الاجتهاد و التقليد‌ 

الكتاب : القواعد الفقهية والاجتهاد والتقليد (دراسات) ج4   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7558

الاجتهاد و التقليد

تعريف الاجتهاد مبادئ الاجتهاد التقليد مسائل مرتبطة ببحث التقليد‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 421‌

الاجتهاد و التقليد‌

الجهة الأولى: تعريف الاجتهاد:

عرف الاجتهاد بأنه: استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالأحكام الشرعية، كما عن القوم. و هذا التعريف غير تام على مبنانا من عدم حجية الظن، كما صرح به الكتاب العزيز. و لعله من هذا التعريف و نحوه أنكر الأخباريون الاجتهاد، و ذهبوا إلى بطلانه، و ان التقليد بدعة.

فالأولى تعريفه بأنه: استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية. و لا نظن بالأخباري إنكار الاجتهاد بهذا المعنى، فان تحصيل الحجة مما لا بد منه على جميع المسالك، فلا يبعد ان يكون النزاع في المقام بيننا و بينهم لفظيا.

ثم ان الاجتهاد لم يقع في شي‌ء من الكتاب و السنة لنبحث عن معناه عرفا، بل رتب عليه أحكام، فلا بد من بيان انها تترتب على أي شي‌ء، لنعرف بذلك أي نستكشف معناه من ناحية الحكم المترتب عليه.

فنقول: الأمور المترتبة على الاجتهاد ثلاثة: حرمة رجوعه إلى الغير، و جواز الإفتاء و رجوع الغير إليه، و القضاء و فروعه من الأمور الحسبية.

أما حرمة التقليد، فقد ذكر الشيخ «1» أنه لا خلاف في ان من يقدر على‌

______________________________
(1) رسالة في التقليد للشيخ الأنصاري قدّس سرّه: 31.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 422‌

الاستنباط يحرم عليه التقليد، و أدلة التقليد منصرفة عنه. فان تم ما ذكره قدّس سرّه لا بد من تعريف الاجتهاد بالملكة و القدرة على الاستنباط. و ان لم يتم، و قلنا: أن من يحرم عليه التقليد انما هو العالم بالاحكام، و ليس القادر على الاستنباط عالما، فلا بد من تعريفه بالاستنباط الفعلي.

و أما جواز الإفتاء و تقليد الغير إياه، فهو مترتب على الفقيه و أهل الذّكر، كما في التوقيع، و قوله تعالى (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) «1» و آية الذّكر «2».

و من الظاهر ان الفقيه لا يعم من هو قادر على الاستنباط و لم يستنبط، بل لا بد في صدقه من أن يكون مستنبطا لمعظم الأحكام التي تكون موردا لابتلاء الناس. و لا يبعد تعريفه بما عرف به الفقه من أنه العلم بالاحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية، فالمجتهد هو العارف بالاحكام، و كذلك فالاجتهاد الموضوع لجواز الإفتاء لا يمكن تعريفه بالملكة، بل لا بد من تعريفه باستنباط الحجة، و تحصيله فعلا أو بالفقيه.

و يمكن ان يرفع بهذا النزاع بين الاخباري و الأصولي.

و أما القضاء و شئونه، فهو مترتب في الشريعة و الأخبار على العارف بالاحكام، لقوله عليه السّلام «انظروا إلى رجل منكم نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا» «3» و من الظاهر ان العارف بأحكامهم لا يصدق على من تمكن من الاستنباط، بل لا بد و ان يكون مستنبطا لمعظم الأحكام ليصدق عليه العارف بالأحكام.

و في بعض أخبار القضاء و ان ورد «عرف شيئا من أحكامنا» إلاّ أنه لا يمكن أن يستفاد منه كفاية استنباط حكم أو حكمين في القضاء، و ذلك لأن هذا التعبير‌

______________________________
(1) التوبة: 122.

(2) النمل: 43.

(3) وسائل الشيعة: 18- باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 423‌

كناية عن المقدار الكثير، مثلا في العرف يقال زيد عنده شي‌ء من المال أي كثير منه، و انما يؤتى بكلمة (من) للتبعيض كناية عن ان ما عنده قليل من المال الموجود في العالم و ان كان كثيرا في نفسه، و هذا هو النكتة في التعبير بلفظ (من) في المقام، حيث ان المعظم مما يعرفه الفقيه قليل بالقياس إلى أحكامهم عليهم السّلام التي هي غير متناهية بحسب عقولنا.

فتحصل: ان الاجتهاد الموضوع لحرمة تقليد الغير يعرف بملكة الاستنباط.

و أما الاجتهاد في جواز الإفتاء أو جواز القضاء فلا بد و أن يعرف بالاستنباط الفعلي أو الفقيه أو العارف بالاحكام، و لا يمكن تعريفه بالملكة.

الجهة الثانية [اشتراط أن يكون الاستنباط من الأدلة لا الأقيسة أو العلوم الغريبة]

ان المجتهد انما هو المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها، لا من غيرها من الأقيسة العقلية، التي لم يقم على اعتبارها دليل، أو من الرمل و الجفر و نحوه، و ان أوجب له العلم بالحكم الشرعي. فإذا فرضنا ان أحدا حصل له العلم بالحكم الشرعي من طريق الجفر مثلا، فعلمه و ان كان حجة عليه، و لا بد أن يعمل به، إلاّ أن الغير ليس له الرجوع إليه في ذلك، لعدم صدق عنوان العارف بالأحكام و الفقه عليه، المأخوذ في جواز التقليد، كما ليس لمثله التصدي للقضاء.

و من هنا ظهر أن القائل بالظن الانسدادي لا يجوز تقليده فيما ظن به من الأحكام. أما على الحكومة فظاهر، لأنه حينئذ يعمل بظنه من باب التبعيض في الاحتياط، و ليس ظنه كاشفا له عن الواقع و لا حجة عليه. و أما على الكشف، فالظن و ان كان حجة بالقياس إليه، و كاشف عن الواقع تعبدا، إلاّ ان مقدماته غير جارية في حق العامي، فان من جملتها بطلان التقليد، و من الظاهر ان العامي له ان يقلد من هو عارف بالاحكام و يرى انفتاح باب العلم، فلا تتم مقدمات الكشف بالقياس إلى المقلد ليكون ظن المجتهد حجة عليه.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 424‌

نعم ظنه حجة على نفسه، و له أن يعمل به إلاّ ان الغير لا يجوز له الرجوع إليه.

