هل يقتضي الاضطرار والتقيّة سقوط الجزئية والشرطية والمانعية ؟ 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الخامس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6123


    التنبيه على أمرين :

   وقبل الخوض في تحقيق ذلك ننبه على أمرين :

   الأمر الأوّل : أن محل الكلام في المانعية إنما هو المانعية المنتزعة عن النواهي الغيرية ، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل أو النهي عن الصلاة في الحرير ونحوها ، وأما المانعية المنتزعة عن النهي المستقل فهي غير داخلة في محل النزاع ، وهذا كاعتبار عدم كون المكان أو اللباس مغصوباً في الصلاة أو عدم كون الماء مغصوباً في الوضوء ، لأنه لم يرد اعتبار ذلك في شيء من الأدلة اللفظية وغيرها ، بل إنما نشأ اعتباره من النهي النفسي الدال على حرمة التصرف في مال الغير من غير رضاه ، نظراً إلى استحالة اجتماع الحرمة والوجوب في شيء واحد ، وعدم معقولية كون المحرم مصداقاً للواجب فمانعية الغصب في الصلاة والوضوء ناش من النهي النفسي المستقل بمعونة الحكم

ــ[236]ــ

العقلي واستقلاله في عدم امكان كون المحرم مصداقاً للواجب .

   والوجه في خروج هذا القسم من المانعية عن محل النزاع ، هو أن المكلف إذا اضطر إلى إتلاف ماء الغير أو إلى التصرف في ماله تقيّة أو اضطراراً سقطت عنه حرمته ، لما قدمناه آنفاً من أن الاضطرار والتقيّة يرفعان الأحكام المتعلقة بالفعل الاضطراري لا  محالة ، ومع سقوط الحرمة النفسية ترتفع المانعية أيضاً ، لأنها ناشئة ومسببة عنها فاذا زالت زالت .

   وأمّا ما ذهب إليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أن الاضطرار والتقيّة وغيرهما من الروافع والأعذار إنما يقتضي ارتفاع الحرمة فحسب ، وأما الملاك المقتضي للحرمة فهو بعد بحاله ولا موجب لارتفاعه بالاضطرار أو التقيّة أو غيرهما ، ومع بقاء الملاك المقتضي للحرمة تبقى المانعية أيضاً بحالها ، لأن للملاك والمفسدة الملزمة معـلولين أحدهما : الحرمة النفسية . وثانيهما : المانعية ، وإذا سقط أحدهما وهو الحرمة بالتقية أو بالاضطرار فيبقى معلوله الثاني بحاله لا محالة ، فالمانعية المستفادة من النهي النفسي كالمانعية المستفادة عن النواهي الغيرية ولا ترتفع بالاضطرار إلى التصرف في مال الغير بوجه ،

   فمما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأ نّا لو سلمنا أن الاضطرار وغيره من الأعذار غير مقتض لارتفاع المفسدة والملاك كما لا يبعد ، حيث إن الرفع إنما يتصوّر فيما إذا كان هناك مقتض للتكليف كما قدمناه عند التكلّم على حديث الرفع ، فلا نسلم عدم ارتفاع المانعية عند سقوط الحرمة النفسية بالاضطرار ، وذلك لأن الملاك على تقدير بقائه غير مؤثر في المنع عن الفعل المضطر  إليه وحرمته ، لأن الشـارع قد رخّص في فعله ، ومع عدم تأثير الملاك في المنع والتحريم وجواز التصرف في مال الغير بترخيص الشارع نفسه لا معنى للمانعية في الصلاة ، لضرورة أن العمل إذا كان مباحاً ومرخّصاً فيه في غير الصلاة فهو مباح ومرخّص فيه في الصلاة أيضاً ، فان الصلاة وغيرها سيان من هذه الجهة ، فاذا جاز له لبس لباس الغير في غير الصلاة جاز له لبسه في الصلاة أيضاً ، إذ لا فرق بينها وبين غيرها من ناحية الترخيص في التصرف في مال الغير .

ــ[237]ــ

   ولا يقاس محل الكلام بما إذا اضطر إلى لبس الحرير لبرد أو غير برد ، حيث إنه مع سقوط الحرمة النفسية في لبس الحرير بالاضطرار لا يمكنه لبسه في الصلاة ، بل يجب عليه إيقاع الصلاة في غير الحرير لعدم سقوط المانعية عن لبس الحرير بسقوط حرمته النفسية ، وذلك لأن المانعية في لبس الحرير لم ينشأ عن حرمة لبسه النفسية وإنما هي منتزعة عن النهي عن الصلاة في الحرير وهذا باق بحاله ، وهذا بخلاف المقام فان المانعية إنما نشأت عن النهي النفسي ومع سقوطه بالتقية والاضطرار ترتفع المانعية المنتزعة عنه بالتبعية لا محالة .

