التاسع الخمر 

الكتاب : فقه الشيعة - كتاب الطهارة ج‌3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 14057

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌3، ص: 163

[التاسع الخمر]

نجاسة الخمر

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 164‌

..........

______________________________
نجاسة الخمر. المسكر المائع. حكم الكحول.

(الكل) العصير العنبي. عصير التمر و الزبيب.

الزبيب و الكشمش و التمر في الأمراق و الطبيخ. فروع و تطبيقات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 165‌

«التاسع» الخمر (1)

______________________________
(1)
نجاسة الخمر اختلف الأصحاب في نجاسة الخمر، فالمشهور بين أكثر علمائنا- قديما و حديثا- هو القول بالنجاسة حتّى أنه حكى عن المرتضى «قده» أنه قال: «لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم.» و قد ذهب إلى القول بالطهارة بعض القدماء- كالصدوق و والده في الرسالة، و الجعفي، و العماني- بل يظهر من بعض الأخبار «1» وجود القول بالطهارة بين قدماء أصحابنا المعاصرين للأئمّة عليهم السّلام و قد ذهب جمع من المتأخرين كالمحقق الأردبيلي، و صاحب المدارك و الذخيرة، و المحقق الخوانساري، إلى القول بالطهارة أيضا مع تردد من بعضهم.

و منشأ الاختلاف إنما هو اختلاف الروايات، و طريق علاجها جمعا أو طرحا، و هي العمدة في المقام. إذ الكتاب العزيز لا دليل فيه على النجاسة، لأن قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «2» لا دلالة له عليها، لأن المراد بالرجس ليس هو النجس بمعناه الشرعي المصطلح- كما نسب إلى بعض أهل اللغة- إذ لو سلم ذلك لما أمكن إرادته في خصوص الآية الكريمة، لأنه يقتضي نجاسة الميسر و ما بعده، لوقوعه خبرا عن الجميع، و لا معنى لنجاسة الميسر، لأنه من الأفعال، و لا معنى لنجاسة الفعل. كما أنه لا قائل بنجاسة الأنصاب و الأزلام و دعوى:

كونه خبرا عن خصوص الخمر مع الالتزام بتقدير شي‌ء آخر بالنسبة إلى البقية لا شاهد عليها، لشهادة السياق باتحاد الجميع من حيث الحكم. فالمراد‌

______________________________
(1) كصحيحة على بن مهزيار المروية في وسائل الشيعة: ج 3 ص 468 الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 2.

(2) المائدة: 5: 92.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 166‌

..........

______________________________
بالرجس هو القبيح، المعبر عنه بالفارسية ب‍: «پليد و زشت». و المشهور بين أهل اللغة: ان الرجس هو المأثم، فالمراد بالاجتناب عن المذكورات ترك استعمالها بحسب ما هو المتعارف منها.

و أما الإجماع المستدل به في كلام بعضهم على النجاسة فالمنقول منه ليس بحجة، و المحصل غير حاصل. كيف! و قد ذهب جمع من أكابر الأصحاب القدماء- كالصدوق و غيره- و المتأخرين- كالأردبيلي و غيره- إلى القول بالطهارة، كما أشرنا إليه.

فالعمدة هي الروايات، و هي على طائفتين متعارضتين:

الطائفة الأولى: الروايات الدالّة على نجاسة الخمر، و هي كثيرة «1» لعلها تبلغ حد الاستفاضة أو التواتر على أن فيها الصحاح و الموثقات، فلا مجال للمناقشة فيها سندا أو دلالة، فإنه لا قصور في دلالتها على اختلاف مضامينها و إن اختلفت في مراتب القوّة. ففي بعضها: الأمر بغسل الثوب الّذي أصابه الخمر أو نبيذ مسكر «2».

______________________________
(1) و في الجواهر- ج 6 ص 7 طبعة النجف الأشرف- أنها تقرب من عشرين حديثا.

(2) كصحيح على بن مهزيار المروية في وسائل الشيعة ج 3 ص 468 الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 2. و يأتي ذكرها في المتن.

و مرسلة يونس عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا أصاب ثوبك خمر، أو نبيذ مسكر، فاغسله ان عرفت موضعه، و ان لم تعرف موضعه فاغسله كله، فان صليت فيه فأعد صلاتك» الباب المتقدم، الحديث: 3.

و رواية أبي جميلة البصري قال: «كنت مع يونس ببغداد، و انا أمشي في السوق، ففتح صاحب الفقاع فقاعه، فقفز، فأصاب ثوب يونس، فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس، فقلت له:

يا أبا محمد، أ لا تصلى؟ قال: فقال لي: ليس أريد أن أصلي حتى أرجع الى البيت فاغسل هذا الخمر من ثوبي، فقلت له: هذا رأي رأيته، أو شي‌ء ترويه؟ فقال: أخبرني هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفقاع. فقال: لا تشربه، فإنه خمر مجهول، و إذا أصاب ثوبك فاغسله». وسائل الشيعة: الباب 27 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث 8. روى قطعة منها. و رواها في الوافي ج 1 م 4 ص 33. و هي ضعيفة بالإرسال و بابي جميلة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 167‌

..........

______________________________
و بغسل إناء الخمر مطلقا، أو ثلاث مرات
«1»، أو سبع «2». و الأمر في هذه إرشاد إلى النجاسة.

و في بعضها: النهى عن الصلاة في الثوب الّذي أصابه خمر حتّى يغسله «3».

و الأمر بالإعادة إذا صلّى فيه «4».

______________________________
(1) كموثق عمار عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خل، أو ماء، أو كامخ، أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس. و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر، أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس. و قال في قدح، أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال: تغسله ثلاث مرات، و سئل أ يجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده، و يغسله ثلاث مرات. وسائل الشيعة: الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1. ج 3 ص 494 الباب 51 من النجاسات، الحديث: 1.

(2) كموثق عمار عن الصادق عليه السّلام «في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ قال: تغسله سبع مرات»- وسائل الشيعة: الباب 30 من الأشربة المحرمة الحديث 2 و الباب 35 منها الحديث 2-

(3) كموثق عمار عن الصادق عليه السّلام في حديث «و لا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل»- وسائل الشيعة: الباب 35 من الأشربة المحرمة. الحديث: 2. و ج 3 ص 470 الباب 38 من النجاسات. الحديث: 7.

و كرواية خيران الخادم المروية في الباب المتقدم. الحديث: 4.

(4) كما في صحيحة على بن مهزيار- في حديث- عن ابي عبد اللّه عليه السّلام انه قال:

«إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ- يعنى المسكر فاغسله ان عرفت موضعه، و ان لم تعرف موضعه فاغسله كله، و ان صليت فيه فأعد صلاتك.»- وسائل الشيعة ج 3 ص 469 الباب 38 من أبواب النجاسات.

الحديث: 2.

و مرسلة يونس عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا أصاب ثوبك خمر، أو نبيذ مسكر فاغسله ان عرفت موضعه، و ان لم تعرف موضعه فاغسله كله، فان صليت فيه فأعد صلاتك»- الباب المتقدم الحديث: 3-

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 168‌

..........

______________________________
و في بعضها: الأمر بإراقة قدر قطرت فيه قطرة خمر أو نبيذ مسكر
«1»، و إراقة قدح من مسكر إذا صب عليه الماء ليذهب عاديته «2».

و الأمر بالإراقة إرشاد إلى النجاسة.

و في بعضها: النهى عن الأكل في آنية أهل الذمة و المجوس التي يشربون فيها الخمر «3».

و في بعضها: تشبيهها بلحم الخنزير أو الميتة «4».

و في بعضها: التصريح بنجاستها، و أن ما يبل الميل ينجس حبّا من الماء، يقولها ثلاثا «5».

______________________________
(1) كرواية زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير، و مرق كثير. قال: يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمة، أو الكلب، و اللحم اغسله و كله.» وسائل الشيعة ج 3 ص 470 الباب 38 من النجاسات الحديث: 8. ضعيفة بابن المبارك.

(2) كرواية عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته و يذهب سكره؟ قال، لا و اللّه، و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب». وسائل الشيعة: الباب 18 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 1 في حكم الضعيف، لعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة.

(3) كصحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن آنية أهل الذمة و المجوس. قال: لا تأكلوا في آنيتهم، و لا من طعامهم الذي يطبخون، و لا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر». وسائل الشيعة: الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث: 3.

(4) كصحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن دواء عجن بالخمر. فقال:

لا و اللّه، ما أحب أن أنظر اليه، فكيف أتداوى به؟! انه بمنزلة شحم الخنزير، أو لحم الخنزير» وسائل الشيعة: الباب 20 من أبواب الأشربة المحرمة الحديث: 4.

و رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: في رجل اشتكى عينيه، فنعت له بكحل يعجن بالخمر. فقال: هو خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان مضطرا فليكتحل به».

وسائل الشيعة: الباب 21 من الأشربة المحرمة. الحديث: 5- ضعيفة، لعدم ثبوت وثاقة يزيد بن إسحاق الواقع في طريقها الا انه من رجال كامل الزيارات- 79- 1 ص 194-

(5) كرواية أبي بصير عن أبى عبد اللّه عليه السّلام- في حديث النبيذ- انه قال عليه السّلام «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء يقولها ثلاثا- وسائل الشيعة: الباب 20 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 2. ضعيفة بالإرسال، و مجهولية إبراهيم بن خالد الذي هو في طريقها.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 169‌

..........

______________________________
و يدل علي المطلوب أيضا: الأخبار
«1» الواردة في نزح البئر من صب الخمر فيه.

إلى غير ذلك من الروايات التي يمكن للمتتبع العثور عليها.

و الطائفة الثانية: و هي الروايات الدالة على طهارة الخمر- في قبال تلك الروايات- و هي أكثر عددا من الطائفة الأولى على أن فيها الصحاح و الموثقات و هي كالصريح في الطهارة لما في بعضها «2». من نفي البأس عن إصابتها الثوب، و في بعضها «3» الأخر: نفي البأس عن الصلاة في ثوب‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 179 الباب 15 من أبواب الماء المطلق.

(2) كموثقة ابن بكير قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و انا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب. قال: لا بأس». وسائل الشيعة ج 3 ص 471 الباب 38 من أبواب النجاسات.

الحديث: 11. و رواية حسين بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «انا نخالط اليهود، و النصارى، و المجوس، و ندخل عليهم، و هم يأكلون و يشربون، فيمر ساقيهم، و يصب على ثيابي الخمر.

فقال: لا بأس به. الا ان تشتهي أن تغسله لأثره». الوسائل ج 3 ص 472 الباب المتقدم الحديث: 12.

ضعيفة بصالح بن سيابة، و حسين بن أبي سارة، لعدم ثبوت وثاقتهما، الا ان الثاني من رجال كامل الزيارات- 72/ 6 ص 180-

(3) كصحيحة على بن رئاب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخمر، و النبيذ المسكر، يصيب ثوبي، فأغسله، أو أصلي فيه؟ قال: صل فيه. الا أن تقذره، فتغسل منه موضع الأثر. ان اللّه تعالى انما حرم شربها» الوسائل ج 3 ص 468 الباب المتقدم. الحديث: 1.

و مرسلة الصدوق قال: «سئل أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليه السّلام فقيل لهما: انا نشتري ثيابا يصيبها الخمر، و ودك الخنزير عند حاكتها، أ نصلي فيها قبل ان نغسلها؟ فقالا: نعم، لا بأس. ان اللّه انما حرم أكله، و شربه، و لم يحرم لبسه، و مسه، و الصلاة فيه». و رواه في العلل بطريق صحيح عن بكير.

الوسائل الباب المتقدم ج 3 ص 472 الحديث: 13. و صحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام- في حديث- «انه سأله عن الرجل يمر في ماء المطر، و قد صب فيه خمر، فأصاب ثوبه، هل يصلى فيه قبل ان يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه، و لا رجله، و يصلى فيه، و لا بأس» الوسائل ج 1 ص 145 الباب 6 من أبواب الماء المطلق.

الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 170‌

..........

______________________________
أصابته خمر، معللا في بعضها: بان اللّه انما حرم شربها. و في بعضها
«1» التعليل: بان الثوب لا يسكر. الى غير ذلك من الروايات التي بضميمتها يحصل التواتر.

و هاتان الطائفتان متعارضتان، و لا بد من علاج ذلك جمعا أو طرحا و مقتضى القاعدة الأولية هو الجمع مهما أمكن.

و قد يقال: بان مقتضاه حمل أخبار النجاسة على التنزه و الاستحباب، لصراحة أخبار الطهارة في عدم النجاسة. فأوامر الغسل الواردة في أخبار النجاسة تحمل على الاستحباب، كما هو الحال في أمثال المقام، فيحكم بطهارة الخمر، و استحباب التنزه عنها.

هذا و لكن أخبار النجاسة آبية عن الحمل على الاستحباب، لصراحة بعضها في النجاسة، لما فيها من عدم جواز الانتفاع بما وقع فيه الخمر حتى بالاكتحال منه، في غير صورة الضرورة «2». و كذا عدم الانتفاع به و ان استهلكت فيه- بان قطر منها- مثلا قطرة في المرق الكثير- «3». و ان‌

______________________________
(1) كرواية حسين بن أبي سارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ان أصاب ثوبي شي‌ء من الخمر، أصلي فيه قبل أن اغسله؟ قال: لا بأس، ان الثوب لا يسكر». الوسائل ج 3 ص 471 الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 10.

(2) كصحيحة الحلبي، و رواية هارون بن حمزة الغنوي المتقدمتان في تعليقه ص 154- 155.

(3) كرواية زكريا بن آدم المتقدمة في تعليقة ص 168.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 171‌

..........

______________________________
ما يبل الميل ينجس حبا من الماء
«1». و كذا مثل ما دل على كيفيته غسل ما اصابته الخمر، من أنه لا يجزيه مجرد الصبّ، بل لا بد من الدلك باليد، و غسله ثلاث مرات «2».

و نحو ذلك مما هو كالصريح في النجاسة، فإن هذه تأبى الحمل على التنزه و الاستحباب.

و كأنَّ المتوهم ظن انحصار دليل النجاسة فيما اشتمل على الأمر بغسل الثوب أو البدن- كما هو ظاهر محكي عبارة المدارك فحمل الأمر الظاهر في الوجوب على الاستحباب. لكن قد عرفت اشتمال بعض الأخبار على ما هو صريح أو كالصريح في النجاسة المصطلحة، فالجمع الدلالي غير ممكن في المقام، لابتنائه على عدم المناقضة فيما إذا القيا الى العرف معا، بحيث يرونها من باب القرينة و ذيها و هذا المعنى غير ممكن في أخبار الباب، لصراحة أخبار النجاسة في مدلولها، كأخبار الطهارة، فلا يمكن الجمع بين الطائفتين من حيث المدلول، فالمتعين هو الرجوع إلى المرجحات السندية.

و قد ذكرنا في باب التعادل و الترجيح: أن المرجحات السندية منحصرة في أمرين، موافقة الكتاب، و مخالفة العامة و شي‌ء منهما لا يجريان في المقام، أما موافقة الكتاب فلأنه ليس في الكتاب العزيز ما يدل على طهارة الخمر أو نجاسته، لما عرفت من المناقشة في دلالة الآية الكريمة على النجاسة، و أما مخالفة العامة فلأن كلا من الطائفتين مخالف للعامة من جهة، و موافق لهم من جهة أخرى.

فإن العامة «3» قد ذهبوا الى القول بنجاسة الخمر، و عليه لا بد من‌

______________________________
(1) كرواية أبي بصير المتقدمة في تعليقة ص 168.

(2) كموثق عمار المتقدمة في تعليقة ص 167.

(3) ففي الفقه على المذاهب الأربعة- ج 1 ص 18- ما يدل على اتفاق المذاهب على النجاسة حيث قال في المتن: «و منها- يعنى من النجاسات- المسكر المائع سواء كان مأخوذا من عصير العنب، أو كان نقيع زبيب، أو نقيع تمر، أو غير ذلك، لان اللّه تعالى قد سمى الخمر رجسا، و الرجس في العرف النجس، أما كون كل مسكر مائع خمرا فلما رواه مسلم من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: كل مسكر خمر و كل مسكر حرام. و انما حكم الشارع بنجاسة المسكر المائع فوق تحريم شربه تنفيرا، و تغليظا، و زجرا عن الاقتراب منه».

و قال ابن رشد في بداية المجتهد- ج 1 ص- 78: «و أكثرهم على نجاسة الخمر، و في ذلك خلاف عن بعض المحدثين».

قال العلامة «قده» في التذكرة- ج 1 ص 7: «الخمر نجسة ذهب إليه علمائنا اجمع إلا ابن بابويه و ابن أبى عقيل. و قول عامة علماء العامة أيضا إلا داود و ربيعة، و أحد قولي الشافعي».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 172‌

..........

______________________________
ترجيح أخبار الطهارة لمخالفتها للعامة. الا أن ربيعة الرأي- الذي هو أحد حكامهم و قضاتهم، و كان معاصرا للإمام الصادق عليه السّلام- كان يقول بطهارة الخمر. مضافا الى أن سلاطين ذلك الوقت كانوا يشربون الخمر، و لا يجتنبونها، فيمكن صدور أخبار الطهارة تقية منهم
«1»، لجريهم عملا على شربها، و الناس على دين ملوكهم فيمكن القول بأن أخبار الطهارة صدرت تقية من عمل العامّة، لعدم انحصار التقية في القول بما يوافق علماؤهم. بل قد يدعو لها إصرار جهالهم من أصحاب الشوكة على أمر و ولعهم به، فإن أكثر أمراء بنى أميّة و بنى العباس و وزرائهم و أرباب الدولة كانوا مولعين بشرب الخمر و مزاولتها. كما أن أخبار النجاسة تكون تقية من فتواهم بالنجاسة،

______________________________
(1) قال في الوسائل ج 3 ص 472 في ذيل رواية حسين بن أبي سارة في الباب 38 من النجاسات، الحديث: 12 «أقول حمل الشيخ هذه الاخبار- يعني الأخبار الدالة على طهارة الخمر- على التقية من سلاطين ذلك الوقت، و جمع من علماء العامة».