الجهة الثالثة: الكلام في التجزي. و هو يقع في مقامين:

أحدهما: في بيان الموضوع.

ثانيهما: في حكم المتجزي.

أما المقام الأول:

فذهب فيه بعض إلى استحالة التجزي في الاجتهاد، لأنه أمر بسيط، سواء كان بمعنى القدرة أو الاستنباط الفعلي، فلا معنى فيه للتبعيض و التجزي. و أوجبه الآخوند في الكفاية «1»، إذ عدمه يستلزم الطفرة، و هو محال.

و الصحيح: عدم تمامية شي‌ء من الأمرين.

أمّا الاستحالة، فلأنّ المراد من التجزي و التبعيض في الاجتهاد ليس هو البعض من المركب، و الجزء من الكل، ليستلزم التركيب و ينافي بساطة الاجتهاد، بل المراد بالبعض هو البعض بمعنى جزئي الكلي، فانه يستعمل البعض في الفرد، فيقال: الإنسان بعض الحيوان، و زيد بعض الإنسان. و الاجتهاد على القولين له افراد و لو كان بسيطا، فاستنباط كل فرع، أو القوة على استنباطه، فرد من افراد الملكة أو الاستنباط، فالتجزي في الاجتهاد عبارة عن حصول بعض تلك الافراد دون بعض. و يمكن ان يكون الإنسان متمكنا من استنباط المسائل غير المبنية على المباحث الغامضة العقلية، كبحث اجتماع الأمر و النهي مثلا، و متمكنا من غيرها، أو متمكنا من استنباط المسائل التي ليس لمدركها معارض، بخلاف غيرها، فيكون متجزيا.

______________________________
(1) كفاية الأصول: 2- 428.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 425‌

و أما دعوى وجوب التجزي، فان أراد به الوجوب العادي فتامة، لأنه بحسب العادة تحصل الملكة و الاستنباط الفعلي للإنسان تدريجا. و ان أراد به الوجوب العقلي، فقد ظهر فسادها مما بيناه من ان استنباط كل فرع أو القوة عليه فرد من افراد الاجتهاد، و ليس بينها ترتيب، كما في اجزاء الصلاة، ليلزم من حصولها دفعة واحدة الطفرة المحال، فيمكن عقلا حصولها بأجمعها لشخص دفعة واحدة و لو بالإعجاز على خلاف العادة.

فالصحيح: إمكان التجزي عقلا، و وجوبه عادة.

و أما المقام الثاني:

فتارة: يقع الكلام في حكم المتجزي نفسه. و أخرى: في حكم الغير معه.

أما حكم نفسه فلا يجوز له الرجوع إلى الغير فيما استنبطه من الحكم، خصوصا إذا كان مخالفا له في الفتوى، لأنه عالم يرى خطأ غيره، فكيف يرجع إليه، و أدلة التقليد لا تشمله قطعا، و لا يعمه قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ)* «1» و قوله عليه السّلام «فللعوام أن يقلدوه» «2».

و أما رجوع الغير إليه في التقليد فالظاهر عدم جوازه، حتى لو بنينا على ان مدرك التقليد بناء العقلاء، و ذلك لأن بنائهم انما يكون حجة فيما إذا كان ممضى شرعا، و دليل الإمضاء لا يعمه، لأن العنوان المأخوذ فيه هو عنوان الفقيه و أهل الذّكر و نحو ذلك، مما لا يعم المتجزي إلاّ إذا كان مجتهدا في معظم الأحكام، و ان لم يكن مجتهدا في خصوص بعض المسائل المبتنية على المسائل العقلية الغامضة.

و بما ذكرناه ظهر الحال في حكمه و قضائه، فان المأخوذ في أدلته عنوان العارف و العالم كما تقدم، و هو لا يصدق إلاّ إذا كان مجتهدا في معظم الأحكام.

______________________________
(1) النحل: 43.

(2) وسائل الشيعة: 18- باب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 20.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 426‌

مبادئ الاجتهاد:

لا إشكال في توقف الاجتهاد على اللغة و الصرف و النحو و الأصول.

أما توقفه على اللغة، فلأنّ مستند عمدة الأحكام هو الكتاب و السنة، و هما عربيان، فلا بد من معرفة مواد الكلمات العربية. اما بالرجوع إلى اللغويين بحيث يحصل الوثوق له من اتفاقهم. و اما ان يكون عارفا باللغة من غير ذلك.

كما انه متوقف على علم الصرف، لأنه متكفل لبيان معاني هيئات الألفاظ المفردة، التي يختلف بها المعنى، كهيئة الماضي و المضارع، و الفاعل و المفعول، فلا مناص من معرفة هذا المقدار من الصرف لا أكثر.

كما انه متوقف على العلم بالنحو أيضا، لأنه متكفل لبيان معاني الهيئات المركبة، و يختلف بها المعنى. نعم لا يلزم فيه أكثر من ذلك، كالفرق بين الحال و التمييز.

و أما توقفه على علم الرّجال، فعلى المعروف من ان عمل المشهور بالخبر الضعيف يكون جابرا لضعف سنده، كما ان إعراض المشهور عن الخبر الصحيح يسقطه عن الحجية، فيقل احتياج المجتهد إلى علم الرّجال، لأنّه بالرجوع إلى الفقه يظهر له الخبر المعمول به، و الخبر المعرض عنه، و لذا ذكر المحقق الهمداني أنه ليس من دأبه المراجعة إلى علم الرّجال. نعم عليه لا بد من الرجوع إلى الرّجال في الفروع التي ليست مذكورة في الفقه.