   الأمر الثاني : أن محل الكلام ومورد النقض والإبرام إنما هو ما إذا كان لدليل كل من الجزئية والشرطية والمانعية إطلاق أو عمـوم يشمل حال الاضطرار إلى تركها وأما إذا لم يكن كذلك كما إذا ثبتت الاُمور المذكورة باجماع أو سيرة أو بدليل لفظي لا  إطلاق ولا عموم له فهو خارج عن محل النزاع ، وذلك لأن الواجب إذا كان لدليله عموم أو إطلاق يتمسك باطلاقه أو عمومه ، وبه يثبت عدم جزئية الشيء أو شرطيته أو مانعيته للواجب حال الاضطرار إليه ، وإذا فرضنا عدم الاطلاق أو العموم لدليل الواجب يتمسك بأصالة البراءة في نفي الجزئية والشرطية والمانعية في حال الاضطرار ، فمورد الكلام ومحل النقض والابرام منحصر بما إذا كان لأدلة التكاليف الغيرية عموم أو إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكن والاضطرار . إذا عرفت ذلك فنقول :

   قد يقال بأن التقيّة والاضطرار كما أنهما يرفعـان التكاليف النفسية من الحرمة والوجوب كذلك يرفعان التكاليف الغيرية من الشرطية والجزئية والمانعية ، ويستدل على ذلك بوجوه :

    وجوه الاستدلال في محل الكلام :

   الأوّل : قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «رفع عن اُمّتي تسعة ...» حيث إنه يقتضي ارتفاع الشرطية أو الجزئية بالاضطرار إلى تركهما كما يقتضي ارتفاع المانعية للاضطرار إلى الاتيان بها ، وبذلك يثبت أن العمل غير مشترط بما تعلّق به الاضطرار

ــ[238]ــ

إلى تركه أو فعله ، وأنه لا بدّ من الاتيان به فاقداً للجزء أو للشرط المضطر إلى تركه أو واجداً للمانع المضطر إلى الاتيان به .

   ويدفعه : ما قدّمناه في محلِّه من أن الاضطرار إلى ترك شيء من الأجزاء والشرائط أو إلى الاتيان بالموانع إن كان مختصّاً بفرد من الأفراد الواجبة ولم يستوعب الوقت كله فهو مما لا يترتب عليه ارتفاع ما اضطر إليه في صلاته ، وذلك لأن ما اضطر إلى تركه أو إلى فعله ـ أعني الفرد ـ مما لم يتعلق به الأمر ، وما تعلق به الأمر وهو طبيعي الصلاة لم يتعلق به الاضطرار ، لأنه إنما اضطر إلى ترك شيء من الأجزاء والشرائط في الفرد لا في طبيعي الصلاة .

   وأمّا إذا استوعب الوقت كلّه أو كان الوقت ضيقاً ولم يكن له إلاّ فرد واحد فاضطر إلى ترك شيء من الجزء أو الشرط في طبيعي المأمور  به ، فالحديث أيضاً لا يقتضي ارتفاع شيء من الجزئية أو الشرطية ، وذلك لأن الجزئية والشرطية والمانعية إنما تنتزع عن الأمر بالعمل المركب من الشيء المضطر إليه وغيره ، وهي بأنفسها مما لا تناله يد الوضع والرفع وإنما ترتفع برفع منشأ انتزاعها ، مثلاً  إذا اضطر المكلّف إلى ترك السورة في الصلاة أو إلى الصلاة فيما لايؤكل لحمه ، فمقتضى الحديث إنما هو ارتفاع الأمر عن المجموع المركّب مما اضطر إليه وغيره ، أعني الصلاة مع السورة أو الصلاة فيما يؤكل لحمه بالنسبة إليه ، لأنه المنشأ لانتزاع الجزئية أو المانعية ، وأما الأمر بالصلاة الفاقدة للسورة أو الواجدة للمانع كما لايؤكل لحمه فهو مما لا يمكن استفادته من الحديث ، بل يحتاج إثبات الأمر بالعمل الفاقد المضطر إليه إلى دليل ، هذا .

   على أن الحديث إنما يقتضي ارتفاع التكليف عند الاضطرار ولا تتكفّل إثبات التكليف بوجه ، فهذا الوجه ساقط .

   الثاني : ما استدل به شيخنا الأنصاري من قوله (عليه السلام) «التقيّة في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له» (1) وقد ورد ذلك في عدّة روايات :

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رسالة في التقيّة : 323 السطر 15 .

ــ[239]ــ

   منها : ما رواه إسماعيل الجعفي ومعمر بن يحيى بن سالم (1) ومحمد بن مسلم وزرارة وهي رواية صحيحة ، بتقريب أن لفظة «كل» من أداة العموم فقد دلت الرواية على أن التقيّة جائزة أو واجبة في كل أمر اضطر إليه ابن آدم ، ثم فرّعت عليه قوله (عليه السلام) «فقد أحلّه الله ...» ودلّنا ذلك على أن كل أمر اضطر إليه العباد فهو محلّل في حقِّه ، وأن الاضطرار والتقيّة رافعان لحرمته على تقدير كونه محرماً في نفسه . ومن الظاهر أن حلية كل حرام بحسبه ، فإذا كان العمل محرماً نفسياً في نفسه مع قطع النظر عن التقيّة فهي تجعله مباحاً نفسياً لا يترتب على فعله العقاب والمؤاخذة ، كما أنه إذا كان محرّماً غيرياً فالتقية تجعله مباحاً غيرياً ومعناه عدم كون العمل مشروطاً بذلك الشيء ، مثلاً إذا اضطر المكلف إلى التكفير في صلاة أو إلى ترك البسملة أو إلى استعمال التراب للتيمم في صلاته وهي من المحرمات الغيرية لاشتراط الصلاة بعدم التكفير وعدم ترك البسملة فالتقية تجعلها مباحة غيرية بمعنى عدم اشتراط الصلاة بعدم التكفير أو بعدم ترك البسملة وهكذا ، ونتيجة ذلك : أن الصلاة الواجبة في حقِّه غير مشروطة بعدم التكفير وعدم ترك البسملة ، وبذلك يثبت وجوب الصلاة الفاقدة لبعض أجزائها أو شرائطها أو الواجدة لبعض موانعها .

