للإرث حالات مختلفة‌ 

الكتاب : محاضرات في المواريث   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6583

محاضرات في المواريث؛ ص: 63

للإرث حالات مختلفة

1- فقد يكون الإرث بالفرض 2- و قد يكون بالقرابة 3- و قد يكون تارة بالفرض و اخرى بالقرابة 4- و قد يكون بالولاء حيث لا فريضة و لا قرابة‌

محاضرات في المواريث، ص: 65‌

إرث الوارث من الميّت:

1- قد يكون بالفرض، أي أنّه يرث ما فرض اللّه له في كتابه العزيز. [1]

و هو كما في الزوج و الزوجة: الزوج يرث الربع أو يرث النصف دائما، و الزوجة ترث الثمن أو الربع دائما.

هذا فرضهما من اللّه، كان هناك شخص آخر أم لم يكن، فإرثهما بالفريضة. [2]

______________________________
[1] الفرض: هو السهم المقدّر في الكتاب المجيد في الآية 11 و 12 و 176 من سورة النساء، و الفروض ستة أنواع، و أصحابها ثلاثة عشر كما يلي:

1- النصف: و هو للبنت الواحدة، و للأخت للأبوين أو للأب فقط إذا لم يكن معها أخ، و للزوج مع عدم الولد للزوجة و إن نزل.

2- الربع: و هو للزوج مع الولد للزوجة و إن نزل، و للزوجة مع عدم الولد للزوج و إن نزل، فإن كانت واحدة اختصّت به، و إلّا فهو لهن بالسويّة.

3- الثمن: و هو للزوجة مع الولد للزوج و إن نزل، فإن كانت واحدة اختصّت به، و إلّا فهو لهن بالسويّة.

4- الثلثان: للبنتين فصاعدا مع عدم الابن المساوي، و للأختين فصاعدا للأبوين أو للأب فقط مع عدم الأخ.

5- الثلث: للأمّ مع عدم الولد و إن نزل، و عدم الأخوة- على تفصيل يأتي- و للأخ و الاخت من الام مع التعدّد.

6- السدس: لكلّ واحد من الأبوين مع الولد و إن نزل، و للأمّ مع الاخوة للأبوين أو للأب- على تفصيل يأتي- و للأخ الواحد من الام و الاخت الواحدة منها. راجع منهاج الصالحين 2: 350.

[2] ففي رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «و إنّ الزوج لا ينقص من النصف شيئا إذا لم يكن

محاضرات في المواريث، ص: 66‌

و إن كان الزوج قد يردّ عليه إذا لم يكن للميّت وارث إلّا الإمام عليه السّلام.

و كذلك الام إن كان للميّت ولد فلها السدس، و إن لم يكن له ولد فلها الثلث إلّا مع الحاجب، ففرضها إمّا ثلث أو سدس، فهي ترث دائما بالفرض. إلّا إذا لم يوجد غيرها وارث من الطبقة الأولى فيردّ الباقي عليها.

2- و قد يكون الإرث بالقرابة فقط، [1] و ذلك كالولد فإن الولد لم يفرض له فريضة في كتاب اللّه أو في الروايات، و إنّما يرث ما تركه أبوه، فإذا كانت معه بنت أيضا فيكون نصيب الولد ضعف نصيب الانثى، قال تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ* فإن لم تكن له اخت فالجميع له، فليس له فريضة في كتاب اللّه، و إرثه دائما إرث بالقرابة.

3- و قد يفرض أنّ الإرث قد يكون بالقرابة، و قد يكون بالفريضة كالبنت الواحدة، فإذا كانت البنت واحدة و لم يكن معها ولد ففريضتها النصف، قال تعالى:

وَ إِنْ كٰانَتْ وٰاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، و إن كان معها ولد فليس لها فريضة، بل يكون إرثها نصف ما يرثه أخوها.

فتارة ترث البنت الواحدة بالفريضة، و اخرى بالقرابة.