و أما على المختار من اعتبار الوثوق بالراوي، و عدم كفاية وثاقة الرواية، و ان عمل المشهور بالخبر الضعيف لا يجبر ضعفه، كما ان إعراض المشهور عن الخبر الصحيح لا يسقطه عن الحجية، فيكثر الحاجة إلى علم الرّجال، إذ لا مناص من تحصيل وثاقة الراوي بطريقهم.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 427‌

و أما توقفه على علم الأصول، فهو أظهر من أن يخفى، من غير فرق بين مباحث الألفاظ و الأصول العملية، فلا بد للمجتهد من ان يكون عارفا بمبحث الأوامر و النواهي، و بحث العام و الخاصّ، و ان إجمال المخصص سرى إلى العام أو لا، إلى غير ذلك. كما لا بد له من معرفة حجية الخبر، و أن المرجع في الشبهات هو البراءة أو الاحتياط، و ان الاستصحاب حجة أو لا، و مبحث التعادل و التراجيح.

ثم ان المجتهد قد يكون مصيبا للحكم الواقعي. و قد يكون مخطئا.

نعم هو مصيب دائما في الحكم الظاهر أعني الحجة، كما انّه عالم به، و من هنا أخذوا العلم في تعريف الفقه. و أما الحكم الواقعي فهو كالأحكام العقلية، كإمكان اجتماع الأمر و النهي، و أن الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضده أو لا، و غير ذلك من الأحكام العقلية، سواء كانت من مبادئ الفقه أم لم يكن، فانها أمور واقعية ربما يصيبها المجتهد، و ربما يخطئها. كما ان في مورد اختلاف رأي المجتهدين لا يمكن ان يكونا معا مصيبين، فالقول بالتصويب في الأحكام الواقعية فاسد، و قد نسب ذلك إلى بعض العامة، و يدفعه إطلاقات أدلة الأحكام، فانها تعم العالم و الجاهل، لشبهة حكمية أو موضوعية، و الاخبار الواردة في اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، و ان لم تكن متواترة و الإجماع على ذلك.

و أما ما ذكره ابن قبة من ان اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم و الجاهل يستلزم تفويت المصلحة، أو الإلقاء في المفسدة، فيما إذا قامت الأمارة على خلاف الواقع، كما يستلزم ذلك اجتماع الضدين، و المصلحة و المفسدة، و تحليل الحرام، و تحريم الحلال، فقد أجبنا عن ذلك كله في محله، و بينا ان ذلك لا يستلزم شيئا من المحاذير المذكورة، و لا نعيد.

هذا كله في الاجتهاد.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 428‌

الكلام في التقليد

[تعريف التقليد]

و قد عرف بوجوه:

منها: انّه الالتزام بقول الغير في مقام العمل.

و منها: انّه تعلم فتوى الغير للعمل بها.

و منها: كما في العروة انه أخذ الرسالة ملتزما بأن ما فيه هو حكم اللّه في حقه، و ان لم يعمل بشي‌ء منه، بل و لو لم يتعلمه.

و الظاهر انه ليس في التقليد اصطلاح خاص، بل هو مستعمل في معناه اللغوي، و هو: جعل القلادة في الجيد. و من هذا الباب ما ذكروه في الهدى من اعتبار الإشعار و التقليد فيه، أي جعل علامة في رقبته. و قد يستعمل في غير الأمور الخارجية، فيقال: قلدتك الدعاء و الزيارة، أي جعلت ذلك في عهدتك، و هو المراد به في المقام.

و عليه فالتقليد عبارة عن الاستناد إلى قول الغير في العمل، أو العمل المستند إلى فتوى الغير. و لا فرق بين التعبيرين، فان المقلد باستناده إلى فتوى المجتهد يجعل وزر ذلك العمل ان كان مخالفا للواقع على ذمة المقلد و رقبته. و يشهد لهذا ما ورد في بعض الاخبار من انه من أفتى بغير علم كان عليه وزر من عمل بفتياه، و ما ورد في قضية ربيعة اليوم حيث أتاه أحد، فسأله عن مسألة، فأجاب، فقال له: أعلى رقبتك؟ فسكت، و أعاد ذلك إلى ثلاث، فقال الصادق عليه السّلام و كان حاضرا على رقبته قال نعم أو لم يقل يعني ان الإفتاء بنفسه يقتضي ذلك.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 429‌

فالتقليد عبارة عن العمل بقول الغير عن استناد إليه، و لا يتم الاحتمالات السابقة، لعدم الدليل عليها، إلاّ أنه لا يترتب ثمر عملي على تحقق معنى التقليد، لعدم وروده في دليل لفظي حتى في جواز العدول عن الحي إلى غيره، و البقاء على تقليد الميت و عدمه، فان الحكم في الفرعين تابع لدليل ذلك، لا لتحقيق معنى التقليد.

و من الغريب ما ذكره بعض من اعتبار العمل في البقاء على تقليد الميت، فان التقليد على ما ذكرناه هو العمل، و لا معنى لاعتباره فيه. و بناء على القول بأنه هو الالتزام أو الأخذ أيضا لا يفرق في جواز البقاء بين العمل و عدمه، كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى.

و أما ما ذكره في الكفاية «1» من ان التقليد ان كان بمعنى العمل لزم ان لا يكون العمل الأول الصادر من المقلد عن تقليد، إلاّ أنه لم يدل دليل على اعتبار كون العمل عن تقليد، و انما اللازم ان يكون العمل عن حجة، و هو متحقق في الفرض، و ان لم يصدق كونه عن تقليد اصطلاحا، و هذه التعبيرات نحن سطرناها و ليس لها عين و لا أثر.

مسائل مرتبطة ببحث التقليد:

مسألة: في جواز التقليد.

و يدل عليه:

أولا: سيرة العقلاء، فانها قائمة على رجوع الجاهل إلى العالم، و لم يثبت عنها ردع شرعا، فتكون ممضاة. و يدل على إمضائها قيام سيرة المتشرعة على الرجوع إلى العلماء في أخذ الأحكام الشرعية عنهم في زمان الأئمة عليهم السّلام، فان كل أحد لم يكن متمكنا من فهم كلمات الأئمة، و لا أقل من جهة جهله بلغة العرب،

______________________________
(1) كفاية الأصول: 2- 435.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 430‌

فكان جملة من الشيعة في ذاك العصر يأخذون الفتاوى و الأحكام من الفقهاء، و كان ذلك بمرأى من الأئمة عليهم السّلام و منظر، و لم يردعوا عنه، فيعلم من ذلك انه كان موردا لقبولهم عليهم السّلام فلا نحتاج في جواز التقليد إلى التمسك بالآيات و الروايات، مضافا إلى انّها أيضا دالة عليه.

