الأول و الثاني البول و الغائط 

الكتاب : فقه الشيعة - كتاب الطهارة ج‌2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8751

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌2، ص: 272

[فصل في النجاسات:]

______________________________
و هي اثنتا عشرة 1- البول 2- الغائط 3- المنى 4- الميتة 5- دم ما لا نفس سائلة له 6- الكلب 7- الخنزير 8- الكافر 9- الفقاع 11- عرق الجنب من الحرام 12- عرق الإبل الجلّالة

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 273‌

..........

______________________________
البول و الغائط من الحيوان المحرم أكله، بول الطيور و خرؤها، خرؤ الخفاش و بوله، أبوال الدواب، أبوال ما لا نفس له، ملاقاة النجاسة في الباطن، بيع النجاسات، حكم الحيوان المشكوك، لحم الحيوان المشكوك، قبول التذكية، فضلة الحيّة و التمساح،

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 274‌

فصل النجاسات اثنتا عشرة

[الأول و الثاني البول و الغائط]

«الأول و الثاني» البول و الغائط من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه (1).

______________________________
فصل في النجاسات و هي اثنتا عشرة الأول و الثاني «البول و الغائط»

(1) لا اشكال و لا خلاف في نجاستهما من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه في الجملة و ان وقع الكلام في بعض مصاديقه- كالطير و الخفاش على ما سيأتي- بل لا يبعد دعوى ضرورية الحكم عند المسلمين قاطبة. و ما كان هذا حاله لا حاجة فيه الى الاستدلال، إلا انه مع ذلك هناك روايات كثيرة مستفيضة، أو متواترة يمكن الاستدلال بها على المطلوب.

(منها): ما تدل على نجاسة البول مطلقا، و هي عدة روايات (منها):

صحيح محمد بن مسلم «1» عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن البول يصيب الثوب؟ فقال: اغسله مرتين».

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1001 الباب 1 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 275‌

..........

______________________________
هذا لو لم نقل بانصرافها الى بول الآدمي، و إلا فتدل على نجاسة بوله خاصة، دون غيره.

و (منها): ما تدل على نجاسة بول كل ما لا يؤكل لحمه كحسنة عبد اللّه ابن سنان «1» قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه».

و عنه بطريق آخر [1] عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه».

و الأمر بالغسل- في أمثال المقام- إرشاد إلى نجاسة المغسول منه قطعا لعدم احتمال الوجوب التعبدي، بل لم نستفد نجاسة جملة من النجاسات إلا من الأمر بغسل ملاقيها- كما ستمر عليك- هذا كله في البول على نحو العموم و قد ورد النص على نجاسته في بعض الموارد الخاصة أيضا [2].

و أما الغائط فإنه و إن لم يرد على نجاسته دليل عام، إلا أنه يتم الحكم فيه بعدم القول بالفصل بينه، و بين البول- من حيث الطهارة و النجاسة- بل استقر ارتكاز المتشرعة على عدم الفرق بينهما في ذلك، و هو كاشف عن‌

______________________________
[1] الوسائل ج 2 ص 1008 الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 3 و هي- عن الطريق الثاني- ضعيفة بالإرسال لقطع السند بين «علي ابن محمد بن بندار» و «عبد اللّه بن سنان» لاختلاف طبقتهما و بنفس علي بن محمد حيث انه لم يرد تصريح بوثاقته غير انه من مشايخ الكليني.

[2] كما ورد ذلك في السنور كما في موثقة سماعة عن الصادق- ع- قال: «ان أصاب الثوب شي‌ء من بول السنور فلا تصح الصلاة فيه حتى تغسله» (الوسائل ج 2 ص 1007 الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 1).

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1008 الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 276‌

..........

______________________________
ثبوت الحكم في الشريعة المقدسة.

هذا مضافا الى ورود النص في بعض الموارد الخاصة التي لا يحتمل الفرق بينها و بين غيرها، كما ورد في الاستنجاء من الغائط «1» و ما ورد في العذرة يطأها الرجل [1] أو حيوان آخر [2] من الأمر بغسل ما أصابته، أو النهي [3] عن الوضوء من الماء الذي دخله ذاك الحيوان الا أن يكون الماء كرا، و ما ورد من الأمر بإعادة الصلاة إذا كان يعلم ان في ثوبه عذرة من إنسان أو كلب أو سنور [4] و ما ورد من الأمر بطرح الدقيق الذي أصابته‌

______________________________
[1] كرواية الحلبي عن ابي عبد اللّه- ع- «في الرجل يطأ في العذرة، أو البول أ يعيد الوضوء؟

قال: لا، و لكن يغسل ما أصابه» (الوسائل ج 1 ص 194 الباب 10 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 2).

ضعيفة بسهل بن زياد و محمد بن سنان.

[2] كصحيح موسى بن القاسم عن علي بن محمد قال: «سألته عن الفأرة، و الدجاجة، و الحمام و أشباهها تطأ العذرة، ثم تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: ان كان استبان من أثره شي‌ء فاغسله، و إلا فلا بأس» (الوسائل ج 2 ص 1054 الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 3).

[3] كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى- ع- قال: «سألته عن الدجاجة، و الحمامة، و أشباههما تطأ العذرة، ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء» (الوسائل ج 1 ص 117 الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 4).

[4] كصحيح عبد الرحمن ابن ابي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصلي و في ثوبه عذرة من انسان، أو سنور، أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: ان كان لم يعلم فلا يعيد» (الوسائل ج 2 ص 1060 الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 5) و مفهومه وجوب الإعادة إذا علم.

______________________________
(1) تقدمت رواياته في بحث الاستنجاء.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 277‌

..........

______________________________
خرء الفأرة [1] الى غير ذلك مما يظن، أو يطمأن بعدم الفرق بينه و بين غيره مما لم ينص عليه بالخصوص من الحيوان المحرم أكله، و من الظاهر أن الأمر و النهى في أمثال المقام إرشاد إلى النجاسة.

بل يمكن الاستيناس للمطلوب بما دل [1] على طهارة مدفوع ما يؤكل لحمه، فإنه يشعر بنجاسته من غير المأكول. و نحن و إن قربنا أخيرا ثبوت المفهوم للوصف، إلا أنه ليس بمعنى العلية المنحصرة، بل بمعنى أصل الدخل و العلية، فلا ينافي ثبوت الحكم بعنوان آخر، و عليه تقصر هذه الروايات عن الدلالة على المطلوب، و إن كانت لا تخلو عن الاشعار به.

و مثلها ما دل [3] على طهارته من الطائر، و النسبة- بين هذه، و بين ما دل على نجاسته من غير المأكول- و إن كانت العموم من وجه، إلا أنه مع ذلك لا بد من تقديمها على تلك، كما سيأتي تقريبه في بول الخفاش.

فيستشعر من هاتين الطائفتين بعد ضم إحداهما إلى الأخرى أنه لو‌

______________________________
[1] عن علي بن جعفر في المسائل عن أخيه- ع- قال: «سألته عن الدقيق يقع فيه خرء الفأرة هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال: إذا لم تعرفه فلا بأس، و إن عرفته فاطرحه» (البحار ج 4 ص 155).

و موثقة عمار عن ابي عبد اللّه- ع- «انه سئل عن الدقيق يصيب فيه خرء الفأر هل يجوز اكله؟

قال: إذا بقي منه شي‌ء فلا بأس، يؤخذ أعلاه» (الوسائل ج 2 ص 1008 الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 6).

[2] كموثقة عمار عن ابى عبد اللّه- ع- قال: «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» (الوسائل ج 2 ص 1011 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 12).

[3] كموثقة أبي بصير عن ابى عبد اللّه- ع- «كل شي‌ء يطير فلا بأس ببوله، و خرئه» (الوسائل ج 2 ص 1013 الباب 10 من أبواب النجاسات، الحديث 1).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 278‌

إنسانا، أو غيره، بريا أو بحريا، صغيرا أو كبيرا (1) بشرط أن يكون له دم سائل (2) حين الذبح. نعم في الطيور المحرمة الأقوى عدم النجاسة (3)

______________________________
كان الحيوان مأكول اللحم، أو طائرا لم يكن بوله أو خرؤه نجسا بخلاف ما لو كان محرما غير طائر، فإنه يحكم بنجاستهما فيه.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في نجاستهما من حيوان لا يؤكل لحمه في الجملة و إنما وقع الكلام في موردين: (أحدهما)- في بول، و خرء الطائر الذي لا يؤكل لحمه. (الثاني)- في خصوص الخفاش، و سيأتي الكلام فيهما.

(1) لإطلاق النصوص المتقدمة «1» أو عمومها، و خلاف ابن جنيد في بول الرضيع، أو الصبي قبل ان يأكل اللحم أو الطعام ضعيف، لضعف مستنده، كما يأتي، كما أن وجود حيوان بحري ذي نفس سائلة غير معلوم. نعم لو وجد- كالتمساح، على ما حكى عن الشهيد «قده» من أنه ذو نفس سائلة- كان من صغريات المقام.

(2) لما يأتي- بعيد هذا- من دلالة النصوص على طهارتهما مما لا نفس له كالسمك المحرم، و نحوه.

خرء الطيور المحرّمة و بولها

(3) اختلف الأصحاب في بول و خرء الطيور المحرمة على أقوال ثلاثة: (أحدها)- القول بنجاستهما و هو المشهور. (ثانيها)- القول بالطهارة‌

______________________________
(1) في ص 274- 275.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 279‌

..........

______________________________
كما عن جمع من الأصحاب كالجعفى، و الحسن ابن أبى عقيل العماني
«1» و الصدوق في الفقيه، و الشيخ في المبسوط مستثنيا بول الخفاش، و تبعهم جملة من المتأخرين «2» منهم العلامة في المنتهى، و صاحب الحدائق «3» و غيرهما.

(ثالثها)- القول بطهارة الذرق مع التردد في حكم البول، كما عن المدارك «4» و البحار، و الذخيرة، و غيرهم.

و لا يخفى: أن منشأ اختلاف الأقوال في المقام إنما هو اختلاف الروايات الواردة فيه، و اختلاف كيفية الجمع بينها- حسب اختلاف الأنظار- فإذن لا بد من ذكرها، و بيان ما هو الصحيح في طريق الجمع، و هي على طوائف:

الأخبار و طرق الجمع (الأولى)- ما دلت بإطلاقها على نجاسة مطلق البول، سواء أ كان من مأكول اللحم، أم من غيره، و سواء أ كان من الطائر، أم غيره.

(منها)- صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة «5».

و (منها)- صحيحته الأخرى «6» قال: «سألت أبا عبد اللّه‌

______________________________
(1) كما في مفتاح الكرامة ج 1 ص 136.

(2) راجع كتاب الجواهر ج 5 ص 275 طبعة النجف الأشرف.

(3) ج 5 ص 11 طبعة النجف الأشرف.

(4) كما في الجواهر ج 5 ص 275 طبعة النجف الأشرف.

(5) في ص 274.

(6) الوسائل ج 2 ص 1002 الباب 2 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 280‌

..........

______________________________
عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال: اغسله في المركن مرتين، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة».

و (منها)- حسنة حسين ابن أبى العلاء «1» قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البول يصيب الجسد؟ قال: صب عليه الماء مرتين.»‌

و هذه الروايات تشمل بإطلاقها جميع أقسام البول حتى ما كان من الطائر غير المأكول لو لم نقل بانصرافها الى بول الإنسان.

(الطائفة الثانية)- ما تدل على نجاسة بول خصوص ما لا يؤكل لحمه كصحيح عبد اللّه بن سنان، أو حسنته المتقدمة «2» بضميمة عدم القول بالفصل بين البول و الخرء، و إطلاقها يشمل الطائر و غيره.

(الطائفة الثالثة)- ما تدل على طهارتهما من الطائر، و هي أيضا مطلقة تشمل محرم الأكل و محلله.

كموثقة أبي بصير «3» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: «كل شي‌ء يطير فلا بأس ببوله و خرئه».

و النسبة بين الأخيرتين العموم من وجه، لأن كلا منهما أعم من جهة، و أخص من جهة أخرى، كما هو واضح، و مادة الاجتماع الطائر المحرم أكله، فتتعارضان فيه، لأن مقتضى حسنة ابن سنان نجاسة فضلاته، و مقتضى الموثقة طهارتها.

و المشهور رجحوا الحسنة إما لكونها أشهر، أو أصح سندا، فذهبوا‌

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1001 الباب 1 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(2) في ص 275.

(3) الوسائل ج 2 ص 1013 الباب 10 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 281‌

..........

______________________________
الى القول بالنجاسة. و ربما يقال بالتساقط لعدم الترجيح بما ذكر، فلا بد من الرجوع الى العام الفوق، و هو في المقام الطائفة الاولى، و هي تدل على نجاسة البول من مطلق الحيوان، فتكون النتيجة أيضا القول بالنجاسة.

و قد سلك شيخنا الأنصاري «قده» مسلكا ثالثا في ترجيح مقالة المشهور حيث جمع بين الطائفتين بحمل الموثقة على خصوص المأكول من الطير، فيكون غير المأكول باقيا تحت إطلاق الحسنة، و استشهد على هذا بما اعتمد عليه من:

رواية العلامة في (المختلف) نقلا عن كتاب عمار بن موسى «1» عن الصادق عليه السّلام قال: «خرء الخطاف لا بأس به، هو مما يؤكل لحمه، و لكن كره أكله، لأنه استجار بك، و آوى الى منزلك، و كل طير يستجير بك فأجره».

بدعوى دلالة تعليل طهارة خرء الخطاف بكونه مأكول اللحم على أن الملاك في الطهارة هو كون الحيوان مأكول اللحم، لا الطيران، لأنه لو كان هو الموجب لها لكان الأنسب التعليل به دونه، فعليه يكون الطائر المحرم أكله باقيا تحت عموم الحسنة الدالة على النجاسة.

أقول: الصحيح هو القول بطهارة بول الطائر و خرئه مطلقا- المأكول و غيره- كما ذهب إليه جملة من المتأخرين ممن تقدم ذكر بعضهم و اختاره في المتن، و ذلك لفساد جميع الطرق الثلاثة المشار إليها التي سلكوها في معارضة حسنة ابن سنان مع موثقة أبي بصير، لترجيح قول المشهور.

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1012 الباب 9 من أبواب النجاسات الحديث 20. و في الباب 39 من أبواب الصيد، الحديث 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 282‌

..........

______________________________
أما طريقة المشهور من ترجيح الحسنة على الموثقة فإن كانت من أجل الشهرة، فيدفعها أن الشهرة في المقام إنما هي الشهرة في الفتوى، لا الشهرة في الرواية. و قد حقق في محله عدم كونها من مرجحات باب التعارض، لأن المراد بالشهرة في ذاك الباب الشهرة في الرواية، بمعنى ظهورها، و معلومية صدورها، و وضوح حالها عند الرواة، بحيث تكون الرواية المعارضة من الشاذ النادر الساقط عن الحجية، و الحسنة في المقام لم تكن بهذه المثابة و إن كانت الروايات الدالة على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه أكثر عددا. و إن كانت من أجل أصحية السند، فيدفعها أنه قد حققنا في بحث التعادل و التراجيح: أن صفات الراوي لا تكون من المرجحات في باب تعارض الروايات، و إن رجح بها بعضهم، بل هي من المرجحات في باب القضاء، فمجرد كون رواية ابن سنان صحيحة- على ما في تعبير بعضهم- لا يوجب تقديمها على الموثقة، على أنه عبر عنها في الحدائق و غيره بالحسنة، و الظاهر انه لوقوع «إبراهيم بن هاشم» في طريقها، فلم تثبت انها صحيحة عند الجميع.

و أما توهم الترجيح بموافقة السنة، بدعوى موافقة الحسنة للروايات المطلقة الدالة على نجاسة مطلق البول، فيدفعه أنه على تقدير تسليم المعارضة فالمطلقات أيضا طرف للمعارضة بناء على ما هو الصحيح من انقلاب النسبة كما حققنا في محله، فلو كان للعام مخصص منفصل لوحظت نسبته بعد التخصيص فاذن لا بد من تقييد المطلقات بما دل «1» على طهارة بول مأكول‌

______________________________
(1) تقدم بعض روايته في تعليقة ص 277 و راجع الوسائل ج 1 ص 1011 في الباب 9 من أبواب النجاسات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 283‌

..........

______________________________
اللحم، فيكون الباقي تحتها بعد التقييد بول محرم الأكل فتتفق مع الحسنة في الدلالة على نجاسة بول خصوص ما يحرم أكله، فيكون الجميع طرفا للمعارضة مع الموثقة، و بعد التساقط في الطائر غير المأكول يرجع الى قاعدة الطهارة في بوله و خرئه.

هذا كله لو لم نقل بانصراف المطلقات الى بول الآدمي، أو بتوقف صدق موافقة الكتاب أو السنة على كونها بالعموم، لا الإطلاق. أى على كون الدلالة لفظية لا بمقدمات الحكمة، و إلا فالجواب أظهر، فتأمل.

و أما طريقة الشيخ «قده» و هي الجمع بينهما بقرينة رواية المختلف فيدفعها أولا- أنه لم يظهر من الرواية ان قوله عليه السّلام: «هو مما يؤكل لحمه» علة للحكم بطهارة خرء الخطاف، لقوة احتمال أن يكون حكما مستقلا في قبال الحكم الأول، فكأنه عليه السّلام بين للخطاف حكمين: أحدهما- طهارة خرئه، و الثاني- جواز أكل لحمه.

و مما يؤيد ذلك استدراكه بقوله عليه السّلام: «و لكن كره أكله» إذ هو قرينة على انه عليه السّلام بصدد بيان أحكام هذا الطائر من طهارته، و جواز أكل لحمه، لكن على كراهة.

و ثانيا- أنه لو سلم ظهورها في التعليل كانت معارضة برواية «1» الشيخ لها بإسقاط كلمة «الخرء» و عليها تكون أجنبية عما نحن فيه، لأنها في مقام بيان حكم نفس الخطاف دون بوله، و مع الاختلاف في النقل تكون مضطربة المتن، ساقطة عن الحجية.

و بالجملة: لا يمكن ترجيح الحسنة على الموثقة، و لا حملها على غير‌

______________________________
(1) الوسائل ج 16 ص 299 الباب 39 من أبواب الصيد، الحديث 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 284‌

..........

