوع إلى الأعلم بهذا المعنى، مثلا: إذا كان هناك طبيبان أحدهما طبيب العين فقط، و الآخر طبيب البدن بأجمعه، لا يرجع العقلاء في مرض العين إلى خصوص من يكون طبيبا للعين و لغيرها من أجزاء البدن دون من يكون طبيبا للعين فقط، بل يرجعون إليه أيضا إذا كان مساويا مع غيره في الحذاقة، بل المراد منه في المقام هو من يكون أدقّ نظرا و أعرف بمزايا الكلام و قرائنه الداخليّة و الخارجيّة، كما هو كذلك في جميع الصناعات، فنرى أنّ أحد الخيّاطين يخيط ثوبا كأنّه قالب البدن، و الآخر أيضا يخيط لكنّه ليس بهذه الجودة، و هو الذي جرت السيرة على الرجوع إليه مع الاختلاف، فإذا كان هناك مجتهدان أحدهما عارف بجميع الأحكام عن اجتهاد و نظر، و الآخر عارف بمقدار أقلّ منه بكثير لكنّه أدقّ نظرا منه- و المراد بالدقّة هي الدقّة التي إذا اطّلع عليها العرف‌

______________________________
(1) الكافي 1: 67- 68- 10، الفقيه 3: 5- 2، التهذيب 6: 301- 845، الوسائل 27:

106- 107، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 394‌

يعدّونها في محلّها لا الدقّة الفلسفيّة، فإنّها ربّما تنافي الاجتهاد- و أعرف منه بمزايا الكلام، يكون الثاني أعلم منه، و لا بدّ من الرجوع إليه مع الاختلاف و لو كان الأوّل أكثر علما منه.

هذا تمام الكلام في الاجتهاد و التقليد. و الحمد للّه خير ختام، و الصلاة على محمّد خير الأنام، و على آله البررة الكرام.

و قد تمّ في ليلة الاثنين، السادس و العشرين من شهر ذي الحجّة الحرام سنة 1369 من الهجرة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net