و ثانيا: الأخبار، مثل ما ورد من إرجاع الناس إلى بعض الثقات في أخذ معالم الدين منهم «1»، فانه يعم نفس الرواية و الإفتاء. و قوله عليه السّلام لبعض أصحابه اجلس في الناس و أفت فيهم إلى غير ذلك. و قوله عليه السّلام في التوقيع «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه» إلى قوله عليه السّلام «فللعوام أن يقلدوه» «2».

و ثالثا: الآيات، كقوله سبحانه و تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ)* «3» فان أهل الذّكر في الآية و ان فسر بعلماء أهل الكتاب تارة، و بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أخرى، و بالأئمة عليهم السّلام ثالثة، إلاّ انه لا يوجب اختصاصه بذلك. و قد ورد في عدة من الروايات ان الآية إذا كانت واردة في مورد خاص أو في طائفة خاصة لا تختص بهم، و إلاّ لماتت بموتهم، بل تجري مجرى الشمس و القمر، و قد ذكرت هذه الأخبار في مقدمة تفسير البرهان.

و عليه فلا يوجب تفسير أهل الذّكر الاختصاص، بل يكون المراد به في معرفة أوصاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم علماء أهل الكتاب، و في معرفة الأحكام النبي و الأئمة عليهم السّلام فانهم من أظهر أفراده، و في المرتبة الثانية الفقهاء المجتهدين. و قوله سبحانه و تعالى (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) «4»

______________________________
(1) وسائل الشيعة: 18- باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 27 و ح 33.

(2) وسائل الشيعة: 18- باب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 20.

(3) النحل: 43.

(4) التوبة: 122.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 431‌

فانه يدل على لزوم قبول قول المتفقهين المنذرين، و إلاّ لم يكن للأمر بالتفقه و الإنذار مجال أصلا. و الإنذار يعم ما إذا كان بنقل الفتوى و ما استفاده من كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الأئمة عليهم السّلام و إطلاق (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) يعم ما إذا حصل الاطمئنان و ما لم يحصل.

و بالجملة فجواز التقليد مما لا إشكال فيه، أولا: لقيام سيرة العقلاء على رجوع العالم إلى الجاهل، الممضاة شرعا قطعا للسيرة المتشرعة. و ثانيا:

للروايات. و ثالثا: للآيات.

و ربما يتوهم ورود المنع من التقليد لقوله تعالى ذما للكفار (إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ) «1» فذمهم على تقليدهم آبائهم.

و فيه: أولا: انه مورد الآية هو رجوع الجاهل إلى الجاهل، و هو خارج عن محل الكلام.

و ثانيا: موردها أصول الدين، و لا يجوز فيها التقليد، لتمكن كل مكلف فيها من الاستنباط، بداهة ان المخلوق لا بد له من خالق، و المخلوق بلا خالق كالزرع بلا زارع. و هذا بخلاف الاجتهاد في الفروع، فانه أمر صعب لا يتمكن منه إلاّ الأوحدي من الناس، فلا ربط للآية بما نحن فيه.

ثم جواز التقليد هو الجواز بالمعنى الأخص أعني الوجوب فهو من الأمور التي إذا جاز وجب، و ذلك لأن كل مكلف يعلم إجمالا بتوجه تكاليف إليه و لا بد له من الخروج عن عهدتها و بما ان الاجتهاد غير ميسور لكل أحد و الاحتياط أيضا كذلك فيتعين التقليد.

و بعبارة أخرى: المكلف ابتداء مخير بين الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، إلاّ ان الاجتهاد لا يتمكن منه جميع الناس.

______________________________
(1) الزخرف: 23.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 432‌

و أمّا الاحتياط أولا: لا بد في الرجوع إليه مع التمكن من التقليد من الاجتهاد أو التقليد، فانه مسألة خلافية.

و ثانيا: لا بد من معرفة موارده و كيفيته باجتهاد أو تقليد.

و ثالثا: قد لا يمكن الاحتياط رأسا، كما إذا كان عنده ماء واحد، و لاقى مع المتنجس، فانه بناء على تنجس المتنجس وظيفته التيمم، و على القول بعدمه يبقى عليه الوضوء، فلا بدّ حينئذ من الاجتهاد في تلك المسألة أو التقليد، فإذا التقليد واجب، اما تعيينا و اما تخييرا.

مسألة: هل يجوز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم.

الكلام فيها يقع في مقامين:

الأول: في وظيفة المقلد.

و الثاني: في حكم المسألة.

أمّا المقام الأول: فالمقلد ليس له الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم، فانه من دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية، و قد عرفت سابقا ان مقتضى القاعدة فيه هو التعيين، لأنه لا يحتمل أن يكون فتوى غير الأعلم حجة عليه تعيينا، بل يعلم بأن فتوى الأعلم حجة عليه قطعا، و هذا حتى إذا فرضنا ان غير الأعلم أفتى بجواز تقليد غير الأعلم، فان حجية فتواه أول الكلام. نعم إذا أفتى الأعلم بذلك جاز للمقلد الرجوع إلى غير الأعلم بفتوى الأعلم.

و قد ناقش السيد قدّس سرّه في العروة حتى في هذا الفرض، و لم نعرف الوجه في مناقشته، إلاّ إذا فرض ان المقلد هو من أهل الخبرة، و قد استقل عقله بعدم حجية فتوى المفضول عند معارضته مع فتوى الأعلم، فالرجوع إليه حينئذ ليس من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم، بل لا يمكنه الرجوع حينئذ إلى فتوى الأعلم بجواز تقليد المفضول، لاستقلال عقله بخلافه.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 433‌

و أما المقام الثاني: و هو جواز تقليد المفضول و عدمه. فلا بد و ان نفرض الكلام فيه فيما إذا كان فتوى المفضول مخالفا للاحتياط، كما إذا أفتى الأعلم بوجوب السورة، و غيره بعدمه، و إلاّ فيجوز الرجوع إليه، لأنه احتياط. فتارة: يعلم بمخالفة فتوى غير الأعلم مع الأعلم، و مخالفته للاحتياط أيضا، امّا تفصيلا و امّا إجمالا. و أخرى: لا يعلم ذلك.