و يظهر منه ان القول بطهارة الخمر لا يختص بربيعة الرأي، بل قال بها جمع من علماء العامة، و قد نسب الى داود القول بها، و لم يحضرني كتبهم كي احقق القائلين بالطهارة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 173‌

..........

______________________________
فاحتمال التقية و الترجيح بمخالفة العامة في كل من الطائفتين متكافئ مع احتمالها في الأخرى و معارض له، فإذا يكون مقتضى القاعدة التساقط و الرجوع إلى الأصول العملية، و مقتضاها الطهارة، لقاعدتها.

هذا و لكن في المقام رواية تكون حاكمة على كلتا الطائفتين، و هي بمنزلة الإخبار العلاجية في خصوص المقام، و مقتضاها الحكم بالنجاسة و هي.

صحيحة علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمّد إلى أبى الحسن عليه السّلام: «جعلت فداك، روى زرارة عن أبى جعفر، و أبى عبد اللّه عليهما السّلام في الخمر يصيب ثوب الرجل، انهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه، إنما حرم شربها و روى عن (غير) زرارة عن أبى عبد اللّه عليه السّلام انه قال: إذا أصاب ثوبك خمر، أو نبيذ- يعنى المسكر- فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف فاغسله كله، و ان صليت فأعد صلاتك، فأعلمني ما آخذ به فوقّع عليه السّلام بخطه و قرأته خذ بقول أبى عبد اللّه عليه السّلام» «1».

وجه الاستدلال بهذه الصحيحة- لإثبات أن أخبار الطهارة وردت على وجه التقيّة- هو أن أبا الحسن عليه السّلام قد أمر بالأخذ بالرواية عن أبى عبد اللّه عليه السّلام وحده و هي رواية النجاسة و العدول عن الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام معا، الدالة على طهارة الخمر، فلو لا أن قولهما عليهما السّلام معا خرج مخرج التقيّة لكان الأخذ بقولهما معا أولى و أحرى و من هنا لم يقع السائل في الحيرة من حيث المعارضة بين قولي الصادق عليه السّلام ليعيد السؤال ثانيا، و أنه بأيهما يأخذ، بل عرف أن المراد هو الأخذ برواية‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 468 الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 174‌

..........

______________________________
النجاسة عند عليه السّلام منفردا.

و بهذا المضمون رواية أخرى عن خيران الخادم قال «كتبت الى الرجل عليه السّلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر، و لحم الخنزير، أ يصلى فيه أم لا فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: صلّ فيه، فان اللّه انما حرم شربها و قال بعضهم: لا تصل فيه فكتب عليه السّلام: لا تصل فيه: فإنه رجس.» «1».

فان هذه الرواية و ان لم يفرض فيها تعارض الأخبار كما كان مفروضا في الصحيحة. لكن الظاهر أن اختلاف الأصحاب لم يكن الا من جهة اختلاف الروايات.

و لكن مع ذلك لا يمكن الاستدلال بها، لضعف سندها بسهل بن زياد، لعدم ثبوت وثاقته، فلا بأس بكونها مؤيدة للمطلوب.

و المتحصل من جميع ما ذكرناه هو: أن المحتملات في المسألة أربعة:

أحدها: تقديم أخبار الطهارة، جمعا بينها و بين أخبار النجاسة، بحملها على التنزه و الاستحباب، تقديما للنص أو الأظهر على الظاهر، لصراحة نفى البأس في أخبار الطهارة في عدم النجاسة. و لن عرفت أن بعض أخبار النجاسة آبية عن الحمل على التنزه.

ثانيها: تقديم أخبار الطهارة أيضا، لكن لا من باب الجمع العرفي، لعدم إمكانه بل من جهة مخالفتها للعامة. و لكن قد عرفت أن أخبار النجاسة أيضا مخالفة لهم من جهة أخرى.

ثالثها: التوقف من جهة تطرق احتمال التقية في كلتا الطائفتين، لموافقة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 469 الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 175‌

بل كل مسكر مائع بالأصالة (1)

______________________________
أخبار الطهارة للعامة عملا، و موافقة أخبار النجاسة لهم فتوى، فمع التكافؤ- سندا و دلالة- لا بد من القول بالتخيير، الذي هو خلاف التحقيق عندنا. أو الرجوع الى قاعدة الطهارة بعد التساقط.

رابعها: تقديم أخبار النجاسة من جهة صحيحة علي بن مهزيار. و هذا هو المتعين، و مقتضاها حمل أخبار الطهارة على التقية، لأن الصحيحة المذكورة لم تنف صدورها عن الصادقين، و انما دلت على لزوم الأخذ بما دل على نجاستها، فبذلك لا بد من حمل أخبار الطهارة على التقيّة. و قد ذكرنا إمكان صدورها تقية من أمراء الجور و حكامهم و تابعيهم. مضافا إلى فتوى ربيعة الرأي بالطهارة، و بذلك تندفع غائلة المعارضة في المقام و احتمال صدور الصحيحة بنفسها تقية. مندفع بظهورها في بيان الجدّ و الحكم الواقعي، و حكومتها على الأخبار المتعارضة، و بيان العلاج بينها. فتحصل: أن الأقوى ما هو المشهور المدعى عليه الإجماع من نجاسة الخمر.

(1) المسكر المائع لا إشكال بل لا خلاف «1» في إلحاق مطلق المسكرات المائعة بالأصالة بالخمر في الحرمة، لما ورد في جملة من الروايات من حرمة مطلق المسكر «2».

______________________________
(1) في الفقه على المذاهب الأربعة- ج 1 ص 18 ط الخامسة اتفاق المذاهب على حرمة المسكر المائع و نجاسته.

(2) كصحيحة فضيل بن يسار قال: «ابتدأني أبو عبد اللّه عليه السّلام يوما من غير أن أسأله، فقال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كل مسكر حرام. قال قلت: أصلحك اللّه، كله؟ قال: نعم الجرعة منه حرام». و عنه أيضا عن ابى عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: حرم اللّه الخمر بعينها، و حرم رسول اللّه- ص- المسكر من كل شراب، فأجاز اللّه له ذلك الى ان قال- فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام، و لم يرخص فيه لأحد» وسائل الشيعة: الباب 15 من أبواب الأشربة المحرمة.

الحديث: 1، 2. و نحوهما غيرهما من نفس الباب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 176‌

..........

______________________________
هذا مضافا إلى التعليل الوارد في حرمة الخمر: بان اللّه لم يحرّمها لاسمها، و لكن حرّمها لعاقبتها
«1». و في بعض الروايات: أنه حرّمها لفعلها و فسادها «2». و عموم التعليل يشمل مطلق المسكرات.

بل ورد في تفسير قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ. «3»: انه لم يوجد في المدينة حين نزول الآية الكريمة بالحرمة من الخمر المتخذ من العنب شي‌ء، لأنه كان المتعارف عندهم يومئذ النبيذ و غيره من المسكرات التي اكفأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «4».

______________________________
(1) كصحيحة على بن يقطين عن ابى الحسن الماضي عليه السّلام قال: «ان اللّه عز و جل لم يحرم الخمر لاسمها، و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر.» وسائل الشيعة: الباب 19 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 1. و نحوها غيرها من نفس الباب و غيره.

(2) كرواية مفضل بن عمر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لم حرم اللّه الخمر؟ قال:

حرم اللّه الخمر لفعلها و فسادها.». وسائل الشيعة: الباب 9 من الأشربة المحرمة. الحديث: 25. ضعيفة، لعدم ثبوت وثاقة جملة من رجال سندها.

(3) المائدة 5: 92.

(4) على بن إبراهيم في تفسيره، عن ابى الجارود، عن ابى جعفر عليه السّلام في قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ الاية: «اما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر، و ما أسكر كثيره فقليله حرام. و ذلك ان أبا بكر شرب قبل ان تحرم الخمر، فسكر. الى ان قال- فانزل اللّه تحريمها بعد ذلك. و انما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر، و التمر، فلما نزل تحريمها خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقعد في المسجد، ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها، فأكفاها كلها، و قال:

هذه كلها خمر حرمها اللّه فكان أكثر شي‌ء (أكفى) في ذلك اليوم الفضيخ، و لم أعلم اكفى‌ء يومئذ من خمر العنب شي‌ء إلا إناء واحدا كان فيه زبيب و تمر جميعا. فاما عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شي‌ء. و حرم اللّه الخمر قليلها و كثيرها، و بيعها و شراءها، و الانتفاع بها.». وسائل الشيعة: الباب 1 من الأشربة المحرمة. الحديث: 5.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 177‌

..........

______________________________
فلا كلام في الحرمة، و انما الكلام كله في إلحاق باقي المسكرات بالخمر المتخذ من العنب في النجاسة. و يستدل للإلحاق بوجوه:

الوجه الأول: الإجماع المدعى في كلام جمع على عدم الفرق بين الخمر و سائر المسكرات في النجاسة.

و فيه أولا: أن نجاسة نفس الخمر مما فيها، فلم يتحقق إجماع على نجاستها، فكيف بسائر المسكرات!. و الإجماع التقديري- بمعنى أن القائلين بطهارة الخمر لو كانوا قائلين بنجاستها لقالوا بنجاسة مطلق المسكرات- غير مفيد، إذ لم تعلم الملازمة التقديرية أيضا، إذ من الممكن القول بنجاسة الخمر دون سائر المسكرات.

و ثانيا: أنه على تقدير إجماع فعلى لم يمكن إثبات كونه تعبديّا، لاحتمال استناد المجمعين إلى الأخبار الاتية، التي ستعرف المناقشة في دلالتها.

الوجه الثاني: الأخبار الدالة على نجاسة مطلق المسكر، و هي روايتان أو ثلاث:

إحداها: موثقة عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تصل في بيت فيه خمر، و لا مسكر، لأن الملائكة لا تدخله. و لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله» «1».

فإن النهي عن الصلاة في ثوب أصابه المسكر حتى يغسل إرشاد إلى‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 470 الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 7.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 178‌

..........

______________________________
نجاسته.

الثانية: رواية عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته، و يذهب سكره. فقال: لا و اللّه، و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» «1».

و الأمر بالإهراق أيضا إرشاد إلى نجاسة المهراق.

الثالثة: صحيحة على بن مهزيار المتقدمة «2»، لما فيها من الأمر بالأخذ بقول أبي عبد اللّه عليه السّلام و هو الأمر بغسل الثوب الذي أصابه النبيذ المسكر.

و الجواب عن هذه الأخبار: أما عن الموثقة فبأنها و إن كانت معتبرة السند و ظاهرة الدلالة، إلا انها معارضة بما دل على طهارة مطلق المسكر، و هو:

موثق ابن بكير قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب. قال: لا بأس» «3».

و الترجيح بمخالفة العامة لا يوجب تقديم ما دل على طهارة المسكر، لاحتمال التقية في كلا الطرفين. فمقتضى القاعدة التساقط، و الرجوع إلى قاعدة الطهارة في المسكر المائع سوى الخمر. لا سيما في ما لا يتعارف شربه ك‍ «الكحول» المعروفة ب‍ «إسبيرتو و ألكل» المتخذة من الأخشاب و نحوها لانصراف المسكر الى المتعارف شربه، و أماما لا يتعارف شربه بين الناس، أو لم يمكن شربه- لكونه من السمومات و إن أوجب الإسكار على تقدير‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 18 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 1. و في الباب 26.

الحديث 26.

(2) في الصفحة: 173.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 471 الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 11.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 179‌

..........

______________________________
شربه في بعض الأمزجة المعتادة- فهو خارج عن إطلاق موثقة عمار، و لو لم يكن لها معارض، حتى أن شيخنا الأستاد «قده» ادعى انصراف ما ورد من الروايات في المنع عن بيع الخمر و المسكر عن المادّة المعروفة ب‍ «ألكل»، لاختصاصها بالمسكرات المتعارفة القابلة للشرب. و هذه الدعوى غير بعيدة، لا سيما بلحاظ المسكرات المستحدثة التي لم تكن موجودة في عصر التحريم. هذا كله مع ابتلاء ما دل على نجاسة المسكر بالمعارض.

و قد يتوهم: أن مقتضى صحيحة علي بن مهزيار هو تقديم ما دل على نجاسة المسكر- كما ذكرنا ذلك في الأخبار المتعارضة في الخمر- لحكومتها على جميع الأخبار المتعارضة في هذا الباب.

و يندفع: باختصاصها بعلاج الأخبار المتعارضة في الخمر، و تقديم الأخبار الدالة على نجاستها، و أما مطلق المسكرات المائعة فخارج عن موردها. و المسكر و إن كان مذكورا فيها أيضا إلا أنه مختص بالنبيذ المسكر «1»، فلا بد من الاقتصار عليه جمودا على النص، فلا يمكن التعدي إلى غير النبيذ ك‍ (الكحول) المتخذة من الخشب و غيره، مما لم يتعارف شربه.

بل و كذا المتخذ من الخمر إذا كان بنحو التصعيد و التبخير، لطهارته بالانقلاب.

و توضيح الحال: بان يقال: إن الأخبار الواردة في الخمر و المسكر على طوائف أربع:

______________________________
(1) و هو المتخذ من التمر، ففي صحيح ابن الحجاج، عن على بن إسحاق الهاشمي، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الخمر من خمسة، العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر». وسائل الشيعة: الباب: 1 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 180‌

..........

______________________________
الأولى: ما دلت على نجاسة الخمر. و الثانية: ما دلت على طهارتها الثالثة: ما دلت على نجاسة مطلق المسكر. و الرابعة: ما دلت على طهارته، كموثقة عمار، و موثقة ابن بكير المتقدمتين
«1» و صحيحة علي بن مهزيار إنما دلت على العلاج في الأوليين دون الأخيرتين، بل هما متعارضتان متكافئتان ساقطتان بالمعارضة، و المرجع قاعدة الطهارة، و احتمال التقية في كلا الطرفين ثابت، بل لا يعلم فتوى العامة في المسكرات غير المتعارفة.

فالأقوى طهارة المسكرات المائعة مطلقا إلا الخمر.

و مما ذكرنا ظهر الجواب عن الاستدلال بالصحيحة، لما عرفت من اختصاصها بالنبيذ المسكر، فلا تدل على نجاسة مطلق المسكرات و أما رواية عمر بن حنظلة فهي ضعيفة، لعدم ثبوت وثاقته، و ان عبّر عنها في بعض الكلمات بالصحيحة. نعم له رواية «2» ذكروها في باب التعادل و الترجيح، تلقاها الأصحاب بالقبول، حتّى أنهم عبروا عنها بمقبولة عمر بن حنظلة. إلّا أن قبول روايته في مورد لا يدل على قبول جميع رواياته، لاحتمال وجود قرائن أوجبت القبول في ذاك المورد دون غيره، نعم هناك رواية ربما يستدل بها على توثيقه، و هي: رواية يزيد بن خليفة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ان عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا لا يكذب علينا» «3».

فإنه توثيق له من الامام عليه السّلام. إلّا أنها أيضا غير نقية السند «4».

______________________________
(1) في الصفحة: 177- 188.

(2) وسائل الشيعة: الباب: 9 من أبواب صفات القاضي و ما يجوز ان يقضى به، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج 4 ص 133 الباب 5 من أبواب المواقيت. الحديث: 6.

(4) لان يزيد بن خليفة واقفي لم تثبت وثاقته. على ان في سندها محمد بن عيسى عن يونس، و هو محل البحث في الرجال.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 181‌

..........

______________________________
الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الحدائق «قده»
«1» و حاصله: أن الخمر حقيقة شرعيّة، بل لغوية في مطلق المسكر.

أما الأوّل فلما ورد في تفسير الآية الكريمة «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ» من أن المراد بالخمر فيها كل مسكر من الشراب «2». بل ورد ذلك أيضا في كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و أما الثاني فلما حكاه عن جمع من أهل اللغة- كصاحب القاموس و غيره- من أن الخمر إنما سميت بهذا الاسم لأنها تخمر العقل و تستره، و الوجه سار في جميع المسكرات.

و الجواب: أما عن كونها حقيقة شرعية في الأعم، فإنه لا يمكن إثبات ذلك بمجرد إرادة ذلك من الآية الكريمة، بقرينة الروايات الواردة في تفسيرها. على أنه قد عرفت عدم دلالة الآية الكريمة على نجاسة الخمر، فضلا عن مطلق المسكرات، بل غايتها الدلالة على الحرمة.

و أما كونها حقيقة لغوية في الأعم فبمنع الاطراد في وجه التسمية، و من هنا لا يصدق على البنج أنه خمر. و إن كان يخامر العقل و يستره.

على أن المنقول «3» من كلام جماعة من أئمة اللغة: ان الخمر حقيقة في‌

______________________________
(1) ج 5 ص 112- 115. طبعة النجف الأشرف.

(2) كالرواية المروية في تفسير على بن إبراهيم المتقدمة في تعليقة ص 176.

و ما رواه في مجمع البيان- ج 3 ص 239- عن ابن عباس في تفسير الآية الكريمة انه قال:

يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الخمر من تسع من البتع- و هو العسل- و من العنب، و من الزبيب، و من التمر، و من الحنطة، و من الذرة، و من الشعير، و السلت.» و هي ضعيفة بجهالة الطريق الى ابن عباس.

(3) كما حكى ذلك عن صاحبي المعالم و المدارك و الذخيرة. راجع الحدائق ج 5 ص 112.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 182‌

..........