   وعلى الجملة : إن الصحيحة كما تشمل التكاليف النفسية من الوجوب والحرمة النفسيين ، كذلك تشمل التكاليف الغيرية أعني الوجوب والحرمة الغيريين ، هذا .

   وفيه : أن الظاهر من الصحيحة أن كل عمل كان محرماً بأيّ عنوان من العناوين المفروضة تزول عنه حرمته بواسطة التقيّة ، فيصير العمل المعنون بذلك العنوان متصفاً بالحلية لأجلها ، لا أن الحلية توجب التغيّر والتبدل في موضوعها ، لوضوح أن الحكم لا يكون محققاً لموضوعه ولا مغيراً له ، مثلاً التكتف في الصلاة لما كان بعنوان كونه مبطلاً محرّماً في الصلاة فتقتضي التقيّة كون التكتف المبطل حلالاً في الصلاة ، ومعنى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هكذا في الوسائل 16 : 214 / أبواب الأمر والنهي ب 25 ح 2  وهو غلط ، والصحيح سام كما في نسخة الكافي 2 : 230 / 18 ، أو بسام كما احتمله بعضهم .

ــ[240]ــ

ذلك أن الابطال أمر محلل لأجل التقيّة وقد ارتفعت حرمته ، وليس معنى ذلك أن التكتف يخرج عن كونه مبطلاً للصلاة بسبب التقيّة حتى تصح معه الصلاة ، بل التكتف المعنون بالمبطلية في الصلاة يحكم عليه بالحلية لأجلها ، فيصير إبطال الصلاة جائزاً بالتقيّة ، وأما أن التكتف لأجل الحكم بحليته وارتفاع حرمته يخرج عن كونه مبطلاً للصلاة فلا يكاد يستفاد من الروايات بوجه .

   وعلى الجملة : الصحيحة إنما تختص بالتكاليف النفسية ولا تشمل التكاليف الغيرية أبداً ، لأن الحكم لا يحقق موضوع نفسه ولا يتصرف فيه بوجه ، إذن لا بدّ من ملاحظة أن العمل بأي عنوان كان محرماً لولا الاضطرار حتى يحكم بحليته ورفع حرمته لطروء الاضطرار عليه ، فالتكتف قد حكم عليه بالحرمة بعنوان إبطاله الصلاة مع قطع النظر عن التقيّة والاضطرار ، وكذلك ترك السورة أو غيرها من الأجزاء والشرائط متعمِّداً بناء على حرمة إبطال الصلاة ، فإذا طرأت عليه التقيّة والاضطرار رفعا حرمة الابطال وأوجبا حلِّيّته ، والنتيجة أن إبطال الصلاة حلال للتقيّة والاضطرار ، لا أن التكتف أو ترك الجزء أو الشرط متعمداً غير مبطل للصلاة . وكذا الحال في الصوم المعيّن ، لأن إبطاله بتناول المفطرات حرام مطلقاً ، وفي الصوم غير المعيّن حرام إذا كان بعد الزوال إلاّ أن ذلك العمل المحرم بعنوان الابطال محلل فيما إذا كان للاضطرار والتقيّة ، وكذا في غير ذلك من الموارد التي حكم فيها بحرمة الابطال في نفسه .

   وأمّا إذا لم يكن الابطال محرماً في نفسه كما في إبطال الصلاة على الأظهر ، وكما في إبطال الوضوء والغسل ونحوهما من العبادات ، لعدم حرمة ابطالهما جزماً ، فهل يمكن أن يُقال إن مثل المسح على الخفين في الوضوء أو التكتف في الصلاة أو ترك البسملة والسورة وغيرها من الموانع والأجزاء والشرائط أعني المحرمات الغيرية ترتفع حرمتها الغيرية بالتقية والاضطرار ، ويقال إن التكتف في الصلاة محرم بالحرمة الغيرية في نفسه لولا التقيّة والاضطرار ومحلل غيري عند التقيّة والاضطرار ، وكذا ترك السورة أو غيرها من الأجزاء والشرائط ، لحرمته الغيرية في نفسه فإذا طرأت عليه

 
 

ــ[241]ــ

التقيّة ارتفعت حرمته وبها اتصفت بالاباحة الغيرية ، ومعناه عدم مانعية التكتف أو عدم جزئية السورة في الصلاة وهكذا ؟ أو أن الصحيحة لا يمكن التمسك بها في التكاليف الغيرية من الشرطية والجزئية والمانعية ؟

   الثاني هو التحقيق ، وذلك لأن العمل المركب من الأجزاء والشرائط وعدم المانع ارتباطي لا محالة ، فاذا فرضنا أن المكلف قد عجز عن الاتيان بتمامه واضطر إلى ترك شيء من أجزائه أو شرائطه أو إلى الاتيان بشيء من موانعه سقط التكليف المتعلق بالمركّب عن مجموع العمل لا محالة ، فلا يبقى تكليف بالمركب هناك ، وذلك لأنه مقتضى إطلاق أدلة الجزئية أو الشرطية أو المانعية الشامل لموارد الاضطرار إلى تركها ـ  كما هو مفروض كلامنا  ـ  لأن لازمه سقوط الأمر عن مجموع العمل المركّب لعدم قدرة المكلف عليه بجميع أجزائه وشرائطه .