أما إذا علم بذلك، فلا يجوز الرجوع إلى غير الأعلم، و ذلك لأن دليل حجية فتوى المجتهد لا يعم صورة المعارضة، لأن شموله لهما معا يستلزم التعبد بحجية متناقضين، و هو غير ممكن، و الترجيح بلا مرجح، كما هو الحال في موارد تعارض الأمارتين مطلقا، فلا بد في حجية أحدهما من التماس دليل آخر، و فيما نحن فيه سيرة العقلاء قائمة على الرجوع إلى الأعلم، و الأخذ بفتواه، دون فتوى المفضول، كما نشاهد ذلك في اختلاف طبيبين و مهندسين و غير ذلك، و لم يردع عنها فيستكشف بها حجية فتوى الأعلم.

على ان ما ادعاه الشيخ قدّس سرّه من دعوى الإجماع على عدم جواز طرح كليهما يوجب دخوله في ما تقدم من دوران الأمر بين التعيين و التخيير، فإنّا لا نحتمل حجية فتوى المفضول معينا، بل فتوى الأعلم مقطوع الحجية، و فتوى غيره مشكوك الحجية، و الأصل عدم حجيته.

و أما إذا لم يعلم المخالفة، أو لم يعلم كون فتوى المفضول مخالفا للاحتياط، فالمعروف فيه أيضا الرجوع إلى الأعلم. و قد استدل عليه بوجوه:

الأول: انه مقتضى الأصل كما تقدم. و هو تام فيما إذا لم يثبت دليل على التخيير.

الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة، حيث جعل فيها من المرجحات الأفقهية.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 434‌

و فيه: مضافا إلى ضعف السند، لأن عمر بن حنظلة لم يوثق في كتب الرّجال، انه مختص بتعارض الخبرين، و أجنبي عن معارضة فتوى المجتهدين.

و شهد لذلك أمران:

أحدهما: انه جعل فيها من المرجحات الأصدقية و الأورعية، و بالقطع و اليقين ليست الأورعية و لا الأصدقية معينا للفتوى.

ثانيهما: ان الرواية هكذا «خذ بأصدقهما و أفقههما» فعين الأخذ بقول الأفقه من الراويين، و لو كان في الفتوى لكان اللازم الأخذ بفتوى اعلم الناس، لا أعلم الشخصين، و انحصار الأعلم فيهما بعيد، هذا مضافا إلى ان ظاهر الأفقهية في المقبولة هو كثرة الاطلاع على الأحكام الشرعية، و هي ليست موجبة للتعيين في مقام التقليد، لأن الأفقهية الموجبة لتعيين المقلد انما هي الدقة في النّظر و الاستنباط، لا كثرة التتبع و الاطلاع.

و من هذا ظهر الجواب عن التمسك بما ورد من أمر علي عليه السّلام مالكا بتعيين أعلم أصحابه للقضاء في المصر، فانه أيضا في القضاء دون الفتوى، و إلاّ لزم تعيين أعلم من في الأرض، لا أعلم أصحابه. و نظيره في الجواب عنه ما ورد في ذم من يقضي في الناس و في المصر من هو أعلم منه، فانه أيضا مختص بالقضاء، اما وجوبا، و اما استحبابا، و إلاّ لم تختص بأهل المصر.

الثالث: انّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع.

و فيه: منع الصغرى و الكبرى. أما الصغرى، فلأنّه قد يكون فتوى المفضول أقرب إلى الواقع، لموافقته مع فتوى المشهور، أو مع فتوى من كان أعلم من الأعلم الفعلي. و أما الكبرى فلأن الأقربية إلى الواقع لا دليل على مرجحيته.

فالصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأول لو لم يثبت دليل على التخيير.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 435‌

و الظاهر ثبوته، و هي سيرة العقلاء، فإنّا نراهم لا يتوقفون عن الرجوع إلى الطبيب المفضول مثلا عند احتمال مخالفة فهمه مع الطبيب الأفضل، و لا ينسد أبواب المفضولين، بل يرجع إليهم و لو كان احتمال المخالفة موجودا، و لم يردع عن هذه السيرة شرعا، فتكون ممضاة.

و توهم: كون الشبهة في المقام مصداقية، إذ يحتمل كون فتوى المفضول معارضة مع فتوى الأعلم، فلا يعم دليل الحجية شيئا منهما.

مدفوع: بأن استصحاب عدم وجود المعارض نعتيا أو أزليا ينفي ذلك، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

ثم إذا علم بأن أحد المجتهدين أعلم من الآخر، و علم بمخالفتهما في الفتوى تفصيلا أو إجمالا، و لم يكن الأعلم منهما متميزا خارجا، فهو من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة. فان أمكن تمييز الأعلم بالفحص وجب، و إلاّ فان أمكن الاحتياط تعين، و إلاّ فيثبت التخيير، لأنه لا يمكنه معرفة الواقع إلاّ بأحد طريقين فيتخير.

و ربما يقال: في الفرض بأنه يعمل بالظن، إلاّ أنه لا دليل على اعتباره، إلاّ أن الأخذ بالمظنون أولى عقلا.

ثم إذا علم بمخالفة مجتهدين في الفتوى، و لم يعلم أعلمية أحدهما، لا تفصيلا و لا إجمالا، و لكن احتمل ذلك، فالمعروف أن أحدهما المعين ان كان مظنون الأعلمية تعين الأخذ بقوله، و إلاّ فان كان أحدهما المعين محتمل الأعلمية دون الآخر تعين للأصل، و إلاّ فان احتمل تساويهما، و احتمل أعلمية كل منهما، فالتخيير.

و الظاهر عدم تمامية ذلك، لأن الظن بأعلمية أحدهما المعين لا يوجب التعيين مع احتمال كون الآخر أعلم.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 436‌

فالصحيح أن يقال: انّه لو احتمل أعلمية أحدهما بالخصوص، و لم يحتمل أعلمية الآخر، تعين الأخذ بقوله، لدوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية، فان فتوى محتمل الأعلمية حجة عليه قطعا دون الآخر. و إلاّ فان أمكن الاحتياط فهو، و إلاّ فالتخيير، حتى فيما إذا كان أحدهما مظنون الأعلمية و الآخر محتمل الأعلمية، لأن الظن لا يوجب الترجيح.