______________________________
المأكول، فلم يبق في البين إلا دعوى التساقط، و الرجوع إلى إطلاقات الفوق الدالة على نجاسة مطلق البول، و هي أيضا غير تامة، لأن المعارضة بينهما و إن كانت بالعموم من وجه، إلا أنه لا بد من تقديم الموثقة، لأن دلالتها بالعموم لاشتمالها على لفظة «كل» بخلاف الحسنة فإنها بالإطلاق. و قد حرر في محله لزوم تقديم الظهور التنجيزي على التعليقي.

نعم هناك رواية أخرى «1» لابن سنان تعارض الموثقة بالعموم، لاشتمالها أيضا على لفظة «كل» لقوله عليه السّلام فيها: «اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه» إلا أنها- لضعف السند [1]- لا تصلح لمعارضة الموثقة.

و مع التسليم لا بد من تقديم الموثقة أيضا و ذلك لوجهين آخرين:

(الأول)- هو أنه لا بد في استقرار المعارضة بين العامين من وجه من عدم استلزام تقديم أحدهما حمل الطرف الآخر على الفرد النادر، أو المعدوم، و إلا وجب العكس صونا للكلام عن اللغوية، و هذا هو أحد المرجحات التي ذكروها لتقديم أحد العامين من وجه على الآخر.

و على هذا لو قدمنا الحسنة على الموثقة، و حكم بنجاسة بول الطائر غير المأكول للزم حمل الموثقة على الفرد النادر، أو المعدوم، لأن الباقي تحتها‌

______________________________
[1] بالإرسال لقطع السند في الوسط، لأن الكليني يرويها عن علي بن محمد، عن عبد اللّه بن سنان، عن ابى عبد اللّه- ع- و علي بن محمد هو «علي بن محمد بن بندار» من مشايخ الكليني «قده» و هو لم يدرك عبد اللّه بن سنان الذي هو من أصحاب الصادق- ع- فكيف يمكن روايته عنه؟ فلا بد من سقوط الواسطة بينهما. على ان «علي بن محمد» لم يصرح بوثاقته غير انه من مشايخ الكليني، و لو ثبت اتحاده مع علي بن محمد ابن ابى القاسم لكان ثقة، فراجع. (تنقيح المقال ج 2 ص 303).

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1008 الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 285‌

..........

______________________________
حينئذ هو الطائر المأكول اللحم، و لم يعهد له بول، و هذا بخلاف العكس، إذ لو قدمت الموثقة على الحسنة، و قيد بها إطلاقها. بقي تحت الحسنة غير الطائر من الحيوانات المحرم أكلها، و هي كثيرة.

بل ربما يدعى انصراف الحسنة عن الطائر رأسا، لعدم معهودية بول للطير، أو ندرته، كما في الخفاش، هذا.

و لكن يمكن المناقشة في هذا الوجه بما قاله بعضهم من أن بول الطائر يخرج مع ذرقه من مخرج واحد دفعة واحدة، فلا يخرج من مخرج مستقل، و لا مستقلا عن الذرق، لا أنه ليس له بول رأسا، و مما يشهد بصدق هذه الدعوى ملاحظة ذرق الدجاج، و غيرها من الطيور الأهلية، فإنه قد يشاهد فيها مائع يشبه الماء، فليكن هو بولها، و عليه لا يصلح هذا الوجه لتقديم الموثقة على الحسنة، بل المعتمد هو (الوجه الثاني): و هو ان تقديم الحسنة يوجب لغوية عنوان الطائر في الموثقة، إذ الباقي تحتها بعد التخصيص هو المأكول من الطائر، فالنجاسة و الطهارة تدوران مدار حرمة اللحم و حليته، فلم يبق لعنوان الطائر دخل في الحلية، فيصبح أخذه في موضوع الطهارة في الموثقة لغوا محضا، و ذكر عنوان لا دخل له في الحكم مستهجن عرفا، و هذا بخلاف العكس، فإنه لو قدمت الموثقة، و قيد بها إطلاق الحسنة كان الباقي تحتها ما حرم أكله من غير الطائر، و هذا لا محذور فيه، لأن عنوان ما لا يؤكل لحمه لم يسقط بذلك عن الموضوعية لنجاسة البول، بل غاية ما هناك أنه قيد بغير الطائر، و هذا مما يوجب صيرورة الموثقة في حكم الخاص المطلق، و لزوم تقديمها على الحسنة تقدم الخاص على العام، فتكون نتيجة الجمع بينهما أنه لا بد في النجاسة من اجتماع قيدين «أحدهما» حرمة لحم الحيوان و «الثاني» عدم كونه طائرا و‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 286‌

لكن الأحوط (1) فيها أيضا الاجتناب خصوصا الخفاش (2)

______________________________
مع انتفاء أحدهما يحكم بالطهارة، و هذا الوجه يستدعي تقدم أحد العامين من وجه على الآخر مطلقا، و لو كان دلالته بالإطلاق، و دلالة الآخر بالعموم، لأنه يجعله بمنزلة النص، فلا يفرق في ذلك بين كون الحسنة عاما أو مطلقا، فإن الموثقة تتقدم عليها على أى حال.

على أنه لو سلم المعارضة لا يمكن الرجوع الى المطلقات على ما عرفت من انقلاب النسبة، فالمرجع قاعدة الطهارة.

و تحصل من جميع ما ذكرناه: انه ليس الوجه في تقديم الحسنة على الموثقة- عند الأصحاب- إعراض المشهور عن الموثقة- كما توهم- بل الوجه فيه دعوى الشهرة، أو أصحية السند، أو موافقة السنة- على ما عرفت- و لو سلم فليس الاعراض قادحا في الحجية عندنا- كما مرّ مرارا- كما أنه ليس العمل جابرا لضعف السند.

فالأوفق بالقواعد، و الأظهر بحسب الأدلة طهارة بول الطائر، و خرئه مطلقا، و إن لم يكن مأكول اللحم. هذا كله في غير الخفاش، و أما هو فيأتي الكلام فيه بعيد هذا.

(1) خروجا عن مخالفة المشهور، و ان كان مستندهم ضعيفا- كما عرفت.

خرء الخفاش و بوله

(2) الظاهر ان نظره «قده» في تخصيص الخفاش بالاحتياط الى ما ورد من النص الدال على نجاسة بوله- و هو خبر داود الرقي الآتي- و إن و‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 287‌

خصوصا بوله (1)

______________________________
كان ضعيفا بضميمة الإجماع على عدم الفرق بين خرء الحيوانات، و بولها في الطهارة و النجاسة، و يظهر من ذلك وجه أشدية الاحتياط في بوله، لأنه بنفسه مورد النص، هذا.

و لكن الصحيح أن غيره من الطيور المحرم الأكل أولى بالاحتياط منه، لما يأتي من طهارة فضلات ما لا نفس له من الحيوانات- الطير أم غيره- و قد اختبرنا هذا الطائر- مضافا الى شهادة جماعة- و لم نجد لها نفسا سائلة فينبغي القطع بطهارة خرئه- الذي لا نص على نجاسته- [1].

و الظاهر ان المشهور القائلين بنجاسة خرء الخفاش إنما قالوا بذلك زعما منهم أن لها نفسا سائلة، و حيث أنهم قائلون بنجاسة فضلات مطلق الحيوان غير المأكول الطائر أم غيره طبقوا تلك الكبرى على هذا الطائر أيضا، و التزموا بنجاسة خرئه، و لكن الصحيح عدم الانطباق بعد تخصيصها بما لا نفس له، هذا كله في خرئه، و يأتي الكلام في بوله.

(1) لما عن المختلف من دعوى الإجماع على نجاسته، و عن الشيخ في المبسوط التصريح بنجاسته مستثنيا له عن بول سائر الطيور المحرم الأكل مستندا في ذلك- على ما حكى عنه- إلى رواية داود الرقى «2» قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي، فأطلبه فلا أجد؟ فقال: اغسل ثوبك».

أقول: أما الاستدلال بالإجماع ففيه ما لا يخفى- كما مر غير مرة- هذا‌

______________________________
[1] بل في رواية المختلف التصريح بعدم البأس بخرئه، إلا أنها معارضة برواية الشيخ بحذف «الخرء» كما تقدم في ص 283.

______________________________
(2) الوسائل ج 2 ص 1013 الباب 10 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 288‌

..........

______________________________
مضافا الى أنه لم يصرح الأصحاب بنجاسة بوله بالخصوص، إذ لم ينسب التصريح بذلك إلا الى الشيخ «قده» في المبسوط- كما أشرنا. نعم قامت الشهرة على نجاسة بول مطلق ما لا يؤكل لحمه، و إن كان طائرا، فطبق ذلك على بول الخفاش أيضا.

و أما الاستدلال برواية داود الرقى ففيه أولا: أنه لا بد من حمل الأمر بالغسل فيها على التنزيه، دون الإرشاد إلى النجاسة لما يأتي قريبا من الإجماع القطعي على طهارة فضلات ما لا نفس له، و قد ذكرنا شهادة الاختبار على أن هذا الطائر ليس له نفس سائلة، و لا نحتمل تخصيص تلك الكبرى بالنسبة الى هذا الفرد بمثل هذه الرواية، و إنما قال من قال بنجاسة بوله زعما منه أن له نفسا سائله، و مع قطع النظر عن ذلك فيرد عليه ثانيا:

أنها ضعيفة السند [1] و ثالثا: أنها معارضة برواية غياث «2» عن جعفر عن أبيه قال: «لا بأس بدم البراغيث و البق، و بول الخشاشيف».

و رواية البحار «3» عن الراوندي في كتاب النوادر أنه روى بسنده فيه عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: «سئل على ابن أبى طالب عليه السّلام عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخفافيش، و دماء البراغيث؟ فقال: لا بأس».

______________________________
[1] لأن في طريق الرواية «موسى بن عمر، عن يحيى بن عمر» و كلاهما لم يوثقا، و في طريق ابن محبوب «موسى بن عمر، عن بعض أصحابه».

______________________________
(2) الوسائل ج 2 ص 1013 الباب 10 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(3) ج 18 ص 26 الطبعة القديمة، و ج 80 ص 110 ح 13 الطبعة الحديثة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 289‌

و لا فرق في غير المأكول بين أن يكون أصليا كالسباع، و نحوها أو عارضيا (1)

______________________________
و لعل الترجيح مع المعارض، لقوة السند [1] و أظهرية الدلالة، لصراحة نفى البأس في نفى النجاسة، فيكون قرينة على حمل الأمر بالغسل في رواية داود على الاستحباب. و رابعا: أنه لو سلم تكافؤ الطرفين سندا، و دلالة، و سقوطهما بالمعارضة كان المرجع عموم ما دل على طهارة فضلات ما لا نفس له، هذا لو جزمنا بذلك، و مع الشك فيه كان المرجع قاعدة الطهارة، إذ لا مجال للرجوع الى عموم ما دل على نجاسة فضلات الحيوان غير المأكول، أو ما دل على نجاسة البول مطلقا- لو تم- لأنه بعد تخصيصه بما لا نفس له يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. فتحصل: أن الأقوى طهارة بول الخفاش فضلا عن خرئه.

(1) لإطلاق حسنة عبد اللّه بن سنان، أو عموم روايته الأخرى، فإنهما كما تشملان المحرم الأصلي كذلك تشملان المحرم العرضي- كالأمثلة المذكورة في المتن- فان عنوان «ما لا يؤكل لحمه» صادق على الجميع، و لا وجه لإلغاء العنوان، و جعله مشيرا الى الذوات الخارجية المحرم الأكل بالذات- كالسباع- بعد ظهور الدليل في كونه بنفسه موضوعا للحكم، و‌

______________________________
[1] بل الأظهر اعتبار سند رواية غياث، لأنه إن كان فيه كلام ففي غياث و هو «غياث بن إبراهيم التميمي الأسيدي» و الصحيح انه ثقة، أو موثق، و ثقة النجاشي من غير غمز في مذهبه، و كذا العلامة في الخلاصة، إلا انه قال: و كان تبريا- و هم من فرق الزيدية- و تضعيف بعض المتأخرين له ضعيف، فراجع «تنقيح المقال ج 2 ص 366».

نعم رواية البحار لا يمكن الاعتماد عليها إذ لم نتحقق سند الراوندي إلى موسى بن جعفر- ع- في كتاب النوادر.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 290‌

كالجلال و موطوء الإنسان، و الغنم الذي شرب لبن خنزيرة، و أما البول و الغائط من حلال اللحم فطاهر (1)

______________________________
هذا نظير ما ذكرناه في باب لباس المصلى من أن الأظهر بطلان الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و لو كانت الحرمة عرضية، لظهور موثقة ابن بكير [1] في أن العبرة بمجرد حرمة اللحم، و إن كانت عرضية.

نعم: لا ينبغي توهم شمول الحكم بالنجاسة في المقام، أو المنع عن الصلاة في باب لباس المصلى للعناوين المحرمة بالنسبة الى بعض، دون بعض، كالضرر، و النذر، و الغصب، و نحو ذلك من العناوين الطارئة الموجبة لحرمة الحيوان في حق بعض المكلفين، فإن أكل المضر حرام بالنسبة الى من يضره، دون غيره، و كذلك أكل منذور الترك حرام على الناذر، دون غيره، إذ المراد من محرم الأكل هو ما كان كذلك بحسب طبعه، و بالنسبة الى جميع المكلفين سواء كان ذاتيا، أم عرضيا، فان الجلال- مثلا- حرام على الجميع، و هكذا الموطوء، و الغنم الشارب لبن الخنزيرة، حتى اشتد عظمه، كالمحرم بالأصالة. نعم: قد يصير جميع ذلك حلالا بالعرض، حتى المحرمات الأولية من جهة الاضطرار إلى أكلها، إلا أن ذلك لا ينافي حرمتها الذاتية في حق الجميع، و إن شئت فقل: أنه لا بد من حرمة اللحم بما أنه لحم حيوان، لا بما أنه مضر، أو مغصوب، و نحو ذلك.

(1) للإجماع القطعي على طهارتهما من كل حيوان معد للأكل، كالغنم و الإبل، و البقر، و نحوها و هذا مما لا اشكال، و لا خلاف فيه، و تدل عليه‌

______________________________
[1] الوسائل ج 3 ص 250 الباب 2 من أبواب لباس المصلى، الحديث 1، و يأتي نقلها في البحث عن نجاسة أبوال الدواب الثلاث، فلاحظ التعليقة هناك.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 291‌

حتى الحمار، و البغل، و الخيل (1)

______________________________
جملة من النصوص الآتية [1] المصرحة بطهارة ما يخرج من كل حيوان يؤكل لحمه، و القدر المتيقن منها ما يكون معدا للأكل.

أبوال الدواب الثلاث و أرواثها

(1) اختلفت الأقوال في أبوال الدواب الثلاث، و أرواثها (أحدها) القول بطهارتهما على كراهة، و هو المشهور بين الأصحاب قديما، و حديثا، (ثانيها) القول بنجاستهما- كما عن ابن الجنيد، و الشيخ في النهاية من قدماء أصحابنا الإمامية. (ثالثها) القول بنجاسة أبوالها دون أرواثها نظرا الى أن الأخبار الواردة إنما تدل على نجاسة أبوالها، لا غير. ذهب اليه بعض متأخري المتأخرين، و قد أصر عليه صاحب الحدائق «قده» أشد الإصرار حتى قال: «إن القائلين بالطهارة فيها لم يعطوا المسألة حقها من التحقيق» و عن المحقق الأردبيلي «قده» الميل الى هذا القول، و استظهر في الحدائق توقف صاحب المدارك في المسألة مع اعترافه بصحة الروايات الدالة على النجاسة، و صراحتها، و عدم صلاحية المعارض للمعارضة رعاية لشهرة القول بالطهارة بين الأصحاب.

أقول: منشأ الاختلاف في المقام هو اختلاف الروايات الواردة نظير اختلافها في بول الطائر المحرم الأكل- على ما عرفت- فلا بد من ذكرها، و ملاحظتها سندا، و دلالة، ثم بيان كيفية الجمع بينها، أو طرح بعضها، دون بعض، و هي على طوائف:

______________________________
[1] و هي الطائفة الاولى من الروايات التي نذكرها في بول الدواب الثلاث.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 292‌

..........

______________________________
(الاولى): ما تدل على طهارة فضلة مطلق الحيوان المأكول اللحم، و لو كان مكروها.

كموثقة عمار «1» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه».

و حسنة زرارة «2» انهما قالا: «لا تغسل ثوبك من بول شي‌ء يؤكل لحمه».

و موثقة عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه «3» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام (في حديث): «و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله».

و رواية أبي البختري «4» عن جعفر عن أبيه أن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا بأس ببول ما أكل لحمه».

(الطائفة الثانية): ما تدل من الروايات على نجاسة أبوال هذه الدواب الثلاث بخصوصها، لما فيها من الأمر بغسل ما أصابته أبوالها، و قد ذكرنا غير مرة أن الأمر بالغسل ظاهر في الإرشاد إلى نجاسة المغسول منه، و تنجس المغسول بذاك النجس، و هي بين ساكتة عن حكم أرواثها، و بين مصرحة بعدم نجاستها.

و من «الأولى»: صحيحة الحلبي «5» قال: «سألت‌

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1011 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 12.

(2) الوسائل ج 2 ص 1011 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(3) الوسائل ج 2 ص 1011 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 9.

(4) الوسائل الباب المتقدم، الحديث 17. ضعيفة بوهب بن وهب أبي البختري.

(5) الوسائل ج 2 ص 1011 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 11.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 293‌

..........

______________________________
أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أبوال الخيل، و البغال؟ فقال: اغسل ما أصابك منه».

و نحوها غيرها من الروايات الصحاح و الموثقات [1].

و من «الثانية»: صحيحة الحلبي أيضا «2» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بروث الحمير، و اغسل أبوالها».

و هذه صريحة في التفصيل بين بول الدابة، و روثها بنجاسة الأول، و طهارة الثاني، فتدل على عدم الملازمة بينهما في الطهارة، و النجاسة، فلو تم إجماع على عدم الفرق بينهما فإنما يتم في غير المقام، للنص على التفصيل هنا.

