الجهة الاُولى : أقسام التقيّة وأحكامها 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الخامس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 13147


 بحوث التقيّة

    وذلك إنما يتم بالبحث عن جهات :

   الجهة الاُولى : أن التقيّة مصدر تقى يتقي ، والاسم التقوى وهي مأخوذة من الوقاية وتاؤها بدل من الواو بمعنى : الصيانة والتحفظ عن الضرر ، ومنه المتقون لأنهم صانوا أنفسهم عن سخط الله سبحانه وعقابه وقد تجيء بمعنى الخوف كما إذا اُسند إلى الله سبحانه كما في قوله تعالى : (واتّقوا الله )(1) .

   وهي قد تستعمل ويراد منها المعنى العام وهو التحفظ عما يخاف ضرره ولو في الاُمور التكوينية ، كما إذا اتقى من الداء بشرب الدواء ، واُخرى تستعمل ويراد منها المعنى الخاص وهو التقيّة المصطلح عليها أعني التقيّة من العامة .

   أما التقيّة من الله سبحانه فمن الظاهر أنها غير محكومة بحكم شرعاً ، لأن الأمر بها مساوق للأمر باتيان الواجبات وترك المحرمات كالأمر بالطاعة ، ومن الظاهر أنه واجب عقلي ولا حكم له شرعاً .

   وأما التقيّة بالمعنى الأعم فهي في الأصل محكومة بالجواز والحلية ، وذلك لقاعدة نفي
الضرر وحديث رفع ما اضطروا إليه (2) وما ورد من أنه ما من محرم إلاّ وقد أحله الله في مورد الاضطرار(3) وغير ذلك مما دلّ على حلية أيّ عمل عند الاضطرار إليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2 : 194 ، 196 ، 203 وغيرها من الآيات .

(2) الوسائل 8 : 249 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 30 ح 2 ، 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1 .

(3) الوسائل 5 : 482 / أبواب القيام ب 1 ح 6 ، 7 ، 23 : 228 / أبواب الايمان ب 12 ح 18 .

ــ[222]ــ

فكل عمل صنعه المكلف اتقاء لضرره واضطراراً إليه فهو محكوم بالجواز والحلية في الشريعة المقدسة .

   وأمّا التقيّة بالمعنى الأخص أعني التقيّة من العامّة ، فهي في الأصل واجبة ، وذلك للأخبار الكثيرة الدالة على وجوبها ، بل دعوى تواترها الاجمالي والعلم بصدور بعضها عنهم (عليهم السلام) ولا أقل من اطمئنان ذلك قريبة جداً . هذا على أن في بينها روايات معتبرة كصحيحتي ابن أبي يعفور ومعمر بن خلاد (1) وصحيحة زرارة (2) وغيرها من الروايات الدالة على وجوب التقيّة .

   ففي بعضها «إن التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقيّة له» (3) وأي تعبير أقوى دلالة على الوجوب من هذا التعبير ، حيث إنه ينفي التدين رأساً عمن لا تقيّة له ، فمن ذلك يظهر أهميتها عند الشارع وأن وجوبها بمثابة قد عدّ تاركها ممن لا دين له . وفي بعضها الآخر «لا إيمان لمن لا تقيّة له» (4) وهو في الدلالة على الوجوب كسابقه . وفي ثالث «لو قلت إن تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً» (5) ودلالته على الوجوب ظاهرة ، لأن الصلاة هي الفاصلة بين الكفر والايمان كما في الأخبار وقد نزّلت التقيّة منزلة الصلاة ودلت على أنها أيضاً كالفاصلة بين الكفر والايمان . وفي رابع «ليس منّا من لم يجعل التقيّة شعاره ودثاره» (6) . وقد عدّ تارك التقيّة في بعضها ممن أذاع سرهم وعرّفهم إلى أعدائهـم(7) إلى غير ذلك من الروايات ، فالتقيّة بحسب الأصل الأوّلي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 16 : 205 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 7 ، 4 .

(2) الوسائل 16 : 214 / أبواب الأمر والنهي ب 25 ح 1 .

(3) الوسائل 16 : 210 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 24 .

(4) كما في صحيحتي ابن أبي يعفور ومعمر بن خلاّد  المتقدِّمتين آنفاً .

(5) كما في رواية السرائر المروية في الوسائل 16 : 211 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 27 .