نعم إذا كان أحدهما مظنون الأعلمية و لم يكن الآخر محتمل الأعلمية تعين الأخذ بقول مظنون الأعلمية.

مسألة: في بيان معنى الأعلم.

الظاهر انه ليس المراد به من هو أكثر حفظا للأخبار، أو اطلاعا بأحوال الرّواة، بل المراد به الأكثر تحقيقا بمباني الفقه من الأصول اللفظية، كبحث الظهورات من الأوامر و النواهي، و العام و الخاصّ، و من الأصول العملية من البراءة و الاحتياط و الاستصحاب، و موارد جريان كل منهما، و بحث التعادل و التراجيح، و أكثر خبرة بتطبيقها على مواردها كما في الأعلم في علم الطب، فانه عبارة عن الأعرف بقواعد الطب، و خصوصيات موارد التطبيق، و تشخيص الأمراض، فيعتبر في الأعلم كلا الأمرين، و لا ملازمة بينهما، إذ ربما يكون شخص أعرف بالمباني و القواعد، و هو مجتهد حقيقة، لكنه ليس كما تريد في تطبيقها على مواردها. و ربما ينعكس الأمر، كما قد يتفق ان أحدا يكون كثير المعرفة بالنحو لكنه لا يقدر على قراءة صفحة واحدة من الكلام العربي بدون غلط و قد ينعكس الأمر، فتأمل. و قد عاصرنا شخصا من العلماء ينكر الأعلمية، بدعوى ان المجتهد ان تمت الحجة لديه فهو مجتهد، و إلاّ فليس بمجتهد.

مسألة: هل يعتبر الحياة في التقليد،

فلا يجوز تقليد الميت. الأقوال فيه ثلاثة: القول بجواز تقليد الميت ابتداء و استمرارا، و قد ذهب إليه أكثر المحدثين، و تبعهم في ذلك المحقق القمي في جامع الشتات. و القول بالمنع عنه مطلق،

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 437‌

و التفصيل بين التقليد ابتداء فلا يجوز، و استمرارا فيجوز.

و ليعلم ان الكلام تارة: يقع فيما إذا علم مخالفة فتوى الميت مع الحي الّذي يجب تقليده. و أخرى: في فرض عدم العلم بالمخالفة.

أمّا المقام الثاني: فقد يستدل فيه على الجواز بالاستصحاب، فان فتواه قبل موته كانت حجة، و يشك في حجيته بعد موته، فيستصحب.

و قد أورد عليه بوجهين، فان الاستصحاب كما بين في محله متقوم بأمرين، اليقين بالحدوث و الشك بالبقاء، فأشكل على هذا الاستصحاب من كلتا الجهتين.

أما من جهة اليقين بالحدوث، فلأن المجتهد السابق لم يكن فتواه حجة على من كان معلوما في ذاك العصر، و انما كان فتواه حجة على من كان في عصره من العوام.

و فيه: أولا: ان حجية فتوى المجتهد غير مقيدة بخصوص المعاصرين له، بل هو حجة على جميع المكلفين، غايته ان المعدوم لم يكن قابلا لذلك، و الشك في حجيته بعد موته ليس لاحتمال اختصاص الحجية بالمعاصرين، و انما هو لاحتمال اعتبار الحياة في المجتهد. و هذا نظير ما ذكرناه في استصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة، حيث قلنا: ان أحكام تلك الشريعة لم تكن مختصة بأهل ذاك الزمان، و انما يشك في بقائها لاحتمال نسخها بالشريعة اللاحقة، و من هنا لو فرضنا بقاء ذاك المفتي إلى زمان وجود هذا المكلف أو وجوده قبل موته لكان فتواه حجة عليه قطعا، فحجية فتوى المجتهد السابق على نحو الإطلاق كانت متيقنة، سواء قلنا بأن الحجية عبارة عن جعل الحكم المماثل، كما ذهب إليه جمع من القدماء، أو منتزعة من الحكم التكليفي، أو بمعنى جعل الطريقية، أو التنجيز و التعذير على جميع المباني.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 438‌

و ثانيا: نفرض اختصاصها بالمعاصرين، إلاّ ان الإشكال حينئذ مختص بالتقليد الابتدائي، و لا يجري في البقاء و الاستمرار. بل لا يجري في التقليد الابتدائي على إطلاقه، لأن المكلف ان كان معاصرا للمجتهد الميت، و لم يكن مقلدا له، اما لتقليده عن غيره، أو نسيان أو عصيان، أو لكونه عاملا بالاحتياط، ثم أراد ان يقلده بعد موته، فان فتواه حينئذ كانت حجة عليه فعلا يقينا.

و أما الإشكال من ناحية الشك في البقاء، فربما يقال: بتبدل الموضوع في المقام، فان الميت و الحي بنظر العرف الّذي هو الميزان في الاستصحاب موضوعان متغايران، و ان كان الموت حقيقة و بالدقة كمالا للإنسان، و لذا يرى عامة الناس المعاد من إعادة المعدوم.

ثم أيد هذا الإشكال كما في الكفاية «1» بما إذا عدل المجتهد عن رأيه، أو زال علمه بجنون أو شيخوخة أو غير ذلك، فانه لا يجوز تقليده في جميع هذه الصور، و لا فرق بين الموت و بين هذه الأمور.

و فيه: ان المعتبر في الاستصحاب انما هو اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة عرفا، و هي حجية رأي المجتهد في المقام. توضيحه: ان الأحكام قد تكون تابعة لموضوعاتها حدوثا و بقاء، كما هو الغالب، مثل حرمة الخمر، فانها تدور مدار بقاء الخمرية و ارتفاعها. و قد تكون ثابتة بحدوث موضوعها حدوثا و بقاء، نظير السقوط عن الإمامة بمجرد ان يمد الإنسان على قول، و الفتوى من هذا القبيل، فان موضوعها حدوث الرّأي، كما في الاخبار و حجيته، فهو متيقن الحجية، و يشك في بقاء تلك الحجية، فالموضوع باق غير متبدل.