فهذه ثلاثة أقسام بالنسبة إلى الإرث بالفريضة أو بالقرابة.

4- و قد يكون الإرث لا بالفريضة و لا بالقرابة.

و ينحصر هذا النحو من الإرث (بالولاء) كما لو فرضنا أن الميّت ليس له أي‌

______________________________
ولد، و الزوجة لا تنقص من الربع شيئا إذا لم يكن ولد، فإذا كان معهما ولد فللزوج الربع و للمرأة الثمن».

الوسائل 26: 195 باب 1، من أبواب ميراث الأزواج، ح 1.

[1] كلّ رحم لم يفرض له فرض في كتاب اللّه من طبقات الورّاث فهو يرث بالقرابة، سواء كان يتقرب إلى الميت بواسطة النساء أو بواسطة الذكور.

محاضرات في المواريث، ص: 67‌

قريب من الطبقات الثلاث فإرثه يكون للمعتق، و مع عدمه فيكون لضامن الجريرة، و مع عدمه فللإمام عليه السّلام، فليس هنا فريضة، و ليست هنا أيّ قرابة [1].

فهذه أربعة أقسام.

______________________________
[1] دلّت على ذلك الروايات المستفيضة، منها رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «من مات و ليس له وارث من قرابته و لا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال»، و قد دلت الروايات على أنّ الأنفال للإمام عليه السّلام بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

الوسائل 26: 246، باب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة.

محاضرات في المواريث، ص: 69‌

الإرث بالفرض ثلاثة أقسام:

فقد تكون الفريضة ثابتة لا تزيد و لا تنقص و قد يزاد على الفريضة بالردّ و قد ينقص شيئا من الفريضة و ذلك عند العول‌

محاضرات في المواريث، ص: 71‌

من يرث بالفريضة قد يفرض أنّه لا يزيد على فريضته شي‌ء أبدا، سواء كان هنا قريب أم لم يكن قريب لا يفرق في ذلك.

و هذا منحصر في الزوجة، فإنّها ترث الربع إذا لم يكن للميّت ولد، و ترث الثمن إذا كان له ولد، لا يزيد على حصّتها شي‌ء في جميع الفروض. [1]

و قد يفرض أن صاحب الفريضة يأخذ شيئا زائدا على فريضته، و هذا في موارد كثيرة:

كما إذا فرضنا أنّه ليس للميت أيّ قريب في الطبقة الاولى، إلّا بنتا واحدة فهي تأخذ نصف المال بالفرض، و النصف الآخر بالقرابة، فجميع المال يكون لها، مقدار منه فرضا و مقدار منه قرابة. [2]

و كذلك البنت الواحدة إذا اجتمعت مع الأبوين، فيكون نصف المال للبنت، و لكلّ من الأبوين السدس بالفريضة، فيبقى سدس التركة زائدا، فيقسّم بين الوالدين و البنت على حسب نصيب كلّ منهم، فيقسّم أخماسا، فكلّ واحد منهم يأخذ فريضته، و يأخذ شيئا زائدا على الفريضة. [3]

______________________________
[1] لما روي عن أبي جعفر عليه السّلام في رجل توفّي، و ترك امرأته قال: «للمرأة الربع، و ما بقي فللإمام» و مثلها غيرها من الروايات الواردة في الوسائل 26: 202 باب 4 من أبواب ميراث الأزواج، ح 3.

[2] فقد ورد في عدّة روايات الحديث عن إرث الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها و أنها ورثت جميع تركة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فطبعا هذا إنّما يكون بعد إخراج الثمن لنسائه و الباقي سبعة أثمان لها (سلام اللّه عليها). راجع الوسائل 26: 100 و ما بعدها باب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد.

[3] دلّت على ذلك عدّة روايات، نذكر منها رواية حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السّلام: في رجل ترك ابنته و امّه: «أنّ الفريضة من أربعة أسهم، فإنّ للبنت ثلاثة أسهم، و للأمّ السدس سهم، و بقي سهمان، فهما أحقّ بهما من العمّ و ابن الأخ و العصبة، لأنّ البنت و الأمّ سمّي لهما، و لم يسمّ لهم، فيردّ عليهما بقدر سهامهما». الوسائل 26: 129 باب 17 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، ح 3.