(6) الوسائل 16 : 212 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 29 .

(7) كما في رواية الاحتجاج المروية في الوسائل 16 : 228 / أبواب الأمر والنهي ب 29 ح 11 ،    وصحيحة معلّى بن خنيس المتقدمة المروية في الوسائل 16 : 210 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 24 .

ــ[223]ــ

محكومة بالوجوب .

   ثم إن التقيّة بالمعنى الجامع بين التقيّة بالمعنى الأعم والتقيّة المصطلح عليها قد يتصف بالوجوب ، كما إذا ترتبت على تركها مفسدة لا يرضى الشارع بوقوع المكلف فيها كالقتل ، هذا في التقيّة بالمعنى الأعم ، وأما التقيّة بالمعنى الأخص فقد عرفت أنها مطلقاً واجبة وإن لم يترتب عليها إلاّ ضرر يسير .

   وقد يتصف التقيّة بالمعنى الجامع المتقدم بالحرمة التشريعية ، وهذا كما اذا أجبره الجائر على الصلاة خلف من نصبه إماماً للجماعة أو خلف رجل آخر علمنا فسقه ، فانه إذا صلّى خلفه ناوياً بها التقرب والامتثال فقد فعل محرماً تشريعياً لا محالة ، لأن التقيّة تتأدى بصورة الصلاة معه ، وحيث إنه يعلم ببطلانها وعدم كونها مأموراً بها حقيقة فلو أتى بها بقصد القربة كان ذلك محرماً تشريعياً لا محالة . ونظيره ما إذا أتى بالعبادة تقيّة وقلنا إنها غير مجزئة عن المأمور بها ، لأن التقيّة إنما تقتضي جواز العمل فقط ولا تقتضي الاجزاء عن المأمور  به كما ذهب إليه جمع ومنهم المحقق الهمداني (قدس سره) كما في المسح على الخفين مثلاً ، فانه لو اتقى بذلك ومسح على خفيه تقيّة لم يجز له أن يقصد به التقرّب والامتثال ، لعدم كونه مصداقاً للمأمور  به ، فلو قصد به ذلك كان محرماً تشريعياً كما عرفت (1) .

   ومن ذلك ما إذا وقف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجة الحرام تقيّة وقلنا بعدم إجزائه عن الوقوف المأمور  به وهو الوقوف بها يوم التاسع من الشهر المذكور مطلقاً أو فيما إذا علم بأن اليوم يوم الثامن دون التاسع ، فانه لا يجوز أن ينوي به التقرّب والامتثال وإلاّ لارتكب عملاً محرماً تشريعياً لا محالة .

   وثالثة تتصف التقيّة بالمعنى الجامع بالحرمة الذاتية ، وهذا كما إذا أجبره الجائر بقتل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ مصباح الفقيه (الطهارة) : 164 ، 168 ، 170 .

ــ[224]ــ

النفس المحترمة ، فانه لا يجوز له أن يقتلها تقيّة ، لما دلّ على أن التقيّة إنما شرعت لحقن الدماء فاذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة (1) فاذا قتلها تقيّة ارتكب محرماً ذاتياً لا محالة . وقد يمثل لذلك بما إذا لم يترتب على ترك التقيّة ضرر عاجل ولا آجل ، ولكنّا قدمنا أن التقيّة من الوقاية ، وقد اُخذ في موضوعها خوف الضرر ، ومع العلم بعدم ترتب الضرر على تركها لا يتحقق موضوع للتقية .

   والصحيح أن يمثل للتقية المحرمة بالقتل كما مر ، وبما إذا كانت المفسدة المترتبة على فعل التقيّة أشد وأعظم من المفسدة المترتبة على تركها ، أو كانت المصلحة في ترك التقيّة أعظم من المصلحة المترتبة على فعلها ، كما إذا علم بأنه إن عمل بالتقية ترتب عليه اضمحلال الحق واندراس الدين الحنيف وظهور الباطل وترويج الجبت والطاغوت ، وإذا ترك التقيّة ترتب عليه قتله فقط أو قتله مع جماعة آخرين ، ولا إشكال حينئذ في أن الواجب ترك العمل بالتقية وتوطين النفس للقتل ، لأن المفسدة الناشئة عن التقيّة أعظم وأشد من مفسدة قتله .