مضافا الى وجود القائل بالفرق في المقام- كما ذكرنا- (الطائفة الثالثة): ما تدل على طهارة بول الدواب المذكورة، و هي روايتان:

(الأولى) رواية الأعز النخاس «3» قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إني أعالج الدواب، فربما خرجت بالليل، و قد بالت و راثت،

______________________________
[1] كموثقة عبد الرحمن ابن ابي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه- ع- عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم أ يغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار، و الفرس، و البغل.».

و حسنة محمد بن مسلم عن الصادق- ع- قال: «سألته عن أبوال الدواب و البغال و الحمير؟ فقال:

اغسله، فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله، فان شككت فانضحه» (الوسائل في الباب المتقدم، الحديث 9 و 6).

و موثقة سماعة قال: «سألته عن بول السنور و الكلب و الحمار و الفرس؟ قال: كأبوال الإنسان» (الوسائل ج 2 ص 1009 الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 7).

______________________________
(2) الوسائل ج 2 ص 1009 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) الوسائل ج 2 ص 1009 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 294‌

..........

______________________________
فيضرب أحدها برجله أو يده، فينضح على ثيابي، فأصبح فأرى أثره فيه؟

فقال: ليس عليك شي‌ء».

(الثانية) رواية المعلى بن خنيس، و عبد اللّه ابن أبى يعفور «1» قالا:

«كنا في جنازة، و قدامنا حمار فبال، فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا و ثيابنا، و دخلنا على أبى عبد اللّه فأخبرناه، فقال: ليس عليكم بأس».

هذه جملة أقسام الروايات الواردة في المقام، و تقع المعارضة بين الطائفتين الأخيرتين، إلا أن أخبار الطهارة ضعاف [1] لا يمكن الاعتماد عليها و «دعوى» انجبارها بعمل المشهور، لقيام الشهرة قديما و حديثا على الطهارة. «ممنوعة» كبرى، لما مرّ غير مرة من عدم تماميتها عندنا. و صغرى، لعدم ثبوت استناد المشهور الى الروايتين المذكورتين لا سيما القدماء الذين لم يألفوا كتبا استدلالية توجب الاطلاع على مستندهم في الفتوى، و لعلهم استندوا في المقام الى غير الروايتين.

نعم: لو تم سندهما في نفسه، أو بالانجبار كان مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين حمل الأمر بالغسل في أخبار النجاسة على التنزيه بقرينة نفى البأس الصريح في عدم النجاسة في الروايتين، و كان يندفع بذلك ما في الحدائق «3»

______________________________
[1] اما «الأولى» فبابى الأعز النخاس بالعين المهملة، و الزاي المعجمة، و عن الميرزا انه ربما قرء بالغين المعجمة، و الراء المهملة و كيف كان فهو مهمل في كتب الرجال، و لم يبين اسمه ايضا «تنقيح المقال فصل الكنى ص 3».

و اما «الثانية» فبحكم بن مسكين، و معلى بن خنيس فإنه لم يثبت وثاقتهما.

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1009 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 14.

(3) ج 5 ص 24 طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 295‌

..........

______________________________
من توهم استقرار المعارضة بين الطرفين، فان ما ذكرناه جمع دلالي مقبول عند العرف- كما في أمثال المقام- إلا أن الشأن في إثبات حجية روايات الطهارة.

و بالجملة: لو لا ضعف أخبار الطهارة كان مقتضى القواعد ما ذكرناه إلا أن ضعفها يمنعنا عن الأخذ بها، فاذن لا بد من تخصيص الطائفة الأولى الدالة على طهارة بول مطلق ما يؤكل لحمه بما دل من الروايات على نجاسة بول الدواب الثلاث، لأن النسبة بينهما العموم و الخصوص المطلق.

على أنه يمكن دعوى عدم شمول تلك العمومات، أو الإطلاقات للخيل، و البغال، و الحمير، لقرب دعوى انصرافها الى الحيوان المعد للأكل، لا مطلق ما جاز أكله، و إن لم يكن معدا له- كالدواب الثلاث- فإنها معدة للحمل و الركوب، و إن جاز أكل لحمها أيضا، بخلاف الأنعام التي مخلوقة للأكل كما يشير إلى ذلك كله قوله تعالى «وَ الْأَنْعٰامَ خَلَقَهٰا لَكُمْ فِيهٰا دِفْ‌ءٌ، وَ مَنٰافِعُ، وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ. إلى قوله تعالى- وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغٰالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهٰا، وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ» «1».

بل ورد التصريح بذلك في بعض الروايات.

كرواية زرارة [1] عن أحدهما عليهما السلام: «في أبوال الدواب تصيب الثوب؟ فكرهه. فقلت: أ ليس لحومها حلالا؟ فقال: بلى، و لكن ليس مما جعله اللّه للأكل».

______________________________
[1] الوسائل ج 2 ص 1010 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

ضعيفة بقاسم بن عروة، لعدم ثبوت وثاقته، بل و لا حسنة.

______________________________
(1) النحل 16: 5 و 8.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 296‌

..........

______________________________
فإنها تدل على أن العبرة في طهارة البول بكون الحيوان معدا للأكل، لا مجرد حلية لحمه.

كما انه يظهر ذلك بوضوح من المقابلة بينها، و بين ما يؤكل لحمه في موثقة عبد الرحمن ابن أبى عبد اللّه «1» قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم، أ يغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار، و الفرس، و البغل. فأما الشاة، و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله».

فتحصل من جميع ما ذكرناه أن مقتضى صناعة الجمع بين الأخبار هو العمل بأخبار النجاسة، فإنها أخص مما دل على طهارة بول مطلق ما يؤكل لحمه، أو لم تكن معارضة لها رأسا.

و بذلك يظهر ضعف استدلال المحقق الهمداني «قده» على الطهارة بعموم موثقة ابن بكير [1]، الواردة في لباس المصلي، المصرحة بإناطة جواز الصلاة في بول حيوان، أو روثه، أو كل شي‌ء منه بحلية لحمه، سواء أ كان معدا للأكل أم لا، و جواز الصلاة في شي‌ء ملازم لطهارته، ضرورة بطلان الصلاة‌

______________________________
[1] عن ابن بكير قال: «سأل زرارة أبا عبد اللّه- ع- عن الصلاة في الثعالب، و الفنك، و السنجاب، و غيره من الوبر، فاخرج كتابا زعم انه إملاء رسول اللّه- ص- ان الصلاة في وبر كل شي‌ء حرام أكله، فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كل شي‌ء منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل اللّه اكله. ثم قال: يا زرارة هذا عن رسول اللّه- ص- فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كل شي‌ء منه جائز إذ أعلمت أنه ذكي، و قد ذكاه الذبح، و إن كان غير ذلك مما قد نهيت عن اكله، و حرم عليك أكله فالصلاة في كل شي‌ء منه فاسد، ذكاه الذبح، أو لم يذكه» (الوسائل ج 3 ص 250 الباب 2 من أبواب لباس المصلي الحديث 1).

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1010 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 9.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 297‌

..........

______________________________
في النجس.

و ذلك لوقوع المقابلة- في الموثقة- بين ما يحل أكله، و ما يحرم بجواز الصلاة في اجزاء الأول و بوله و روثه، و عدمه في الثاني، و من المعلوم ان المراد بحرمة الأكل هي الحرمة التكليفية، و بقرينة المقابلة يعلم أن المراد من الحلية هي الحلية كذلك، لا الاستعداد للأكل و قال المحقق المزبور- بعد نقل الرواية- إنها نص في أن المراد بما أحل اللّه أكله ما كان مقابلا لما حرم أكله، لا ما يقابل غير المأكول حتى يمكن تفسيره بما جعله اللّه للأكل، فاذن تكون الدواب الثلاث مندرجة في القسم الذي تكون الصلاة في بوله جائزة. هذا مضافا الى عدم الخلاف في جواز الصلاة في سائر أجزائها من الجلد، و الشعر، و اللبن، و غيرها. هذا حاصل ما أفاده «قده».

و يدفعه: ما أشرنا إليه في طي الكلام من أن عموم ما دل على طهارة بول مطلق مأكول اللحم غير آب عن التخصيص بأخبار نجاسة بول الدواب الثلاث و لو كان المراد مجرد حلية الأكل، لأن النسبة بينهما العموم، و الخصوص المطلق، فمهما بلغت هذه الموثقة من التصريح بإناطة طهارة البول بمجرد حلية اللحم كان دلالتها على طهارة بول خصوص الدواب بالعموم، لا النصوصية و إن كانت نصا في المراد من الحلية، فلا مانع من تخصيصها بأخبار نجاسة بول هذه الثلاث، فيلتزم بعدم جواز الصلاة في بولها من جهة النجاسة، و بجوازها في روثها، و اجزائها من جهة حلية اللحم، و الطهارة.

و دعوى إبائها عن التخصيص- كما أصر عليه «قده»- مجازفة لا شاهد عليها.

فالإنصاف أن صناعة الجمع بين الأخبار تعطي ما ذهب اليه صاحب‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 298‌

..........

______________________________
الحدائق «قده» من القول بالنجاسة، و لكن مع ذلك كله لا يمكن الالتزام به، و ذلك لقيام السيرة القطعية بين المسلمين من زمن الأئمة المعصومين الى يومنا الحاضر على عدم الاجتناب عن أبوال هذه الدواب من دون ردع منهم عليهم السلام لذلك، و إلا لظهر، و بان لكثرة الابتلاء بهذه الحيوانات في الحمل، و الركوب في الأسفار و غيرها، لا سيما في الأزمنة السالفة التي كانت الوسائط النقلية منحصرة في هذه تقريبا فكيف يمكن خفاء حكم أبوالها من حيث الطهارة و النجاسة مع ابتلاء أغلب الناس بها، لا أقل في اليوم مرة، أو مرات، و هذا مما يوجب القطع بعدم النجاسة، و إلا لظهر حكمها و بان، كما ظهر الحكم في سائر الحيوانات التي يبتلى بها عامة الناس، و لم ينحصر القائل بالنجاسة في اثنين من القدماء، و نفر قليل من المتأخرين، لشبهة عرضتهم من الأخبار، فإذن لا بد من حمل أخبارها على التنزيه، أو التقية لذهاب أكثر العامة لا سيما المذاهب المعروفة، و بالخصوص الحنفية إلى النجاسة [1] و قد تنبه لذلك صاحب الحدائق «قده» أيضا، إلا أنه مع ذلك لم يحملها على التقية، لضعف المعارض، و معه لا تصل النوبة إلى الترجيح السندي، و هذا منه و إن كان صحيحا، إلا أن الموجب للحمل لم ينحصر في المعارضة بل يكفى فيه قيام السيرة و نحوها على خلافها كما ذكرنا ذلك في نفى وجوب الإقامة‌

______________________________
[1] عد في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة من النجاسات «فضلة ما لا يؤكل لحمه مما له دم يسيل كالحمار و البغل» ثم ذكر في أدنى الصفحة ما يدل على التزام أبي حنيفة بشدة النجاسة، و هاك نصه «الحنفية- قالوا فضلات غير مأكول اللحم فيها تفصيل، فان كانت مما يطير في الهواء، كالغراب فنجاستها مخففة، و إلا فمغلظة غير انه يعفى عما يكثر منها في الطرق من روث البغال و الحمير دفعا للحرج» (ج 1 ص 16 الطبعة الخامسة).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 299‌

و كذا من حرام اللحم الذي ليس له دم سائل (1) كالسمك، و نحوه.

______________________________
مع قوة أخبارها سندا، و دلالة، هذا كله في بول الدواب الثلاث.

و أما روثها فهي طاهرة جزما لورود أخبار كثيرة ربما يدعى استفاضتها على ذلك و قد تقدم «1» بعضها.

أبوال ما لا نفس له

(1) كما هو المشهور، بل في كلمات جمع «انه لا خلاف فيه» مستدلين على ذلك بأصالة الطهارة بعد منعهم عن شمول ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لما لا نفس له، لمناقشات مزيفة ذكروها في المقام.

(أحدها): منع وجود البول لما لا نفس له- كالذباب، و القمل، و الزنبور. و الخنفساء و نحوها- أو منع صدق البول، أو الغائط- مما هو موضوع أدلة النجاسة- على ما يخرج منها من الماء، أو الرجيع، و أنه بمنزلة عصارة النباتات، و لعله لزعم أن لسيرها في المجاري المتعارفة لسائر الحيوانات دخل في التسمية عرفا، فاذن لا تشمل أدلة النجاسة لفضلات ما لا نفس له، و الأصل فيها الطهارة.

و (يندفع): بأن المشاهد في بعضها- كالسلحفاة، و نحوها من الحيوانات الكبار- وجود البول، و ان أمكن المنع في الأمثلة المذكورة، و منع الصدق مجازفة محضة. نعم: لا يبعد عدم صدق الغائط، و العذرة على رجيعها، و من هنا يمكننا دعوى الجزم بطهارتها- كما يأتي.

(ثانيها): دعوى لزوم تخصيص أدلة النجاسة بالإجماع على طهارة‌

______________________________
(1) في ص 293.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 300‌

..........

______________________________
فضلات ما لا نفس له.

و (يندفع): بأن إحراز الإجماع التعبدي في أمثال المقام مشكل، و إن لم ينقل الخلاف صريحا من أحد من علمائنا، سوى أن المحقق في المعتبر، و الشرائع قد تردد ابتداء ثم استظهر الطهارة أيضا [1].

(ثالثها): منع صدق ما لا يؤكل لحمه، أو ما يؤكل على ما لا نفس له، كما أصر عليه في الحدائق.

و (يندفع): بوضوح الصدق على ما فيه لحم معتد به، كالأسماك المحرمة، و الحية، و نحوهما.

و الذي ينبغي أن يقال في المقام أن ما لا نفس له يكون على قسمين:

«أحدهما»: ما ليس له لحم- كالخنفساء، و الذباب، و الزنبور، و نحوها- «ثانيهما»: ما له لحم- كالسمك المحرم، و الحية، و نحوهما.

أما (القسم الأول): فلا ينبغي التأمل في طهارة فضلاته رجيعا كانت أم بولا، أما «الأول» فواضح، لما عرفت من عدم ورود نص عام يشمل خرء جميع الحيوانات، و إنما وردت نصوص خاصة في بعضها- كالإنسان و الكلب، و السنور، و نحوها- و أثبتنا النجاسة في الباقي بالإجماع على عدم الفرق بين الحيوانات المحرم الأكل، أو على عدم الفرق بين البول و الخرء فيما‌

______________________________
[1] و في الجواهر: «انه قد يقال بتحققه- اي تحقق الخلاف- هنا، لإطلاق أو تعميم جملة من الأصحاب الحكم بنجاستهما مما لا يؤكل لحمه، من غير تقييد بذي النفس، كالمقنعة، و الخلاف، و جمل الشيخ، و الوسيلة، و الغنية و اشارة السبق، و الدروس، بل و النافع خصوصا مع التقييد بذلك في الميتة، و الدم، و تركه هنا، فلعل هؤلاء قائلون بالنجاسة».

(ج 5 ص 286 طبعة النجف الأشرف).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 301‌

..........

______________________________
ثبت نجاسة بوله، و لا إجماع في المقام على شي‌ء من الأمرين كيف و قد ادعى الإجماع على طهارتهما فيما لا نفس له، و لا أقل من تحقق الشهرة، و يمكن دعوى السيرة على عدم الاجتناب عن فضلات هذا القسم.

و أما «الثاني» أعني بوله فظاهر أيضا، لعدم شمول ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لهذا القسم، إذ لا لحم له فرضا فهو خارج عن تلك الأدلة تخصصا. نعم: قد يتوهم شمول ما دل على نجاسة البول مطلقا له، إلا أنه يندفع بما ذكرناه قريبا من قوة احتمال انصرافه الى بول الإنسان، كما لا يخفى على من راجع رواياته «1» و لا أقل من انصرافه عن بول ما لا نفس له.

و أما (القسم الثاني): فالكلام في رجيعه هو الكلام بعينه في القسم الأول، لعدم قيام إجماع، أو ارتكاز على الملازمة بين نجاسة رجيعه، و نجاسة بوله، و لا الإجماع على عدم الفرق بينه و بين سائر الحيوانات، و من هنا قال في المدارك معترضا على المحقق: «إني لا أعرف وجها للتردد في رجيعه» و إنما الكلام و الاشكال في حكم بوله، لشمول ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه له، لأن المفروض وجود اللحم لهذا القسم، و ليس فيه عند الأعلام سوى دعوى الانصراف، أو قيام الإجماع على الطهارة، و قد عرفت الخدشة في الكل، كما ان احتمال انصراف اللحم الى المعهود فلا يشمل لحم مثل الحية، و الوزغ، و نحوهما واضح الدفع.

نعم: دعوى الانصراف في أدلة نجاسة مطلق البول غير بعيدة- كما ذكرنا آنفا- و لكن في شمول ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه بالعموم‌

______________________________
(1) تقدم بعضها في ص 279- 280.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 302‌

..........

______________________________
أو الإطلاق كروايتي عبد اللّه بن سنان المتقدمتين
«1» غنى و كفاية في الدلالة على النجاسة.

نعم: يمكن الاستدلال على الطهارة بما دل من الروايات على عدم نجاسة ميتة ما لا نفس له.

كموثقة عمار الساباطي «2» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن الخنفساء، و الذباب، و الجراد، و النمل و ما أشبه ذلك يموت في البئر، و الزيت، و السمن و شبهه؟ قال: كل ما ليس له دم فلا بأس».

فإن مقتضى إطلاقها عدم البأس بميتة ما لا نفس له، سواء تفسخت فيما ماتت فيه من الماء، أو غيره- كالزيت، و السمن و شبهه- أم لم تتفسخ، و من المعلوم أنه في صورة التفسخ يخرج ما في جوف الحيوان من البول، و الخرء، و الدم و غيره و مع ذلك حكم الامام عليه السّلام بطهارة المائع الذي مات فيه الحيوان.

و لو منع عن ذلك بدعوى «3» انسباق نفى البأس فيها إلى إرادته من حيث الموت فيكفينا التمسك بإطلاق ما دل على عدم فساد الماء بما لا نفس له، فإنه بإطلاقه يدل على عدم تنجسه به بجميع شؤونه من ميتته، و دمه، و بوله، و خرئه، و كل ما يوجب نجاسة الماء لو كان من ذي النفس.