محاضرات في المواريث، ص: 72‌

ثمّ إنّ من يأخذ الزائد قد ينقص من فريضته و قد لا ينقص، فلو فرضنا أنّ الحصص لا تفي بالتركة كما لو كان الوارث بنتا واحدة و أبوين و زوجا، فللزّوج الربع، و لكل من الوالدين السدس، و للبنت النصف، فلا يفي المال بهذه الفروض، إذ لا يقسّم المال على نصف و سدسين و ربع، فينقص لا محالة.

و هذا النقص لا يرد على الأبوين و لا على الزّوج- كما ذكرنا- فيرد النقص على البنت فقط، فتكون حصّة البنت أقل من النصف- كما يأتي تفصيله في باب العول.

محاضرات في المواريث، ص: 73‌

الإرث بالنسب لا يكون إلّا مع صدق القرابة و الرحم عرفا

محاضرات في المواريث، ص: 75‌

اشتراط صدق القرابة و الرحم في الإرث

ذكر جملة من الفقهاء، منهم صاحب الجواهر قدّس سرّه أنّه لا بدّ في الإرث بالنسب من صدق (القرابة و الرحم عرفا). «1»

و ذلك لأنّ الموضوع في الآيات و كذلك في الروايات عنوان: (القريب) و (الرحم).

قال تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ*. «2»

و كذا قوله سبحانه لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ. «3»

فمن هذه الآيات المباركة و من الروايات المماثلة لها استفدنا قاعدة: (الأقرب يمنع الأبعد)، فيعتبر في إرث الوارث أن يكون قريبا للميّت، و أن يكون رحما له، و لا يكفي مجرّد الاتّصال بالنسب و لو عن طريق الجدّ البعيد، فإنّه إذا كان بعيدا لا يصدق أنّه رحم له، و لذا يقال: إنّه ليس من قرابتي، بل هو من عشيرتي، فكونهما من عشيرة واحدة لا يقتضي أن يكون قريبا له، فمثلا السادة كلّهم من أولاد أمير‌

______________________________
(1) قال قدّس سرّه في تعريفه للنسب: (مع صدق النسب عرفا) الجواهر 39: 7.

(2) الأحزاب: 6.

(3) النساء: 7.

محاضرات في المواريث، ص: 76‌

المؤمنين عليه السّلام، أو إذا عمّمنا من أولاد هاشم حتّى غير العلويين، ليس كلّ سيّد مع كلّ سيّد رحما و لا قريبا له، بل يقال: إنّه أجنبيّ و لو فرضنا أنهما يشتركان في جدّ واحد بعيد، فمثل هذا لا يكون وارثا، لأنّه ليس بقريب و لا رحم. قال تعالى:

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ «1».

فالأرحام طائفة خاصة من المنسوبين إلى الإنسان، و ليس الاشتراك في الجدّ البعيد حتّى آدم موجبا لصدق أنّه رحم. و المعتبر في الإرث (القرابة) و أن يكون (رحما) كما هو مضمون الآيتين.

وهم و دفع:

الوهم: ربّما يستشكل فيما تقدّم، و يقال بأنّه لا موجب لهذا التقييد، فإنّ الآية المباركة يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. «2»

فالأولاد أعمّ من الأولاد بالواسطة و بلا واسطة، سواء كان الولد قريبا أم بعيدا، و لأجل ذلك عمّم الحكم في تحريم النكاح في الأولاد و في البنات بين البعيد و القريب، فلا يجوز للجدّ و إن كان بعيدا جدّا أن يتزوج من بنات أولاده- و لو كانت الوسائط كثيرة- بلا خلاف و لا إشكال.

فقد قال الإمام عليه السّلام للخليفة: «لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيّا و خطب ابنتك أكنت تجيبه؟» قال: نعم، و أفتخر بذلك.