______________________________
المسكر من عصير العنب، مع مساعدة العرف لذلك أيضا.

الوجه الرابع: الأخبار الدالّة على أن للخمر أقساما عديدة، و أنها لا تختص بالمتخذ من عصير العنب- و في بعضها أنهاها إلى تسعة أقسام- كصحيحة عبد الرحمن ابى الحجاج، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«الخمر من خمسة، العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر» «1».

و رواية علي بن إسحاق الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الخمر من خمسة.» «2».

و رواية النعمان بن بشير قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: أيّها الناس، ان من العنب خمرا، و ان من الزبيب خمرا و ان من التمر خمرا و ان من الشعير خمرا ألا أيها الناس أنهاكم عن كلّ مسكر» «3».

و نحوها غيرها «4».

و الجواب عن هذه الأخبار هو: انه لا دلالة في شي‌ء منها على نجاسة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة: الباب 1: من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 3، ضعيفة لجهالة على بن إسحاق الهاشمي في طريقها و تقدّمت في تعليقة ص 179.

(3) وسائل الشيعة: الباب 1: من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث 4. ضعيفة بعدة مجاهيل في طريقها منهم نعمان.

(4) كرواية الحسن الحضرمي، عمن أخبره، عن على بن الحسين عليه السّلام و رواية على بن إبراهيم في تفسيره، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام. و رواية العياشي في تفسيره، عن عامر بن السمط، عن على بن الحسين عليه السّلام. راجع الوسائل: الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 2، 5، 6.

و رواية مجمع البيان، عن ابن عباس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم المتقدمة في تعليقة ص 181 و فيها: انه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «الخمر من تسع.».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 183‌

..........

______________________________
مطلق المسكر و ان لم يصدق عليه عنوان الخمر، كالمادة الكحلية المعروفة ب‍ «الاسبيرتو و الكل». نعم ما صدق عليه عنوان الخمر و ان كان متخذا من غير العنب- كما هو مفاد هذه الأخبار- فلا مانع من الالتزام بحرمته و نجاسته، بل لا يسعنا منع ذلك كيف و في بعض الأخبار
«1»: انه لم يوجد في زمن نزول آية التحريم شي‌ء من الخمر المصنوع من العنب، بل كان المتعارف غيرها من أقسام الخمر، و قد أمر صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالاجتناب عنها، و أكفاء أوانيها.

و مما ذكرنا يظهر الجواب عن الروايات الدالة على نجاسة النبيذ المسكر «2»- و في بعضها عطف النبيذ المسكر على الخمر «3»- فان هذه الأخبار أيضا قاصرة عن الدلالة على نجاسة مطلق المسكر، و ان لم يصدق عليه عنوان الخمر، أو لم يكن من النبيذ المسكر، لأن مدلولها إنما هو نجاسة الخمر و النبيذ المسكر خاصة، من دون فرق بين أن يكون النبيذ المسكر من مصاديق الخمر- و كان التخصيص بالذكر من بين سائر الأفراد لأجل التنبيه على الفرد الخفي- و بين أن يكون مباينا لها، و خارجا عن حقيقتها- كما لعله الصحيح- لظهور العطف في المغايرة، و احتياج الخمر إلى عمليّة خاصة لا يكفي فيها مجرد إلقاء مقدار من التمر في الماء، و مضيّ زمان عليه بحيث يوجب الإسكار، و إلا لتمكن من صنعها كل أحد.

و بالجملة: ان هذه الأخبار كسابقتها في القصور عن الدلالة على‌

______________________________
(1) المتقدم في تعليقة ص 176 و هو ما رواه على بن إبراهيم في تفسيره.

(2) كموثقة عمار، و رواية أبي بصير المتقدمتين في تعليقة ص 167- 168.

(3) كصحيحة على بن مهزيار، المتقدمة في ص 173 و مرسلة يونس، و رواية زكريا بن آدم المتقدمتان في تعليق ص 167 و 168.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 184‌

..........

______________________________
نجاسة مطلق المسكر و إن لم يكن خمرا أو نبيذا مسكرا
«1».

الوجه الخامس: الأخبار الدالة على تنزيل مطلق المسكر منزلة الخمر، و ان ما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر «2».

و الجواب عنه: أن الظاهر منها أن التنزيل إنما يكون بلحاظ الحرمة دون النجاسة، لانصراف التنزيل إلى أظهر الخواص، و من الظاهر أن النجاسة لم تكن من الآثار الظاهرة للخمر، كيف و قد وقع الخلاف فيها قديما و حديثا، بل لعلها لم تكن معلومة في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و كذا المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، كما يشهد بذلك اختلاف الروايات، بل النجاسة من الآثار الخفية التي لا يمكن حمل التنزيل بلحاظها. على أن في نفس تلك الروايات ما يكون قرينة على التنزيل بلحاظ الحرمة.

______________________________
(1) على أن الاخبار في النبيذ المسكر أيضا متعارضة كالخمر، فإنه يدل على طهارته عدة من الروايات:

كموثقة ابن بكير، و صحيحة على بن رئاب المتقدمتان في تعليقة ص 169 و رواية أبي بكر الحضرمي. قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أصاب ثوبي نبيذ، أصلي فيه؟ قال: نعم. قلت: قطرة من نبيذ قطر في حب، أشرب منه؟ قال: نعم، ان النبيذ حلال، و ان أصل الخمر حرام»- الوسائل: ج 3 ص 471: الباب 38 من أبواب النجاسات. الحديث: 9.

و مقتضى القاعدة بعد التساقط و ان كان هو الرجوع الى قاعدة الطهارة، الا ان مقتضى صحيحة على بن مهزيار المتقدمة في ص 173 الموجبة لتقديم أخبار نجاسة الخمر- كما ذكر في المتن- هو تقديم أخبارها في النبيذ المسكر أيضا، لقول أبى عبد اللّه عليه السّلام- بانفراده- فيها: «إذا أصاب ثوبك خمر، أو نبيذ- يعنى المسكر- فاغسله ان عرفت موضعه.».

(2) كصحيحة على بن يقطين عن أبى الحسن الماضي عليه السّلام قال: «ان اللّه عز و جل لم يحرم الخمر لاسمها، و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر».

و عنه أيضا عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: «ان اللّه عز و جل لم يحرم الخمر لاسمها، و لكن حرمها لعاقبتها، فما فعل فعل الخمر فهو خمر»- الوسائل: الباب 19 من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 1، 2 و لا يبعد اتحاد الروايتين.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 185‌

..........

______________________________
نعم لا يبعد دعوى ظهور التنزيل بلحاظ النجاسة في:

رواية عطاء بن يسار عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كل مسكر حرام، و كل مسكر خمر» «1».

فان عطف الجملة الثانية أعني قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «كل مسكر خمر» على الجملة الأولى يقتضي أن يكون التنزيل من غير جهة الحرمة للتصريح بها في الجملة الاولى، و إلا لزم التكرار. إلا أن يكون ذلك من باب التأكيد، و هو على خلاف الأصل.

و الذي يهون الخطب أنها ضعيفة السند «2» لا يمكن الاعتماد عليها.

فقد تحصل من جميع ما ذكرناه: أنه ليس هناك ما يدل على نجاسة المسكر بعنوانه على سبيل الإطلاق، فالمادة المعروفة ب‍ «الكل» المتخذة من الأخشاب و غيرها لا يمكن الحكم بنجاستها: لعدم صدق عنوان الخمر عليها، و ان قيل إنها مسكرة. كما أن المادّة المتخذة من نفس الخمر بالتبخير التي تكون عرق الخمر في الحقيقة لا تكون محكومة بالنجاسة، لاستحالة الخمر إلى البخار، و هي تقتضي الطهارة- كما في بخار البول و غيره من النجاسات- فما لم يلاقيها الخمر أو نجس آخر تكون محكومة بالطهارة و إن كانت مسكرا.

هذا كله مقتضى القاعدة و الصناعة العلمية، إلا أن الإجماع التقديري المتقدم، و الشهرة الفتوائية على نجاسة مطلق المسكرات المائعة يمنعاننا عن الحكم بالطهارة في المسكرات التي يتعارف شربها، و نقول بالاحتياط اللازم فيها «3». و أما التي لم يتعارف شربها كالاسبيرتو- فالحكم بطهارتها لا يخلو‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب: 15 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 5.

(2) لان عطاء بن يسار- كما في جامع الرواة- أو عطاء بن مياد- كما في تنقيح المقال- مهمل. كما أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الواقع في طريقها امامى مجهول، و كذا أبوه.

(3) و من هنا ذكر دام ظله في تعليقته على قول المصنف «قده»- بل كل مسكر مائع بالأصالة»- فيه اشكال، و الاجتناب أحوط.».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 186‌

و ان صار جامدا بالعرض (1) لا الجامد (2)- كالبنج- و ان صار مائعا بالعرض

______________________________
عن قوة، لا سيما إذا شك في كونها مسكرة، و ان كان الاحتياط حسنا.

(1) إذا جف الخمر أو المسكر المائع بحيث زال و انعدم رأسا فلا موضوع كي يحكم بنجاسته، نعم يجب تطهير إنائهما، و هذا ظاهر.

و أما إذا لم يوجب الجفاف زوال العين و صار ك‍ «الربّ» أو عرضه الانجماد كما ينجمد الماء ثلجا- فيبقى على النجاسة، لفرض بقاء الاسم، فيشمله الإطلاق، و معلوميّة عدم كون الجفاف أو الانجماد من المطهّرات- كما في البول الجامد- و إن شئت فقل: إن مقتضى إطلاق الأدلة عدم اعتبار الميعان بقاء و إن اعتبر حدوثا.

و هذا من دون فرق بين بقاء الإسكار مع الانجماد أو الجفاف و عدمه، لأن زوال الإسكار أيضا لا يكون من المطهّرات، فان المادّة الباقية بعد زوال المادّة «الكحلية» الموجبة للإسكار كانت جزء من النجس، فتبقى على نجاستها ما لم يعرض عليها مطهّر شرعي. و لو فرض الشك في صدق الموضوع، أو انصراف الأدلة عما عرضه الانجماد أوزال عنه الإسكار، فالاستصحاب كاف في بقاء النجاسة، لبقاء الموضوع العرفي الذي هو المناط في جريان الاستصحاب، و ان شك في بقاء الموضوع بعنوانه المعلق عليه في الأدلة الشرعية.

(2) المسكر الجامد لا إشكال- كما لا خلاف- في حرمة المسكر الجامد بالأصالة كالمسكر المائع، لما في جملة من الروايات «1» من أن اللّه سبحانه و تعالى لم يحرم الخمر لاسمها، و لكن حرّمها لعاقبتها.

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 19 من أبواب الأشربة المحرمة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 187‌

..........

______________________________
و أما نجاسته فقد ادعى عدم الخلاف- بل الإجماع- على نفيها، كما هو الصحيح. و ذلك لأنه إن كان المستند في الحكم بنجاسة المسكرات المائعة الإجماعات المحكيّة فلا ريب في عدم شمولها للجوامد، كيف و قد حكى الإجماع على طهارتها، و لم ينقل القول بالنجاسة من أحد.

و إن كان المستند فيه دعوى صدق الخمر حقيقة على كل مسكر، إما حقيقة لغوية أو شرعية- كما ادعاها صاحب الحدائق «قده» بدعوى: أنها لا تختص بالمتخذ من العنب- فلا ريب في عدم صدق الخمر على المسكرات الجامدة، كالبنج و الحشيش، لانه على فرض التعميم لكل مسكر تختص بالمشروبات المسكرة، و لا تعم المأكولة، و إن عرضها الميعان بالامتزاج بالماء و نحوه، لتفسير اللغويين للخمر بالشراب المسكر، كما هو المؤيد بالفهم العرفي، إذ لا يصح عندهم إطلاق الخمر على البنج و نحوه قطعا.

و إن كان المستند في نجاسة عموم المسكرات المائعة قوله عليه السّلام:

«كل مسكر خمر» «1»، فقد يتوهم: أن مقتضى عموم التنزيل نجاسة مطلق المسكرات و إن كانت جامدة.

و لكنه يندفع أولا: بضعف سند هذه الرواية، كما تقدم «2». و ثانيا بإمكان إرادة التنزيل من حيث الحرمة التي هي أظهر أوصافها دون نجاستها التي كانت في عصر الصادقين عليهما السّلام من أوصافها الخفيّة التي اختلفت فيها الروايات.

و ثالثا: أن مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع هو إرادة التنزيل في خصوص المسكرات المائعة، لبعد تنزيل الجامد منزلة المائع «3».

______________________________
(1) المتقدم- في ص 184- في رواية عطاء بن يسار.

(2) في الصفحة: 180.

(3) قد يقال: ان مقتضى إطلاق قوله عليه السّلام في موثق عمار: «و لا تصل في ثوب أصابه خمر، أو مسكر حتى يغسل» المتقدم في تعليقة ص 167، و كذا رواية عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته، و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّه، و لا قطرة تقطر منه في حب إلا أهريق ذلك الحب». المتقدمة في تعليقة ص 168 عدم الفرق بين المائع و الجامد.

لكنه يندفع: بمعارضتهما بما دل على طهارة المسكر بإطلاقه، كموثق ابن بكير قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يثيب الثوب؟ فقال: لا بأس به» المتقدم في تعليقة ص 169، و مع التساقط بالمعارضة يرجع الى قاعدة الطهارة، إلا فيما دل على نجاسة المسكرات المائعة غير هذه الروايات. على أن رواية ابن حنظلة ظاهرة في المسكر المائع.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 188‌

[ (مسألة 1): ألحق المشهور بالخمر العصير العنبي]

(مسألة 1): ألحق المشهور بالخمر العصير العنبي (1) إذا غلى قبل أن يذهب ثلثاه، و هو الأحوط، و ان كان الأقوى طهارته. نعم لا إشكال في حرمته.

______________________________
(1)
العصير العنبي أي في الحرمة و النجاسة.

أما الحرمة فمما لا اشكال و لا خلاف فيها. و تتحقق الحرمة بمجرد الغليان، و لا يعتبر فيها الاشتداد بمعنى آخر غيره، كالثخن، و الإسكار، و ترتفع الحرمة بذهاب الثلثين، و لا كلام لنا في المقام في ذلك.

و أما النجاسة: فعن المستند- عند نقل الأقوال في المسألة- ان المشهور بين الطبقة الثالثة- يعني طبقة متأخري المتأخرين، و مراده بهم الشهيد و من بعده- الطهارة، و بين الطبقة الثانية- أي المتأخرين- النجاسة، و أما الطبقة الأولى فالمصرّح منهم بالنجاسة أما قليل أو معدوم، فالمسألة ذات قولين مشهورين.

و عليه فدعوى الإجماع على النجاسة- كما عن بعضهم- واضح المنع. كما أن دعوى الشهرة عليها على الإطلاق لا يخلو عن إشكال، لما حكى‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 189‌

..........

______________________________
من الاختلاف فيها بين الطبقات، و أن المشهور بين متأخري المتأخرين الطهارة.

و مما يؤيد القول بالطهارة: ذكر أصحاب الحديث- كصاحبي الوافي و الوسائل- روايات العصير في باب الأطعمة و الأشربة دون باب النجاسات، فلو كان العصير العنبي كالخمر من النجاسات لنقلوا رواياته في أبوابها. و كيف كان فيكفي للحكم بالطهارة عدم الدليل على النجاسة، للرجوع إلى قاعدة الطهارة حينئذ، فلا بد للقائلين بالنجاسة من إقامة الدليل.

و استدلوا على نجاسته بوجوه: الوجه الأوّل: الإجماع، كما حكي دعواه عن بعض، فإن المحكي من كلام كنز العرفان ان العصير من العنب قبل غليانه طاهر حلال، و بعد غليانه و اشتداده نجس حرام، و ذلك إجماع من فقهائنا، أما بعد غليانه و قبل اشتداده فحرام إجماعا منا. و أمّا النجاسة، فعند بعضنا انه نجس، و عند آخرين أنه طاهر.

و فيه: ان الإجماع المنقول ليس بحجة، خصوصا في أمثال المقام الظاهر فيه الخلاف، هذا أولا. و ثانيا: يحتمل ان يكون مراده بالاشتداد:

الشدة المطربة، كما يدل عليه ما بعده من التفصيل بين الحرمة و النجاسة إذا غلى و لم يشتد.

الوجه الثاني: ما دل من الروايات «1» على نجاسة مطلق المسكرات.

و فيه أولا: ان الغليان لا يستلزم الإسكار، فالدليل أخص من المدّعى. و ثانيا: انه قد عرفت عدم تمامية الدليل على نجاسة مطلق المسكرات، نعم لا كلام في حرمته بالغليان و ان لم يكن مسكرا، كما ذكرنا، إلّا‌

______________________________
(1) المتقدمة في صفحات 177- 178.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 190‌

..........

______________________________
أنها أجنبية عما نحن بصدده.

الوجه الثالث: ما دل من الروايات «1» على أنه لا خير في العصير إذا غلى و لم يذهب ثلثاه، بدعوى: أنه لو كان طاهرا لكان فيه الخير.

و فيه: أن الظاهر منها هو نفي الخير المطلوب منه، و هو الشرب خاصة، إذ لم يعد العصير العنبي لغيره من الانتفاعات المشروطة بالطهارة، كرفع الحدث و الخبث، فتدل على حرمته فقط، إذ يكفي في نفي الخير فيه من جهة الشرب مجرد الحرمة و إن لم يكن نجسا.

الوجه الرابع: ما دل من الروايات «2» على مقاسمة إبليس عليه‌

______________________________
(1) كرواية أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و سئل عن الطلاء فقال: ان طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير». الطلاء ما طبخ من عصير العنب، ضعيفة بعلي بن أبي حمزة.

و مرسلة محمد بن الهيثم عن رجل عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلى من ساعته، أ يشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغير عن حاله، و غلا فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه». الوسائل: الباب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 6، 7.