   وإذا فرضنا سقوط الأمر والالزام عن العمل المركب لم يبق معنى للاضطرار إلى ترك أجزائه وشرائطه أو إلى فعل شيء من موانعه ، لتمكنه من ترك العمل برأسه وعدم الاتيان به من أساسه ، وقد تقدم أن مفهوم الاضطرار قد اُخذ فيه اللاّبدية وعدم التمكن من فعله أو من تركه ، وهذا غير متحقق عند تمكن المكلف من ترك الأجزاء والشرائط بترك العمل المركب رأساً ، ومع هذا الفرض أعني التمكن من ترك العمل برأسه لم يصدق الاضطرار إلى ترك الشرط أو الجزء أو إلى الاتيان بالمانع .

   وعلى ذلك ، فالتقية والاضطرار يرفعان الحرمة النفسية المترتبة على ترك الواجب المركب عند الاضطرار إلى ترك شيء من أجزائه وشرائطه ، وأما الجزئية والشرطية والمانعية فهي غير مرتفعة بشيء من التقيّة والاضطرار ، لعدم تحقق الاضطرار إليها عند التمكّن من ترك العمل برأسه ، فلا يصح أن يقال إنه مضطر إلى ترك الجزء أو الشرط أو إلى الاتيان بالمانع عند التمكن من ترك العمل برمته .

   اللّهمّ إلاّ أن يكون قوله (عليه السلام) في الرواية : «فقد أحلّه الله ...» شاملاً للتكاليف الغيرية من الجزئية والشرطية والمانعية أيضاً ، حتى يدل على وجوب العمل

ــ[242]ــ

الفاقد للمضطر إلى تركه من جزء أو شرط أو الواجد للمضطر إلى فعله أعني المانع لأنه وقتئذ مضطر إلى ترك الجزء أو الشرط أو إلى الاتيان بالمانع ، ولا يتمكن من ترك العمل المركب برمته لقدرته من الاتيان به على الفرض ، إلاّ أن الحكم لا يكون محققاً لموضوع نفسه فكيف يعقل أن يكون الحكم بالحلية محققاً للاضطرار الذي هو موضوعه ، لأنه موضوع للحكم بالحلية وارتفاع الحرمة ، ولا مناص من أن يتحقق بنفسه أوّلاً مع قطع النظر عن حكمه حتى يحكم بالحلية ، وليس الأمر كذلك في المقام لوضوح أن المكلف مع قطع النظر عن الحكم بالحلية في مورد الاضطرار غير مضطر إلى ترك الجزء أو الشرط بالوجدان ، لتمكنه واقتداره من ترك العمل المركب رأساً . كما أن العلم الخارجي ـ في مورد كالصلاة ـ بأن المركب عمل لا يسقط عنه حكمه أبداً وإن لم يتمكّن المكلف من جزئه أو شرطه أو من ترك الاتيان بمانعه ، كذلك ، أي لا يحقق ذلك صدق عنوان الاضطرار وتحققه إلى ترك الجزء أو الشرط أو إلى الاتيان بالمانع حتى يحكم بارتفاع التكاليف الغيرية بالتبع ، لأن الكلام إنما هو في أنه لو كنّا نحن والأدلة الدالة على ارتفاع ما اضطر إليه وحلية العمل المأتي به تقيّة ، فهل تقتضي تلك الأدلة ارتفاع التكاليف الغيرية بالاضطرار وعدم اشتراط العمل بما اضطر إلى تركه من شرط أو جزء أو إلى فعله كالموانع ، حتى يجب الاتيان به فاقداً لما اضطر إليه ولا تجب عليه الاعادة أو القضاء ، ليكون ذلك قاعدة كلية تجري في جميع الموارد ، أو أنها لا تقتضي ذلك ؟ لا فيما إذا علمنا بوجوب العمل الفاقد لما اضطر إلى تركه أو إلى فعله في مورد واحد بالدليل الخارجي كالصلاة ، لوضوح أن وجوب الفاقد حينئذ غير مستند إلى أدلّة التقيّة حتى نتعدى إلى جميع مواردها ، بل إنما يستند إلى الدليل الخارجي فيثبت في مورده فقط .

   ومنها : صحيحة (1) أبي الصباح قال «والله لقد قال لي جعفر بن محمد (عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بناء على أنه أبو الصباح الكناني الثقة كما لا يبعد ، وأن سيف بن عميرة الواقع في سندها لم يثبت كونه واقفياً ، وإلاّ فعلى ما حكي عن بعضهم من كونه واقفياً فالرواية موثقة لا صحيحة .

ــ[243]ــ

السلام) ... ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة» (1) لأن إطلاق قوله (عليه السلام) «ما صنعتم» يشمل إتيان العمل فاقداً لجزئه أو شرطه أو واجداً لمانعه ، إذن فالمكلف في سعة من قبل ترك الجزء أو الشرط أو الاتيان بالمانع ، فلا يترتب عليه التكليف بالاعادة أو القضاء ، وهي نظير ما ورد من أن الناس في سعة ما لم يعلموا (2) فكما أنه يدلنا على ارتفاع المشكوك جزئيته أو شرطيته ، لأنه معنى كونهم في سعة ما لا يعلمون ، فكذلك الحال في هذه الصحيحة فتدلّنا على ارتفاع الجزئية أو الشرطية أو المانعية عند التقيّة .