فقال عليه السّلام: «أما إنّه لا يخطب بنتي، لأنّ بنتي بنته، فهي من بنات رسول‌

______________________________
(1) محمّد: 23.

(2) النساء: 11.

محاضرات في المواريث، ص: 77‌

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم». [1]

فقال بعضهم: إنّه لا فرق بين القريب و البعيد من هذه الجهة، و الآية مطلقة، إلّا أنّ كثرة وجود من يتقرّب إلى الميّت بالنسب في العالم، كأولاد آدم، و كالسادة لا يمكن الوصول إليهم لكثرتهم، فهم لا يرثون لتعذّر الوصول إليهم، فيكون الإرث لغيرهم.

الدفع: و ما ذكروه من الإشكال و الاستدلال لا يمكن المساعدة عليه، بل الصحيح ما ذهب إليه صاحب الجواهر و غيره قدّس سرّه، لما ذكرناه من أنّ الآية المباركة ظاهرة في الاختصاص باولي الأرحام عرفا وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ*.

و بالقريب عرفا لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ..

و أمّا الآية المباركة الّتي استدلّوا بها فليست في مقام بيان تشريع الإرث، و أنّ كلّ ولد يرث، قريبا كان أو بعيدا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ* و إلّا لكان ولد الولد يشترك مع أبيه، و هذا باطل جزما.

و لو كان المراد من يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ كلّ من يصدق عليه أنّه ولد‌

______________________________
[1] في (عيون الأخبار)، عن هاني بن محمّد بن محمود، عن أبيه، رفعه إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام، قال له الرشيد: «لم جوّزتم للعامّة و الخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون لكم: يا بني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنتم بنو عليّ، و إنّما ينسب المرء إلى أبيه، و فاطمة إنّما هي وعاء، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جدّكم من قبل أمّكم؟ فقال عليه السّلام: «يا أمير المؤمنين لو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نشر، فخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه»؟ فقال:

سبحان اللّه و لم لا أجيبه؟! بل أفتخر على العرب و العجم و قريش بذلك، فقال له: «لكنّه صلّى اللّه عليه و آله لا يخطب إليّ و لا أزوّجه»، فقال: و لم؟ فقال عليه السّلام: «لأنّه ولدني و لم يلدك»، فقال: أحسنت يا موسى. عيون أخبار الرضا 1: 80.

محاضرات في المواريث، ص: 78‌

و إن كان بعيدا، فمعناه أنّ ولد الولد، أو ولد ولد الولد، أو بنت الولد يكون في عرض الولد المباشر، و هذا باطل جزما.

فالمراد بالآية المباركة كيفيّة التقسيم بين الأولاد، و أنّهم إذا كانوا مجتمعين يكون التقسيم بهذا الترتيب. أمّا أيّ ولد يرث، و أيّ ولد لا يرث؟ البعيد لا يرث مع القريب، و يكون الوارث هو القريب، فالآية غير ناظرة إلى ذلك، و إنّما يستفاد ذلك من آيات أخر كقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ* فالولد أولى من ولد الولد، و ولد الولد أولى من ولد ولد الولد، و هكذا.

فالآية في مقام بيان كيفيّة التقسيم، و أنّ التقسيم بين الأولاد أينما يكون فيكون بهذه الصورة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*.

فقياس ما نحن فيه بالمحرميّة تحريم الأولاد أو البنات على الأجداد و الجدّات قياس مع الفارق.

فلو فرضنا أنّ هذا الحكم كان ثابتا، و أنّه لا يفرق بين القريب و البعيد، فمتى تصل النوبة إلى الولاء أو إلى الإمام عليه السّلام؟ فأيّ شخص يموت في العالم و لم يكن له ابن عم و لو بعيدا؟ أو ابن خال و لو بعيدا؟! فابن الخال و ابن العم البعيد موجود دائما غاية الأمر أنّه مجهول و غير معروف، فيكون داخلا في مجهول المالك لا في من لا وارث له، فرق بين من يموت و لا وارث له و بين من له وارث لا نعرفه، فهذا يدخل في من مات و له وارث للقطع بأنه له ابن عم أو ابن خال و لو بعيدا فيكون الميراث له و يكون من مجهول المالك.