و أما النقض بالعدول فهو غير وارد، و ذلك لأن العدول عن الفتوى كالعدول‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 2- 443.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 439‌

عن الاخبار بإقرار الراوي بالاشتباه، فيسقط به الفتوى و النقل السابق عن الحجية حدوثا، فلا يقاس به الموت و نحوه.

و أما الجنون و النسيان فطروه و ان كان موجبا لسقوط فتوى المجتهد عن الحجية مع عدم سقوطه حدوثا، إلاّ أن عدم حجية الفتوى في الموردين لأحد أمرين، كليهما مفقود في الموت. إما لأجل ان منصب الفتوى من المناصب المهمة، الّذي لا يليق ان يتلبس به من ليس له أهلية ذلك، كالمجنون فانه غير لائق لذلك المنصب، و كذا من طرء عليه النسيان للشيخوخة و نحوها، بحيث صار كالصبي، و هذا بخلاف الموت، فانه كمال لا يوجب النقص. و اما للإجماع على عدم جواز تقليد المجنون و من عرض عليه النسيان، و هو أيضا غير متحقق في الموت، و من هنا نرى ان طرو شي‌ء من الجنون و النسيان و الفسق لا يوجب سقوط النقل السابق عن الحجية. و قد يوجد انّ أحدا يروى الحديث عن نفسه بواسطة، فالتمسك بالاستصحاب لا مانع منه، و يثبت به جواز تقليد الميت استمرارا و ابتداء.

هذا و لكن الاستصحاب غير جار.

أولا: لما بيناه في بحثه من عدم جريانه في الأحكام الكلية.

و ثانيا: انّا ذكرنا في بحث الاستصحاب انه و لو قلنا بجريانه في الأحكام الكلية، إلاّ انه مع ذلك لا يجري عند الشك في أحكام الشريعة السابقة، لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في أصل الجعل بالنسبة إلى من لم يكن من أهل تلك الشريعة، و الأصل عدمه، و الاستصحاب انما يجري فيما إذا كان الموضوع واحدا و شك في بقاء الحكم في نفس ذلك الموضوع و ارتفاعه بمزيل، كما إذا شك في زوال النجاسة عن الماء المتغير بعد زوال تغيره و عدمه، فيستصحب بقاؤها. و أما الموضوع الحادث فالشك فيه يكون في أصل الجعل، و الأصل عدمه.

ثم انّه قد يستدل على تقليد الميت بقيام السيرة عليه، فان العقلاء يرجعون‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 440‌

إلى فتاوى الميت، كما يرجعون إلى الحي، مثلا إذا عرفوا مرض المريض ففي تشخيص دوائه يرجعون إلى كتاب ابن سينا.

إلاّ انّها مردوعة أولا بالإجماع المدعى على عدم جواز تقليد الميت.

و ثانيا: بظاهر الاخبار و الآيات الواردة في التقليد، حيث أخذ فيها الرجوع إلى العارف و أهل الذّكر و المنذر و الفقيه و نحوها، و كلها منصرفة عن الميت.

فمن جميع ذلك يحصل القطع للإنسان بعدم جواز الرجوع إلى الميت، بل يلزم من جواز الرجوع إلى الميت ابتداء وجوب اجتماع جميع الناس على تقليد رجل واحد، و ذلك لما بيناه في فرض العلم بالمعارضة بين فتوائين من ان أدلة الحجية لا تشمل شيئا منهما، إلاّ ان سيرة العقلاء قائمة على الرجوع حينئذ إلى الأعلم، فضم هذه المقدمة إلى جواز تقليد الميت ابتداء كالحي ينتج أنه لا بد من تقليد جميع الناس إلى الأعلم في الأحياء و الأموات، للعلم الإجمالي بمخالفة العلماء في جملة من الفتاوى، فلا بد من الفحص عن الأعلم منهم، كالشهيد أو المحقق أو غيرهما من المجتهدين، و رجوع الجميع إليه نظير العامة حيث حصروا المجتهدين في اشخاص معدودين، و هذا بديهي البطلان.

و كل هذه الوجوه انما يكون في تقليد الميت ابتداء.

و أما البقاء على تقليد الميت، فلا يرد عليه بشي‌ء من الوجوه.

أما الإجماع فغير متحقق في المنع عنه، لوجود القول بجواز البقاء على تقليد الميت من جماعة من الاعلام.

و أما الأدلة فكذلك، لأن قوله سبحانه و تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)* ظاهره كون المسئول عنه حين السؤال كذلك، فإذا فرضنا ان المعنى حين السؤال كان من أهل الذّكر، و سألنا عنه ثم مات، و أردنا الاستمرار على ما سألناه منه، فالآية أجنبية عنه. و كذا قوله سبحانه و تعالى (وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) فان ظاهر تحقق عنوان‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 441‌

المنذر حين حدوث التحذر من الإنذار هو البقاء عليه. و كذا الروايات الواردة.

و أما الوجه الأخير فعدم جريانه في البقاء أوضح، حيث ان جواز الاستمرار لا يستلزم اجتماع الناس على رجل واحد، لأن البالغ في كل عصر يجب ان يقلد الأعلم في عصره لا في العصر السابق.

فالصحيح: هو التفصيل بين تقليد الميت ابتداء و استمرارا.

هذا كله في المقام الأول، أعني فرض عدم العلم بمخالفة فتوى الميت مع فتوى الحي.

و أما المقام الأول: أي ما إذا علم المخالفة، فتقليد الميت فيه ابتداء غير جائز بالطريق الأولى، لما تقدم. و أما استمرارا ففيه تفصيل، فان كان الحي أعلم فلا ريب في تعين الرجوع إليه، لأن المفضول لو كان حيا وجب العدول عنه، فضلا عما إذا كان ميتا. و أما إذا انعكس الأمر فالميت بمنزلة الحي فيجب البقاء على تقليده.

و ما ذكر من الإجماع على عدم وجوب البقاء على تقليد الميت، فالأمر دائر بين الجواز و المنع، فغير تام، لعدم تحقق الاتفاق، و على فرض تحققه لا يحصل منه الظن برأي المعصوم فضلا عن الاطمئنان.