   ويرد على الاستدلال بهذه الرواية : أنها وإن كانت تامّة بحسب السند ، غير أنها بحسب الدلالة غير تامّة ولا دلالة لها على ذلك المدعى ، والوجه في ذلك : أن السعة إنما هي في مقابل الضيق ، فمدلول الصحيحة أن العمل المأتي به في الخارج إذا كان فيه ضيق في نفسه ـ لولا التقيّة ـ  فيرتفع عنه ضيقه ويتبدل بالسعة فيما إذا اُتي به لأجل التقيّة والاضطرار ، مثلاً شرب المسكر أمر فيه ضيق من ناحيتين ـ لولا التقيّة ـ وهما جهتا حرمته وحدّه ، لأن من شربه متعمداً بالاختيار ترتب عليه العقوبة والحد ويحكم بفسقه لارتكابه الحرام بالاختيار ، فيقع المكلف في الضيق من جهتهما ، فاذا صدر منه ذلك من أجل التقيّة أو الاضطرار ، لأنه لو لم يشربه لقتله السلطان أو أخذ أمواله أو مات في وقته لمرضه ، ارتفعت عنه الجهتان ولا يترتب عليه الحرمة ولا الحد فيكون المكلّف في سعة من قبلهما ، وكذلك الحال فيما إذا تناول ما لا يراه العامّة مفطراً للصوم ، فانه مما يترتب عليه الحكم بالحرمة كما أنه موجب للكفّارة لا محالة ، لأنه إفطار عمدي على الفرض ، إلاّ أنهما ترتفعان عن ذلك فيما إذا استند إلى التقيّة والاضطرار ، ويكون المكلّف في سعة من جهة الحرمة والكفارة .

   وعلى الجملة : إن مقتضى الصحيحة أن أيّ أثر كان يتعلق بالعمل أو يترتب عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 23 : 224 / أبواب كتاب الايمان ب 12 ح 2 .

(2) المستدرك 18 : 20 / 4 ، وورد مضمونها في الوسائل 25 : 468 / أبواب اللقطة ب 23 ح 1 .

ــ[244]ــ

ترتّب الحكم على موضوعه ـ لولا التقيّة ـ يرتفع عنه عند التقيّة والاضطرار ، فيكون المكلف في سعة من ناحيته ، وهذا المعنى غير متحقق عند ترك الجزء أو الشرط أو الاتيان بالمانع ، وذلك لأنه لا يترتب على تلك التكاليف الغيرية أيّ ضيق حتى يتبدل إلى السعة للتقية والاضطرار .

   أمّا بطلان العمل بتركها أو باتيانها ، فلأن البطلان كالصحة أمران واقعيان خارجان عن اختيار الشارع وتصرفاته وليس له رفعهما ولا وضعهما ، فان البطلان عبارة عن مخالفة المأتي به للمأمور  به كما أن الصحة عبارة عن موافقة المأتي به للمأمور  به .

   وأمّا وجوب الاعادة أو القضاء بترك الاتيان بالجزء أو الشرط أو بالاتيان بالمانع فلأن الاعادة غير مترتبة على الاتيان بالعمل الفاسد ، بل موضوع الاعادة عدم الاتيان بالمأمور  به ، لأن الأمر بالاعادة هو بعينه الأمر بالاتيـان بالمأمور  به وامتثاله كما أن القضاء كذلك فانه مترتب على فوات الواجب وغير مترتب على الاتيان بالعمل الفاسد ، وعليه فلا ضيق على المكلف في مخالفة التكاليف الغيرية حتى يرتفع عنه بالتقية ويكون المكلف في سعة من جهته ، وينتج ذلك وجوب الاتيان بالعمل الفاقد لجزئه أو لشرطه أو الواجد لمانعه .

   وممّا يوضح ذلك بل يدل عليه : ملاحظة غير العبادات من المعاملات بالمعنى الأعم ، فانه إذا اضطر أحد إلى غسل ثوبه المتنجس بالبول مرة واحدة ولم يتمكن من غسله مرتين ، أو لم يتمكن من غسله بالماء فغسله بغير الماء ، أو لم يتمكن من طلاق زوجته عند عدلين فطلقها عند فاسقين اضطراراً ، لم يمكن أن يحكم بحصول الطهارة للثوب أو بوقوع الطلاق على الزوجة بدعوى أنه أمر قد صدر عن تقيّة أو اضطرار فهذا أقوى شاهد ودليل على عدم ارتفاع الشرطية أو الجزئية أو المانعية في حال الاضطرار والتقيّة . إذن لا يكون العمل الفاقد لشيء من ذلك ، أي من الجزء أو الشرط مجزئاً في مقام الامتثال .

   ومن هنا يظهر أن قياس محل الكلام بما ورد من أن الناس في سعة ما لم يعلموا(1)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 18 : 20 / 4 .