أمّا الكثرة بمجردها فلا تكون مانعة عن الإرث، فلو فرضنا أن رجلا كان له‌

محاضرات في المواريث، ص: 79‌

ستون ولدا- كما نقل في عصرنا عن السيّد نور قيل أنّه كان له ستون ولدا غير البنات- ففي الطبقة الثانية نفرض أن لكل ولد عشرة أولاد فتكون الطبقة الثانية ست ماءة ولد، و في الطبقة الثالثة ستة آلاف و هكذا. أ فهل يحتمل أن لا يكون لهم إرث لكثرة العدد؟! فلنفرض أن هؤلاء كانوا منتشرين في العالم جملة منهم في بلد و جملة في بلد آخر و جملة في ثالث و هكذا، فهل يكون هذا مانعا عن الإرث؟ لمجرد كثرة العدد و التفرق في البلاد؟! الذي لا يكون وارثا هو من لا مقتضي له في الإرث لبعده لا أنّه مع وجود المقتضي نمنعه من الإرث لكثرة العدد، فهذا الكلام لا أساس له فالصحيح أنّه يعتبر أن يكون قريبا له عرفا بحيث يعد من قرابته عند العرف، و من أرحامه عرفا، و إلّا فلا إرث بينهما و إن كان النسب نسبا واحدا ينتهيان إلى موسى بن جعفر عليه السّلام أو إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أو غير ذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 80‌

إذا تعدّد الورثة:

فإمّا أن يكون إرث كل منهم من جهة القرابة دون الفرض.

و إمّا أن يكون إرث الجميع بالفرض.

أو أن يكون بعضهم يرث بالفرض و البعض الآخر يرث بالقرابة.

فإذا كان كلّهم يرثون بالقرابة فلا إشكال، كما إذا خلّف ولدا و بنتا واحدة أو أكثر فإن المال يقسم بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*- كما ذكر في القرآن الكريم- يأخذ الولد ضعف الانثى.

فإذا كانت بنتا واحدة مع ولد واحد يقسّم المال أثلاثا فالبنت تأخذ الثلث، و يكون الثلثان للولد، و إذا كانتا ابنتين فللولد النصف و النصف الآخر يقسّم بين البنتين و هكذا، لعدم فريضة لا للبنت و لا للولد فيكون التقسيم على حسب القرابة.

و أمّا إذا كان بعضهم يرث بالفرض و البعض الآخر يرث بالقرابة: فصاحب الفرض يأخذ فرضه و الباقي يقسّم بين غير ذوي الفرض- على ما ذكره اللّه تعالى- فإذا ترك أبوين و ولدا، أو أبوين و ولدا و بنتا، أو أولاد كثيرين، الأولاد ليس لهم فرض في هذه الصورة أمّا الأبوان فلكلّ واحد منهما السدس، فيؤخذ سدس للأب و سدس للأم، و الباقي يقسّم بين الأولاد لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*. أيضا‌

محاضرات في المواريث، ص: 81‌

لا إشكال في المسألة.

و إذا فرضنا أنهم جميعا يرثون بالفرض و ليس بينهم من يرث بالقرابة فهذا على ثلاثة أقسام:

1- فتارة تكون الفروض مستوعبة للتركة بلا زيادة و لا نقيصة.

2- و تارة تزيد التركة على الفروض.

3- و ثالثة تنقص التركة عن الفروض.

أمّا القسم الأوّل و هو: ما إذا كانت التركة مساوية للفروض أيضا لا إشكال في المسألة.

فلو فرضنا أنّه ترك بنتين و أبوين فلكلّ من الأبوين السدس، و للبنتين الثلثان، فالتركة توزع بينهم بلا زيادة و لا نقيصة. و هذا أيضا مما لا إشكال فيه.