(2) كرواية أبي الربيع الشامي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أصل الخمر، كيف كان بدء حلالها و حرامها، و متى اتخذ الخمر؟ فقال: ان آدم لما اهبط من الجنة اشتهى من ثمارها، فانزل اللّه عليه قضيبين من عنب فغرسهما، فلما أن أورقا و أثمرا و بلغا جاء إبليس فحاط عليها حائطا، فقال آدم:

ما حالك يا ملعون؟ قال: فقال إبليس: إنهما لي، قال: كذبت، فرضيا بينهما بروح القدس، فلما انتهيا اليه قص آدم قصته، فأخذ روح القدس ضغثا من نار، فرمى به عليهما، و العنب في أغصانهما حتى ظن آدم انه لم يبق منه، و ظن إبليس مثل ذلك. قال: فدخلت النار حيث دخلت، و قد ذهب منهما ثلثاهما، و بقي الثلث، فقال الروح: اما ما ذهب منهما فحظ إبليس، و ما بقي فلك يا آدم». و هو في حكم الضعيف، لعدم ثبوت وثاقة أبى الربيع، و كذلك خالد بن نافع الذي في سندها.

و موثقة سعيد بن يسار عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «ان إبليس نازع نوحا في الكرم فأتاه جبرئيل فقال له ان له حقا فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس ثم أعطاه النصف، فلم يرض فطرح عليه جبرئيل نارا، فأحرقت الثلثين، و بقي الثلث، فقال: ما أحرقت النار فهو نصيبه، و ما بقي فهو لك يا نوح حلال».

الوسائل: الباب 21 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 2، 5. و نحوهما الحديث: 4، 10، 11 الباب نفسه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 191‌

..........

______________________________
اللعنة الكرم مع آدم و نوح عليهما السّلام في بدء الخلقة على الثلث و الثلثين، فكان حظ إبليس منه ثلثين، فلذا اعتبر ذهابهما إذا طبخ العصير العنبي.

و فيه: ان الاستدلال بمثل هذه الأدلة من المضحكات الغريبة، لأنها أجنبية عن الدلالة على النجاسة رأسا، و لا تدل عليها بوجه من وجوه الدلالات، بل غايتها الدلالة على الحرمة، كما هو ظاهر.

و مثلها في الضعف: الاستدلال بما دل من الروايات «1» على صنع الخمر من عدة أمور منها العصير من الكرم، لأن مدلولها أن أصول الخمر يكون من هذه الأمور.

الوجه الخامس- و هو العمدة في المقام- ما ورد في موثقة معاوية بن عمار من إطلاق لفظ الخمر على العصير المطبوخ، المعبّر عنه فيها بالبختج معرب «پخته» بدعوى: ان عموم التشبيه يدل على ثبوت جميع أحكامها، و منها النجاسة.

و هي ما رواه الشيخ في التهذيب «2» عن معاوية بن عمار قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني‌

______________________________
(1) كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- الخمر من خمسة، العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر». الوسائل: الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1. و نحوه غيره في نفس الباب.

(2) ج 9 ص 122 ح 261 طبعة الإسلامية.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 192‌

..........

______________________________
بالبختج، و يقول: قد طبخ على الثلث، و أنا أعرف أنه يشربه على النصف، أ فأشربه بقوله، و هو يشربه على النصف؟ فقال: خمر لا تشربه. قلت:

فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث، و لا يستحله على النصف، يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه، و بقي ثلثه، يشرب منه؟ قال: نعم» «1».

و قد اعترض صاحب الحدائق «2» على نقل صاحبي الوافي «3» و الوسائل «4» هذه الرواية عن التهذيب من دون زيادة قوله عليه السّلام:

«خمر» مقتصرين على قوله عليه السّلام: «لا تشربه». ثمّ لا يخفى أنها دلت على عدم حجية مجرد إخبار ذي اليد من حيث الطهارة و النجاسة، و أنه يعتبر فيها مطابقة اعتقاده و عمله لإخباره، فإن كان مستحلا للعصير على النصف، و يشربه عليه، فلا يكون إخباره بذهاب الثلثين حجة، و أما إذا كان مستحلا له على الثلث، و يشربه عليه، فيكون إخباره بذلك حجة، و لا محذور في الالتزام بهذا التفصيل في خصوص المورد.

و كيف كان فقد نوقش في دلالتها على النجاسة بوجوه:

أحدها: ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سره «5» من ان مدلولها أخص من المدعى، لأنها لا تدل إلا علي نجاسة نوع خاص من العصير، و هو المسبوق بصيرورته مسكرا قبل الطبخ، فلا تدل على نجاسة مطلق العصير المطبوخ، و لو لم يصر مسكرا قبل الطبخ. و ذلك لما استظهره- و حكاه عن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة الحديث: 4.

(2) ج 5 ص 124 طبعة النجف الأشرف.

(3) ج 3 ص 88 م 11.

(4) ج 25 ص 293 ح 4، ط المؤسسة: قم.

(5) كتاب الطهارة من مصباح الفقيه ص 551.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 193‌

..........

______________________________
النهاية الأثيرية- من ان لفظ «البختج» فارسي معرّب، و أصله بالفارسيّة «مى‌پخته»، فهي عبارة أخرى عن الخمر المطبوخة. فان للعصير المطبوخ أنحاء مختلفة، منها: «الدبس» و منها: «الرّب». و قال «قده»: و لعل هذا هو الذي كان يسمى بالبختج، دون الأول، أي الدبس. و كيفية طبخه أن يبقى العصير أياما عديدة إلى أن يتغير تغيرا فاحشا، الى ان يبلغ حدّه المعروف عند اهله، ثم يطبخونه، فيصير هو في حد ذاته حلوا حامضا كالسكنجبين- من غير ان يوضع فيه الخل، فيحتمل قويا أن يكون هذا القسم من العصير قبل استكمال طبخه خمرا حقيقة، و ان تكون الحموضة الحاصلة فيه ناشئة من انقلاب ما فيه من الطبيعة الخمرية، هذا حاصل مناقشته «قده».

و يدفعها: أن ذيل الرواية يدفع هذا الاحتمال، لانه عليه السّلام قد صرح بجواز شرب العصير المطبوخ على الثلث إذا أخذه ممن يشربه عليه، و من المقطوع به ان الخمر، بل كل مسكر- بناء على نجاسته- لا يطهر الا بالانقلاب، و صيرورته خلا، أو نحو ذلك، و مجرد ذهاب الثلثين لا يكون من مطهّرات الخمر و المسكر، مع بقاء الاسم السابق، فمجرد صيرورته ربّا- أى ثخينا- و لو لهذا الحد لا يوجب الانقلاب، كما لا يخفى، بل هو عصير ثخين مهما بلغ في الثخانة، فهذا قرينة قطعية على عدم ارادة هذا القسم.

هذا مضافا إلى أن المظنون- و ان كان الظن لا يغني من الحق شيئا- ان «البختج» يكون معرّب «پختك» و الكاف في الفارسية علامة التصغير، فأبدل الكاف بالجيم في العربية، كما في أمثاله، و يكون المراد به في المقام الطبخ الناقص، فبإطلاقه يشمل جميع أقسام العصير المطبوخ. و أما كونه معرّب «مى‌پخته» فغير مناسب، لاستلزامه إسقاط لفظ «مى» في المعرب حينئذ بلا موجب. و كيف كان فيكفي في دفع هذه المناقشة قرينة الذيل، كما ذكرنا.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 194‌

..........

______________________________
ثانيها: أنها معارضة بنقل الكافي
«1» لنفس هذه الرواية من دون لفظ: «خمر». مقتصرا في الجواب على قوله عليه السّلام: «لا تشربه»، و عليه لم تثبت الرواية بمتن التهذيب. نعم قد أشرنا إلى أن نقل الوافي و الوسائل الرواية عن التهذيب ايضا يكون خاليا عن هذه الزيادة. و من هنا قد تعجب منهما في الحدائق «2» من جهة عدم تنبههما لوجود هذه الزيادة في التهذيب، و كأنهما تسامحا في النقل عنه، و كيف كان فرواية الكليني في الكافي خالية عن هذه الزيادة.

و دعوى: ان أصالة عدم الزيادة لا يعارضها أصالة عدم النقيصة، لقوة الأولى، لأن الغالب هو السقط من قلم الكاتب دون الزيادة- كما لا يخفى- فأصالة عدم الغفلة في طرف الزيادة تتقدم على أصالة عدمها في طرف النقيصة، لبناء العقلاء على ذلك، فيكون الترجيح لرواية التهذيب.

مدفوعة: بأن اضبطية الكافي تسقط هذه الكبرى في المقام، لان المشاهد لنا و لغيرنا أن الكافي أضبط في نقل ألفاظ الروايات من التهذيب، فالوثوق بنقله دونه، فيكون الترجيح لرواية الكافي. أو تقع المعارضة بينهما فيرجع الى قاعدة الطهارة بعد تساقطهما.

هذا مضافا الى إمكان المناقشة في أصل الكبرى بأنها إنما تتم فيما إذا لم يكن الراوي للنقيصة نافيا للزيادة، و راويا لعدمها، و إلا فتقع المعارضة بين النقلين، و لا تقديم لأحد الأصلين على الأخر، لأن أحدهما يروى الزيادة، و الأخر يروى عدمها، و لا ترجيح. نعم إذا لم يكن الراوي للنقيصة راويا لعدم الزيادة، بان لا يكون في مقام بيان خصوصيّات الموضوع، و كان هناك حكم‌

______________________________
(1) ج 6 ص 421 ح 7. طبعة الإسلامية.

(2) ج 5 ص 124 طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 195‌

..........

______________________________
آخر مسكوت عنه، فلا بأس بالأخذ بالزائد، كما إذا ورد حديث مشتمل على استحباب صلاة في يوم الجمعة، و حديث آخر على استحبابها في يومها و ليلتها أيضا، فلا تنافي بينهما حينئذ لتعدد الموضوع، فيؤخذ برواية الزيادة، و هذا بخلاف ما إذا كان الموضوع واحدا، كالمقام، فإن التنافي ثابت حينئذ، و لا تقديم لأحد الأصلين على الأخر فيه
«1».

هذا مضافا إلى عدم ثبوت الزيادة حتى في التهذيب، لأن رواية الوافي و الوسائل لها عن التهذيب بدونها تدل على ان نسخة التهذيب الموجودة عندهما لم تكن مشتملة على هذه الزيادة، فلا يرد عليهما اعتراض صاحب الحدائق «قده» لان ثبوتها في النسخة الّتي كانت عنده لا يلازم ثبوتها في جميع النسخ، فيستنتج من ذلك اختلاف نسخ التهذيب أيضا، فلا يكون المقام من باب تعارض الخبرين، بل من باب اشتباه الحجة بغير الحجة، لما ذكرناه في بحث التعادل و الترجيح، من أن اختلاف النسخ يوجب اشتباه الحجة بغيرها، و لازمه سقوط الرواية عن الاعتبار، إذ لم يعلم حينئذ ان راوي الحديث- كالشيخ- يروى اىّ النسختين، و لا تثبت الحجة إلا بعد ثبوت النقل فعليه لا يمكن الاعتماد على رواية الشيخ، لاختلاف متنها باختلاف نسخ التهذيب فتبقى رواية الكليني بلا معارض، و هي خالية عن زيادة قوله عليه السّلام: «خمر».

هذا و لكن الأظهر هو صحة ما ذكره صاحب الحدائق «قده»، و ان نسخة التهذيب كانت مشتملة على الزيادة المذكورة، لأن النسخة المشتملة‌

______________________________
(1) لا يخفى ان هذا هو محل كلام الأصحاب- كما صرح به دام ظله في غير مجلس الدرس- لثبوت احتمال الغفلة حتى مع كون المتكلم في مقام البيان، لكنه- دام ظله- لا يرى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، لأن غايته الظن الحاصل من الكثرة و لا دليل على حجيته.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 196‌

سواء غلى بالنار أو بالشمس أو بنفسه (1)

______________________________
عليها لم تكن نادرة بحيث لم يعثر عليها صاحبا الوافي و الوسائل، كيف و قد اشتمل نقل أكثر العلماء للرواية عن التهذيب على هذه الزيادة، فلو كانت النسخ مختلفة لزمهما التنبيه على ذلك، لا الاقتصار على نقل ما لا تشملها، فيظهر من ذلك عدم ضبطهما في النقل، و أنهما إنما تركا نقلها اشتباها لها برواية الكليني، فعليه يكون المقام من باب تعارض الخبرين، لمعارضة رواية الكليني برواية الشيخ، و مع التساقط يرجع الى قاعدة الطهارة.

ثالثها: انه لو سلم ثبوت الزيادة، و ان الرواية هكذا: «خمر لا تشربه» لكان ظاهرها- أو محتملها الموجب للإجمال- هو التشبيه من حيث الحرمة فقط، لان قوله عليه السّلام: «لا تشربه» إما صفة للخمر، أو خبر بعد خبر، فينصرف التشبيه اليه، أو يوجب سقوط الظهور في العموم من جهة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية. هذا مع قطع النظر عن ظهور السياق في إرادة خصوص حرمة الشرب، فلا يصح دعوى ظهور التشبيه في عموم الآثار حتى النجاسة، نعم لو كان على وجه التفريع، مثل أن يقال: «خمر، فلا تشربه» لكان عموم التشبيه شاملا لأثر النجاسة أيضا، و كان قوله: «فلا تشربه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام، و تفريع بعض الأحكام و على الجملة الأقوى في النظر هو القول بالطهارة- كما في المتن- لعدم ثبوت دليل معتبر على النجاسة، و أما الحرمة فمما لا إشكال فيها كما ثبت في محله.

(1) لا فرق بين العصير الغالي بالنار أو بنفسه كما هو المشهور لإطلاق الروايات، كحسنة حماد بن عثمان عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يحرم العصير حتى يغلي» «1».

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب 31 من أبواب الأشربة المحرمة الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 197‌

..........

______________________________
و خبره الأخر عنه عليه السّلام قال: «سألته عن شرب العصير؟ قال:

تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه. قلت: اى شي‌ء الغليان؟ قال:

القلب» «1». فإن إطلاقها يشمل جميع الصور.

و عن ابن حمزة في الوسيلة: التفصيل بين ما إذا غلى العصير بنفسه أو بالنار، فخص النجاسة بالأول، و التحريم بالثاني، حيث صرح بأنه لو غلى بالنار حرم و لم ينجس، و يصير حلالا بذهاب الثلثين، بخلاف الأول، فإنه يبقى على نجاسته، و ان ذهب ثلثاه.

و قد أورد عليه المحقق الهمداني «قده» «2» و غيره: بأنه لم يعلم مستنده.

و لكن انتصر له شيخنا المحقق الشريعة الأصفهاني «قده»- في رسالته: إفاضة القدير في أحكام العصير و اختار هذا القول و نسبه الى جمع منهم ابن إدريس و الشيخ في بعض كلماته- بما يرجع محصله الى وجوه ثلاثة.

أحدها: صيرورة العصير الغالي بنفسه خمرا و مسكرا و لا يطهر حينئذ إلا بانقلابه خلّا، لان ذهاب الثلثين ليس من مطهّرات الخمر. و مرجع هذا الوجه الى بحث صغروي.

و أما الوجهان الآخران فهما دلالة الاخبار على حصول النجاسة فيما إذا غلى العصير بنفسه، دون ما إذا غلى بالنار. و مرجع هذين الوجهين إلى بحث كبروى، فيقع البحث معه تارة- في الصغرى- و انه هل يصير العصير خمرا بالغليان بنفسه أولا و أخرى- في الكبرى- أعني دلالة الاخبار على حصول النجاسة في خصوص الفرض المزبور دون الغالي بالنار.

______________________________
(1) الوسائل في الباب المتقدم: الحديث 3.

(2) كتاب الطهارة من مصباح الفقيه ص: 552.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 198‌

..........

______________________________
فنقول: أما الصغرى فعهدتها على مدّعيها، إذ ليست أمرا قابلا للنزاع، و حجة المتخاصمين فيها التجربة، و الظاهر أنه لا يصير خمرا بذلك، و الا لما احتاج المخمّرون إلى العمليات الكثيرة لجعل العصير خمرا لا سيما و ان المراد بالغليان بنفسه هو ما يقابل الغليان بالنار، و لو كان بمعونة أمر خارجي ينضم الى اقتضاء ذاته للغليان- كالشمس و حرارة الهواء و نحو ذلك فكان المخمّرون يصنعون ذلك خلال يوم أو يومين أو أكثر، فإنه بمجرد حصول النشيش و الغليان يصير خمرا و مسكرا. و الحاصل: انه لو كان يحصل الإسكار فيه بذلك لما خفي على أحد و لعرفه الذين يصنعون الخمور من دون ان يتكلفوا في تخميره. و لا أقل من ان يستغنوا به عن الخمر عند عدم قدرتهم على تحصيلها، نعم قد يتفق ذلك في العصير الذي يوضع للتخليل، لكنه ليس أمرا دائميا يمكن الاعتماد عليه في الحكم بالنجاسة. و لو سلم ذلك لما احتجنا- فيما ادعاه المحقق المزبور- الى غير ما ذكرناه من الدليل على نجاسة الخمر و المسكر، و لم يكن مطهره- على هذا- هو الانقلاب. إلا أن الشأن- كل الشأن- في إثبات ذلك، و مع الشك يرجع إلى قاعدة الطهارة.

و أما الكبرى- أعني دلالة الاخبار على الفرق بين غليان العصير بنفسه أو بالنار- فقد أشرنا إلى أنه استدل بها من وجهين:

الأول: ان جميع الأخبار التي حدد فيها المنع بذهاب الثلثين مختصة بالغليان بالنار، و طبخ العصير بها «1»، و اما الغليان بقول مطلق كما في بعض‌

______________________________
(1) كصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه».

و صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام- في حديث- «فإذا أخذت عصيرا فطبخته حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل و اشرب».

و رواية أبي بصير- المتقدمة في تعليقه ص 190- و نحوها غيرها من الروايات المروية في الوسائل: الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 199‌

..........