ــ[245]ــ

قياس غير قريب ، وذلك لأن المشكوك فيه في ذلك الحديث إنما هو نفس الجزئية وعدليها ، ومن البديهي أن في جزئية المشكوك فيه أو شرطيته أو مانعيته ضيقاً واضحاً على المكلف ، لأنه تقييد لاطلاق المأمور  به وموجب للكلفة والضيق ، فيكون في رفعها عند الشك توسعة له ورفعاً للتضيق الناشئ من جزئية الجزء أو شرطية الشرط أو مانعية المانع ، وأين هذا مما نحن فيه ، لأن الصحيحة ناظرة إلى ما أتى به المكلف من العمل في الخارج كما هو مفاد قوله «ما صنعتم» إذن لا بدّ من ملاحظة أن العمل الخارجي الفاقد لجزئه أو شرطه أو الواجد لمانعه ، أي ضيق يترتب عليه من ناحية ترك الجزء أو الشرط أو الاتيان بالمانع حتى يرتفع بالتقية ويتبدل ضيقه بالسعة ، وقد عرفت أنه لا يوجد أي ضيق يترتب عليه ، فلا موضوع للسعة في التكاليف الغيرية بوجه .

   وعلى الجملة : إن الصحيحة قد دلت على التوسعة مما يؤتى به تقيّة ، والتوسعة إنما يكون بأحد أمرين : إما برفع الالزام المتعلق بالفعل المتقى به كالتحريم في شرب الخمر أو في ترك العبادة الواجبة ، وإما برفع الأحكام المترتبة عليه كوجوب الكفارة في ترك الصيام تقيّة أو في حنث اليمين كذلك وكالحد في شرب المسكر وهكذا ، ولا يوجد شيء من هذين الأمرين في التكاليف الغيرية كما مر .

   وكيف كان لا يمكن أن يستفاد من شيء من الأدلة أن العمل الفاقد لجزئه أو لشرطه أو الواجد لمانعه واجب بوجه .

   ومن هنا يظهر عدم صحّة التمسّك في المقام بحديث رفع الاضطرار (1) بدعوى دلالته على أن ما أتى به المكلف في الخارج بالاضطرار كأنه مما لم يأت به وأنه كالعدم حقيقة ، فاذا شرب خمراً بالاضطرار أو تكتف في الصلاة تقيّة فكأنه لم يشرب الخمر من الابتداء أو لم يتكتف في صلاته أصلاً ، ومعنى ذلك أن المانعية أعني مانعية التكتف مرتفعة حال التقيّة أو حال الاضطرار فبذلك ترتفع أحكامه وآثاره ، سواء أ كانت من الأحكام النفسية أم كانت من الأحكام الغيرية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1 .

ــ[246]ــ

   والوجه في عدم صحّة التمسّك به في المقام هو أن ما أتى به المكلف اضطراراً لا معنى لرفعه وهو موجود بالتكوين إلاّ بلحاظ الاُمور المترتبة على وجوده ، كالالزام المتعلق به من وجوب أو تحريم أو حد أو كفارة كما في شرب الخمر وترك الصيام والحنث في اليمين ، وليس شيء من ذلك متحققاً في التكاليف الغيرية كما عرفت ، فلا دلالة للحديث إلاّ على رفع ما يترتب على وجود العمل الصادر بالاضطرار من الآثار والأحكام ، وأما أن العمل الفاقد لجزئه أو لشرطه أو الواجد لمانعه واجب ومجزئ في مقام الامتثال ، فهو مما لا يمكن استفادته من الحديث ، وقد قدّمنا الكلام على حديث الرفع مفصّلاً  (1) فليجعل هذا تتميماً لما تقدّم .

   ومنها : ما رواه أبو (ابن) عمر الأعجمي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : «إن التقيّة في كل شيء إلاّ في شرب المسكر والمسح على الخفّين» (2) بدعوى دلالتها على أن التقيّة ترفع الأحكام المتعلقة بالعمل المأتي به تقيّة مطلقاً ، سواء أ كان ذلك من الأحكام النفسية أو من الأحكام الغيرية ، وذلك لمكان استثناء مسح الخفين وهو من المحرّمات الغيرية ، لوضوح عدم حرمة المسح على الخفين حرمة نفسية ، وهذا يدلنا على أن قوله (عليه السلام) «كل شيء» يعم التكاليف النفسية والغيرية . فالمتحصل منها أن الجزئية والشرطية والمانعية ترتفع كلها بالتقية والاضطرار ، نظير غيرها من الأحكام النفسية إلاّ في موردين وهما شرب المسكر والمسح على الخفين ، فاذا تكتف في صلاته تقيّة ارتفع عنه المنع الغيري وهو المانعية ، ومعناه عدم مانعية التكتف في الصلاة حال التقيّة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في مصباح الاُصول  2 : 267 .

(2) كما نقله شيخنا الأنصاري (قدس سره) عن اُصول الكافي في رسالة التقيّة [ ص 323 السطر 25 ] ناسباً للرواية إلى أبي جعفر (عليه السلام) ولكن الموجود في الوسائل منسوب إلى أبي عبدالله (عليه السلام) ومشتمل على النبيذ بدل المسكر ، كما أنه مشتمل على جملة اُخرى في صدرها وهي قوله (عليه السلام) «لا دين لمن لا تقيّة له» وكذلك الحال في الكافي [ 2 : 217 / 2 ] والوافي [ 5 : 685 / 3 ] وغيرهما ، فالظاهر أن ما في كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره) من اشتباه القلم فليلاحظ .  راجع الوسائل 16 : 215 / أبواب الأمر والنهي ب 25 ح 3 .