و أمّا القسم الثاني و هو: ما إذا فرضنا أن التركة زادت على الفروض و جميعهم يرثون بالفرض لا بالقرابة.

كما إذا فرضنا أنّه ترك بنتا واحدة و أبوين: فللبنت الواحدة النصف، و لكلّ من الأبوين السدس، فطبعا تزيد التركة على الفروض بسدس، لأنّ النصف ثلاثة أسداس للبنت، و لكلّ من الأبوين السدس، فهذه خمسة أسداس و السدس الباقي لم يذكر له حكم في الآية المباركة فهذه صورة الزيادة.

و هكذا لو ترك بنتين مع أحد الأبوين فقط، فالثلثان للبنتين و السدس للأب أو للأمّ، فيبقى سدس بلا مالك، فتزيد التركة على الفروض بشي‌ء.

و أمّا القسم الثالث و هو: ما إذا فرضنا أن التركة تنقص عن الفروض.

كما إذا ترك بنتين و أبوين و زوجا أو زوجة، ففي مثل ذلك الزوج يأخذ الربع،

محاضرات في المواريث، ص: 82‌

و في فرض الزوجة تأخذ الثمن فهنا إمّا الربع أو الثمن، و للأبوين السدسين، و للبنتين الثلثان، و في فرض البنت الواحدة فلها النصف، ففي الفرض الزوج يأخذ الربع و الربع يزيد على السدس بنصف سدس فتنقص التركة عن الفريضة لا محالة:

الأبوان يأخذان الثلث، و البنت الواحدة تأخذ النصف، فإذا كان هنا زوج يأخذ الربع، الربع زائد على السدس فتكون التركة ناقصة بالنسبة إلى ما فرضه اللّه تعالى لا محالة.

فما هو الحكم في هاتين الصورتين: أي فيما إذا نقصت التركة، أو فيما إذا زادت التركة؟

محاضرات في المواريث، ص: 83‌

بحث حول ما ذهب إليه أصحاب المذاهب من التعصيب و العول و تحقيق الحقّ فيهما

محاضرات في المواريث، ص: 85‌

مسألة الردّ أو التعصيب

المتسالم عليه بين فقهاء الشيعة تبعا لما ورد عن أئمتهم عليهم السّلام أن ما يزيد عن الفروض يردّ إلى ذوي الفروض بنسبة ما يرثون، فإذا كان الوارث بنتا واحدة و أبوين- مثلا- تأخذ البنت النصف و يأخذ كلّ من الأبوين السدس، فيبقى سدس واحد، هذا السدس يقسّم بين البنت و الأبوين بالنسبة، فيقسّم أخماسا: خمس للأب، و خمس للأم، و ثلاثة أخماس للبنت.

فيكون حكم الباقي حكم الأصل فكما أنّه من الأصل نسبة ما تأخذه الأم أو ما يأخذه الأب ثلث بالنسبة إلى ما تأخذه البنت، فهي تأخذ ثلاثة، و الأب يأخذ واحدا، و الأم أيضا تأخذ واحدا. السدس الباقي أيضا يقسّم بهذه النسبة و لا تصل النوبة إلى العصبة.

و قد خالفنا في ذلك العامّة فقالوا بالتعصيب و أن الباقي يعطى للعصبة.

و العصبة: هم الذكور المنتسبون إلى الميت بلا واسطة كالأخ، أو مع الواسطة كالعم و ابن العم، أو ابن الأخ و يحرمون الإناث من الإرث إلّا في بعض الحالات النادرة- على ما هو مذكور في كلماتهم.