______________________________
الروايات
«1» فلم يحدد النهي عن شربه بذهاب الثلثين، و إطلاقها يشمل حتى بعد ذهابهما و ظاهر الغليان المسند الى العصير هو الغليان بنفسه: سواء أ كان بمعونة أمر خارجي كحرارة الشمس، و لهواء- أم لا.

و الحاصل: أن أخبار الباب تكون على طائفتين «إحداهما» ما دلت على حرمة العصير أو نجاسته- على القول بها- بالغليان و حليّته و طهارته بذهاب الثلثين، و لم ترد هذه إلا في خصوص الغليان بالنار «الثانية» ما دلت على المنع عنه مطلقا من دون جعله مغيى بذهاب الثلثين، و هذه واردة في الغليان بنفسه، فمقتضى لحاظ كلتا الطائفتين هو التفصيل بين الغليان بالنار، و بنفسه.

و فيه: أن عدم ذكر السبب في الطائفة الثانية لا يوجب التقييد بنفسه، بل غايته الإطلاق، كما هو الحال في أمثال المقام من الأمور التي يمكن أن يكون لها أسباب عديدة، كما إذا قيل «لو مات زيد ورثه ابنه» فان عدم ذكر سبب الموت لا يوجب تقييده بما إذا كان حتف أنفه، بل يشمل حتى ما إذا مات بسبب القتل و نحوه، و من هنا لم يقيد أدلة الإرث بموت المورّث بلا سبب خارجي. بل لا يمكن تحقق الغليان بدون السبب، فان سببه الحرارة- سواء حصلت بالنار، أم بالشمس، أم الهواء- بحيث لو وضع في مكان بارد أو على الثلج لم يحصل فيه نشيش أصلا و لو بقي كذلك مدة طويلة، فعدم ذكر‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة. و قد تقدمت في ص 197.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 200‌

..........

______________________________
السبب يقتضي الإطلاق من حيث الأسباب، فالتقييد بسبب غير النار يحتاج إلى قرينة و هي مفقودة في المقام.

فمثل حسنة حماد- أو صحيحته- عن أبى عبد اللّه قال: «لا يحرم العصير حتى يغلى» «1».

و خبره الأخر عنه عليه السّلام قال: سألته عن شرب العصير، قال:

تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه. قلت: أى شي‌ء الغليان؟ قال:

القلب» «2».

لا موجب لتقييدهما بما إذا كان الغليان بنفسه، بل إطلاقه فيهما يشمل الغليان بنفسه و بالغير.

نعم التقييد بالنار في جملة من الروايات لا يوجب حمل هذه المطلقات عليها، لعدم التنافي بينهما، فإذا لا بد من اقامة الدليل على ارتفاع النهي عن شرب الغالي بغير النار إذا ذهب ثلثاه.

و دعوى: عدم القول بالفصل بين ما إذا غلى بالنار و ما غلى بنفسه في ارتفاع الحرمة أو النجاسة فيهما بذهاب الثلثين.

غير مسموعة: لأن الملازمة بينهما أول الكلام، فيبقى الإشكال بحاله، فللمحقق المزبور مطالبتنا بالدليل على ارتفاع الحرمة في الغالي بغير النار عند ذهاب ثلثيه.

و يمكن اقامة الدليل على ذلك: بأن الأخبار المغياة بذهاب الثلثين و ان كانت مختصة بالغالي بالنار- كما ذكر- إلا أن مقتضى إطلاق العصير فيها‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1.

(2) وسائل الشيعة الباب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 3. ضعيف بأبي يحيى الواسطي.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 201‌

..........

______________________________
شموله للغالى بنفسه قبل الطبخ، و من جملتها:

صحيحة عبد اللّه بن سنان- أو حسنته- عن أبى عبد اللّه قال: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه» «1».

و مقتضى عمومها- أو إطلاقها- ان العصير إذا غلى بنفسه قبل الطبخ ثمّ طبخ حتّى يذهب ثلثاه فعند ذلك يكون طاهرا و حلالا أيضا. بل هذا هو الغالب في العصير المعمول دبسا، فإنه يبقى العصير عندهم غالبا يوما أو أكثر ثمّ يطبخونه فيحصل فيه النشيش قبل الطبخ لا محالة، و بذلك يثبت عدم الفرق في العصير الغالي إذا ذهب ثلثاه بالطبخ بين ما غلى منه بنفسه قبل ذلك و بين ما لم يكن كذلك.

الوجه الثاني: مفهوم قوله عليه السّلام في الصحيحة- أو الحسنة- المذكورة: «كلّ عصير اصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه».

بدعوى: أن مفهوم الوصف هو عدم ارتفاع الحرمة بذهاب الثلثين إذا غلى العصير بنفسه، و إلّا كان لغوا، فهو حرام و ان ذهب ثلثاه، إذ مطلق الغليان يوجب الحرمة بلا خلاف، و أما الحرمة المغياة بذهاب الثلثين فهي مختصة بما إذا غلى العصير بالنار.

و فيه: أن التحقيق- كما ذكرناه في الأصول- و إن كان ثبوت المفهوم للوصف، لكن لا بالمعنى المعهود، أي الدلالة على انتفاء الحكم عن غير الموصوف، بل بمعنى عدم ثبوته للطبيعة بما هي، و إلّا لكان التقييد لغوا. و الحمل على الغالب- كما في قوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «2»

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1.

و رواها بطريق آخر في الباب: 32 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث: 2. عن الكافي أيضا مع اختلاف في المتن و السند. و يحتمل تعدد الرواية.

(2) النساء 4: 23.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 202‌

..........

______________________________
- خلاف الظاهر. و المفهوم بهذا المعنى لا ينافي ثبوت الحكم للطبيعة مقيدا بقيد آخر، و لحصة أخرى منها. مثلا: إذا قال المولى: «أكرم رجلا عالم» دل بمفهومه على أن طبيعة الرجولية لا تكون موضوعا لوجوب الإكرام، و إلّا لكان التقييد بالعالم لغوا، إلّا أنه لا ينافي ذلك ان يكون وصف العدالة أيضا مقتضيا لوجوب الإكرام، فلا ينافي ذلك قوله ثانيا: «أكرم رجلا عادلا». و عليه فلا تدل هذه الرواية على عدم ارتفاع الحرمة عن الغالي بنفسه بذهاب ثلثيه، لأن ثبوت الحرمة المحدودة للغالي بالنار لا ينافي ثبوتها كذلك للغالي بسبب آخر غير النار، و قد عرفت أن مقتضى إطلاق العصير فيها هو شمول الغالي بنفسه قبل إصابته النار أيضا، فكأنه عليه السّلام قال: كلّ عصير و لو غلى بنفسه إذا أصابته النار حرم حتّى يذهب ثلثاه.

و هناك صحيحة- أو حسنة- أخرى لابن سنان، ربما يتوهم دلالتها على الدعوى المذكورة بمفهوم الشرط، و هي. انه قال ذكر أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أن العصير إذا طبخ حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه فهو حلال» «1».

بدعوى: دلالتها بالمفهوم على أنه إذا لم يطبخ بالنار و غلى بغيرها لا يصير حلالا، و ان ذهب ثلثاه.

و يدفعها: أن مفهوم الرواية هو أنه إذا لم يستند ذهاب الثلثين إلى الطبخ بالنار لا يصير حلالا، و إن ذهب ذلك بغيرها، كالشمس، و الهواء، و هذا المعنى لا محذور في الالتزام به- كما سيأتي- لعدم الدليل على أن مطلق ذهاب الثلثين يوجب الحليّة، لا أنه إذا غلى بغير النار لا يصير حلالا و إن ذهب ثلثاه بالنار، كما هو دعوى الخصم، لأن هذا داخل في إطلاق المنطوق،

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب: 32 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 203‌

..........

______________________________
كما ذكرنا في الصحيحة الاولى.

ثم انّه لو سلم دلالة الروايات على التفصيل المذكور لكان غايتها الدلالة على التفصيل في الحرمة بين الغالي بنفسه و الغالي بالنار. و أما التفصيل في النجاسة- كما عن الوسيلة- فلا دليل عليه أصلا- كما ذكر المحقق الهمداني «قده» و غيره- لأن الروايات إما مشتملة على لفظ الحرمة، أو النهي عن الشرب، و لا دلالة في شي‌ء منهما على النجاسة، و قد ذكرنا عدم ثبوت الإسكار في الغالي بنفسه.

و قد يستدل على هذا التفصيل بالفقه الرضوي: «فإن نش من غير ان تصيبه النار فدعه حتّى يصير خلّا من ذاته» «1».

لظهورها في أن اعتبار الانقلاب إلى الخل لا يكون إلّا لرفع النجاسة، أو هي مع الحرمة. إلّا أنّه قد مر غير مرة: ان الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلا عن ان يكون حجة.

و قد يستدل أيضا بما عبر عنه بموثقة عمار في بعض الكلمات، قال:

«وصف لي أبو عبد اللّه عليه السّلام المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالا، فقال لي عليه السّلام: تأخذ ربعا من زبيب، و تنقيه، ثم تصبّ عليه اثنى عشر رطلا من ماء، ثمّ تنقعه ليلة، فإذا كان أيام الصيف و خشيت ان ينش جعلته في تنور سخن قليلا حتّى لا ينش، ثمّ تنزع الماء منه كلّه إذا أصبحت، ثمّ تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره ثمّ تغليه حتّى تذهب حلاوته. إلى ان قال- فلا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان و يبقى الثلث.» «2».

بتقريب: أن ظاهرها أن نشيش العصير بنفسه يوجب سقوطه عن الانتفاع به رأسا، إذ لو كان التحفظ على العصير من النشيش دفعا للحرمة‌

______________________________
(1) فقه الرضا: ص 38 السطر 13.

(2) وسائل الشيعة: الباب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 204‌

..........

______________________________
فقط لاغنانا عنه الأمر بذهاب الثلثين بعد ذلك بالغليان، فلا بد ان يكون من جهة النجاسة الّتي لا ترتفع بذهاب الثلثين، بل لا بد في ارتفاعها من الانقلاب إلى الخل.

و الكلام في هذه الرواية يقع- تارة- في فقه الحديث، و- أخرى- في الاستدلال بها على التفصيل المذكور.

أما فقه الحديث فقد وقع الكلام في المراد من أمره عليه السّلام بجعل العصير في التنور السخن قليلا، دفعا لنشيشه من قبل نفسه، مع ان جعله في مكان حار من معدات نشيشه، لا أنه مانع عنه. و ذكر شيخنا شيخ الشريعة «قده» في رسالته العصيريّة: ان المراد بذلك جعل العصير في التنور السخن لأجل أن يغلي بالنار حتّى لا ينش بنفسه.

و يبعده أولا: ان جعله في التنور السخن قليلا لا يوجب غليانه لقلة حرارته. و ثانيا: انه لو كان مراده عليه السّلام بذلك الغليان بالنار لعبّر عنه بعبارة أخصر، كقوله: «فأغله بالنار» مثلا و ثالثا: ان ظاهر الرواية ارادة التحفظ على العصير لئلا ينش لا ان يغلي بذلك فالتوجيه المذكور لا يمكن المساعدة عليه.

و الصحيح ان يقال: ان العصير- أو غيره من الأشربة أو الأطعمة- قد يعرضه الفساد في الهواء الحار كالصيف، الا انه إذا بقي على النار، و عرضته الحرارة بدرجة واطئة لا توجب الغليان- كدرجة الستين- لم تعرضه الفساد، و يبقى سالما أياما و لو لم يغل، لان الغليان انما يحصل ببلوغ الحرارة درجة المائة و هذا مما يشهد به التجربة في التحفظ على الأطعمة و الأشربة في أيام الصيف. و قد قال الخبراء في وجهه: ان حرارة النار بدرجة معينة تقتل الميكروبات الداخلة على الشراب و الطعام في الهواء الحار. و كيف كان‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 205‌

..........

______________________________
فغرضه عليه السّلام من الأمر بجعل العصير في تنور سخن قليلا، انما هو التحفظ عليه من الحموضة و الفساد من أجل حرارة الهواء في الصيف، لا أن يغلي العصير بذلك هذا كله في فقه الحديث.

و أما الاستدلال به على المدّعى ففيه أولا: انها ضعيفة السند بالإرسال، لأنها مروية في الكافي «1» عن محمّد بن يحيى، عن علي بن الحسن، أو رجل عن علي بن الحسن عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار، فلم يعلم ان المروي عنه لمحمد بن يحيى هل هو علي بن الحسن بن فضال، أو رجل أخر يروى عن علي بن الحسن، فيحتمل وجود الواسطة بينهما و هو رجل مجهول الحال، فالتعبير عنها بالموثقة في بعض الكلمات لا يخلو عن المسامحة.

و ثانيا: انها ضعيفة الدلالة لاحتمال ان يكون الخوف من نشيشه لحرارة الصيف من جهة سقوطه بذلك عن الانتفاع به في الجهة المطلوبة منه كالعلاج و نحوه، لا من جهة تنجسه بذلك، و عدم جدوى ذهاب الثلثين في ارتفاعها. و ملاحظة الخصوصيات المذكورة في الحديث يكاد يشرفنا على القطع بان الامام عليه السّلام انما كان في مقام بيان الخصوصيات الدخيلة في الانتفاع بالعصير في العلاج و نحوه، دون مجرد الحكم الشرعي الحرمة، أو النجاسة، و بذلك يسقط ظهور السؤال عن طبخ العصير حتى يصير حلالا فيما يعتبر في حليته.

فتحصل مما ذكرنا: ان الصحيح ما هو المشهور من عدم الفرق في العصير بين ان يغلي بنفسه أو بالنار، في زوال حرمته أو نجاسته بذهاب‌

______________________________
(1) الفروع ج 6 ص 424 ح 1 «باب صفة الشراب الحلال».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 206‌

و إذا ذهب ثلثاه صار حلالا، سواء كان بالنار، أو بالشمس، أو بالهواء (1) «1».

______________________________
الثلثين، لإطلاق الروايات.

(1) هل يكون ذهاب الثلثين- مطلقا- موجبا للحلية، أو يختص بما إذا كان بالنار؟ ربما يقال- كما في المتن- بالأول، و يعلل- كما في بعض الكلمات- بالإطلاق. و لا ندري أي إطلاق في المقام يشمل ذلك، فان جميع الروايات المحددة للحرمة بذهاب الثلثين واردة في الطبخ بالنار، فلا تدل على ان ذهاب الثلثين مطلقا- و لو كان بغير النار- رافع للحرمة.

و دعوى ثبوت الإطلاق في مثل:

صحيحة ابن سنان عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «كل عصير اصابته النار فهو حرام، حتى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه» «2».

لشمولها لذهاب الثلثين بالنار، أو بغيرها، أو بهما معا، لعدم التقييد بالذهاب بالنار.

مندفعة: بأنها خلاف ظهور الرواية، بقرينة ذكر الإصابة بالنار في غليان العصير. بل مقتضى مفهوم بعض الروايات عدم ارتفاع الحرمة بذهاب ثلثيه بمثل الشمس و الهواء، ك‍:

موثقة أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و سئل عن الطلاء، فقال: إن طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال» «3».

______________________________
(1) و في تعليقته دام ظله- على قول المصنف «قده»: «كان بالنار، أو بالشمس»- «في كفاية ذهاب الثلثين بغير النار اشكال. نعم إذا استند ذهاب الثلثين الى النار و الى حرارتها الباقية بعد إنزال القدر عنها- مثلا- كفى».

(2) وسائل الشيعة، الباب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 1.

(3) الوسائل في الباب المتقدم، الحديث: 6.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 207‌

..........

______________________________
فان مفهومها انه إذا لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه فلا يحل بل في بعض الروايات الواردة في بيان حكمة حلية العصير بذهاب الثلثين دلالة على ذلك، و هي المشتملة على قصة نزاع آدم أو نوح عليه السّلام مع إبليس- لعنه اللّه- في الكرم، و تحاكمهما إلى جبرئيل، ك‍:

موثقة سعيد بن يسار عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «ان إبليس نازع نوحا في الكرم فأتاه جبرئيل، فقال له: ان له حقا فأعطاه الثلث، فلم يرض إبليس، ثم أعطاه النصف، فلم يرض، فطرح جبرئيل نارا فأحرقت الثلثين و بقي الثلث، فقال: ما أحرقت النار فهو نصيبه، و ما بقي فهو لك يا نوح- حلال» «1».

و نحوها غيرها، كرواية ابى الربيع الشامي «2» الواردة في نزاع إبليس مع آدم عليه السّلام.

فإنها تدل على ان الباقي بالإحراق بالنار يكون حلالا، فالباقي بغيره لا يكون حلالا، و ان كان بمقدار الثلث.

و الحاصل: انه لا إطلاق في الروايات، بل مقتضى بعضها التقييد بالنار. نعم إذا استند ذهاب الثلثين الى النار، و الى حرارتها الباقية بعد وضع القدر- مثلا- كفى، لصدق استناد الذهاب الى النار في ذلك ايضا، بل في بعض الروايات دلالة على ذلك، ك‍:

صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق و نصف، ثم يترك حتى يبرد، فقد ذهب ثلثاه، و بقي ثلثه» «3».

______________________________
(1) وسائل الشيعة، الباب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 5.

(2) في الباب المتقدم، الحديث: 2. ضعيفة بأبي الربيع.

(3) في الباب المتقدم، الحديث: 7، و في الوافي: ج 3 ص 88 م 11. و قال في بيانها: «ان البرودة تذهب بتمام الثلثين».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 208‌

بل الأقوى حرمته بمجرد النشيش (1) و ان لم يصل الى حد الغليان

______________________________
و الدانق هو السدس، فالثلثان أربعة دوانيق، و قد دلت الرواية على انه إذا ذهب ثلاثة دوانيق و نصف على النار، و نصف دانق بعد رفع القدر عن النار يصير حلالا و ذهاب الثلثين حينئذ أيضا يكون مستندا الى النار، لبقاء حرارتها في العصير الي ان يبرد، فذهاب المجموع يكون مستندا إليها، لا الى المجموع منها، و من الهواء.