ــ[247]ــ

   ويرد عليه أوّلاً : أن الرواية ضعيفة السند كما تقدّم (1) .

   وثانياً : أن حمل الرواية على هذا المعنى ، أعني ارتفاع الأحكام المتعلقة بالفعل المأتي به تقيّة ، مضافاً إلى أنه خلاف الظاهر في نفسه ، مما لا يمكن المساعدة عليه لوجود القرينة في نفس الرواية على عدم إرادته ، والقرينة هو استثناء شرب المسكر وذلك لأن حمل الرواية على المعنى المدعى يستلزم الحكم بعدم ارتفاع الحرمة في شرب المسكر عند التقيّة والاضطرار كعدم ارتفاع الحرمة الغيرية في المسح على الخفّين لمكان استثنائهما عن العموم ، وهو مما لا يمكن التفوّه به ، كيف والتقيّة والاضطرار يحللان ما هو أعظم من شرب المسكر كترك الصلاة فيما إذا أجبره الجائر عليه وترتّب ضرر على ترك التقيّة كالقتل ، فكيف يحكم بحرمته حال الاضطرار إلى شربه ، فان حفظ النفس من الهلكة أولى من ترك شرب المسكر فلا وجه لحمل الرواية على هذا المعنى .

   بل الصحيح ـ كما هو ظاهرها ـ أن الرواية ناظرة إلى أن تشريع التقيّة وحكمها من الجواز والوجوب جار في كل شيء إلاّ في شرب المسكر والمسح على الخفين ، فان التقيّة غير مشرعة فيهما فلا يجب أو لا يجوز التقيّة فيهما ، لا أن الحرمة غير مرتفعة عن شرب المسكر في حال التقيّة والاضطرار ، والوجه في ذلك ـ أي عدم تشريع التقيّة في الموردين على ما قدّمناه مفصّلاً ـ  عدم تحقّق موضوعها فيهما ، أما في شرب المسكر فلأن حرمته من الضروريات في الاسلام وقد نطق بها الكتاب الكريم ولم يختلف فيها سنِّي ولا شيعي فلا معنى للتقية في شربه .

   وأمّا في المسح على الخفّين ، فلأ نّا لم نعثر فيما بأيدينا من الأقوال على من أوجبه من العامّة ، وإنما ذهبوا إلى جواز كل من مسح الخفين وغسل الرجلين ، نعم ذهبت جماعة منهم إلى أفضليته كما مرّ(2) وعليه فلا يحتمل ضرر في ترك المسح على الخفّين بحسب الغالب ، نعم يمكن أن تتحقّق التقيّة فيهما نادراً ، كما إذا أجبره جائر على شرب المسكر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 216 .

(2) قد مرّ الكلام في ذلك في ص 112 وأشرنا إليه في ص 220 .

ــ[248]ــ

أو على مسح الخفّين إلاّ أنه من الندرة بمكان ولا كلام حينئذ في مشروعية التقيّة ، فان الرواية المانعة ناظرة إلى ما هو الغالب . ولعلّ الشيخ (قدس سره) لم يلفت نظره الشريف إلى ملاحظة استثناء شرب المسكر ، لتوجهه إلى استثناء مسح الخفّين ، ومن هنا حمل الرواية على غير المعنى الذي ذكرناه ، والله العالم بحقيقة الحال ، فعلى ما بيّناه الرواية أجنبية عما نحن بصدده .

   ومنها : موثقة سماعة قال «سألته عن رجل كان يصلي فخرج الامام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة قال : إن كان إماماً عدلاً فليصل اُخرى وينصرف ويجعلهما تطوعاً وليدخل مع الامام في صلاته كما هو ، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ، ويصلي ركعة اُخرى ويجلس قدر ما يقول : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع ، فان التقيّة واسعة ، وليس شيء من التقيّة إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله» (1) .

   أمّا الجملة الاُولى أعني قوله : «إن كان الامام عدلاً» فمضمونها هو ما دلّ عليه غيرها من الأخبار ، من أن من دخل في الفريضة ثم اُقيمت الجماعة استحب له أن يجعل ما بيده من الفريضة تطوعاً ويسلّم في الركعة الثانية حتى يدرك ثواب الجماعة بائتمامه من أول الصلاة .

   وأمّا الجملة الثانية أعني قوله : «وإن لم يكن إمام عادل» فقد حملها شيخنا الأنصاري (قدس سره) على ما قدّمناه في الجملة الاُولى من أنه يجعل ما بيده من الفريضة تطوعاً ويسلم في الثانية ويأتم بالامام ويأتي من أجزاء الصلاة وشرائطها على ما استطاع ، فان تمكن من أن يأتي بتمامهما مع الامام فهو ، وإن لم يستطع إلاّ من بعضهما فيكتفي بالبعض لأن التقيّة واسعة (2) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 405 / أبواب صلاة الجماعة ب 56 ح 2 .

(2) رسالة في التقيّة : 324 السطر 2 .

ــ[249]ــ

   فقد استدلّ (قدس سره) بقوله : «على ما استطاع» على أن ما أتى به المكلف من الأجزاء والشرائط تقيّة كاف ومجزئ في مقام الامتثال ، سواء كان ما أتى به تمام الأجزاء والشرائط أم كان بعضهما .