كموثقة حفص بن غياث «4» عن جعفر بن محمد عن أبيه‌

______________________________
(1) في ص 275.

(2) الوسائل ج 2 ص 1051 الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) كما في الجواهر ج 5 ص 286.

(4) الوسائل ج 2 ص 1051 الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 303‌

..........

______________________________
قال عليه السّلام: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة».

و لا موجب لدعوى انصرافها إلى ميتة ما لا نفس له بعد وجود الإطلاق الشامل لجميع ما ذكر مما يترقب تنجس الماء به لو كان من ذي النفس، و إن ذكرها الأصحاب في باب طهارة ميتة ما لا نفس له- كما في الوسائل، و غيره- و النسبة بين هذه الروايات، و ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه و إن كانت العموم من وجه، إلا أن هذه حاكمة على تلك، لفرض وجود الفساد فيها في الجملة، إلا أنه قد نفى ذلك مما لا نفس له، فلا محالة تكون ناظرة إلى أدلة النجاسات من البول، و الدم، و المنى، و الميتة و غير ذلك، فان جميع ذلك يوجب فساد الماء- أى نجاسته- فتدل هذه الروايات على عدم وجود ذاك الفساد مما لا نفس له، فتكون ناظرة إلى تلك الأدلة، و حاكمة عليها، و من جملتها ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل.

فتحصل: أنه لا ينبغي الإشكال في طهارة فضلات ما لا نفس له، سواء أ كان له لحم أم لم يكن، لإطلاق هذه الروايات المخصصة لعموم ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه مؤيدا بما ذكره الأصحاب من الوجوه التي قد عرفت ضعفها.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 304‌

[ (مسألة 1) ملاقاة الغائط في الباطن لا توجب النجاسة]

(مسألة 1) ملاقاة الغائط في الباطن لا توجب النجاسة (1) كالنوى الخارج من الإنسان، أو الدود الخارج منه إذا لم يكن معه شي‌ء من الغائط، و إن كان ملاقيا له في الباطن.

نعم، لو أدخل من الخارج شيئا فلاقى الغائط في الباطن كشيشة الاحتقان إن علم ملاقاتها له فالأحوط الاجتناب عنه [1] و أما إذا شك في ملاقاته فلا يحكم عليه بالنجاسة، فلو خرج ماء الاحتقان، و لم يعلم خلطه بالغائط، و لا ملاقاته له لا يحكم بنجاسته.

______________________________
ملاقاة الغائط في الباطن

(1) لا فرق بين النوى، و شيشة الاحتقان في أنهما أمران خارجيان لاقيا الغائط في الباطن، سوى أن الأول يدخل الجوف من طريق الفم، و الثاني من طريق آخر، فلا بد و أن يتحدا في الحكم بالطهارة لو كانت الملاقاة في الباطن لا توجب انفعال الملاقي، فالحكم بالطهارة في الأول، و الاحتياط بالاجتناب في الثاني كما في المتن لا وجه له، بل هو أشبه بالتناقض.

نعم: يمكن الفرق بين النوى و الدود الخارج من الإنسان، لأنه كسائر الحيوانات إما أن لا يتنجس، أو يطهر بزوال العين، فيكون الدود الخارج من الإنسان، كالدود الخارج من الكنيف الذي ورد النص [1] على طهارته.

______________________________
[1] و في تعليقته (دام ظله) على قول المصنف «فالأحوط الاجتناب عنه»: (و الأظهر طهارته و لم يظهر الفرق بينه و بين النوى).

[2] روى علي بن جعفر عن أخيه موسى- ع- قال: «سألته عن الدود يقع من الكنيف على الثوب أ يصلى فيه؟ قال: لا بأس إلا ان ترى فيه أثرا فتغسله» ضعيفة بمحمد بن أحمد العلوي لعدم ثبوت وثاقته.

(الوسائل ج 2 ص 1099 الباب 80 من أبواب النجاسات، الحديث 1).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 305‌

..........

______________________________
و كيف كان فتفصيل الكلام في المقام على وجه يتضح حكم جميع الأقسام هو أن يقال إن صور الملاقاة في الباطن أربع، لأن المتلاقيين في الباطن إما أن يكونا داخليين، أو خارجيين، أو يكون الملاقي داخليا، و النجس خارجيا، أو بالعكس.

أما (الصورة الأولى): فيحكم فيها بطهارة الملاقي، أما أولا: فلعدم الدليل على نجاسة البول، و الغائط، و الدم، و المنى في الباطن- كما يأتي توضيحه في الصورة الرابعة- فتكون طهارة مجرى البول، أو الغائط- مثلا- الملاقي لهما من باب السلب بانتفاء الموضوع، لعدم نجاسة البول، أو الغائط في الداخل، و أما ثانيا: فلقصور أدلة الانفعال عن بواطن الإنسان، بل مطلق الحيوان- لو سلم نجاسة هذه الأشياء في الباطن- لأن انفعال الملاقي مستفاد من الأمر بغسله، و لا أمر بغسل البواطن من شي‌ء من النجاسات، و لا ارتكاز على عدم الفرق بين الملاقي الخارجي، و الداخلي بل دلت بعض الروايات على عدم وجوب غسل البواطن، كداخل المقعد عند الاستنجاء [1] و باطن الأنف عند الرعاف [2] مع ملاقاة الأول للغائط، و الثاني للدم، و إنما أمرت بغسل الظواهر فقط. و احتمال قصور هذه الروايات عن إثبات المدعى بدعوى أن غايتها عدم وجوب تطهير البواطن مندفع بأنه‌

______________________________
[1] في موثقة عمار عن ابي عبد اللّه- ع- (في حديث) قال: «إنما عليه ان يغسل ما ظهر منها يعني المقعدة، و ليس عليه ان يغسل باطنها».

[2] كموثقة عمار قال: «سئل أبو عبد اللّه- ع- عن رجل يسيل من انفه الدم، هل عليه ان يغسل باطنه يعنى جوف الأنف؟ فقال إنما عليه ان يغسل ما ظهر منه» (الوسائل ج 2 ص 1032 الباب 24 من أبواب النجاسات، الحديث 6 و 5).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 306‌

..........

______________________________
إذا لم يجب تطهيرها، و لم ينجس ملاقيها كان الحكم بنجاستها لغوا محضا. و أما ثالثا: فلجملة من الروايات الدالة على عدم نجاسة ما يخرج من مجاري النجاسات في بدن الإنسان، فلو كانت الملاقاة في الباطن توجب النجاسة لزم الحكم بنجاسة تلك الأمور.

(منها): ما تدل [1] على طهارة البلل الخارج من فرج المرأة، مع أنها تلاقى مجرى النجاسات- من البول، و الدم، و المنى- فلو كانت النجاسات المذكورة توجب نجاسة المجرى لزم الحكم بنجاسة بلل الفرج، لتنجسها به.

و (منها): ما تدل [2] على طهارة المذي، و الودي، و الوذي مع ملاقاتها لمجرى البول و المنى.

فتحصل: أنه لو كان المتلاقيان داخليين لزم الحكم بطهارة الملاقي بلا‌

______________________________
[1] كصحيحة إبراهيم ابن ابي محمود قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المرأة عليها قميصها، أو إزارها يصيبه من بلل الفرج، و هي جنب، أ تصلي فيه؟ قال: إذا اغتسلت صلت فيهما» (الوسائل ج 2 ص 1077 الباب 55 من أبواب النجاسات، الحديث 1).

و رواية عبد الرحمن عن ابي عبد اللّه- ع- قال: «سألته عن رجل مس فرج امرأته؟ قال: ليس عليه شي‌ء، و إن شاء غسل يده و القبلة لا تتوضأ منها» ضعيفة بقاسم بن محمد الجوهري فإنه ضعيف أو مجهول.

(الوسائل ج 1 ص 192 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6).

[2] كصحيحة ابن ابي عمير، عن غير واحد من أصحابنا، عن ابي عبد اللّه- ع- قال: «ليس في المذي من شهوة، و لا من الإنعاظ، و لا من القبلة، و لا من مس الفرج، و لا من المضاجعة وضوء، و لا يغسل منه الثوب، و لا الجسد» (الوسائل ج 1 ص 191 الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 2).

و نحوها غيرها من الروايات المروية في (الوسائل ج 1 ص 195 الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء، و في الباب 17 من أبواب النجاسات ص 207) فلاحظ.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 307‌

..........

______________________________
اشكال.

و أما (الصورة الثانية):- و هي أن يكون المتلاقيان خارجيين، و حصلت الملاقاة في الباطن- فلا ينبغي التردد في الحكم بنجاسة الملاقي حينئذ، و إن تردد فيه بعض، إذ لا قصور في أدلة النجاسة، و لا في أدلة السراية عن شمول هذه الصورة، إذ لا دخل لظرف الملاقاة في التنجيس بعد فرض كون المتلاقيين خارجيين، و مجرد كون الملاقاة في الباطن لا يوجب الفرق بين أقسامها، أ فهل يشك أحد في تنجس إصبعه الطاهر إذا أدخله في فمه مع إصبعه المتنجس بالدم، و تلاقيا في داخل الفم، أو إذا جعل الخبز الطاهر في فمه، و شرب عليه الماء النجس، و لا يحتمل في مثل ذلك عدم تنجس الملاقي بمجرد كون الملاقاة في الباطن بعد شمول أدلة النجاسة لهذا الفرد. و من أمثلة هذه الصورة ملاقاة الأسنان المصنوعة في باطن الفم مع طعام، أو ماء متنجس بمضمضة، أو غيرها، فإنه لا بد من الحكم بنجاسة الأسنان.

و مما يؤكد ما ذكرنا عموم موثقة عمار [1] الدالة على وجوب غسل كل ما أصابه الماء المتنجس، فإنها بعمومها تشمل مثل الأسنان، أو غيرها، إذا لاقت الماء المتنجس في جوف الإنسان، أو حيوان آخر، و من هنا يحكم بنجاسة ما ابتلعه الحيوان، إذا خرج من بطنه ملاقيا في الباطن للماء النجس الذي شربه الحيوان فوقه.

و أما (الصورة الثالثة):- و هي أن يكون الملاقي داخليا و النجس‌

______________________________
[1] و هي ما وردت في حكم الماء الذي وجد فيه ميتة الفأرة من قوله- ع- «فعليه ان يغسل ثيابه، و يغسل كل ما اصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء، و الصلاة.» (الوسائل ج 1 ص 106 الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 308‌

..........

______________________________
خارجيا، كما إذا شرب الماء المتنجس، أو عين النجس، كالخمر، و لاقى باطن فمه، و أسنانه- فلا يحكم فيها بنجاسة الملاقي، كالصورة الأولى، لعين الوجه المتقدم في تلك الصورة من عدم الدليل على تنجس باطن الإنسان، بل مطلق الحيوان، لأن تنجس شي‌ء إنما يستفاد من الأمر بغسله، و لا أمر بغسل البواطن في شي‌ء من الأدلة، و لم يعهد من أحد من المتشرعة غسل باطنه باتصال الماء الطاهر الى جوفه، و لو بنحو من الأنحاء فيما لو أكل أو شرب نجسا، و كذا لم يعهد منهم تطهير باطن الحلق، أو الفم، و الأسنان لذلك.

و لو سلم تنجس الباطن فلا مناص عن الالتزام بطهارته بمجرد زوال العين للقطع بعدم لزوم تطهيره.

و مما يؤيد ذلك ما دل [1] على طهارة بصاق شارب الخمر، إذ لو كان داخل فمه نجسا بملاقاة الخمر لكان بصاقه أيضا محكوما بالنجاسة، لملاقاته لداخل الفم، فيعلم من ذلك عدم تنجس باطنه، أو طهارته بزوال العين.

و أما (الصورة الرابعة):- و هي أن يكون الملاقي خارجيا، و النجس داخليا، كملاقاة شيشة الاحتقان، أو النوى للغائط في جوف الإنسان مع‌

______________________________
[1] كرواية عبد الحميد قال: «قلت لأبي عبد اللّه- ع- رجل يشرب الخمر فيبصق، فأصاب ثوبي من بصاقه؟ قال: ليس بشي‌ء» (الوسائل ج 2 ص 1058 الباب 39 من أبواب النجاسات، الحديث 1) ضعيف بعبد الحميد ابن ابي الديلم فإنه مجهول، و يمكن الاستدلال لذلك أيضا بصحيحة إبراهيم ابن ابي محمود المتقدمة في تعليقه ص 306 فإنها بإطلاقها تشمل ما إذا كانت جنابة المرأة بإنزال الرجل في فرجها، بل هو الظاهر منها، و مع ذلك حكم الامام- ع- بطهارة البلل الخارج من فرجها، فيعلم من ذلك عدم تنجس باطن الفرج بملاقاة المني، أو طهره بزواله، و إلا كانت البلل محكومة بالنجاسة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 309‌

..........

______________________________
فرض خروجهما بلا تلوث، أو ملاقاة إبرة التزريق للدم في بدن الإنسان، أو عروقه، فهل يحكم فيها بنجاسة الملاقي أو لا؟

الصحيح هو التفصيل بين ما إذا كان النجس ظاهرا لإحدى الحواس، و ما إذا لم يكن كذلك، ففي الأول يحكم بالنجاسة، دون الثاني.

أما وجه الحكم بالنجاسة في الأول فهو أن النجس إذا خرج عن محله الأصلي، و ظهر لإحدى الحواس، كالدم الخارج من بين الأسنان يشمله أدلة النجاسة، فإذا لاقى الدم المذكور طعاما، أو ماء في داخل الفم يتنجس بملاقاته، إذ لا فرق بين الدم الخارج من بين الأسنان الباقي في الفم، و بين الدم المهراق على الأرض في أن كليهما دم مسفوح، و خارج عن محله. و من أمثلة ذلك ملاقاة الأسنان المصنوعة للدم الخارج من اللثة، فإنه لا بد من الحكم بتنجسها أيضا.

و أما وجه الحكم بالطهارة في الثاني- و هو ما إذا لم يظهر النجس لإحدى الحواس، و لاقاه شي‌ء في الباطن، كالأمثلة المتقدمة- فهو قصور أدلة النجاسة عن شمول النجاسات الداخلية- كما أشرنا- بمعنى أنه لا دليل على نجاسة البول أو الغائط، أو الدم، أو المني قبل خروجه عن محله المخصوص، و ظهوره للحس، فالدم الجاري في العروق- مثلا- لا مانع من الحكم بطهارته، لعدم الدليل على النجاسة في هذا الحال، و ذلك لأن نجاسة هذه الأمور إنما تستفاد من الأمر بغسلها، أو غسل ملاقيها، و لا أمر في شي‌ء من الروايات بغسل ملاقيها في الباطن، فمن أين يمكن استكشاف حكم الشارع بنجاستها، مع ان الأمر بالغسل قد اختص بملاقاة النجاسة الخارجية، كما لا يخفى على من‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 310‌

..........

______________________________
لاحظ الروايات المتفرقة الواردة في النجاسات المختلفة، فإن ما دل [1] منها على نجاسة البول، و الغائط قد ورد فيها الأمر بغسل ما أصابه أحدهما من الثوب، أو البدن، و من المعلوم أنه لا يصيبهما إلا البول، و الغائط الخارجيان، و نحوها ما دل [2] على غسل الرجل إذا وطئ على العذرة، و ما دل على طهارة باطن القدم، أو النعل المتنجسين بوطأ العذرة أو البول بالمشي على الأرض النظيفة، أو المسح بها، فإنه لا يتحقق الوطء إلا على العذرة، أو البول الخارجيين [3] و كذا ما دل منها على نجاسة الدم و‌

______________________________
[1] كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما- ع- قال: «سألته عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين».

و صحيحة البزنطي قال: «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال: صب عليه الماء مرتين.»

(الوسائل ج 2 ص 1001 الباب 1 من أبواب النجاسات، الحديث 1 و 7) و نحوهما غيرهما.

[2] كرواية الحلبي عن ابي عبد اللّه- ع- «في الرجل يطأ في العذرة، أو البول أ يعيد الوضوء؟

قال: لا، و لكن يغسل ما أصابه» ضعيفة بسهل بن زياد، و محمد بن سنان. (الوسائل ج 1 ص 194 الباب 10 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 2).

[3] كصحيحة زرارة بن أعين قال: «قلت لأبي جعفر- ع- رجل وطأ على عذرة، فساخت رجله فيها، أ ينقض ذلك وضوئه، و هل يجب غسلها؟ فقال: لا يغسلها إلا ان يقذرها، و لكنه يمسحها حتى يذهب أثرها، و يصلى» و رواية الحلبي عن ابي عبد اللّه- ع- قال: «قلت له إن طريقي الى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه، و ليس علي حذاء، فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال: أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟

قلت: بلى، قال: فلا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضا.» و في طريقها مفضل بن عمر الجعفي الذي اختلف في وثاقته. (الوسائل ج 2 ص 1048 الباب 32 من أبواب النجاسات، الحديث 7 و 9). و نحوهما غيرهما.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 311‌

..........

______________________________
المنى [1] فإنها أيضا قد اشتملت على الأمر بغسل الثوب الذي أصاباه، و لا يصيب الثوب إلا الدم، و المنى الخارجيان، و لا ملازمة عرفية، أو شرعية بين نجاسة هذه الأشياء في الخارج، و الداخل، فاذن لا مانع من الحكم بطهارة الغائط- مثلا- في الباطن، لعدم الدليل على نجاسته، فتكون طهارة شيشة الاحتقان- مثلا- الملاقية له في الجوف على طبق القاعدة، لعدم المقتضى لانفعالها، و كذا ماء الاحتقان لو خرج، و لم يعلم خلطه بالغائط، و لو علم بالملاقاة.

و يؤكد ما ذكرنا ما ورد من الأخبار [2] الدالة على طهارة القي‌ء، مع أن الظاهر أن ما يأكله الإنسان يلاقي الدم، أو الرطوبات الملاقية له في الباطن، و مع ذلك حكم بطهارته.

______________________________
[1] كصحيحة زرارة قال: «قلت له أصاب ثوبي دم رعاف، أو غيره أو شي‌ء من مني، فعلمت أثره الى ان أصيب له الماء، فأصبت، و حضرت الصلاة، و نسيت ان بثوبي شيئا و صليت، ثم انى ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة، و تغسله.» (الوسائل ج 2 ص 1063 الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 2).