على انه لو سلم دلالتها على كفاية الذهاب بالمجموع من حرارة النار و الهواء، لزم الاقتصار على مواردها من ذهاب نصف الدانق بغير النار، بحيث إذا كان الباقي من الثلثين أزيد منه فلا نحكم بحليته. فتحصل من جميع ما ذكرناه: ان مطلق الغليان- سواء أ كان بالنار أو بغيرها- يوجب حرمة العصير، و أما ذهاب الثلثين الرافع للحرمة فلا بد و ان يكون بالنار.

(1) لموثقة ذريح قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام: يقول إذا نش العصير، أو غلى، حرم» «1».

فان العطف ب‍ «أو» ظاهره المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه، فيحمل النشيش على الرغوة الحاصلة في العصير قبل الغليان، بالنار أو بنفسه.

و لكن يعارضها: الروايات الصريحة في انه لا يوجب الحرمة إلا الغليان، ك‍:

حسنة حماد- أو صحيحته- عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يحرم العصير حتى يغلي» «2».

______________________________
(1) وسائل الشيعة، الباب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 4.

(2) وسائل الشيعة، الباب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة. الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 209‌

..........

______________________________
و روايته عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن شرب العصير.

قال: تشرب ما لم يغل، فإذا غلا فلا تشربه. قلت: أى شي‌ء الغليان؟ قال عليه السّلام: القلب» «1». و نحوها غيرها.

فإنها تدل على انحصار سبب الحرمة في الغليان الذي هو عبارة عن القلب، و صيرورة أسفله أعلاه، و بالعكس.

و يمكن دفع المعارضة بما ذكره المحقق شيخ الشريعة الأصفهاني «قده» في رسالته العصيرية، من ان العطف في النسخ المصححة للكافي في رواية ذريح ب‍ «الواو» و ان كان الموجود في نسخ الوسائل، و الوافي، و نقل جملة من الاعلام العطف ب‍ «أو»، الا ان المحقق المزبور ثقة يعتمد على نقله، و عليه يكون العطف تفسيريا. و المراد بالنشيش هو نفس الغليان، إذ لم يثبت أنه الرغوة الحاصلة للعصير قبل الغليان، أو الصوت قبله، فإنه فسره في كتاب «أقرب الموارد» الذي هو من الكتب المعتمدة في اللغة بالغليان، و حمل ما في القاموس من انه «صوت الغليان» على الصوت الحاصل قبله بلا موجب، بل ظاهره الصوت الحاصل حينه، فيرجع إلى ما في أقرب الموارد، فلا تنافي في البين.

و لو سلم ثبوت العطف ب‍ «أو» أشكل حينئذ، لعدم المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه، بناء على ما ذكرناه من كون النشيش هو الغليان لا غير. الا انه يمكن دفعه: بان الغليان قد يكون بنفسه، و قد يكون بالنار، و يطلق على الأول النشيش أيضا، و به تتحقق المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه. كما انه ترتفع المعارضة بين الروايات، لعدم التنافي حينئذ بين‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة في الباب المتقدم الحديث: 3 ضعيفة بأبي يحيى الواسطي. و هو سهيل بن زياد- لعدم ثبوت وثاقته و لكنه من رجال كامل الزيارات- ب 95 ح 1 ص 285-

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 210‌

و لا فرق بين العصير، و نفس العنب، فإذا غلى نفس العنب من غير أن يعصر كان حراما (1).

______________________________
ما دل على عدم الحرمة إلا بالغليان و ما دل على حرمته بالنشيش، لأن هذه الموثقة تفسر تلك الروايات بعدم الفرق بين الغليان بالنار، أو بنفسه المسمى بالنشيش أيضا. و اما بناء على إرادة الرغوة و الصوت الحاصل قبل الغليان من النشيش، فربما يشكل العطف: بان التحريم بالنشيش قبل الغليان يوجب استدراك عطف الغليان عليه، لحصول التحريم قبله دائما، بل يكون تعليق التحريم على الغليان في سائر الأخبار في غير محله.

و يمكن دفعه: بإمكان فرض حصول الغليان بالنار من دون سبق النشيش بالمعنى المذكور، كما إذا فرض شدة حرارة النار مع قلة العصير، خصوصا إذا القى في القدر المحمى على النار قبل ذلك، فلا موجب لحملها على خصوص النشيش بغير النار، و ان النشيش بالنار لا يكون موجبا للحرمة، كما لا يخفى. الا انه قد عرفت عدم ثبوت معنى آخر غير الغليان للنشيش، و التغاير المعتبر في العطف ب‍ «أو» حاصل بحمل النشيش على الغليان بغير النار، فالنشيش بمعنى الصوت الحاصل قبل الغليان، و الرغوة الحاصلة في العصير من جهة حرارة الهواء و نحوها، لا دليل على اقتضاءه الحرمة، و ان كان الأحوط حينئذ الاجتناب.

(1) لا يخفى ان موضوع الحرمة أو النجاسة- على القول بها- في الروايات انما هو عنوان العصير لا العنب، و لا إشكال في التعدي إلى مطلق الماء الخارج من العنب و لو بغير عصر، للقطع بعدم دخل العصر في ذلك، فالماء الخارج من حبات العنب بنفسه، أو بالنار- كما إذا القى حبات العنب في المرق و خرج مائها لشدة الحرارة- يحرم بالغليان، أو ينجس أيضا. و أما الماء الموجود داخل الحبات فهل يحرم بالغليان أم لا؟ الظاهر هو الثاني، أما‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 211‌

و أما التمر، و الزبيب، و عصيرهما، فالأقوى عدم حرمتهما أيضا بالغليان (1) و ان كان الأحوط الاجتناب عنهما أكلا

______________________________
أولا: فلان الظاهر ان البحث في ذلك بحث خيالي، لعدم وجود ماء داخل الحبات كبقية الفواكه كالبطيخ، و الخيار، و نحوهما فان الفواكه ليست كقرب الماء، و أوعيته، بل الموجود فيها رطوبة في جسم الفاكهة تخرج بالعصر، و نحوه باختلاف مراتبها، فان رطوبة الرقى- مثلا- أكثر مما هو في العنب، فلا ماء داخل الحبات حتى يبحث عن حرمته أو نجاسته بالغليان و عدمها، فالصغرى ممنوعة. و ثانيا: انه لو سلم ذلك فلا يشمله دليل الحرمة، لعدم صدق العصير على الماء الموجود داخل الحبات، لقوة احتمال اعتبار خروجه من العنب في الحرمة، و لا وجه لقياس الماء الداخل في الحبة على الماء الخارج منه بغير عصر، نعم لو كان الموضوع نفس العنب لكان للقول بحرمته إذا غلى وجه، كما في المتن.

(1) قال في الحدائق «1»: «ان المستفاد من أخبار أهل العصمة عليهم السّلام ان العصير في عرفهم اسم لما يؤخذ من العنب خاصة، و ان ما يؤخذ من التمر إنما يسمى بالنبيذ، و ما يؤخذ من الزبيب يسمى بالنقيع، و ربما أطلق النبيذ أيضا على ماء الزبيب و هذا هو الذي يساعده العرف أيضا، فإنه لا يخفى ان العصير انما يطلق على الأجسام التي فيها مائية، لاستخراج الماء منها كالعنب- مثلا- و الرمان، و البطيخ بنوعيه، و نحو ذلك. و أما الأجسام الصلبة التي فيها حلاوة، أو حموضة، و يراد استخراج حلاوتها، أو حموضتها بالماء، مثل التمر، و الزبيب، و السماق، و الزرشك، و نحوها فإنه إنما يستخرج ما فيها من الحلاوة، أو الحموضة، إما بنبذها في الماء و نقعها فيه زمانا يخرج به‌

______________________________
(1) ج 5 ص 125. طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 212‌

..........

______________________________
حلاوتها أو حموضتها، أو انها تمرس في الماء من أول الأمر من غير نقع، أو انها تغلي بالنار لأجل ذلك، و المعمول عليه في الصدر الأول انما هو النبذ في الماء، و النقع فيه.».

إذا عرفت ذلك فنقول: انه لا خلاف و لا إشكال في حلية ما عدا عصير العنب، و الزبيب، و الرطب، و التمر، غلى أو لم يغل، ما لم يكن مسكرا، كما انه لا خلاف في حرمة عصير العنب بالغليان، بنفسه أو بالنار، ما لم يذهب ثلثاه. و انما الكلام في موضعين، أحدهما في نجاسة عصير العنب بالغليان ايضا، و قد تقدم الكلام فيه. و الثاني في حرمة عصير الثلاثة الباقية بالغليان، و لو لم تكن مسكرا.

العصير الزبيبي و لنقدم البحث عن عصير الزبيب لابتناء حرمته- على القول بها- على حرمة عصير العنب على أوجه الوجوه «1».

قال في الحدائق «2»: «انى لم أقف على قائل بالنجاسة هنا، و بذلك صرح في الذخيرة أيضا، فقال بعد الكلام في نجاسة العصير العنبي: و هل يلحق به عصير الزبيب إذا غلى في النجاسة؟ لا أعلم بذلك قائلا، و أما في التحريم فالأكثر على عدمه.».

______________________________
(1) و في تعليقته- دام ظله- على قول المصنف: «فالأقوى عدم حرمتهما»: «ان حرمة عصير الزبيب إذا نش أو غلى ان لم تكن أقوى فلا ريب انه أحوط» و ظاهره تقوية حرمته ابتداء و مع التنزل فهي الأحوط وجوبا الا انه- دام ظله- عدل عن ذلك كما صرح به و ستعرف وجه العدول مما سيمر عليك.

(2) ج 5 ص 125 طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 213‌

..........

______________________________
هذا و لكن عن ابن حمزة القول بنجاسته إذا غلي بنفسه، و قواه شيخنا المحقق الشيخ الشريعة الأصفهاني «قده» في رسالته العصيرية. و هذا منهما مبنى على زعمهما صيرورته خمرا بذلك، و انه لا يطهر إلا بالانقلاب خلا. و قد تقدم الجواب عنه في العصير العنبي، هذا من حيث النجاسة، و لا قائل بها، و لو كان فلا يعبأ به.

و أما من حيث الحرمة إذا غلى و لم يذهب ثلثاه، ففي الحدائق «1»:

«المشهور بين الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) كونه حلالا، و قيل بتحريمه، كما تقدمت الإشارة إليه في كلام شيخنا الشهيد الثاني، و إليه مال من قدمنا ذكره من متأخري المتأخرين، و جملة من المعاصرين.» و حكى القول بالحرمة عن العلامة الطباطبائي «قده» في مصابيحه، ناسبا ذلك إلى الشهرة بين الأصحاب، و أنها بين القدماء كشهرة الحلّ بين المتأخرين.

و كيف كان فيستدل على الحرمة- أو النجاسة، على القول بها في عصير العنب- بالأصل العملي تارة، و بالروايات أخرى.

أما الأصل العملي فهو الاستصحاب التعليقي، بتقريب: ان العنب كان يحرم عصيرة- أو ينجس أيضا، على القول بها- إذا غلى، فيستصحب الحكم المزبور إلى حال الزبيبيّة.

و فيه وجوه من الإشكال: الأول: أنه من الأصل الجاري في الشبهات الحكمية و لا نقول به- كما مر غير مرة- لمعارضته دائما باستصحاب عدم الجعل، حتى في الأحكام المنجزة، فضلا عن المعلقة.

الثاني: عدم وجود حالة سابقة للحكم المستصحب، و ذلك لأن‌

______________________________
(1) ج 5 ص 152 طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 214‌

..........

______________________________
للحكم مرتبتين، إحداهما: مرتبة الجعل، و الأخرى: مرتبة المجعول، و الشك في الأولى انما يكون من جهة احتمال النسخ، و المفروض عدمه في المقام و أما الثانية فلا تتحقق الا بتحقق تمام اجزاء الموضوع، سواء أخذ في لسان الدليل على نحو الموضوعيّة، أو الشرطية، لأن شرائط الحكم ترجع إلى قيود الموضوع لا محالة، بمعنى دخلها في فعلية الحكم و عدم تحققها الا بها، فالحرمة الفعلية في المقام لا تتحقق إلا بالغليان، و ان أخذ في لسان الدليل على نحو الشرطية، كقولنا: العصير إذا غلى يحرم، فقبل تحققه لا حرمة حتى تستصحب إلى حال الزبيبية.

و هذا هو مراد شيخنا الأستاذ المحقق النائيني «قده» من الإشكال على هذا الاستصحاب بما ذكر، من عدم فعلية الحكم، لعدم فعلية موضوعه. و لا يتوقف ذلك على إرجاع شرط الحكم الى قيد الموضوع، و بالعكس، بحسب مفاد القضايا الشرعية، حتى يشكل عليه: بان ذلك مبنى على الدقة العقلية، و أن المعتبر في صحة جريان الاستصحاب انما هو المتفاهم العرفي من القضايا الشرعيّة المستفادة من الأدلة، و عليه فلا بد من الفرق بين أن يكون مفاد الدليل: «العنب إذا غلى ينجس» و بين ان يكون «العنب الغالي ينجس» بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني، لفعلية الموضوع في الأول بفعلية العصير، و ان لم يغل، لان الغليان شرط للحكم، لا موضوع له بخلاف الثاني.

فإنه يندفع: بان ما ذكر و إن كان تاما بحسب الكبرى الكلية، فإن المدار في صحة الاستصحاب على مفاد القضايا الشرعية، و عليه يدور البحث في الأصل المثبت الا أن المراد في المقام أن شرائط الحكم مما لها دخل في فعليته، كنفس الموضوع، و بدونها لا فعلية للحكم جزما، و ان تحقق موضوعه، فمراده «قده» من إرجاع الشرائط إلى الموضوع، و بالعكس، هو‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 215‌

..........

______________________________
ما ذكرناه من عدم تحقق الحكم سابقا، و لو من جهة عدم شرطه، لا عدم تحقق ما هو موضوعه بحسب مفاد القضيّة الشرعية، لأن مراده «قده» من إرجاع أحدهما إلى الأخر في أمثال المقام انما هو إثبات مجرد الدخل في فعلية الحكم، لا الإشكال من ناحية عدم الموضوع، فالاستصحاب التعليقي لا أصل له، إذ ليس هناك حالة سابقة للحكم الشرعي.

نعم الحكم العقلي بالملازمة بين الغليان و الحرمة، أو سببيته لها من أجل حكم الشارع بالحرمة عند تحققه و ان كان ثابتا، و أوجب توهم جريان الحكم التنجيزي في المقام الا انه من الأحكام العقلية المنتزعة من الأحكام الشرعية، و لا مجرى للاستصحاب فيها، كما حقق ذلك في محله.

الثالث: عدم وجود الموضوع، لان موضوع الحرمة- كما أشرنا- انما هو ماء العنب و لو بملاحظة التعميم من العصير الى مطلق الماء الخارج منه، و لا ماء للزبيب بعد يبسه، فان عصيرة انما هو الماء الخارجي الذي يدخل في جوفه بتنقيعه في الماء، أو جعله في المرق، و نحو ذلك ثم يخرج منه بالعصر أو بنفسه، و هذا غير ماء العنب. و الحاصل: ان موضوع الحرمة أو النجاسة- بمقتضى الروايات- انما هو عصير العنب و لا يصدق ذلك على الزبيب جزما.

نعم لو كان الموضوع نفس العنب لأمكن إجراء الاستصحاب لأجل ترتيب اثاره عليه، لأن الرطوبة و الجفاف من الحالات الطارئة للموضوع، لا من مقوماته، و من هنا لا مانع من إجراء استصحاب ملكيته و نحوها مما كان مترتبا على نفس العنب، فلو سلم جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه لما أمكن ذلك في خصوص المقام، فهو ممنوع كبرى، و صغرى.

و أما الروايات فعمدتها: رواية النرسي و «زيد الزرّاد» كما عن بعض نسبتها إليه أيضا «1» و هي- حسبما اتفقت جملة من الكتب الفقهية‌

______________________________
(1) كما في الجواهر: ج 6 ص 34، و الحدائق: ج 5 ص 158.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 216‌

..........

______________________________
عليه، كالحدائق
«1»، و الجواهر «2»، و المصباح للمحقق الهمداني «3»، و طهارة شيخنا الأنصاري «قدس»، و عن تعليقات الوحيد البهبهاني على شرح الإرشاد، و غيرهم- هكذا:

روى زيد عن الصادق عليه السّلام: «في الزبيب يدق، و يلقى في القدر، و يصب عليه الماء. فقال: حرام حتى يذهب الثلثان (الا ان يذهب ثلثاه).

قلت: الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال عليه السّلام: هو كذلك، سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فقد فسد. كل ما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم، حتى يذهب ثلثاه. (الا ان يذهب ثلثاه) «4».

و الكلام في هذه الرواية يقع- تارة- من حيث المتن و- أخرى- من حيث السند.

أما متنها فهي- على هذا المتن المنقول في جملة من الكتب الفقهية- كما ذكرنا- صريحة الدلالة على الحرمة بالغليان و ارتفاعها بذهاب الثلثين من دون فرق بين الغليان بنفسه، أو بالنار.

هذا و لكن شيخنا شيخ الشريعة قد طعن «5» في هذا النقل، و شنع على ناقليه، و أنكر عليهم ذلك أشد الإنكار حتى استرجع، و استعاذ باللّه العاصم عن الوقوع في الشبهة، لأن الرواية- على ما نقلوها- مشتملة على تحريفات عديدة بالزيادة و النقيصة، و قال «قده» انه ليس لهذه الكلية- يعنى‌

______________________________
(1) المصدر المتقدم.

(2) المصدر المتقدم.