و أما في فرض التساوي فتسقط فتوى الميت و الحي عن الحجية، للمعارضة، فلا بد من الاحتياط، و مع قيام الإجماع على عدم تعين الاحتياط على العامي فالتخيير.

فتحصل: انه لا بد من التفصيل في تقليد الميت أولا بين الابتدائي و الاستمراري، و في الاستمراري تارة يتعين العدول إلى الحي، و أخرى يجب البقاء على تقليد الميت، و ثالثة يتخير في ذلك. و على كل من حيث الاستمرار حال المجتهد الميت حال الحي.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 442‌

بقي في المقام فرعان:

الأول: أنهم فصلوا في جواز البقاء على تقليد الميت بين ما إذا عمل المقلد بفتوى المجتهد الميت قبل ذلك فيجوز له البقاء، و ما إذا لم يعمل به فلا يجوز و ان التزم بتقليده، أو تعلم فتاواه بقصد العمل به.

و الوجه فيه هو الخلاف في معنى التقليد، فانه لو كان عبارة عن العمل، فلا بد منه في جواز البقاء على تقليد الميت، لتحقق هذا العنوان و الدخول تحت هذه الكبرى. و ان كان عبارة عن الالتزام أو التعلم فلا يعتبر فيه البقاء، لصدق عنوان البقاء على التقليد بدونه أيضا.

لكنه توهم فاسد، لأن عنوان التقليد لم يرد في دليل لفظي ليدور الحكم مدار تحقق هذا العنوان، بل لا بد من الرجوع إلى مدرك جواز البقاء على تقليد الميت ليرى انه مختص بصورة العمل، أو يعم غيرها أيضا.

فنقول: مدرك جواز البقاء على تقليد الميت أحد أمور ثلاثة:

أحدها: الاستصحاب، و هو على تقدير جريانه غير مختص بصورة العمل، لأن فتوى المجتهد السابق كان حجة عليه و لو لم يعمل به، اما لعدم كونه محل ابتلائه، و إما لغير ذلك من عصيان أو نسيان أو غيره، فيشك في زوال حجيته بالموت، و الأصل بقائها.

ثانيها: سيرة العقلاء، فانها قائمة على الرجوع إلى الميت، و قد ردع عنها في الرجوع الابتدائي، للإجماع و الاخبار و العلم الخارجي، و اما في الاستمراري فلم يردع، إذ لا إجماع على المنع، و لا يعم الأخبار و الآيات الردع عن البقاء، و لم يعلم من الخارج خلافه، من غير فرق بين العمل سابقا و عدمه.

ثالثها: الاخبار الواردة في إرجاع الناس إلى الرّواة و العلماء، التي بإطلاقها تعم ما بعد الموت و عدم العمل بالفتوى سابقا.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 443‌

فالتفصيل لا وجه له، بل قد يجب البقاء على تقليد الميت كذلك، كما إذا كان أعلم من الحي. و قد يجب الرجوع، كما إذا انعكس الأمر، فانه لا بد من الرجوع إلى الحي الأعلم و لو عمل بفتوى الميت. و قد يتخير، كما في فرض التساوي أيضا، من غير فرق بين الصورتين.

الفرع الثاني: اعتبر بعض في عدم جواز العدول من الحي إلى الحي ان يكون المقلد قد عمل بفتوى المجتهد المعدول عنه، و إلاّ فلا بأس. و هو أيضا مبني على ما تقدم من الخلاف في معنى التقليد، و هو أيضا غير تام كما عرفت، بل لا بد من الرجوع و النّظر إلى دليل المنع عن العدول ليرى اختصاصه بصورة العمل، أو انه يعم صورة عدم العمل أيضا.

فنقول قد يجب العدول، كما إذا كان المعدول إليه أعلم من المعدول عنه. و في هذا الفرض لا يفرق بين العمل المعدول عنه و عدمه، سواء كان التقليد بمعنى العمل، أو الالتزام، أو التعلم، أو غير ذلك.

و قد يحرم العدول، كما إذا كان المعدول عنه أعلم. و هذا أيضا لا يفرق فيه بين العمل و عدمه، و لا بين الأقوال في حقيقة التقليد.

و ثالثة: يكونان متساويين. و في هذا الفرض ان نسي المقلد فتوى المجتهد السابق، الّذي تعلمه و عمل به، فلا يعلم بمخالفته لفتوى المعدول إليه، فلا مانع له من الرجوع إلى الثاني، إذ يعمه حينئذ أدلة التقليد، كالآيات و الاخبار و السيرة.

و أما إذا كان عالما بفتوى السابق، و علم بمخالفته لفتوى المجتهد الّذي يريد العدول إليه، فقد عرفت أن أدلة حجية الفتوى لا يعم موارد التعارض، و مقتضى القاعدة في المتعارضين هو سقوط كل منهما. إلاّ انّا ذكرنا ان السيرة قائمة على الرجوع إلى الأعلم في فرض المعارضة.

و أما إذا لم يكن أحدهما أعلم، كما هو المفروض، فليس هناك سيرة من‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج‌4، ص: 444‌

العقلاء. و عليه فلا بد للمقلد من الاحتياط، و لا يجوز له الرجوع إلى المعدول عنه، و لا إلى المعدول إليه. فان تم ما ادعاه الشيخ من الإجماع على عدم تعين الاحتياط على العامي، فيكون المقام من دوران الأمر بين التعيين و التخيير، فان فتوى المعدول عنه حجة عليه تعيينا سواء عمل به أو لم يعمل، بخلاف فتوى المعدول إليه فعلى كل التفصيل بين العمل بفتوى المجتهد السابق و عدمه لا وجه له على جميع التقادير.

و الحمد للّه رب العالمين أولا و آخرا، و صلى اللّه على سيد النبيين محمد و آله الطاهرين، و اللعنة على أعدائهم أجمعين.

قد وقع الفراغ من هذه الدورة- و هي الثالثة- في ليلة الاثنين لخمس عشرة خلون من شهر جمادى الثانية سنة ألف و ثلاثمائة و خمسا و سبعين.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net