و نحوها ما دل على نجاسة المني فلاحظ الروايات في (الباب 16 من أبواب النجاسات ج 2 ص 1021).

[2] كموثقة عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه- ع- عن الرجل يتقيأ في ثوبه، أ يجوز ان يصلي فيه، و لا يغسله؟ قال: لا بأس به».

و نحوها روايته الأخرى (الوسائل ج 2 ص 1070 الباب 48 من أبواب النجاسات، الحديث 1 و 2).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 312‌

[ (مسألة 2) لا مانع من بيع البول]

(مسألة 2) لا مانع من بيع البول، و الغائط (1) من مأكول اللحم.

______________________________
بيع الأرواث

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في ضمن مسائل ثلاث أشار إليها المصنف «قده». (الأولى): في جواز بيع البول، و الغائط من مأكول اللحم.

أما غائطها- كأرواث البقر، و الغنم، و الإبل، و الحمار و نحو ذلك- فمما لا اشكال و لا خلاف في جواز بيعه، كما عليه السيرة المستمرة قديما و حديثا بلا ردع عنها لطهارتها، و اشتمالها على منفعة محللة مقصودة لعامة الناس، لاستعمالها في الحرق، و الطبخ، و التسميد و نحو ذلك، فيشملها جميع الأدلة الدالة على صحة البيع التي منها قوله تعالى «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ».

و أما أبوالها فهل يجوز بيعها؟ مقتضى العمومات، و الإطلاقات فيها أيضا جواز البيع- كما هو المعروف- إلا أنه قد يمنع عن صحته لوجهين ضعيفين.

(الأول): اعتبار المالية في المبيع، و من هنا ذكر في المصباح «أن البيع مبادلة مال بمال» و أبوال ما يؤكل لحمه و إن كانت طاهرة، إلا انها ليست من الأموال في نظر العقلاء، و العرف العام، إذ يعتبر في المالية كون الشي‌ء بحيث مما يتنافس عليه العقلاء، و يبذلون بإزائه الأموال، لوجود منفعة فيه معتدة بها عندهم، و حيث أن البول الطاهر مما يستقذره العرف لم يكن فيه منفعة مقصودة، و لا غرض يوجب التنافس عليه، و جواز شربه أحيانا للدواء- كما ورد في بول الإبل، و كذا البقر و الغنم- [1] لا يوجب ماليته ما لم يكن‌

______________________________
[1] كما في موثقة عمار عن ابى عبد اللّه- ع- قال: «سئل عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال: إن

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 313‌

..........

______________________________
الداعي إلى شربه عاما، فاذن لا تشمل أدلة صحة البيع لأبوال ما يؤكل لحمه حتى الإبل، و إن حكى الإجماع على جواز بيعه.

و يرد عليه أولا: أنه لا دليل على اعتبار المالية في عوضي البيع سوى تعريف المصباح، و هو ليس بدليل، لأن دأب اللغويين- غالبا- على شرح الاسم، مضافا الى عدم حجية قولهم ما لم يوجب الاطمئنان، و المناط في تحقق مفهوم البيع هو صدق عنوان المعاوضة على الشي‌ء مع كون أحد العوضين عرضا، و الآخر ثمنا، و عليه فلا مانع من صحة بيع كل شي‌ء كان متعلقا لغرض شخصي للمشتري- فقط- بحيث لا يرغب فيه سواه من العقلاء، و لا يبذلون بإزائه غاليا، و لا رخيصا، إلا أنه يشتريه هذا الشخص بأعلى القيم، و ذلك كشراء ورقة عليها خط والده مثلا فان ابنه يرغب في شرائها، و إن كانت الورقة عتيقة، و الخط الذي عليها رديّا، و قد يبذل بإزائها الأموال الطائلة لتحصيلها، كل ذلك لأجل كونها تذكارا لوالده، و أثرا من آثاره، مع أن غيره من العقلاء لا يرغب فيها لعدم تعلق غرض لهم بها، و لا يظن بأحد من أهل العرف، و اللغة أن ينكر صدق البيع على مثل هذه المعاملة، سواء اللغة العربية و غيرها، إذ لا ينحصر عندهم صدق مفهوم البيع على بيع مثل الخبز، و اللحم، و الماء و نحو ذلك مما يرغب فيه عامة الناس.

و عليه فلتكن أبوال ما يؤكل لحمه من هذا القبيل، إذ قد يتعلق الغرض الشخصي بها من المريض، أو غيره.

______________________________
كان محتاجا اليه يتداوى به يشربه، و كذلك أبوال الإبل، و الغنم» (الوسائل ج 2 ص 1012 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 15).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 314‌

..........

______________________________
و ثانيا: أنه لو سلم اعتبار المالية في مفهوم البيع كفى في تحقق مالية الشي‌ء تعلق غرض العقلاء به عند الحاجة اليه و لو أحيانا، إذ لا يعتبر في مالية الشي‌ء رغبة العقلاء فيه دائما، و في كل يوم، و ذلك في مثل الأدوية، فإن عامة الناس يرغبون فيها، لوجود منفعة مقصودة فيها، إلا أنها ليست دائمية، بل عند المرض، و الحاجة، و لو كان حصول المرض الخاص الموجب لاستعمال هذا الدواء قليل التحقق، كما في بعض الأدوية، فهل يمكن في مثله القول ببطلان الشراء ممن لا يحتاج اليه بالفعل، فليكن أبوال ما يؤكل لحمه المستعملة في التداوي أحيانا كسائر الأدوية مشمولة لأدلة صحة البيع أيضا.

و ثالثا: لو سلم توقف مالية الشي‌ء على تعلق غرض العقلاء به نوعا بحيث لو لم يكن الداعي إلى استعماله عاما لم يكن مالا عرفا لكفى في صحة المعاوضة على أبوال مأكول اللحم صدق عنوان التجارة عن التراض، فيشملها آية التجارة، لأنها أعم من البيع، لعدم اعتبار مالية العوضين في مفهومها، و مثلها قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

(الوجه الثاني): ما روى عن طرق العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «ان اللّه إذا حرم على قوم أكل شي‌ء حرم عليهم ثمنه» [1] و لا فرق بين‌

______________________________
[1] عن ابن عباس قال: «رأيت رسول اللّه- ص- جالسا عند الركن، فرفع بصره الى السماء، فضحك و قال: لعن اللّه اليهود- ثلاثا- إن اللّه حرم عليهم الشحوم، فباعوها و أكلوا أثمانها، إن اللّه إذا حرم على قوم أكل شي‌ء حرم عليهم ثمنه» (سنن البيهقي ج 6 ص 13) و (سنن ابى داود ج 2 ص 103- الطبعة القديمة- و ج 3 ص 38- الطبعة الحديثة-) و (مسند احمد ج 1 ص 247 و 293) و (المستدرك ج 2 في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ص 427 عن غوالي اللئالي عن النبي- ص- و كذا عن دعائم الإسلام) مع اختلاف يسير في نقل هذه الكتب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 315‌

..........

______________________________
الأكل و الشرب، و يحرم شرب الأبوال و ان كانت من مأكول اللحم، كما يدل عليه مفهوم موثقة عمار
«1» فيحرم بيعها بمعنى البطلان، لأن حرمة ثمن الشي‌ء من آثار بطلان بيعه، فبهذه الرواية نخرج عن عمومات صحة البيع، و التجارة عن تراض.

و يندفع أولا: بضعف سند هذه الرواية، لأنها لم ترو في أصول أحاديثنا، و إنما ذكرها أصحابنا في كتبهم الفقهية قديما، و حديثا، مرسلا عن النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله متضمنة لكلمة «أكل» تارة، و بدونها أخرى، كما لعله الأكثر. نعم: ذكرها العامة في أصول حديثهم مسندا عن ابن عباس مع إضافة كلمة «أكل» في قضية حرمة الشحوم على اليهود، و أنهم باعوها حين حرم اللّه تعالى عليهم أكلها، فأكلوا ثمنها، إلا انه لا اعتبار بإسنادهم عندنا فهي ضعيفة على كل حال سواء أ كانت مسندة من طرق العامة، أو مرسلة من طرقنا، و الظاهر أن أصحابنا القدماء أخذوها من كتب العامة، و تبعهم المتأخرون في النقل على وجه الإرسال.

و ثانيا: بضعف دلالتها، إذ لم يعمل بمضمونها أحد من الفريقين كما اعترف به في جوهر النقي في حاشية سنن البيهقي «2» قائلا: «عموم هذا الحديث متروك اتفاقا بجواز بيع الآدمي، و الحمار، و السنور، و نحوهما».

فكثير من الأمور يحرم أكلها، و لا يحرم بيعها، و من جملتها أرواث ما يؤكل لحمه التي قد عرفت عدم الخلاف في جواز بيعها، بل قيام السيرة عليه.

______________________________
(1) المتقدمة في تعليقة ص 312- 313.

(2) ج 6 ص 13.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 316‌

و أما بيعها من غير المأكول فلا يجوز [1] (1).

______________________________
(1) هذه هي المسألة الثانية من المسائل الثلاث التي أشار إليها المصنف «قده» في ضمن هذه. و يقع الكلام فيها تارة في بيع بول مالا يؤكل لحمه و أخرى في غائطه، لورود روايات خاصة في الثاني، دون الأول، فلا بد من إفراد كل منهما بالبحث.

أما (المقام الأول): ففي بيع بول مالا يؤكل لحمه، المشهور عدم الجواز، بل ادعى عليه الإجماع في كلمات جمع من الأصحاب، هذا. و لكن الصحيح جواز بيعه، للعمومات، و الإطلاقات الدالة على صحة البيع، أو التجارة عن تراض، إلا انه مع ذلك يستدل على المنع بوجوه مزيفة أوجبت توهم خروج بيعه عن تلك الأدلة.

(الأول): دعوى الإجماع على فساد بيعه. و يندفع بأن دعوى الإجماع المذكور و ان تكررت في كلمات جمع من الأعلام، إلا أن إثبات الإجماع التعبدى- في أمثال المقام مما يطمأن، أو يحتمل استناد المجمعين إلى سائر الوجوه المذكورة في المقام- مشكل جدا، لأن ملاك حجية الإجماع هو حصول القطع برأي المعصوم لا من جهة قيام دليل تعبدي على حجيته، و لا قطع مع الاحتمال المذكور، على أن الإجماع المحصل غير حاصل لنا، و المنقول منه ليس بحجة.

(الوجه الثاني): دعوى أن بول ما لا يؤكل لحمه ليس بمال عرفا، لا سيما بملاحظة حرمة شربه الموجبة لسقوطه عن الانتفاع المعتد به، و يعتبر في صحة البيع مالية العوضين.

______________________________
[1] في تعليقته (دام ظله) على قول المصنف «قده» «فلا يجوز»: (على الأحوط الأولى)

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 317‌

..........

______________________________
(و فيه): ما عرفت
«1» من فساد هذه الدعوى كبرى و صغرى، و حرمة شربه لا يوجب سقوطه عن الانتفاع مع وجود منافع أخر له محللة، كالتسميد، و استخراج الأدوية، و الغازات- كما قيل- فيكون مالا باعتبار تلك المنافع الظاهرة، و إلا فالشرب ليس من منافع الأبوال- لا سيما أبوال غير مأكول اللحم.

(الوجه الثالث): النهى الوارد في رواية تحف العقول «2» عن بيع النجس لقوله عليه السّلام فيها: «أو شي‌ء من وجوه النجس، فهذا كله حرام محرم، لان ذلك كله منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام.»‌

(و فيه): انها ضعيفة بالإرسال، و إن كان المرسل لها هو «أبو محمد الحسن بن على بن الحسين بن شعبة الحراني، أو الحلبي» «3» من وجوه أصحابنا، و هو رجل فاضل جليل القدر رفيع الشأن، إلا أنه لم يذكر رواياته في الكتاب المذكور مسندة، بل أرسلها عن الصادق عليه السّلام، فلا تكون مشمولة لأدلة حجية الخبر. و دعوى اعتماد الأصحاب على كتابه لو تمت لا تكون جابرة لضعفها، لما مرّ غير مرة من أن القول بانجبار الضعف بالشهرة غير تام عندنا و قد بسطنا الكلام حول سند هذه الرواية، و اعتباره في بحث المكاسب المحرمة، على أنه قد علل في الرواية حرمة بيع النجس بحرمة جميع التقلبات فيه، و هذا خلاف ما تسالموا عليه من جواز الانتفاع بالنجس في‌

______________________________
(1) في ص 313- 314.

(2) الوسائل ج 12 ص 54 الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) راجع ترجمته في ج 1 من تنقيح المقال للمامقانى «قده» ص 293.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 318‌

..........

______________________________
غير ما يشترط فيه الطهارة، فهذا يكشف عن عدم استناد هم في الحكم بالبطلان الى هذه الرواية، فكيف يمكن دعوى انجبار ضعفها بالعمل؟

و إن شئت فقل إن مقضي التعليل المذكور دوران المنع عن بيع النجس مدار حرمة جميع التقلبات فيه، و هذا غير منطبق في أكثر النجاسات، و منها بول ما لا يؤكل لحمه، لجواز الانتفاع بها في غير ما يشترط فيه الطهارة- كما أشرنا- فلا يمكن الاستدلال على المنع بهذه الرواية، إلا مع إثبات حرمة جميع التقلبات في الأبوال، و أنّى لنا بإثبات ذلك؟! (الوجه الرابع): النبوي المشهور: «إن اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه» المروي في بعض كتب فقهائنا كالشيخ في المبسوط، و العلامة في المستند، و غيرهما بضميمة دعوى حرمة جميع الانتفاعات بالنجس، أو أكثرها بحيث يصح أن يقال: إن اللّه حرمه على وجه الإطلاق، لندرة الانتفاع المحلل.

(و فيه): ان الظاهر أنه لا أصل لما اشتهر من نقل الرواية بهذه الكيفية أعنى إسقاط لفظة «أكل» فإنها و ان رويت- كذلك- مرسلة في بعض كتب فقهائنا إلا أنا لم نجدها بعد الفحص التام في كتب أحاديثنا، بل هي مروية في أصول أحاديث العامة، و الأصح فيها أنها بإضافة كلمة «أكل» و «ان اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي‌ء حرّم عليهم ثمنه» لإطباق كتبهم على روايتها عن ابن عباس مع اضافة هذه الكلمة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في ذيل بعض روايات قضية حرمة الشحوم على اليهود- كما ذكرنا- «1».

نعم في موضع [1] من مسند أحمد روايتها عنه بإسقاط كلمة «أكل»‌

______________________________
[1] ج 1 ص 322، عن ابن عباس ان النبي- ص- قال: «لعن اللّه اليهود حرم عليهم الشحوم، فباعوها فأكلوا أثمانها، و ان اللّه إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه».

______________________________
(1) في تعليقة ص 314.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 319‌

..........

______________________________
إلا أنه بنفسه نقله في موضع آخر
«1» من كتابه بإضافة هذه الكلمة، و الظاهر سقطها في الموضع الأول، لاتحاد الرواية و اطباق كتبهم على اشتمال هذه الكلمة، فإن الراوي عن ابن عباس في جميعها هو «بركة» المكنى بأبي الوليد و الراوي عنه أيضا واحد و هو «خالد» كما ان بعض فقهائهم كالدميرى في كتاب حياة الحيوان [1] أيضا سهى و نقل الحديث بإسقاط كلمة «أكل» نقلا عن سنن أبى داود، مع ان الموجود في سننه «2» مشتمل على هذه الكلمة.

و بالجملة: ان ما اشتهر من النبوي من روايته بإسقاط كلمة «أكل» غير ثابت كي يمكن الاستدلال به على حرمة بيع أبوال ما لا يؤكل لحمه لو ثبت حرمة جميع منافعها أو أكثرها، و ما ثبت روايته فهو مشتمل على هذه الكلمة، إلا أنه لا يمكن العمل بمضمونه لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن- كما ذكرنا- لأن كثيرا من الأمور يحرم أكلها، و مع ذلك لا يحرم بيعها بلا اشكال- عند الفريقين- على أنه مروي من طرق العامة، هذا كله في بيع بول ما لا يؤكل لحمه.

______________________________
[1] ص 220- 221 قال- في مادة الحمام-: «و اما بيع ذرق الحمام و سرجين البهائم المأكولة و غيرها فباطل، و ثمنه حرام هذا مذهبنا- الى ان قال- و احتج أصحابنا بحديث ابن عباس ان اللّه إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه، و هو حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح، و هو عام إلا ما خرج بدليل كالحمار».

______________________________
(1) ج 1 ص 247 و 293 كما تقدم في تعليقة ص 314.

(2) ج 2 ص 103- الطبعة القديمة- و ج 3 ص 38- الطبعة الحديثة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 320‌

..........

______________________________
بيع العذرة و أما غائطه فمقتضى الإطلاقات جواز بيعه، و الوجوه المتقدمة للمنع عن بيع بوله يمكن الاستدلال بها على المنع عن بيع غائطه أيضا، إلا انه قد عرفت الخدشة في جميعها، و مع ذلك المعروف بينهم القول بالمنع. بل ادعى الإجماع عليه، لأنه عذرة نجسة و قد دلت النصوص على فساد بيعها. فالعمدة هي النظر الى الروايات الخاصة الواردة في بيع العذرة، و هي على أنحاء ثلاثة (منها): ما هي مصرحة بالمنع. و (منها): ما تكون مصرحة بالجواز. و (منها):

مجملة لم يعلم المراد منها.

أما (الأولى): فهي رواية يعقوب بن شعيب [1] عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن العذرة من السحت».

و رواية دعائم الإسلام «2»: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن بيع العذرة، و قال هي ميتة».

و النهى في باب المعاملات إرشاد إلى فسادها.

و أما (الثانية): فهي رواية محمد بن مضارب [2] عن أبى عبد اللّه‌

______________________________
[1] الوسائل ج 12 ص 126 الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1. ضعيفة ب‍ «علي بن مسكين أو سكن» كما يأتي.