(3) كتاب الطهارة ص 553.

(4) المستدرك ج 17 ص 38 ط المؤسسة، الباب: 2 من الأشربة المحرمة، الحديث 1، بنقل من كتاب الطهارة للشّيخ الأعظم تبعا للجواهر.

(5) في رسالته العصيرية في المقالة الثالثة ص 22.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 217‌

..........

______________________________
كلية ارتفاع حرمة العصير الغالي مطلقا بنفسه أو بالنار بذهاب الثلثين، كما هو صريح قوله عليه السّلام: «كل ما غلى بنفسه أو بالنار فقد حرم حتى يذهب ثلثاه» التي نقلوها في ذيلها- عين و لا أثر في شي‌ء من نسخ أصل زيد النرسي، و لا في كتب الحديث المنقول فيها هذه الرواية، كأطعمة البحار. و قال «قده»:

ان متن الرواية على الوجه التالي:

زيد النرسي قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الزبيب يدق، و يلقى في القدر، ثم يصب عليه الماء، و يوقد تحته. فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان، و يبقى الثلث، فان النار قد أصابته. قلت: فالزبيب كما هو يلقي في القدر، و يصب عليه الماء ثم يطبخ و يصفي عنه الماء؟ فقال: كذلك هو سواء، إذا أدت الحلاوة إلى الماء فصار حلوا بمنزلة العصير، ثم نش من غير أن يصيبه النار فقد حرم، و كذلك إذا أصابه النار، فأغلاه فقد فسد» «1».

و هذا المتن- كما ترى- يفترق عن المتن الأول من وجوه، و من هنا أيّد و أكّد «قده» ما ذهب اليه من التفصيل بين الغالي بنفسه، فيبقى على حرمته، و إن ذهب ثلثاه، و بين الغالي بالنار فيرتفع حرمته بذهاب الثلثين بالرواية على النحو الذي نقله من أصل زيد.

قال «قده»: «و هي كما ترى أيضا على طبق الضابط الاتية من تحديد المطبوخ، و إطلاق ما نش بنفسه. و أما الإطلاق الأخير- يعني قوله عليه السّلام:

«و كذلك إذا اصابه النار فأغلاه فقد فسد»- فلوضوح حكمه مما صرح به في الرواية مرتين» «2».

و الظاهر هو صحة ما نقله «قده» لقوله: «و الذي نقلناه مطابق لجميع‌

______________________________
(1) الرسالة العصيرية لشيخ الشريعة في المقالة الثالثة ص 23 و كذلك المستدرك ج 17 ص 38.

(2) ص 23 من رسالته المذكورة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 218‌

..........

______________________________
نسخ أصل زيد المصححة، الموجودة في عصرنا، المنتشرة في بلاد مختلفة، المنتهى كلها الى نسخة صحيحة عتيقة كانت بخط الشيخ منصور بن الحسن الابى، تاريخ كتابتها سنة أربع و سبعين و ثلاثمائة (374)، ذكر انه كتبها من أصل محمّد بن الحسن بن الحسين ابن أيوب القمي، الناقل عن خط الشيخ الأجل الجوال هارون بن موسى التلعكبري، و تلك النسخة كانت عند شيخنا المجلسي «ره»- كما صرح به في أول البحار- و عند شيخنا الحر العاملي و منها انتشرت النسخ، و النسخة التي عندي منقولة بواسطة عن خط شيخنا الحر العاملي «قده». و قد أصاب في نقل هذه الرواية العلامة المجلسي في أطعمة البحار
«1»، و العلامة الطباطبائي في المصابيح، و المحقق المقدس الكاظمي في الوسائل، و العلامة النراقي في المستند، و رواها كلهم كما روينا، و نقلوها كما نقلنا: و أول من عثرت عليه ممن وقع في تلك الورطة الموحشة، و الهوة المظلمة، الشيخ الفاضل المتبحر الشيخ سليمان الماخورى البحراني، فتبعه من تبعه ممن لا يراجع إلى أصل زيد، و لا البحار، كالذين سميناهم أولا، و سلم منه من راجعه، أو البحار، كالذين سميناهم أخيرا» «2».

و كيف كان فدلالتها على حرمته العصير الزبيبي مما لا اشكال فيه، و ان اختلف متنها من حيث الدلالة على ارتفاعها بذهاب الثلثين و عدمه، فيما إذا غلى بالنار أو بنفسه.

و أما سندها فقد رماه المتأخرون بالضعف من جهتين، إحداهما.

بجهالة الراوي «زيد النرسي»، لأنه لم ينص عليه علماء الرجال بمدح و لا قدح، و قد اختص بالرواية زيد النرسي، و ليس في أصل «زيد الزراد» منها‌

______________________________
(1) ج 79 ص 177 طبعة الإسلامية في باب العصير من العنب و الزبيب، ح 8.

(2) في رسالته ص 23.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 219‌

..........

______________________________
عين و لا أثر، كما نبه عليه الشيخ المحقق المذكور. الثانية: ان أصله موضوع لم يثبت نسبته اليه، وضعه محمّد بن موسى الهمداني المعروف بالسمّان، لما حكى شيخ الطائفة
«1» في الفهرست، من ان الصدوق محمّد بن علي بن بابويه لم يروه، كما لم يرو أصل زيد الزراد، و انه حكى انه لم يرو هما شيخه محمّد بن الحسن بن الوليد أيضا، و كان يقول هما موضوعان. و كذلك كتاب خالد بن عبد اللّه بن سدير، و كان يقول وضع هذه الأصول محمّد بن موسى الهمداني المعروف بالسّمان.

و قد يجاب عن الجهة الأولى: بأن محمّد بن ابي عمير ممن قرع سمع كل أحد ان روايته عن شخص تدل على كمال الوثوق به، و ذكر الشيخ «قده» انه ممن لا يروى و لا يرسل الا عن ثقة، و المستفاد من تتبع الحديث و كتب الرجال بلوغه الغاية في الوثاقة، و العدالة، و الورع، و الضبط، و التحذر عن التخليط و الرواية عن الضّعفاء، و المجاهيل، و لذا ترى الأصحاب يسكنون الى مراسيله، فروايته عن زيد- سيما مع إكثاره عنه- تدل على وثاقته، و هو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.

و فيه: ان غاية هذا الجواب هو إثبات وثاقة زيد عند ابن ابى عمير، و هذا المقدار لا يكفي في وثاقته عندنا، بعد عدم تصريح له بمدح و لا ذم من علماء الرجال.

كما انه يجاب عن الجهة الثانية: بأن هذا الأصل مما صح عن ابن ابى عمير روايته له، و الأصل في الطعن على الكتاب هو محمّد بن الحسن بن الوليد، و تبعه تلميذه الصدوق «قده» لشدة وثوقه به في الجرح و التعديل، و‌

______________________________
(1) راجع معجم رجال الحديث للسيد الأستاذ دام ظله ج 7 ص 367.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 220‌

..........

______________________________
اما غيرهما من أصحاب الحديث و الرجال فلم يلتفتوا الى ما قاله هذان الشيخان، كالشيخ «قده»، حيث انه بعد ما نقل عن الصدوق و شيخه ما نقلناه، قال: و كتاب زيد النرسي رواه ابن ابى عمير عنه
«1».

و نحوه غيره «2».

و فيه: انه لو سلم ذلك فان غايته ثبوت أصل لزيد النرسي، يرويه ابن أبى عمير، الا ان ذلك لا يستلزم ان تكون النسخة التي كانت عند المجلسي- المتضمنة لهذه الرواية- التي هي الأصل لباقي النسخ التي منها ما عند الحر العاملي «قده»، و منها ما عند شيخنا الشريعة الأصفهاني «قده»، أو غيرهما هو الأصل المذكور، الذي رواه ابن عمير، لأن المجلسي «ره» لم يروه عنه حتى يتصل السند إليه، إذ ليس له طريق الى هذا الكتاب و لم تكن نسبته الى زيد متواترة معروفة، كجملة من الكتب، كالكافي، و التهذيب، و أمثالهما، فمن اين يعلم ان هذا هو الأصل الذي كان يرويه ابن ابى عمير، و اعتمد عليه المتقدمون، بعد أن كان مهجورا طيلة هذه الأزمنة. و لم تنقل هذه الرواية في شي‌ء من كتب الحديث، و إنما اعتمد العلامة المجلسي «ره» على تلك النسخة العتيقة، و نقل منها الرواية، و شاع نقلها بين من تأخر عنه، و من هنا لم ينقل عنها شيخنا الحر العاملي في الوسائل، مع وجود النسخة عنده- و هي بخطه- مع انه لم يترك النقل من الكتب المعتمدة، و ليس ذلك الا لعدم ثبوت صحة إسناد النسخة الى زيد.

هذا، و لكن شيخنا شيخ الشريعة «قده» قد أتعب نفسه الزكية في بيان‌

______________________________
(1) راجع معجم رجال الحديث ج 7 ص 271- 272.

(2) كما حكى عن ابن الغضائري، و العلامة الطباطبائي في رجاله، و الوحيد البهبهاني في بعض حواشيه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 221‌

..........

______________________________
موجبات الوثوق و الاطمئنان بأن هذه النسخة هي تلك الأصل، من تراكم الظنون، و توفر القرائن الكثيرة عنده.

(منها): كون النسخة عتيقة مكتوبة في حدود سنة الثلاثمائة من الهجرة.

و (منها): ان كاتبها الشيخ منصور بن الحسن الابى.

و (منها): نقل كثير من العلماء روايات كثيرة في أبواب متفرقة من الفقه عن أصل زيد، و كلها موجودة في هذه النسخة.

كجعفر بن قولويه في كامل الزيارات فقد روى بإسناده الى ابن أبى عمير، عن زيد النرسي، عن ابى الحسن موسى عليه السّلام حديثا في فضل زيارة الرضا عليه السّلام، و هو موجود في هذه النسخة.

و الصدوق في ثواب الأعمال بإسناده الى ابن ابى عمير، عن زيد النرسي، عن بعض أصحابه قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يغسل رأسه بالسدر.» و هي موجودة فيها ايضا.

و ابن ابى فهد في عدة الداعي روى عن الأصل المذكور حديث معاوية بن وهب في الموقف.

و روى على بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه، عن ابن ابى عمير، عن زيد النرسي خبر فناء العالم، كما هو موجود في هذه النسخة.

أقول «1» انه «قده» و ان كان قد حصل له الاطمئنان من مجموع ما‌

______________________________
(1) قال الشيخ محمد تقي التستري في كتاب قاموس الرجال ج 4 ص 249: انه وقف على أصل زيد الزراد، و أصل زيد النرسي في مكتبة السيد الجزائري، و انه لا حظهما، و وجد في أصل زيد النرسي روايات منكرة توجب بعد انتسابها اليه، ثم ذكر جملة من الروايات الموجودة في ذاك الأصل مشتملة على مضامين سخيفة لا يمكن صدورها من المعصومين عليهم السّلام. فلاحظ.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 222‌

..........

______________________________
ذكره من القرائن، و شنع على من لم يحصل له ذلك، إلا أنا نحتمل مع ذلك ان واضع هذه النسخة قد وضعها، و جمع فيها كل رواية عن زيد النرسي بعد تتبعه في الكتب المذكورة، و غيرها من كتب الحديث، و الزيارة، و التفسير، و الوعظ، و غيرها، و ضم إليها ما وضعها من عند نفسه، و نحتمل ان تكون هذه الرواية من تلك الروايات الموضوعة، و ليس هذا احتمالا بعيدا بعد عدم ثبوت سند متصل الى ابن ابى عمير- في روايته هذا الأصل عن زيد- في شي‌ء من كتب الحديث. و اطمئنانه «قده» بان هذه النسخة هي الأصل- كاطمئنان المجلسي- شخصي لا يجدى لغيرهما، فتدبر. فالمتحصل: هو ضعف
«1» سند هذه الرواية، فلا يمكن الاعتماد عليها، و ان كانت دلالتها واضحة.

و هناك روايات أخر، قد يستدل بها على حرمة عصير الزبيب، و لكنها لا تخلو من المناقشة سندا أو دلالة:

منها: خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى أبى الحسن عليه السّلام قال:

«سألته عن الزبيب هل يصلح ان يطبخ حتى يخرج طعمه، ثم يؤخذ الماء، فيطبخ حتى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه، ثم يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس به» «2».

______________________________
(1) و ذلك بلحاظ عدم ثبوت ان النسخة الموجودة عند المجلسي أو غيره هي أصل زيد النرسي، لاحتمال الوضع فيها، و إلا فزيد النرسي ثقة لوقوعه في أسناد كامل الزيارات ب 101 ح 10 ص 306 كما أشير في الشرح، و قد ذهب السيد الأستاذ دام ظله إلى وثاقة كل من وقع في أسناد الكتاب المذكور، كما ذكرنا في تعليقة ص 33، كما انه دام ظله جزم بصحة نسبة كتابه إليه أيضا. فراجع معجم رجال الحديث ج 7 ص 372 في ترجمة زيد النرسي و ص 367- 368 في ترجمة زيد الزراد.

(2) وسائل الشيعة: الباب 8 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 2 ضعيف بسهل بن زياد.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 223‌

..........

______________________________
بتوهم: ان تحديد ذهاب الثلثين انما هو لأجل رفع حرمته بالغليان، و الا فلا وجه له غير ذلك.

و يندفع: بان ظاهر السؤال ارادة طبخ العصير على نحو يبقى مدة كثيرة- كالسنة- بحيث لا يطرء عليه الفساد، و يصير خمرا بالمكث، و النشيش، فيحتمل دخل ذهاب الثلثين في ذلك، فان المظنون وجود الكحول- اى المادة المسكرة بالقوة- في أقسام العصير بحيث إذا بقيت مدة توجب فسادها، و حموضتها بالنشيش، و لعلها تصير مسكرا بذلك، و اما إذا غلت حتى يذهب ثلثاه، و تحصل فيها الثخانة المطلوبة، و تصير كالدبس تزول عنها تلك المادة، و لا تفسد بالبقاء مدة، كالسنة و أكثر، و مع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بها.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌3، ص: 223

و منها: روايتان لعمار، إحداهما موثقة، و هي: ما رواه عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن الزبيب كيف يحل طبخه حتى يشرب حلالا قال: تأخذ ربعا من زبيب، فتنقيه، ثم تطرح عليه اثنى عشر رطلا من ماء، ثم تنقعه ليلة، فإذا كان من غد نزعت سلافته، ثم تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره، ثم تغليه بالنار غلية، ثم تنزع ماءه، فتصبّه على الأول، ثم تطرحه في إناء واحد، ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه، و تحته النار، ثم تأخذ رطل عسل، فتغليه بالنار غلية، و تنزع رغوته، ثم تطرحه على المطبوخ، ثم اضربه حتى يختلط به، و اطرح فيه ان شئت زعفرانا.» «1».

و الثانية هي روايته المتقدمة «2». و الظاهر أنهما رواية واحدة، لاتحاد الراوي عن مصدق بن صدقة، الذي يروي هو عن عمار- في كلتا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 5 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 3.

(2) في الصفحة: 203- 204.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 224‌

..........

______________________________
الروايتين- و هو عمرو بن سعيد و من البعيد تعدد السؤال من شخص واحد في مسألة واحدة بحيث يكون قد روى كلا من سؤاليه مستقلا. نعم يختلف الراوي عن عمرو، ففي الموثقة يروى عنه احمد بن الحسن، و أما في الأخرى فيروى عنه علي بن الحسن، أو رجل عن علي بن الحسن فهي مرسلة، كما تقدم
«1». و كيف كان ففي دلالتهما- بعد الغض عن سندهما «2»- نظر، لانه من المحتمل- لولا انه الظاهر- أن الأمر بإذهاب الثلثين انما هو للتحفظ من عروض الإسكار عليه إذا بقي مدّة، لا لتوقف الحلية عليه، فيكون دخيلا في بقائه على الحل، و شربه حلالا إلى الأخر، و عدم فساده بالنشيش، كما يشهد لذلك قوله عليه السّلام في ذيل الرواية المتقدمة «3»: «فإن أحببت أن يطول مكثه عندك فروّقه» أي صفّه.

و يؤيد ذلك أو يدل عليه- قوله عليه السّلام في رواية علي بن جعفر المتقدمة «4»: «ثم يرفع فيشرب منه السنة.».

و كذلك قوله في رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي: «و هو شراب طيب لا يتغير إذا بقي ان شاء اللّه.» «5»، فإنهما تدلان على أن الخصوصيات‌

______________________________
(1) في الصفحة: 205.

(2) إشارة الى ما اشتهر عن عمار من التشويش و التصحيف في نقل الحديث كما نقل عن المجلسي انه كان ينقل بالمعنى، و لسوء فهمه كثيرا ما يقع منه الخلط، و الغلط في الرواية، و قالوا: انه كثير التفرد بالغرائب، و يشهد لما ذكروا تشويش النقل في هاتين الروايتين، و الظاهر أنهما رواية واحدة كما ذكرنا. فراجع.

(3) في الصفحة: 203- 204.

(4) في الصفحة: 223.

(5) قال: «شكوت الى أبى عبد اللّه عليه السّلام قراقر تصيبني في معدتي، و قلة استمرائي الطعام، فقال لي: لم لا تتخذ نبيذا نشربه نحن، و هو يمرئ الطعام، و يذهب بالقراقر، و الرياح من البطن؟

قال: فقلت له: صفه لي جعلت فداك، قال: تأخذ صاعا من زبيب، فتنقيه من حبه، و ما فيه، ثم تغسله بالماء غسلا جيدا، ثم تنقعه في مثله من الماء أو ما يغمره، ثم تتركه في الشتاء ثلاثة أيام بلياليها، و في الصيف يوما و ليلة، فإذا أتى عليه ذلك القدر صفيته، و أخذت صفوته، و جعلته في إناء، و أخذت مقداره بعود، ثم طبخته طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه، ثم تجعل عليه نصف رطل عسل، و تأخذ مقدار العسل، ثم تطبخه حتى تذهب الزيادة، ثم تأخذ زنجبيلا و خولنجان، و دارصيني، و زعفران و قرنفلا، و مصطكى، و تدقه و تجعله في خرقة رقيقة، و تطرحه فيه، و تغليه معه غلية، ثم تنزله، فإذا برد صفيت، و أخذت منه على غدائك، و عشائك. قال: ففعلت، فذهب عنى ما كنت أجده، و هو شراب طيب لا يتغير إذا بقي ان شاء اللّه». وسائل الشيعة: الباب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 4 ضعيفة بالإرسال، و بالسياري.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 225‌

..........