   ولا يخفى غرابة ذلك منه (قدس سره) لأن مضمون الرواية على ما هو ظاهرها ، أن الامام إذا لم يكن إمام عدل فلا يجعل المأموم صلاته تطوعاً كما كان يجعلها كذلك في الصورة الاُولى ، بل يظهر للناس أنه جعلها تطوعاً بأن يصلي ركعة اُخرى ثم يتشهد من دون أن يسلم بعدها ، ويقوم بعد ذلك ويصلي صلاته بنفسه مظهراً للغير الائتمام والاقتداء بالامام الحاضر بقدر يستطيعه من الاظهار والابراز ، لأن التقيّة واسعة وهذا لا اختصاص له بالائتمام من أول الصلاة ، بل لو أظهر الائتمام في أثناء الصلاة أيضاً كان ذلك تقيّة ، كما أن لها طريقاً آخر غيرهما ، وما من شيء من أنحاء التقيّة إلاّ وهو واجب أو جائز وصاحبه مأجور عليه ، وعلى ذلك لا دلالة للرواية على جواز الاكتفاء في الصلاة معهم بما يتمكن منه من الأجزاء والشرائط ، هذا .

   على أن الرواية مضمرة وللمناقشة في سندها أيضاً مجال ، لأن مضمرها وهو سماعة ليس كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما من الأجلاء والفقـهاء الذين لا يناسـبهم السؤال عن غير أئمتهم (عليهم السلام) بل هو من الواقفة ومن الجائز أن يسأل غير أئمتنا (عليهم السلام) .

   ولقد صرّح بما ذكرناه في معنى الرواية صاحب الوسائل (قدس سره) وعنون الباب باستحباب إظهار المتابعة حينئذ في أثناء الصلاة مع المخالف تقيّة فلاحظ (1) . ولعل الشيخ (قدس سره) لم يلفت نظره الشريف إلى عنوان الباب في الوسائل .

   ومنها : ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث «... وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة مما لا يؤدي إلى الفساد في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 404 .

ــ[250]ــ

الدين فانه جائز» (1) بدعوى أن جواز كل شيء بحسبه ، فالرواية تعم الأشياء المحرمة النفسية لولا التقيّة وتجعلها جائزة نفسية ، كما تعم الأشياء المحرمة بالحرمة الغيرية فتقلبها إلى جواز الغيري لا محالة . إذن تدلنا الرواية على صحة الصلاة المقترنة بالتكتّف أو بغيره من الموانع ، لأنها جائزة جوازاً غيرياً بمقتضى التقيّة ، وكذا الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط .

   ويرد عليه أوّلاً : أنها ضعيفة السند بمسعدة ، لعدم توثيقه في الرجال (2) .

   وثانياً : أن الرواية لا دلالة لها على المدعى ، لأن الجواز فيما إذا اُسند إلى الفعل كان ظاهره الجواز النفسي فحسب ، أي كون الفعل بما هو وفي نفسه أمراً جائزاً ، لا أنه جائز لدخالته في الواجب وجوداً أو عدماً ، أو عدم دخالته فيه وهو المعبّر عنه بالجواز الغيري .

   وثالثاً : أن ملاحظة صدر الرواية تدلنا على أن المراد بالجواز في الرواية إنما هو جواز نفس التقيّة لا جواز الفعل المتقى به ، فلا دلالة لها على جواز الفعل حتى يقال إنه أعم من الجواز النفسي والغيري ، وقد ورد في صدرها : «إن المؤمن إذا أظهر الايمان ثم ظهر منه ما يدل على نقضه خرج مما وصف وأظهر وكان له ناقضاً ، إلاّ أن يدعي أنه إنما عمل ذلك تقيّة ، ومع ذلك ينظر فيه فان كان ليس مما يمكن أن تكون التقيّة في مثله لم يقبل منه ذلك ، لأن للتقية مواضع مَن أزالها عن مواضعها لم تستقم له ، وتفسير ما يتقى مثل أن يكون ...» وهذا يدلنا على أنه (عليه السلام) بصدد بيان المواضع التي تستقيم فيها التقيّة وتجوز ، وأراد تمييز تلك الموارد عما لا يجوز التقيّة في مثله ، كما إذا شرب المسكر سرّاً وادّعى أنه كان مستنداً إلى التقيّة ، فلا دلالة للرواية على وجوب الاتيان بالعمل مقترناً بمانعه أو فاقداً لجزئه وشرطه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 16 : 216 / أبواب الأمر والنهي ب 25 ح 6 .

(2) قد قدمنا غير مرة أن الرجل وإن لم يوثق في الرجال إلاّ أنه ممن ورد في أسانيد كامل الزيارات وتفسير القمي ، فعلى مسلك سيدنا الاُستاذ (مدّ ظله) من وثاقة كل من وقع في شيء من الكتابين المذكورين ولم يضعّف بتضعيف معتبر ، لا بدّ من الحكم بوثاقة الرجل .

ــ[251]ــ

   فالمتحصل إلى هنا : أنه لا دلالة في شيء من الأخبار المتقدمة على وجوب إتيان العمل فاقداً لشرطه أو لجزئه أو مقترناً بمانعه إذا استند إلى التقيّة حتى لا يجب إعادته أو قضاؤه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net