[2] الوسائل ج 12 ص 126 الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

و هي ضعيفة بمحمد بن مضارب، فإنه لم يصرح بوثاقته، و رواية بعض الأجلة و الثقات عنه لا تكفي في إثباتها لإمكان روايتهم عن الضعيف، و ما روي مما يدل على لطف الصادق- ع- في حقه لا-

______________________________
(2) المستدرك ج 2 ص 427. ضعيفة بالإرسال كما يأتي.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 321‌

..........

______________________________
عليه السّلام قال: «لا بأس ببيع العذرة» و في بعض نسخ المكاسب و حواشيه محمد بن مصادف و هو غلط، لما في النسخ المصححة من الكافي و الوسائل و غيرهما انه «محمد بن مضارب».

و أما (الثالثة): فهي موثقة سماعة «1» قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر قال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها، و قال لا بأس ببيع العذرة».

و الرواية الأخيرة إما مجملة إذا كانت من الجمع في المروي لمناقضة صدرها مع ذيلها مع أنها كلام واحد، فإن حرمة البيع- المذكورة في الصدر- تقتضي البطلان، لا سيما بملاحظة حرمة الثمن التي هي من آثار بطلانه، فلا تلائم ذلك مع نفى البأس عن بيعها في الذيل، و اما متعارضة إذا كانت من الجمع في الرواية بأن يكون قوله: «و قال لا بأس.» رواية أخرى يرويها سماعة منضما إلى الرواية الاولى، لا انه يكون من تمام الاولى في مجلس واحد، و الظاهر هو الثاني لا عادة قوله: «قال» و لوضع المظهر مكان المضمر، فلو كانت رواية واحدة كان الأنسب أن يقول: «و لا بأس ببيعها» لا أن يقول:

«و قال لا بأس ببيع العذرة».

فعلى الأول تسقط عن الحجية رأسا لأنها مجملة لم يعلم المراد منها، و على الثاني تدخل في المعارضة، و هو الأرجح- كما ذكرنا- فيكون حالها حال‌

______________________________
- يكفي في إثبات حسنه المصطلح الموجب للاعتماد على روايته لا سيما و ان الراوي لها هو بنفسه، فراجع (تنقيح المقال للمامقانى ج 3 ص 188).

______________________________
(1) الوسائل ج 12 ص 126 الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 322‌

..........

______________________________
الرواية الاولى مع الثانية في أنهما متعارضتان، فاذن تكون مجموع الروايات على طائفتين، مانعة، و مجوّزة.

و قد تصدى الأصحاب (رضوان اللّه تعالى عليهم) للجمع بينهما بوجوه تعرض لها شيخنا الأنصاري «قده» في المكاسب، و تبعناه على ذلك في البحث عن الكتاب المذكور، و شي‌ء منها لا يسلم عن الخدشة، بل بعضها من الفساد بوضوح، و أمتنها ما عن السبزواري بحمل روايات المنع على الكراهة بقرينة روايات الجواز المصرحة بنفي البأس عن بيعها، فيرفع اليد عن ظهور تلك بصراحة هذه، إلا أن شيخنا الأنصاري «قده» لم يرتض بهذا الوجه، و استبعده و كأنه لدعوى صراحة كلمة «السحت» الواردة في رواية ابن شعيب في الحرمة، لما قيل من أن المراد بها الحرمة الشديدة فتأبى الحمل على الكراهة و إن أمكن ذلك في رواية دعائم الإسلام حيث أن الدال على الحرمة فيها هو «مادة النهى» و يمكن حملها على الكراهة بقرينة الجواز.

أقول: لا بد أولا من ملاحظة سند هذه الروايات فلو تمت حجية كلا الطرفين كان مقتضى القاعدة ابتداء الجمع الدلالي بينهما إن أمكن، و إلا فيرجع الى المرجحات السندية، فان لم يمكن ترجيح أحد الطرفين تسقطان بالمعارضة فيرجع الى عمومات الفوق و ستعرف ان مقتضى النظر في جميع هذه المراحل الثلاث هو الحكم بجواز بيع العذرة.

أما ملاحظة أسنادها فتؤدى الى طرح روايات المنع رأسا غير الموثقة بناء على كونها روايتين.

أما رواية ابن شعيب فلضعفها ب‍ «على بن مسكين أو سكن» لأنه مجهول و أما رواية دعائم الإسلام فلضعفها بالإرسال و إن كان مؤلفه من‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 323‌

..........

______________________________
أعاظم الأصحاب نظير ما ذكرناه في روايات تحف العقول.

و دعوى انجبارهما بعمل الأصحاب مندفعة كبرى- كما مرّ غير مرة- و صغرى، لأن الأصحاب إنما ذهبوا الى المنع عن بيع مطلق النجس بل المتنجس إلا ما استثنى كالدهن المتنجس، و من مصاديق النجس العذرة، فلا يمكن استنادهم في الكبرى الى الروايتين المختصتين بالمنع عن بيع العذرة نعم لو اختص منعهم بها أمكن دعوى استنادهم الى هذه الروايات.

فالى هنا ليس في البين رواية معتبرة تدل على أن ثمن العذرة سحت كي يدعى عدم إمكان حملها على الكراهة، لأن المشتمل على هذه الكلمة رواية ابن شعيب و هي ضعيفة فحينئذ إما أن تكون رواية الجواز و هي رواية محمد بن مضارب «1» بلا معارض، لو قلنا بأن موثقة سماعة مجملة و من الجمع في المروي، و إما أن تكون معارضة بالموثقة، ان قلنا بأنها من الجمع في الرواية- كما استظهرنا- و هي لا تأبى عن الحمل على الكراهة لإمكان حمل «الحرام» على الكراهة الشديدة- بقرينة نفى البأس كما جرى عليه دأب الفقهاء في غير المقام- و لو أغمضنا النظر عن سند رواية ابن شعيب و سلمنا اعتبارها كان مقتضى الجمع العرفي أيضا حملها على الكراهة و إن كان المذكور فيها كلمة «السحت» لأنها لا تأبى عن الحمل على الكراهة، و منع الشيخ عنه ممنوع، لتصريح بعض أهل اللغة [1] باستعمالها في الكراهة، كما‌

______________________________
[1] في لسان العرب ج 1 ص 346: «السحت» يرد في الكلام على المكروه مرة و على الحرام اخرى و يستدل له بالقرائن.

و في نهاية ابن الأثير «السحت» كما يطلق على الحرام يطلق على المكروه.

______________________________
(1) قد أشرنا إلى ضعفها في تعليقة ص 320.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 324‌

..........

______________________________
تستعمل في الحرمة. بل في جملة من النصوص إرادة الكراهة من لفظة «السحت» لما فيها من إطلاق كلمة «السحت» على ثمن جلود السباع [1] و كسب الحجام [2] و اجرة تعليم القرآن مع الاشتراط [3] و قبول الهدية مع‌

______________________________
[1] عن علي- ع- قال: «من السحت ثمن الميتة. الى ان قال: و ثمن القرد و جلود السباع»؟ في المستدرك ج 13 ص 69 الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 عن الجعفريات) ضعيفة، لأن كتاب الجعفريات المعروف في كتب الرجال بالأشعثيات لإسماعيل بن موسى بن جعفر- ع- يرويه عنه ابنه موسى بن إسماعيل، و هو مجهول الحال لم يثبت وثاقته، و قد حاول المحدث النوري في خاتمة المستدرك (ج 3 ص 291- 292) إثبات اعتبار هذا الكتاب بما لا مزيد عليه إلا انه مع ذلك لم يأت بما يوجب الحجية، فراجع.

و عن علي- ع- انه قال: «من السحت ثمن جلود السباع» (المستدرك ج 13 ص 120 في الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2. عن دعائم الإسلام) مرسلة. (ط المؤسسة: قم)

[2] عن سماعة قال: قال أبو عبد اللّه- ع-: «السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجام إذا شارط.» ضعيفة بمحمد بن أحمد ابي عبد اللّه الرازي.

و مثلها موثقته إلا انه ليست فيها جملة شرطية (الوسائل ج 12 ص 62 الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 6).

و عن علي- ع- «من السحت كسب الحجام» (المستدرك ج 13 ص 74 في الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، ح: 1 (ط المؤسسة: قم) عن الجعفريات، تقدم آنفا ضعف سند الجعفريات بموسى بن إسماعيل.

[3] عن ابن عباس في قوله تعالى «أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ» قال: «اجرة المعلمين الذين يشارطون في تعليم القرآن» (المستدرك ج 13 ص 116 في الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 عن فقه الرضا) ضعيفة.

و عن علي- ع- قال: «من السحت ثمن الميتة. الى ان قال و اجرة القارئ الذي لا يقرأ القرآن إلا-

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 325‌

..........

______________________________
قضاء الحاجة [1] مع انه لا ينبغي الإشكال في جواز ذلك كله للروايات المصرحة بصحة بيع جلود السباع [2] و الدالة على جواز أخذ الأجرة على الحجامة [3] و تعليم القرآن [4].

و لو أبيت إلا عن ثبوت المعارضة و عدم إمكان الجمع الدلالي بين‌

______________________________
بالأجر» (المستدرك ج 13 ص 69 في الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 عن الجعفريات) ضعيفة بموسى بن إسماعيل كما تقدم آنفا.

[1] عن علي- ع- في قوله تعالى «أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ» قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديته» (الوسائل ج 12 ص 64 الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11 عن كتاب عيون اخبار الرضا) ضعيفة بجهالة اسناد الكتاب المذكور.

[1] كصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: «سألته عن جلود السباع و بيعها و ركوبها أ يصلح ذلك؟ قال: لا بأس ما لم يسجد عليها» (الوسائل ج 12 ص 124 الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5).

و رواية أبو مخلد السراج قال: «كنت عند ابي عبد اللّه- ع- فدخله رجلان، فقال أحدهما اني رجل سراج أبيع جلود النمر؟ فقال: مدبوغة هي؟ قال: نعم. قال: ليس به بأس» ضعيفة بأبي مخلد (الوسائل ج 12 ص 124 الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1).

[3] كموثقة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عن كسب الحجام؟ فقال: مكروه له ان يشارط و لا بأس عليك ان تشارطه و تماسكه؟ و انما يكره له و لا بأس عليك» (الوسائل ج 12 ص 73 الباب 9 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9).

و نحوها غيرها في الباب المذكور.

[4] كرواية الفضل ابن أبي قرة قال: «قلت لأبي عبد اللّه- ع- إن هؤلاء يقولون ان كسب المعلم سحت؟ فقال: كذبوا أعداء اللّه إنما أرادوا ان لا يعلموا القرآن، و لو ان المعلم أعطاه الرجل دية ولده كان للمعلم مباحا» ضعيفة بفضل (الوسائل ج 12 ص 112 الباب 29 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 326‌

الطرفين مصرا على أن كلمة «السحت» تأبى الحمل على الكراهة لزم الرجوع الى المرجحات السندية، و الأرجح هي روايات الجواز لمخالفتها للعامة فإنهم

______________________________
مطبقون [1] على المنع عن بيع العذرة حتى أبي حنيفة، و ما نسبه إليه العلامة في التذكرة من تجويزه بيع السرجين النجس بعيد عن التحقيق. نعم انما يقول بجواز بيعها إذا اختلطت بالتراب لا مطلقا، و لعل منع شيخنا الأنصاري «قده» حمل روايات المنع على التقية مبنى على هذا الزعم، و تبعه على ذلك بعض المحشين [2] قائلا: ان مجرد كون المنع مذهب أكثر العامة لا يفيد في الحمل على التقية، مع أن معاصر الامام الصادق عليه السّلام الصادر عنه الروايات- و هو أبو حنيفة- أفتى بالجواز، و لكن قد عرفت أن أبا حنيفة أيضا يمنع عن بيع العذرة الخالصة و إن كان مجوزا للمختلط منها بالتراب.

بل يمكن ترجيح أخبار الجواز بموافقتها للكتاب لموافقتها لما دل على صحة البيع، و التجارة عن تراض.

و لو أغمضنا النظر عن ذلك كله، و سلمنا عدم ترجيح روايات الجواز‌

______________________________
[1] في الفقه على المذاهب الأربعة (ج 2 ص 231- الطبعة الخامسة).

قال في المتن: و من البيوع الباطلة بيع النجس أو المتنجس على تفصيل في المذاهب.

ثم قال في ذيل الصفحة:

المالكية: قالوا: لا يصح بيع النجس كعظم الميتة. الى ان قال: و زبل ما لا يؤكل لحمه. الى ان قال:

الحنابلة: قالوا: لا يصح بيع النجس كالخمر و الخنزير و الدم و الزبل و النجس. الى ان قال.

الحنفية: قالوا: لا يصلح بيع الخمر و الخنزير و الدم. الى ان قال: «و لا ينعقد بيع العذرة فإذا باعها كان البيع باطلا، إلا إذا خلطها بالتراب فإنه يجوز بيعها إذا كانت لها قيمة مالية كأن صارت «سباخا» و يصح بيع الزبل و يسمى «سرجين أو شرقين». إلخ.

[2] هو العلامة المامقاني.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 327‌

بمخالفة العامة أو موافقة الكتاب سقط الطرفان بالمعارضة، و كان المرجع عمومات ما دل على جواز مطلق البيع و التجارة عن تراض، و مقتضاها نعم يجوز الانتفاع بهما في التسميد و نحوه (1)

______________________________
صحة بيع العذرة مما لا يؤكل لحمه.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن الأوفق بالأدلة جواز بيع البول و الغائط مما لا يؤكل لحمه و ان كان الاحتياط مما لا ينبغي تركه خروجا عن خلاف المشهور ليس إلا.

حكم التسميد

(1) هذه هي المسألة الثالثة المذكورة في ضمن هذه المسألة و هي في جواز الانتفاع بالبول و الغائط مما لا يؤكل لحمه. فنقول المشهور بل ادعى الإجماع [1] على عدم جواز الانتفاع بالأعيان النجسة إلا ما استثنى بدليل خاص [2] بل ربما يدعى الإجماع على عدم جواز الانتفاع بالمتنجس أيضا إلا ما خرج كالدهن المتنجس للاستصباح.

و لا يخفى: ان مقتضى الأصل جواز الانتفاع بجميع ذلك في غير ما يشترط فيه الطهارة، كالانتفاع بالعذرة في التسميد أو غيره، و مع ذلك فقد‌

______________________________
[1] كما عن المبسوط في فصل ما يصح بيعه و ما لا يصح: «نجس العين لا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتنائه بحال إجماعا إلا الكلب فان فيه خلافا.» و عن النهاية في المكاسب المحظورة:

«جميع النجاسات محرم التصرف فيها».

[2] كالمملوك الكافر، و ادعى الإجماع على جواز بيعه، و غير الكلب الهراش من أقسام الكلب، ككلب الصيد و السلوقي و الماشية، كما دلت عليه الروايات، و استثنوا العصير العنبي إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 328‌

يستدل على المنع بآيات لا دلالة فيها، و بروايات عمدتها رواية تحف العقول لاشتمالها على النهى عن بيع وجوه النجس معللا بحرمة جميع التقلبات فيها، و

[ (مسألة 3) إذا لم يعلم كون حيوان معين أنه مأكول اللحم، أو لا]

(مسألة 3) إذا لم يعلم كون حيوان معين أنه مأكول اللحم، أو لا، لا يحكم بنجاسة بوله و روثه (1).

______________________________
قد ذكرها شيخنا الأنصاري «قده» في بحث المكاسب المحرمة، و تعرضنا لها نحن أيضا في ذاك البحث مع ما يرد عليها و لا موجب لإطالة الكلام بذكرها في المقام.

و الأظهر وفاقا له «قده» جواز الانتفاع بالعين النجس فضلا عن المتنجس فيما لا يشترط فيه الطهارة إلا ما خرج بالدليل، كالخمر، لحرمة مطلق الانتفاع به إذ لا عموم في البين لا في الكتاب و لا في الروايات المعتبرة يدل على حرمة الانتفاع بالنجس مطلقا، فالمرجع هو أصل الحل. و قد بسطنا الكلام في بحث المكاسب المحرمة، فراجع.

روث الحيوان المشكوك حلّيته

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين: (الأول) في حكم البول و الروث من حيوان تردد بين كونه محلل الأكل، أو محرما من حيث الطهارة و النجاسة: (الثاني) في حكم لحم هذا الحيوان من حيث الحلية و الحرمة.

أما (المقام الأول): فالشبهة فيه اما ان تكون حكمية أو موضوعية.

الشبهة الحكميّة أما الشبهة الحكمية- كما في الحيوان المتولد من حيوانين لا يتبع شيئا منهما في الاسم كالمتولد من الذئب و الشاة مع عدم تبعيته في الاسم لأحدهما‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 329‌

و لا لغيرهما مما يكون محللا أو محرما- فيرجع فيها إلى قاعدة الطهارة بعد الفحص عن دليل يدل على حكمه من حيث الحلية و الحرمة كما هو الحال في

______________________________
جميع الشبهات الحكمية، و بدونه لا مجال للرجوع الى الأصل، بل يجب الاجتناب قبله.

الشبهة الموضوعيّة و أما الشبهة الموضوعية- كما إذا تردد حيوان بين كونه غنما أو خنزيرا لبعض العوارض الموجبة للاشتباه من ظلمة و نحوها- فالمرجع فيها أيضا قاعدة الطهارة من دون اشتراطها بالفحص و الاختبار عن حال الحيوان على ما هو المقرر في محله من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية، لإطلاق الأدلة كقوله عليه السّلام: «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر.» [1] الشامل لما قبل الفحص من دون ورود مخصص لها بالنسبة الى ما قبل الفحص.

و قد استشكل في ذلك صاحب الجواهر «قده» [2] و احتمل عدم الرجوع الى قاعدة الطهارة إلا بعد الفحص و الاختبار بدعوى توقف امتثال الأمر بالاجتناب عن النجس على الاحتياط في موارد الشك و الاجتناب عن المشكوك كالمعلوم كي يحصل اليقين بالبراءة قياسا على الموضوعات‌

______________________________
[1] كما في موثقة عمار المروية في الوسائل ج 2 ص 1054 في الباب 37 من أبواب النجاسات الحديث 4.