______________________________
المذكورة في الروايتين تكون دخلية في بقاء العصير بلا تغير مدة من الزمان، و يحتمل ان يكون ذهاب الثلثين من الخصوصيّات الدخيلة في ذلك ايضا.

و منها: الروايات الدالة على حرمة العصير، بدعوى صدقه على ماء الزبيب، بتقريب: ان العصير فعيل من العصر، و هو استخراج ماء الجسم مطلقا، سواء كان عنبا أو غيره من الأجسام، و سواء كان ذاك الماء أصليا أم خارجيا، لانه- كغيره- من المشتقات الموضوعة للذات المبهمة المتصفة بالمبدء ك‍:

صحيحة عبد اللّه بن سنان- أو حسنته- قال: «ذكر أبو عبد اللّه عليه السّلام ان العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه فهو حلال» «1».

و صحيحته الأخرى عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «كل عصير أصابته النار فهو حرام، حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «2».

و صحيحة حماد عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: «لا يحرم العصير حتى يغلي» «3».

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 5 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 5.

(2) وسائل الشيعة: الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة: الباب 32 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 226‌

..........

______________________________
و فيه أولا: عدم صدق العصير- لغة و عرفا- علي مطلق الماء المستخرج من الأجسام، بل الظاهر اختصاصه بالماء الأصلي للفاكهة، كماء العنب، و ماء الرمان و البرتقال، و نحو ذلك. فلا يصدق على الماء الخارجي المستخرج من الجسم بعد نقعه فيه، كالماء المستخرج من الزبيب بعد النقع فيه، و إلا لصدق على الماء المعتصر من الثوب، و اللحاف، و نحو ذلك: عصير الثوب، أو اللحاف، و نحو ذلك. و اعتذار بعض عن هذا النقض بعدم تعلق غرض في إطلاق العصير على مثل ذلك لا يرجع الى معنى محصل.

و ثانيا: انه لو سلم العموم في نفسه لم يكن ذلك مرادا من هذه الروايات- جزما- لاستلزامه تخصيص الأكثر، لعدم حرمة كثير من أقسام العصير، و لو بعد الغليان، كعصير الرمان، و الحصرم، و التوت، و البطيخ، و السفرجل، و التفاح، و التين، و البرتقال، و نحو ذلك من الفواكه، فلا بد من ارادة قسم خاص. و الظاهر هو ارادة خصوص عصير العنب، لا لما ذكره صاحب الحدائق «قده» «1»، من اختصاصه به- لغة و عرفا- بل لانصرافه لي ذلك، الناشي من كثرة الاستعمال فيه، و لو منع الانصراف فالقدر المتيقن ارادة عصير العنب، و أما ارادة غيره أيضا بحيث يعم نقيع الزبيب بتوهم ارادة كل عصير يكون معرضا للخمرية- كعصير التمر، و الرطب، و الزبيب- فغير معلوم. و أما إطلاق الفقهاء العصير على نقيع الزبيب- كالمصنف و غيره- فمبنى على المسامحة، بل يطلق عليه النبيذ- تارة- باعتبار ما نبذ من الزبيب في الماء، و- اخرى- المريس باعتبار دلكه- و ثالثة- النقيع باعتبار نقع الزبيب فيه. و منها: بعض «2» الروايات الدالة على حرمة النبيذ الذي يجعل فيه‌

______________________________
(1) في ج 5 ص 125- 130.

(2) كرواية إبراهيم بن أبى البلاد عن أبيه، قال: «كنت عند أبى جعفر عليه السّلام فقلت: يا جارية اسقيني ماء، فقال لها: اسقيه من نبيذي، فجاءت بنبيذ مريس في قدح من صفر، قلت: لكن أهل الكوفة لا يرضون بهذا، قال: فما نبيذهم؟ قلت: يجعلون فيه القعوة، قال: و ما القعوة؟ قلت: الزازى (اللاذى) قال: و ما الزازى؟ قلت: ثفل التمر يضرى به الإناء حتى يهدر النبيذ، فيغلي، ثم يسكن، فيشرب. قال:

ذاك حرام».

وسائل الشيعة: الباب: 24 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1. و هي ضعيفة بأبي البلاد يحيى بن مسلم، لانه لم يوثق. و ثبوت إطلاق فيها مشكل، لظهورها في نبيذ التمر، بقرينة تفسير القعوة بثفله، و الثفل ما استقر تحت الشي‌ء من كدره، و أما غيرها من روايات الباب فاختصاصها بنبيذ التمر أظهر، كما لا يخفى على من لاحظها، فالأولى هو البحث عن هذه الروايات في العصير التمري كما يأتي.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 227‌

..........

______________________________
القعوة، و العكر، فيغلي، ثم يسكن، الشاملة بإطلاقها لنبيذ الزبيب. الا انها محمولة على حصول الإسكار بجعل ذلك فيه، لأن القعوة أو العكر و هي ثفل التمر يضرى به الإناء أي يلطخ به حتى يهدر النبيذ، فيغلي، ثم يسكن
«1» أو انها حب يؤتى يه من البصرة يلقى في النبيذ حتى يغلى و يسكن «2»، كما يدل على ذلك قوله عليه السّلام في:

رواية الكلبي النسابة «3» «شه شه تلك الخمرة المنتنة» بعد قول السائل: «إنا ننبذه، فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك.».

و صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: «استأذنت لبعض أصحابنا على أبى عبد اللّه عليه السّلام فسأله عن النبيذ، فقال: حلال، فقال: إنما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر، فيغلي، ثم يسكن. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كل مسكر حرام» «4».

______________________________
(1) كما في رواية إبراهيم بن أبى البلاد المتقدمة.

(2) كما في رواية إبراهيم بن أبى البلاد الأخرى المذكورة في نفس الباب، الحديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 202 الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث: 2.

(4) وسائل الشيعة: الباب: 17 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 7.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 228‌

..........

______________________________
فلا يمكن الاستدلال بهذه الروايات على نقيع الزبيب إذا لم يكن مسكرا.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه لا دليل على حرمة نقيع الزبيب، أو نجاسته، و ان كان الاحتياط حسنا على كل حال.

العصير التمري الأقوى حليته، و عدم نجاسته إذا غلى بنفسه، أو بالنار، ما لم يكن مسكرا، لعدم الدليل على خلاف ما هو مقتضى الأصل فيهما من الحل و الطهارة، بل ادعى الإجماع على طهارته، بل على عدم وجود القول بحرمته، الا من بعض المتأخرين من الأخباريين «1». و الأمر في عصير التمر أسهل من عصير الزبيب، لورود روايات تدل، أو توهم الدلالة على حرمة الثاني بالغليان، كرواية زيد النرسي المتقدمة، و غيرها من الروايات التي قد عرفت الخدشة فيها سندا أو دلالة.

و اما ما دل على حرمة النبيذ، ك‍:

رواية إبراهيم بن ابى البلاد المتقدمة «2».

و روايته الأخرى عنه عليه السّلام- في حديث- فقال: «و ما نبيذهم؟

قلت: يؤخذ التمر، فينقى، و تلقى عليه القعوة. قال: و ما القعوة؟ قلت: الدادي قال: و ما الدادي قلت: حب يؤتى به من البصرة «3»، يلقى في هذا النبيذ حتى‌

______________________________
(1) كما في رسالة- إفاضة القدير في أحكام العصير- لشيخ الشريعة الأصفهاني «قده» ص 131.

(2) المتقدمة في تعليقة ص 227.

(3) في تعليقة الوسائل ج 17 ص 283، ط الإسلاميّة: «قال في لسان العرب: نبت. و قيل: هو شي‌ء له عنقود مستطيل، و حبه على شكل حب الشعير، يوضع منه مقدار رطل في الفرق، فتعبق رائحته، و يجود إسكاره. و في القاموس: الداذي- بالمهملة، ثم المعجمة- شراب للفساق، و الذاذى- بمعجمتين- نبت له عنقود.».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 229‌

..........

______________________________
يغلى، و يسكن، ثم يشرب. قال: ذاك حرام»
«1».

فمحمول على صورة الإسكار، بقرينة الروايات الدالة على إناطة حرمته به مثل:

صحيحة صفوان الجمال قال: «كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به، فقلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أصف لك النبيذ؟ فقال: بل أنا أصفه لك، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كل مسكر حرام، و ما أسكر كثيره فقليله حرام.» «2»، و:

صحيحة معاوية بن وهب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ان رجلا من بنى عمى، و هو من صلحاء مواليك، يأمرني أن أسئلك عن النبيذ، و أصفه لك. فقال: أنا أصف لك، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كل مسكر حرام، و ما أسكر كثيره فقليله حرام.» «3».

و هما العمدة في المقام. و نحوهما غيرهما، ك‍:

رواية محمّد بن جعفر عن أبيه- في حديث وفد اليمن- أنهم سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله عن النبيذ، فقال لهم: و ما النبيذ؟ صفوه لي، قال: يؤخذ التمر، فينبذ في الماء. الى ان قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا هذا، قد‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 25 ص 354 الباب: 24 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 3 ط المؤسسة.

(2) وسائل الشيعة: الباب: 17 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 3.

(3) وسائل الشيعة: الباب: 17 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 230‌

[مسألة 2: إذا صار العصير دبسا بعد الغليان]

«مسألة 2»: إذا صار العصير دبسا بعد الغليان قبل ان يذهب ثلثاه فالأحوط حرمته، و ان كان لحليته وجه (1) «1». و على هذا فإذا استلزم ذهاب ثلثيه احتراقه فالأولى أن يصب عليه مقدار من الماء، فإذا ذهب ثلثاه حل بلا إشكال.

______________________________
أكثرت على أ فيسكر؟ قال: نعم. فقال: كل مسكر حرام»
«2».

و صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة «3».

و دلالة هذه الروايات على حلية النبيذ مع عدم الإسكار واضحة. و نحوها غيرها فالحرمة و النجاسة في النبيذ التمري و الزبيبي تدوران مدار الإسكار، و بدونه يحكم عليهما بالحلية و الطهارة، و ان كان الاحتياط لا ينبغي تركه خصوصا في الزبيبي إذا غلي و نش و لم يذهب ثلثاه.

(1) ربما يتوهم: ان صيرورة العصير دبسا قبل ذهاب ثلثيه- كما يتفق ذلك في العصير إذا غلظ، لشدة الحلاوة في العنب- توجب حليته لوجوه:

الأول: ان موضوع الحرمة في الاخبار هو شرب العصير، كقوله عليه السّلام: «تشرب ما لم يغل، فإذا غلا فلا تشربه» «4». و الدبس ليس مما يشرب، بل هو من المأكولات، فيخرج بذلك عن عموم، أو إطلاق ما دل على حرمة شرب العصير بالغليان.

و فيه: ان موضوع الحرمة في بعض الروايات و ان كان ذلك، الا ان‌

______________________________
(1) في تعليقة- دام ظله- على قول المصنف «قده»: «و ان كان لحليته وجه. «لكنه ضعيف لا يلتفت إليه».

(2) وسائل الشيعة: الباب 24 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 6.

(3) في الصفحة: 228.

(4) المتقدم في الصفحة: 209. في خبر حماد.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 231‌

..........

______________________________
في بعضها الأخر يكون الموضوع نفس العصير، من دون اضافة الشرب، فيشمل أكل الدبس، لصدق العصير عليه ايضا، ك‍:

صحيحة عبد اللّه بن سنان- أو حسنته- المتقدمة «1».

الثاني: حصول الغرض من ذهاب الثلثين بصيرورته دبسا، فإذا حصل الغرض صار حلالا.

و فيه: ان هذا رجم بالغيب، لعدم العلم بالغرض من ذهابهما حتى نعرف حصوله بصيرورته دبسا، لأن الغليان موجب للحرمة تعبدا- كما عرفت- لا لأجل صيرورته مسكرا، كي يقال بزواله بذهاب الثلثين، أو صيرورته دبسا، أو بالأمن من طروه عليه بعد ذلك، كما يؤمن من طروه إذا ذهب ثلثاه.

الثالث: الانقلاب- كما عن الشهيد الثاني في المسالك كانقلاب الخمر خلا، فكما أن الخمر يحل و يطهر بالانقلاب، كذلك العصير يحل و يطهر بانقلابه دبسا.

و فيه: ان الانقلاب غير الاستحالة، و تغير الحكم بالأول يحتاج الى النص، بخلاف الثاني، فإنه بمقتضى القاعدة. و هذا الوجه و ان ذكره الشهيد الثاني «قده» الا انه قد خلط بين المقامين.

و توضيحه: ان الاستحالة عبارة عن انعدام شي‌ء و حدوث شي‌ء آخر، عقلا و عرفا، أو عرفا فقط، فتغير الحكم حينئذ انما يكون بتغير موضوعه، لأن الأحكام الشرعية إنما تترتب على الموضوعات العرفية، فبتبدلها يتبدل الحكم لا محالة. و من هنا قد ذكرنا في محله: انه لا يصح عدّ‌

______________________________
(1) في الصفحة: 225- 226.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 232‌

..........

______________________________
الاستحالة من المطهرات. الا على نحو من المسامحة، لأن زوال النجاسة حينئذ انما يكون بزوال موضوعها، لا مع بقاءه، و أما المادّة المشتركة بين الصورتين فلا حكم لها في الشريعة المقدسة، لأن شيئية الشي‌ء بصورته لا بمادته، و الصور النوعية- و لو بحسب النظر العرفي- هي الموضوع للأحكام الشرعية، فإن الملح غير الكلب واقعا. و أما الانقلاب فهو عبارة عن تغير وصف الشي‌ء كاللحم المتنجس إذا طبخ، فان المطبوخ غير «النّي‌ء» أعنى غير المطبوخ، و لا يزول بذلك أحكامه السابقة، كالنجاسة، و غيرها. و قد يوجب تغير الاسم أيضا، الا ان المتغير هو الأول في نظر العرف، و ان تغير وصفه، و اسمه، كالخمر المنقلب الى الخل، فإنه بزوال إسكاره لا يصير موضوعا آخر، و ان تغير اسمه، و وصفه، بل هو بعينه، غاية الأمر قد زال وصفه، و موضوع النجاسة هو هذا الجسم الخاص، و هو باق في كلتا الحالتين، و لا عموم يدل على مطهرية الانقلاب إلا في خصوص الخمر إذا انقلب خلا و اما انقلاب العصير دبسا فلم يقم دليل على مطهريته، أو كونه محللا له.

و من هنا لا نظن ان يلتزم الشهيد الثاني «قده» بطهارة الدبس إذا كان عصيرة متنجسا بغير الغليان، كالمتنجس بالبول، و الدم، و نحوهما، بدعوى: مطهرية الانقلاب، نظير ما يلتزم به في الخشب المتنجس إذا استحال رمادا، فمقتضى عموم ما دل على حرمة العصير أو نجاسته بقاءه عليها و لو صار دبسا، فالأقوى بقاءه على الحرمة أو النجاسة لأن وجه الحلية في غاية الضعف.

و عليه فإذا استلزم ذهاب ثلثيه احتراقه فالأولى ان يصبّ عليه مقدار من الماء، فإذا ذهب ثلثاه حل بلا إشكال، لصدق العصير على المجموع، و قد ذهب ثلثاه.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 233‌

[مسألة 3 يجوز أكل الزبيب، و الكشمش، و التمر في الأمراق]

«مسألة 3» يجوز أكل الزبيب، و الكشمش، و التمر في الأمراق، و الطبيخ و ان غلت، فيجوز أكلها بأي كيفية كانت على الأقوى (1)

______________________________
(1)
الزبيب و الكشمش في الأمراق و الطبيخ بعد الفراغ عن حلية عصير الزبيب و الكشمش و التمر، و ان غلى، ما لم يصر مسكرا، كما هو الأقوى- على ما تقدم- فحلية أنفسها في الأمراق، و الطبيخ و نحو ذلك، كالمحموس في الدهن و ان غلى ما في القدر، تكون في غاية الوضوح.

و أما لو قلنا بحرمة عصير الزبيب و أخواته بالغيلان- كعصير العنب- فلا بأس بالقول بحلية أكل أنفسها في الأمراق و نحوها ايضا، لما ذكرنا في المسألة الاولى من ان موضوع الحرمة هو العصير لا نفس الحبات، و ان فرض غليان ما في جوف الحبات من الماء، مع ان وجود الماء في الحبات ممنوع، فلا يشملها دليل الحرمة. و لو فرض خروج مقدار من مائها بواسطة غليان المرق، فهو مستهلك لا يحرم أكله، كما في الدم المتخلف في الذبيحة، فإنه و ان كان طاهرا الا انه يحرم أكله، لكن المقدار القليل الباقي في اللحم في الأمراق و نحوها يستهلك في غيره. و لو فرض عدم الاستهلاك لكثرة الزبيب المجعول في المرق يشكل الأكل، لأن المرق حينئذ مخلوط بما يحرم شربه. و الأشد اشكالا من ذلك هو ما لو قلنا بنجاسة عصير هذه الأشياء، فإنه ينجس المرق و ان كان الماء الخارج منها قليلا مستهلكا، لان استهلاك النجس في الطاهر لا يرفع النجاسة، كما في استهلاك قطرة من البول في ماء كثير لا يبلغ الكر.

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net