   نعم ، ربما تكون المفسدة في قتله أعظم وأكثر ، كما إذا كان العامل بالتقية ممن يترتب على حياته ترويج الحق بعد الاندراس وإنجاء المؤمنين من المحن بعد الابتلاء ونحو ذلك ، ولكنه أمر آخر ، والتقيّة بما هي تقيّة متصفة بالحرمة في تلك الصورة كما عرفت . ولعله من هنا أقدم الحسين (سلام الله وصلواته عليه) وأصحابه (رضوان الله عليهم) لقتال يزيد بن معاوية وعرضوا أنفسهم للشهادة وتركوا التقيّة عن يزيد ، وكذا بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بل بعض علمائنا الأبرار (قدس الله أرواحهم) وجزاهم عن الاسلام خيراً كالشهيدين وغيرهما .

   ورابعة تتصف التقيّة بالمعنى المتقدم بالاستحباب ، وقد مثل له شيخنا الأنصاري (قدس سره) بالمداراة معهم ومعاشرتهم في بلادهم وحضور مجالسهم وعيادة مرضاهم ، وغير ذلك مما لا يترتب أيّ ضرر على تركه بالفعل ، إلاّ أن تركه كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 16 : 234 / أبواب الأمر والنهي ب 31 ح 1 ، 2 .

ــ[225]ــ

مفضياً إلى الضرر على نحو التدريج (1) .

   وفيه : ما تقدّم من أن التقيّة متقومة بخوف الضرر الذي يترتب على تركها ، ومع العلم بعدم ترتّب الضرر على ترك التقيّة لا يتحقق موضوع للتقية كما مر .

   وعليه فالصحيح أن يمثل للتقية المستحبة بالمرتبة الراقية من التقيّة ، لأن لها كالعدالة وغيرها مراتب ودرجات متعددة ، وهذا كشدة المواظبة على مراعاتها حتى في موارد توهم الضرر فضلاً عن موارد احتماله لئلاّ يذاع بذلك أسرار أهل البيت (عليهم السلام) عند أعدائهم ، ولا إشكال في استحباب ذلك مع تحقق موضوع التقيّة وهو احتمال الضرر ولو ضعيفاً .

   ويشهد على ذلك ما رواه حماد بن عيسى عن عبدالله بن حبيب (جندب) عن أبي الحسن (عليه السلام) «في قول الله عزّ وجلّ (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) قال : أشدكم تقيّة» (2) فان ذلك وإن كان من أحد مصاديق التقيّة فان التقيّة قد تكون من الله سبحانه وقد تكون من العامة وغيرهم ، إلاّ أن الرواية تدلنا على أن من كان شديد المواظبة على التقيّة فهو أتقى وأكرم عند الله ، وهذا كاف في رجحان شدة المواظبة على التقيّة .

   ويمكن التمثيل للتقية المستحبة أيضاً بما إذا اُكره مكره على إظهار كلمة الكفر أو التبرِّي من أمير المؤمنين (عليه السلام) بناء على أن التقيّة وقتئذ باظهار البراءة أرجح من تركها ومن تعريض النفس على الهلاكة والقتل كما يأتي عن قريب إن شاء الله .

   وقد تتصف التقيّة ـ بالمعنى المتقدم ـ بالكراهة ، ومرادنا بها ما إذا كان ترك التقيّة أرجح من فعلها ، وهذا كما إذا اُكره على إظهار البراءة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وقلنا إن ترك التقيّة حينئذ وتعريض النفس للقتل أرجح من فعلها وإظهار البراءة منه (عليه السلام) كما احتمله بعضهم . وكما إذا ترتب ضرر على أمر مستحب كزيارة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رسالة في التقيّة : 320 السطر 20 .

(2) الوسائل 16 : 212 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 31 .

ــ[226]ــ

الحسين (عليه السلام) فيما إذا كانت ضررية ، فان ترك التقيّة حينئذ باتيان المستحب الضرري أرجح من فعلها وترك العمل الاستحبابي ، وهذا بناء على ما قدمناه عند التكلم على حديث لا ضرر من أنه كحديث الرفع وغيره مما دلّ على ارتفاع الأحكام الضررية على المكلف ، ومعه يكون ترك التقيّة باتيان المستحب أرجح من فعلها وترك العمل المستحب ، هذا كله في هذه الجهة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net