[2] ج 5 ص 289 طبعة النجف الأشرف- و محل كلامه و ان كان من حيث الشك في ذي النفس إلا انه لا فرق بين المقامين.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 330‌

التي علق الشارع عليها أحكاما، كالصلاة للوقت و القبلة و نحوهما، كما احتمل أيضا التفصيل بين الملاقي، و نفس البول أو الخرء فلا يجب الاجتناب

______________________________
عن الملاقي لاستصحاب الطهارة، بخلاف نفسهما لما ذكر، كما احتمل ثالثا الرجوع الى الأصل ابتداء، و قال: لم أعثر على تنقيح لشي‌ء منها في كلمات الأصحاب.

أقول: لا مجال لاحتمال وجوب الاحتياط و لزوم الفحص في المقام كسائر موارد الشبهات الموضوعية، لا طلاق أدلة الأصول العملية- كما أشرنا- و قياس المقام على الصلاة المقيدة بالوقت و القبلة قياس مع الفارق، لان الشك هنا في التكليف، و في تلك في المكلف به.

توضيحه: أن الحكم بوجوب الاجتناب عن النجس انحلالي إلى أفراد البول أو الغائط أو غيرهما من النجاسات، فكل فرد من أفراد البول أو الغائط له حكم مستقل غير مربوط بالفرد الآخر، كما هو الحال في جميع المحرمات كالخمر و نحوه، لأنها مجعولة على نحو القضايا الحقيقية- التي مرجعها الى قضايا شرطية مقدمها وجود موضوعاتها في الخارج و تاليها ثبوت تلك الأحكام- و عليه فما علم كونه بولا لحيوان محرم الأكل يتنجز فيه الحكم بوجوب الاجتناب للعلم بالتكليف بسبب العلم بموضوعه، و ما لم يعلم كونه بولا لمحرم الأكل لم يتنجز فيه الحكم، لانه من الشك في التكليف للشك في موضوعه، و المرجع فيه البراءة و قاعدة الطهارة.

و هذا موافق لما ذكره شيخنا الأنصاري «قده» في الشبهات الموضوعية التحريمية ردا على توهم عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان نظرا الى أن الشارع بين حكم الخمر- مثلا- فيجب حينئذ اجتناب كل ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدمة العلمية، فالعقل لا يقبح العقاب على تقدير‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 331‌

مصادفة الواقع.

______________________________
بما حاصله ما ذكرناه من أن تعلق التكليف بالمشكوك كونه خمرا غير معلوم، فيرجع فيه الى البراءة، و لا يحتاج فيه الى مقدمة علمية بعد الاجتناب عن الافراد المعلومة. نعم: يجب الاجتناب عن المشكوك في موارد العلم الإجمالي مقدمة للاجتناب عن الحرام الواقعي المعلوم تنجزه في البين، و أين هذا من الشبهات البدوية.

فعلم مما ذكرنا فساد قياس المقام على الصلاة المقيدة بالوقت و القبلة، لأنهما من قيود المأمور به لا الأمر فمع الشك فيهما يجب الاحتياط، لان التكليف معلوم و إنما الشك في مقام الامتثال.

و بالجملة: الأقوى طهارة فضلتى الحيوان المشكوك كونه محلل الأكل لأصالة الطهارة، سواء في الشبهات الحكمية أو الموضوعية مع فرق بينهما، كما عرفت.

ربما يقال: لا مجال لأصالة الطهارة- في بول المشكوك حلية لحمه- مع وجود الإطلاقات الدالة على نجاسة مطلق البول [1] بضميمة استصحاب عدم كون الحيوان محلل الأكل على نحو العدم الأزلي، إذ به ينقح موضوع تلك الإطلاقات و يثبت له حكمها. فان الإطلاقات المزبورة و إن كانت مخصصة بما دل على طهارة بول ما يؤكل لحمه بدليل منفصل [2]، و الحيوان‌

______________________________
[1] كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما- ع- قال: «سألته عن البول يصيب الثوب؟ فقال:

اغسله مرتين» (الوسائل ج 2 ص 1001 الباب 1 من أبواب النجاسات الحديث 1).

و نحوها غيرها في نفس الباب، و تقدمت في ص 279- 280.

[2] كصحيحة زرارة أو حسنته انهما قالا: «لا تغسل ثوبك من بول شي‌ء يؤكل لحمه»

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 332‌

..........

______________________________
المشكوك إباحته يكون من الشبهات المصداقية للعام حينئذ، إلا انه لما كان الباقي تحته بعد التخصص هو ما لا يحل أكله لأن الخارج عنوان وجودي و هو الحيوان المحلل فيتقيد العام بعدم هذا العنوان لا محالة، فيمكن إحرازه بمعونة استصحاب عدم حلية الحيوان على نحو العدم الأزلي و به يحرز بقاء المشكوك تحت الإطلاقات، فيحكم بنجاسة بوله، لأنه حيوان بالوجدان و لا يحل أكله بالأصل، فإذا ثبت نجاسة بوله بذلك يحكم بنجاسة روثه أيضا للإجماع على اتحادهما في الحكم.

و يرده: إمكان المنع عن كلا الأمرين أما الإطلاقات فلقوة انصرافها الى بول الإنسان- كما أشرنا- و أما الاستصحاب فلأنا و ان صححنا جريانه في الأعدام الأزلية بما لا مزيد عليه، إلا انه لا مجال لجريان استصحاب عدم الحلية إذ يكفي في ثبوت الحلية مجرد عدم الإلزام بالفعل أو الترك، و ذلك لأن الحلية بمعنى السعة و عدم الضيق فيقابل الوجوب و التحريم الّذين هما تضييق في حرية العبد بإلزامه الفعل أو الترك، و من هنا قال بعض أهل اللغة [1] في وجه تسمية الحلال انه: «سمى حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه ضد الحرام».

و بالجملة: ما يحتاج الى جعل وجودي إنما هي الأحكام الإلزامية أو ما يرجع إليها، و أما الحلية فلا تحتاج الى جعل كذلك. بل يكفى فيها عدم‌

______________________________
(الوسائل ج 2 ص 1010 الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 4).

و نحوها غيرها في نفس الباب.

[1] كما في أقرب الموارد.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 333‌

..........

______________________________
جعل الحرمة أو الوجوب، فإن الإنسان بحسب طبعه الأولي يفعل أو يترك و يرى نفسه مختارا الى أن يرد المنع أو الإلزام من قبل المولى، و لذا كان المسلمون أو غيرهم من أهل أديان لا يلتزمون بشي‌ء فعلا أو تركا قبل أن يأمرهم النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله أو غيره من الأنبياء عليهم السلام به أو ينهاهم عنه، و يشهد بذلك نزول الأحكام الإلزامية في الشريعة المقدسة نجوما و قبله كان المسلمون في سعة من الفعل أو الترك. و النتيجة انه يصح استصحاب عدم الحلية و بدونه يكون التمسك بالإطلاقات من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

على أنه لم يثبت أن موضوع النجاسة هو ما ليس بمحلل الأكل- أى المقيد بالقيد العدمي- لما في الروايات من إثباتها للمحرم أكله كقوله عليه السّلام في حسنة ابن سنان: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «1» و ظاهره دخل وصف حرمة الأكل في ترتب النجاسة، فيكون موضوع النجاسة مقيدا بعنوان وجودي لا يمكن إثباته بالاستصحاب لعدم الحالة السابقة، و استصحاب عدم الحلية لو سلم جريانها لا يثبت الحرمة إلا على القول بالأصل المثبت، و هذا لا ينافي ما في الروايات من إثبات الطهارة لما يحل أكله لاحتمال أخذه في الموضوع من باب الملازمة فإن الحلية و الحرمة في المقام ضدان لا ثالث لهما، فيكون وجود أحدهما ملازما لعدم الآخر فلو فرضنا دخل حرمة الأكل في نجاسة البول كان عدمها الملازم للحلية موضوعا للطهارة فأخذ الحلية في الموضوع بلحاظ انها لازمه دون نفسه، فاذن ينعكس الأمر إذ مع الشك في حرمة اللحم يستصحب عدمها، و به‌

______________________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1008 الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 334‌

..........

______________________________
ينقح موضوع الطهارة، و لا يعارضه استصحاب عدم الحلية لعدم ترتب أثر شرعي عليها على الفرض.

و أما توهم استصحاب عدم ذات المحلل أكله كالشاة- مثلا- لا بوصف انه محلل كي يورد عليه بما ذكرناه.

فمندفع بأن الخارج- بحسب الروايات- إنما هو هذا العنوان لا أفراد المعنون بحيث يكون العنوان ملحوظا آلة و مرآة للأفراد.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: ان أصالة الطهارة في المقام لا يورد عليها بشي‌ء من الأدلة. بل مقتضى الاستصحاب أيضا في وجه هو الحكم بطهارة بول المشكوك لحمه.

ثم انه قد يتوهم التنافي بين الحكم بطهارة بول الحيوان المشكوك و خرئه مع الحكم بحرمة لحمه- كما في المتن- لما سبق من نجاستهما من الحيوان المحرم أكله، فكيف يمكن الجمع بين طهارتهما و حرمة لحم الحيوان؟! و يندفع: بأنه لو منعنا عن أصالة الحرمة في اللحوم- كما ستعرف- فيتطابق الأصلان لأن مقتضى الأصل في لحمه حينئذ الحلية، و في فضلتيه الطهارة.

و لو سلمنا الأصل المزبور فيندفع التوهم أيضا بأنه لا ملازمة بين نجاسة البول و الخرء، و مطلق الحرمة الثابتة للحيوان و لو لأمر عرضي، أو بمقتضى الأصل العملي- كما في المقام- و إنما ثبتت الملازمة بين نجاستهما و حرمة الحيوان في نفسه.

بيان ذلك: أن المستفاد من الأدلة إنما هو نجاسة البول و الخرء من كل حيوان محرم الأكل بما هو حيوان، سواء أ كان محرما بعنوانه الاولى، كالسباع،

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 335‌

..........

______________________________
أو بعنوانه الثانوي، كالجلال و الموطوء، و أما الحرمة الثابتة له لعارض خارجي، كعدم وقوع التذكية عليه حال حياته، إما من جهة عدم قبوله لها، أو من جهة حرمة أكله حال حياته فلا تكون موضوعا للنجاسة إذ هذه حرمة عرضية ثابتة للحيوان لأمر خارج، نظير عنوان الغصب و الضرر و نذر عدم أكله و نحو ذلك من الأمور الخارجة عن ذات الحيوان الموجبة لحرمة أكله، فإن الشاة المغصوبة- مثلا- يحرم أكل لحمها إلا أن بولها و روثها محكومان بالطهارة.

و عليه لا يمكن الحكم بنجاسة فضلتى الحيوان المشكوك و إن حكم بحرمة لحمه لا قبل الذبح و لا بعده، أما في الأول فلان الحرمة ثابتة للحيوان لأمر عرضي- و هو عدم وقوع التذكية عليه- لا بما هو حيوان، و أما في الثاني فلثبوتها له بمقتضى الأصل لاستصحاب الحرمة الثابتة له في حال الحياة إما من جهة الشك في قبوله للتذكية، أو من جهة حرمة أكله حال الحياة- بناء على حرمة أكل الحيوان الحي- و إن شئت فقل إن الحرمة المستصحبة موضوعها اللحم لا الحيوان بما هو حيوان، و مثلها لا توجب نجاسة مدفوعيه.

نعم: استصحاب حرمة لحم الجلال من جهة الشك في الاستبراء يترتب عليه نجاسة بوله و روثه، لثبوتها للحيوان نفسه، و لو بعنوانه الثانوي، إلا أنه خارج عن محل الكلام.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 336‌

و إن كان لا يجوز (1) أكل لحمه بمقتضى الأصل [1].

______________________________
أكل لحم الحيوان المشكوك حليّة

(1) قد ذكرنا أن البحث في (المقام الثاني) يقع عن جواز أكل لحم الحيوان المردد بين كونه محرم الأكل أو محللا، و الشك فيه قد يتمحض في الحلية و الحرمة فقط مع العلم بقبوله للتذكية، و اخرى يشك في كلا الأمرين- أي الحلية و الحرمة، و قبول الحيوان للتذكية- فهنا قسمان.

أما القسم الأول: فالشبهة فيه إما حكمية، كما لو شك في أن الأرنب محلل أو محرم مع فرض العلم بقبوله للتذكية و طهارته بها، و إما موضوعية كما لو شك في أن حيوانا شاة أو ذئب، للعوارض الخارجية، كظلمة و نحوها و كثيرا ما يتفق ذلك في الطيور، لأنها قابلة للتذكية إلا أنه لم يعلم أنها من القسم الحلال أو الحرام.

أما الشبهة الحكمية: فالأمر فيها ظاهر لأن المرجع قاعدة الحل- كما في كل مشكوك الحلية- و لا مخرج عنها إلا ما يقال من أصالة الحرمة في اللحوم و الشحوم التي بنى عليها جمع من المحققين، كالشهيد و غيره.

و لم يعرف لها وجه سوى توهم استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان قبل وقوع الذكاة عليه، بدعوى أن الحيوان قبل ذبحه يكون حراما يقينا، و بعده يشك في ارتفاعها فتستصحب، و يكون استصحابها حاكما على أصالة الحل.

و فيه أولا: ما مر مرارا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات‌

______________________________
[1] في تعليقته (دام ظله) على قول المصنف «قده» «بمقتضى الأصل»: (لا أصل في المقام يقتضي الحرمة، اما مع العلم بقبول الحيوان للتذكية فالأمر ظاهر، و اما مع الشك فيه فلأن المرجع حينئذ هو عموم ما دل على قبول كل حيوان للتذكية إذا كانت الشبهة حكمية، و استصحاب عدم كون الحيوان المشكوك فيه من العناوين الخارجة إذا كانت الشبهة موضوعية).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 337‌

..........

______________________________
الحكمية لمعارضته دائما باستصحاب عدم الجعل أزلا، هذا على مسلكنا، و أما على مسلك القوم من جريانه فيها فيرده ما نذكره.

ثانيا: من عدم الدليل على حرمة أكل الحيوان الحي لو كان محلل اللحم في نفسه، كالسمكة الحية، أو العصفور الحي و الجراد و نحو ذلك من الحيوانات الصغار التي يمكن ابتلاعها حيا، و الاستثناء في قوله تعالى:

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.» [1] بقوله عز من قائل: «إلا ما ذكيتم» لا يدل على أن المحلل هو خصوص المذكى حتى يكون الباقي في المستثنى منه كل ما لم يذك، سواء أ كان حيا أم ميتا حتف أنفه أو مذبوحا بغير وجه شرعي، لأن ظاهر الآية الكريمة هو أن المستثنى منه الحيوان الميت بأحد الأسباب المذكورة فيها- كأكل السبع، و النطح، و التردي و نحوها- لأنه المعد للأكل دون الحيوان الحي، فكأن الآية الشريفة قسمت الحيوان الميت الى قسمين المذكى، و غيره، فحللت الأول، و حرمت الثاني، و أما الحيوان الحي فخارج عن المقسم.

و بالجملة: الأمور المتصورة في المقام ثلاثة (أحدها): القطعة المبانة من الحي، و هي و إن كانت محرمة- كما سيأتي- لأنها ميتة إلا انها خارجة عن البحث، لأن المستصحب هي حرمة نفس الحيوان قبل ذبحه و أما القطعة المبانة فلا موضوع لها قبل ذلك. (ثانيها): لحم الحيوان المشكوك بعد تذكيته، و هذا هو محل الكلام من حيث الجواز و عدمه. (ثالثها): نفس الحيوان حال حياته، و هذا لا دليل على حرمة أكله حيا، و المقصود بالاستصحاب إنما هو‌

______________________________
[1] قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ.» المائدة 5: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 338‌

..........

______________________________
سحب هذه الحرمة الى ما بعد الذبح، و قد عرفت منعها.

و ثالثا: أنه لو سلم ثبوت الحرمة للحيوان حال حياته كان استصحابها الى ما بعد ذبحه من القسم الثالث من أقسام الكلى، و ذلك لان الحرمة السابقة كانت ثابتة لعنوان غير المذكى، و بوقوع الذكاة عليه ترتفع تلك الحرمة بارتفاع موضوعها يقينا، و المحتمل وجودها بعد التذكية إنما هي حرمة اخرى ثابتة للحيوان لخصوصية فيه يحتمل مقارنتها مع الحرمة الزائلة، فليس الشك في بقاء تلك الحرمة بل في حدوث حرمة أخرى مقارنة مع تلك الحرمة، و هو وجود آخر لا يجرى فيه استصحاب الكلى كما حقق في محله. و شبهة كون وصف اللامذكى جهة تعليلية لا تقييدية لا يصغى إليها بعد حكومة العرف في أمثال المقام.

و رابعا: انه لو سلم جريان استصحاب الحرمة- في نفسه- كان محكوما بعموم الآيات [1] الدالة على حل مطلق الطيبات- التي منها الحيوان المذكى- إلا ما خرج بالدليل، و كذا إطلاق قوله تعالى «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ.» [1] و نحوها إطلاق الروايات الواردة في صيد البر [1] و‌

______________________________
[1] كقوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ، وَ مٰا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوٰارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّٰا عَلَّمَكُمُ اللّٰهُ فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ

و قوله تعالى «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ.» المائدة 5: 4 و 3 و نحوهما- آية 157 من سورة الأعراف.

[2] «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.» الانعام 6: 145.

[3] كصحيحة محمد بن قيس عن ابي جعفر- ع- قال: «من جرح صيدا بسلاح، و ذكر اسم اللّه-

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌2، ص: 339

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 339‌

..........

______________________________
البحر [1] التي يمكن استفادة حل مطلق الصيد البري و البحري منها إلا ما خرج، و مع وجود هذه العمومات و الإطلاقات لا مجال للرجوع الى استصحاب الحرمة.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا مجال لأصالة الحرمة في اللحوم- التي قال بها جمع من الأصحاب- في الشبهة الحكمية من هذا القسم. بل مقتضى الأصل اللفظي و العملي فيها الحلية.

و أما الشبهة الموضوعية: فمقتضى الأصلين فيها أيضا ذلك إلا أن التمسك بعمومات الحل فيها إنما يتم بضميمة استصحاب العدم الأزلي في العنوان الخاص المحرم عدما أزليا، كاستصحاب عدم كون الحيوان ذئبا- مثلا- فيما لو شك انه شاة أو ذئب، إذ بدونه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

______________________________
عليه ثم بقي ليلة أو ليلتين لم يأكل منه سبع و قد علم ان سلاحه هو الذي قتله فليأكل منه إن شاء.»

و صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر- ع- قال: «كل من الصيد ما قتل السيف و الرمح و السهم.»

و صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه- ع- عن الصيد يضربه الرجل بالسيف أو يطعنه بالرمح أو يرميه بسهم فيقتله، و قد سمى حين فعل؟ فقال: كل لا بأس به.» (الوسائل ج 16 ص 274 الباب 16 من أبواب الصيد، الحديث 1 و 2 و 3).

[1] كصحيحة الحلبي أو حسنته عن ابي عبد اللّه- ع- قال: «سألته عن صيد الحيتان و ان لم يسم عليه؟ قال: لا بأس به».

و رواية زيد الشحام عن ابى عبد اللّه- ع- «انه سئل عن صيد الحيتان و إن لم يسم عليه؟ قال لا بأس به إن كان حيا ان تأخذه» ضعيفة بمفضل بن صالح أبو جميلة الأسدي (الوسائل ج 16 ص 292 الباب 33 من أبواب الصيد، الحديث 1 و 2).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 340‌

..........

______________________________
و أما إذا شك في حلية لحم الحيوان و في قابليته للتذكية- معا- فهل يجرى فيه أصالة عدم التذكية؟ الصحيح عدم جريانها سواء في الشبهات الحكمية أو الموضوعية.

أما أولا: فلأنه بعد تحقق الذبح الشرعي يشك في حليته فيرجع فيها إلى أصالة الحل، كما في كل مشكوك الحلية.

نعم: ربما يقال بحكومة أصالة عدم التذكية عليها لأنها أصل موضوعي حاكم على الأصل الحكمي، و قد وجه شيخنا الأنصاري «قده» بذلك ما ذهب اليه المحقق و الشهيد الثانيان من أصالة الحرمة في الحيوان المشكوك قبوله للتذكية.

بتقريب: أن من شرائط التذكية قابلية المحل و هي مشكوكة- على الفرض- فبعد تحقق الذبح الجامع للشرائط المعتبرة يشك في حصول التذكية للشك في القابلية و الأصل عدمها، و أثره حرمة الأكل، لأن المحلل بمقتضى قوله تعالى «إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ» هو المذكى فغيره يكون حراما.

و ربما (يورد) عليه بأنه لو بنى على أن التذكية عبارة عن الأفعال الخارجية من فرى الأوداج و غيرها مع القابلية- على أن تكون القابلية جزء لمفهومها أو شرطا- لا يجرى استصحاب عدم التذكية. أما على الأول فلأن الشك فيها نشأ من الشك في القابلية، و لا يمكن إجراء أصالة عدمها إذ القابلية لم يحرز لعدمها حالة سابقة لأنها من لوازم الماهية فلا يجرى فيها أصالة العدم حتى لو بنى على جريانها في الأعدام الأزلية لاختصاص القول بجريانها بعوارض الوجود. و أما على الثاني فلأنه لو شك في التذكية للشك في القابلية مع تحقق الأفعال الخاصة لا مجال لجريان أصالة عدم الوجود‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 341‌

..........

______________________________
الخاص إذ لا شك في الوجود و إنما الشك في الخصوصية و هي ليست مجرى لأصل العدم.

و (يندفع): بأن التذكية تقع على الموجود الخارجي و القابلية لها لا محالة تكون من صفات الموجود الخارجي فكيف يمكن دعوى أنها من صفات الماهية و لوازمها، إذن لا مانع من التمسك بأصالة عدم القابلية بناء على جريان الأصل في الاعدام الأزلية، و أما على الشرطية فالأمر أوضح فإن إضافة الوجود إلى الماهية الخاصة مشكوك فيها لا محالة و الأصل عدمها، و لا ينافيه العلم بأصل الوجود كما هو ظاهر.

بل الصحيح في الجواب ان يقال انه ليس في شي‌ء من الروايات عين و لا أثر عن حديث القابلية- بأن تكون القابلية من شرائط التذكية أو جزء لمفهومها- بل غاية ما هناك انه قد حكم الشارع بحل بعض الحيوانات و طهارته عند ذبحه الشرعي، و لم يحكم بذلك في البعض الآخر و لو ذبح كذلك.

نعم: لا بد من الالتزام بتبعية الأحكام الشرعية للمصالح و المفاسد الواقعية في متعلقاتها إلا أن هذا أجنبي عن الالتزام بوجود صفة خاصة تكوينية في الحيوان تسمى بقابليته للتذكية- على حد تعبير الفقهاء- و تكون من شرائطها، و إلا لانسد باب أصالة الحل في مطلق ما يشك في حليته للشك في قابليته لحكم الشارع فيه بالحل، فيجري استصحاب عدمها، فلو عبرنا في المقام- أحيانا- بالشك في القابلية كان ذلك جريا على اصطلاح القوم، و إلا فلا نريد بذلك إلا حكم الشارع بحل الحيوان و طهارته عند وقوع الذبح المشروع عليه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 342‌

..........

______________________________
فبعد إلغاء هذا الحديث نقول: إن كانت التذكية عبارة عن نفس الذبح الخارجي مع الشرائط المعتبرة لم يكن مجال لاستصحاب عدمها، لأنها مقطوعة الوجود حينئذ، و إنما الشك في حلية لحم الحيوان و طهارته بعد الذبح فيرجع الى الأصل فيهما- أصالة الحل و الطهارة.

و إن كانت التذكية أمرا وجوديا بسيطا مترتبا على الذبح الخاص يستصحب عدمها، لأنها من الشك في المحصل- الذي يكون مجرى لأصالة العدم- نظير الطهارة المترتبة على الوضوء و الغسل- على القول بالتسبيب فيها- أو الملكية الحاصلة من الإيجاب و القبول للشك في تحققها حينئذ و الأصل عدمها من دون فرق بين الشبهات الحكمية و الموضوعية. و هكذا الحال لو قلنا بأنها نفس الذبح المقيد بالقابلية شرطا أو جزءا التي قد عرفت منعها، هذا.

و لكن بالنظر الى موارد استعمال التذكية في اللغة [1]. و في قوله تعالى:

«إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ» و كذا الروايات الواردة في أحكام التذكية و شرائطها يتعين الاحتمال الأول، لإسناد التذكية فيها الى الذابح الظاهر في كونها فعلا من‌

______________________________
[1] في أقرب الموارد، و المنجد ذكى الذبيحة تذكية: ذبحها.

و في مجمع البحرين في تفسير قوله تعالى «إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ» أي إلا ما أدركتم ذبحه على التمام.

و قال معنى ذكيتم ذبحتم اي قطعتم الأوداج.»

و قال أيضا: التذكية الذبح و النحر، و انه قد تستعمل بمعنى الطهارة- كما في الحديث- «كل يابس ذكي» اي طاهر، و منه «ذكاة الأرض يبسها» اي طهارتها من النجاسة. أقول استعمالها بمعنى الطهارة لا ينافي كونها عنوانا لنفس الفعل اي الذبح لا امرا اعتبار يا مترتبا عليه كما في إطلاق الطهارة على نفس الوضوء و الغسل.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 343‌

..........

______________________________
أفعاله الاختيارية قال عليه السّلام في موثقة ابن بكير
«1» الواردة في شرائط لباس المصلي: «فإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله و حرم عليك أكله فالصلاة في كل شي‌ء منه فاسدة ذكاه الذابح أو لم يذكه» حيث أسند فيها التذكية إلى الذابح، و في بعض النسخ «ذكاه الذبح أو لم يذكه» و لا فرق بينهما في الدلالة على أن التذكية من أفعال الذابح لا أنها أمر اعتباري مترتب على الذبح.

و قد روى على ابن أبي حمزة [1]، (في حديث) قال: «قلت أو ليس الذكي مما ذكى بالحديد؟ قال: بلى إذا كان مما يؤكل لحمه.»‌

فإنها أيضا تدل على المطلوب، لإمضاء الإمام عليه السّلام بقوله: «بلى» ما أسنده السائل من فعل التذكية بالحديد الى الذابح. و أما التقييد بما يؤكل لحمه فلأجل كونه شرطا في لباس المصلى الذي هو مورد الرواية دون التذكية لوقوعها على ما لا يؤكل لحمه- كالسباع- أيضا.

و بالجملة: هذه الروايات و غيرها [2] تدلنا على أن «التذكية» فعل‌

______________________________
[1] الوسائل ج 3 ص 252 الباب 3 من أبواب لباس المصلي، الحديث 3 ضعيفة بعبد اللّه بن إسحاق العلوي فإنه مهمل و بمحمد بن سليمان الديلمي فإنه مجهول أو ضعيف.

[2] كموثقة سماعة قال: «سألته عن الذكاة؟ فقال: لا تذك إلا بحديدة.» (الوسائل ج 16 ص 308 الباب 1 من أبواب الذبائح، الحديث 4).

و موثقة أبي بصير عن ابي عبد اللّه- ع- قال: «لا تأكل من فريسة السبع و لا الموقوذة و لا المتردية إلا ان تدركها حية فتذكي» (الوسائل ج 16 ص 333 الباب 19 من أبواب الذبائح، الحديث 5).

و رواية عبد اللّه بن سليمان عن ابى عبد اللّه- ع- قال: «في كتاب علي عليه السّلام إذا طرفت العين-

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 250 الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 344‌

..........

______________________________
المذكى كسائر أفعاله الاختيارية. نعم قد اعتبر الشارع فيها قيودا و شرائط- كالتسمية و الاستقبال و غيرهما- فاذن لا مجال لاستصحاب عدم التذكية عند الشك في قابلية الحيوان لها، للعلم بوجودها جامعة للشرائط المعتبرة، كما ذكرنا.

و أما (ثانيا): فلأنه لو سلمنا جريان استصحاب عدم التذكية إما لكون القابلية جزأ أو شرطا فيها و لم تحرز على الفرض، أو لكونها أمرا وجوديا بسيطا مترتبا على الذبح كان محكوما بعموم ما دل على أن كل حيوان قابل للتذكية إلا ما خرج بدليل خاص، كالكلب و الخنزير و المسوخ- على قول في الأخير- و المفروض ان المشكوك فيه في الشبهات الحكمية لم يصدق عليه تلك العناوين الخاصة بالوجدان، و في الشبهات الموضوعية ببركة استصحاب العدم الأزلي، إذ به يخرج التمسك بالعام عن كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. و يدل على العموم المذكور.

صحيح على بن يقطين [1] قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام‌

______________________________
- أو ركضت الرجل أو تحرك الذنب فأدركته فذكه» ضعيفة بعبد اللّه بن سليمان، و الظاهر انه النخعي الكوفي و هو لم تثبت وثاقته أو مردد بينه و بين غيره ممن هو مجهول الحال (الوسائل ج 16 ص 333 الباب 11 من أبواب الذبائح الحديث 7).

[1] الوسائل ج 3 ص 255 الباب 5 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1.

و نحوها صحيحة ريان بن صلت قال: «سألت أبا الحسن الرضا- ع- عن لبس الفراء و السمور و السنجاب و الحواصل و ما أشبهها و المناطق و الكيمخت و المحشو بالقز و الخفاف من أصناف الجلود؟

فقال: لا بأس بهذا كله إلا الثعالب» (الوسائل الباب المذكور، الحديث 2).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 345‌

..........

______________________________
عن لبس الفراء، و السمور، و الفنك، و الثعالب و جميع الجلود؟ قال: لا بأس بذلك».

فان نفى البأس عن جميع الجلود يدل بإطلاقه على جواز لبسها حتى في الصلاة فيدل بالالتزام على قبولها للتذكية، إذ لو لم تكن كذلك لم يجز لبسها في الصلاة أو مطلقا بناء على القول بعدم جواز الانتفاع بالميتة، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ربما يناقش في التمسك بمثل هذا العموم بأنه- بعد تخصيصه بما دل على عدم جواز لبس الميتة مطلقا أو في خصوص الصلاة- من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن الباقي تحته- بعد التخصيص المذكور، و لو بمنفصل- يكون هو المذكى، و المفروض انه يشك في قابلية الحيوان للتذكية.

و يدفعه: أن الميتة- لغة و شرعا- هو الحيوان الذي مات حتف أنفه أو ذبح بغير الوجه الشرعي، و المفروض وقوع الذبح بشرائطه المعتبرة على الحيوان المشكوك فيه، فلا ينبغي توهم كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، و أما خروج ما لا يقبل التذكية بهذا العنوان، فلم يدل عليه دليل، و حكم الشارع بحل الأكل و الطهارة في بعض الحيوانات و عدمه في بعض آخر لا يدل على ذلك، كما عرفت.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن مقتضى الأصل و الدليل في الحيوان المشكوك فيه و لو من جهة الشك في قبوله التذكية هو الحل لا الحرمة كما ذهب إليها بعضهم، و منهم المصنف «قده».

ثم انه على تقدير جريان استصحاب عدم التذكية هل يحكم بنجاسة الحيوان المشكوك فيه كما يحكم بحرمته، الظاهر عدم الحكم بالنجاسة، كما‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 346‌

و كذا إذا لم يعلم ان له دما سائلا أم لا (1) كما إذا شك في شي‌ء انه من فضلة حلال اللحم أو حرامه، أو شك في أنه من الحيوان الفلاني حتى يكون نجسا أو من الفلاني حتى يكون طاهرا، كما إذا رأى شيئا لا يدرى أنه بعرة فأرة أو بعرة خنفساء، ففي جميع هذه الصور يبنى على طهارته.

______________________________
أوضحنا الكلام في ذلك في الأصول بما لا مزيد عليه و سيأتي في ذيل (المسألة الخامسة من نجاسة الميتة) لأن موضوع النجاسة هي الميتة و استصحاب عدم التذكية لا يثبتها، لأنها عنوان وجودي ملازم لعدم التذكية.

نعم تثبت به آثار غير المذكى، كحرمة الأكل و عدم جواز الصلاة فيه، و من هنا لا مانع من الحكم بطهارة الجلود المستوردة من بلاد الكفر و كذا اللحوم المشكوك تذكيتها و إن كان يحرم أكلها لاستصحاب عدم وقوع التذكية الشرعية عليها.

حكم روث الحيوان المشكوك كونه ذا نفس

(1) أى يحكم بطهارة فضلته لقاعدة الطهارة، كما في الحية، لاختلافهم في أن لها نفسا سائلة أم لا.

و قد (يتوهم): جواز، التمسك بعموم ما دل على نجاسة بول كل حيوان لا يؤكل لحمه بضميمة استصحاب عدم كون المشكوك فيه مما لا نفس له لأنه الخاص الخارج عن ذاك العموم فيستصحب عدمه، و به ينقح موضوع العام فيحكم بالنجاسة، كما في نظائر المقام مما يجرى فيه استصحاب عدم الخاص لا حراز بقاء المشكوك تحت العام.

و (يندفع): بأن استصحاب العدم الأزلي إنما يجدي في إحراز بقاء الفرد المشكوك فيه تحت العام فيما إذا كان الخاص من العناوين الوجودية الخارجة‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 347‌

[ (مسألة 4) لا يحكم بنجاسة فضلة الحية]

(مسألة 4) لا يحكم بنجاسة فضلة الحية (1) لعدم العلم بأن دمها سائل. نعم حكى عن بعض السادة أو دمها سائل، و يمكن اختلاف الحياة في ذلك، و كذا لا يحكم بنجاسة فضلة التمساح للشك المذكور، و إن حكى

______________________________
عن تحت العموم، لأنها مسبوقة بالعدم الأزلي، و في المقام يكون الخاص عنوانا عدميا و هو ما ليس له نفس سائلة، فالاستصحاب يثبته لا انه ينفيه، فاستصحاب العدم الأزلي في المقام ينتج عكس المطلوب إذ به يحرز عنوان الخاص الخارج لا الباقي تحت العام، فلا بد من الحكم بالطهارة حتى بلحاظ الاستصحاب.

ثم انه قد تقدم «1» اشكال صاحب الجواهر «قده» في التمسك بقاعدة الطهارة في أمثال المقام مع جوابه في جميع الشبهات الموضوعية، و منها هذه الصورة، و اللتان ذكرهما في المتن بعدها (إحداهما)- أن يكون منشأ الشك في طهارة الفضلة أيضا احتمال كون الحيوان مما لا نفس له إلا انه من جهة تردده بين حيوانين أحدهما ذو النفس دون الآخر كما إذا ترددت بين كونها من الفأرة أو الخنفساء. (ثانيتهما)- تردد الحيوان بين محرم الأكل و محلله كما لو تردد في الفضلة بين كونها من شاة أو ذئب، فإن المرجع في جميع هذه الصور أصالة الطهارة بلا محذور.

فضلة الحيّة

(1) قد علم حكم فضلة الحية و التمساح- لو شك في كونهما ذا النفس- مما ذكرناه في المسألة السابقة لأنهما من مصاديق الكبرى التي أشار إليها‌

______________________________
(1) في ص 329.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌2، ص: 348‌

عن الشهيد أن جميع الحيوانات البحرية ليس لها دم سائل إلا التمساح، لكنه غير معلوم و الكلية المذكورة أيضا غير معلومة.

______________________________
بقوله: «و كذا إذا لم يعلم أن له دما سائلا أم لا» و إنما تعرض لهما المصنف «قده» بالخصوص لوقوع الخلاف بين الاعلام في كونهما ذا النفس أم لا [1] كما يظهر من المتن.

______________________________
[1] ففي مفتاح الكرامة (ج 1 ص 118 في منزوحات البئر) عن المعتبر: «و الذي أراه وجوب النزح في الحية لأن لها نفسا سائلة و ميتتها نجسة» و في الجواهر (ج 5 ص 296) طبعة النجف الأشرف: «انها من ذوات النفس السائلة صريح المعتبر و المنتهى. بل عن بعضهم نسبته الى المعروف بين الأصحاب و يقتضيه ما عن المبسوط ان الأفاعي إذا قتلت نجست إجماعا، أو انها ليست منها كما لعله مال إليه في جامع المقاصد و الروضة. بل في المدارك ان المتأخرين استبعدوا وجود النفس لها. قلت: إرجاع الأمر إلى الاختبار هو اللائق».




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net