محاضرات في المواريث، ص: 86‌

فالزائد لا يرد إلى الورثة أصحاب الفروض، و لا يعطى إلى ذوي الأرحام [1] ممن يتقرّب إلى الميت عن طريق النساء بل يعطى إلى العصبة. [2]

______________________________
[1] راجع حلية العلماء للقفّال الشاسي 6: 261، و الحاوي للماوردي 8: 82، و قد قال في المعاني البديعة 2: 176: مسألة: عند الشافعى و أبي بكر و زيد بن ثابت و ابن عمر و عمر في إحدى الروايتين و مالك و الأوزاعي و داود و أهل الشام و أبي ثور و أكثر العلماء عدم توريث ذوي الأرحام.

ثمّ قال: ذوي الأرحام من ليس لهم فرض و لا تعصيب. و في المغني لابن قدامة 7: 82- 83: « (باب ذوي الأرحام)، و هم الأقارب الذين لا فرض لهم و لا تعصيب، و هم أحد عشر حيزا: ولد البنات، و ولد الأخوات، و بنات الأخوة، و ولد الأخوة من الأم، و العمات من جميع الجهات، و العم من الأم، و الأخوال و الخالات، و بنات الأعمام، و الجد أبو الأم، و كلّ جدّة أدلت بأب بين أمين أو أب أعلى من الجد، فهؤلاء و من أدلى بهم يسمّون ذوي الأرحام».

[2] و قد ردّ عليهم ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه بقوله: (ثمّ ذكر إبطال العصبة فقال تعالى لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً و لم يقل و ما بقي للرجال دون النساء، فما فرض اللّه جل ذكره للرجال في موضع حرّم فيه على النساء بل أوجب للنساء في كلّ ما قلّ أو كثر).

و في كتاب أبي نعيم الطحان رواه عن شريك عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر [جبير] عن زيد بن ثابت أنّه قال: (من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء) [الكافي 7: 75].

محاضرات في المواريث، ص: 87‌

إشكال على القول بالرد و مناقشته

الإشكال:

حاصله أنا إذا بنينا على أن البنت الواحدة إذا نقص من التركة شي‌ء يقع النقص عليها، و إذا زادت التركة على الفروض يردّ عليها فهي تشترك مع الآخرين أو تختص هي بالزيادة.

فلو كانت بنت واحدة و لم يكن والد و لا والدة تأخذ البنت جميع المال، و إذا كان معها أبوان تأخذ 3/ 5 السدس الزائد و خمس للوالد و خمس للوالدة.

فإذا كانت كذلك يرد عليها تارة و ينقص منها اخرى ففي أي فرض يتحقق إرثها للنصف؟ لا يوجد أي مورد لذلك، فهي إمّا أن تزيد حصتها على النصف أو أنّها تنقص من النصف.

فإذا ما معنى قوله تعالى وَ إِنْ كٰانَتْ وٰاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ أين يوجد أن البنت الواحدة ترث نصفا؟ لا يوجد أي مورد يفرض فيه أن البنت الواحدة تأخذ نصف المال.

فيلزم من ذلك أن يكون تشريع النصف للبنت الواحدة لغوا و منه يلزم لغوية الآية المباركة و هذا ممّا لا تلتزمون به.

محاضرات في المواريث، ص: 88‌

الرد على الإشكال:

كان كلامنا فيما أشكل على عدم الالتزام بالتعصيب و العول و أنّه على ذلك لا يوجد مورد يكون للبنت الواحدة النصف.

و هذا الإشكال مبني على أن يكون التقسيم بالنصف أو الثلث أو الربع تقسيما على الإطلاق.

و أمّا إذا كان التقسيم تقسيما بالنسبة كما هو ظاهر الآيات المباركة أنّ تركة الميت إنّما تقسّم بين الورثة بهذه النسبة، أي بنسبة النصف و الثلث و الثلثين و هكذا فهذا يسمّى (التقسيم بالنسبة) و له باب في علم الحساب.

فيقسّم المال بهذه النسبة و لا يلزم أن يكون ما يصل إلى أحدهم نسبته إلى مجموع المال هذه النسبة.

و من هذا القبيل ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام من حكمه في من أوصى و له سبعة عشر بعيرا أن يعطي لأحد أولاده نصفا و للثاني ثلثا، و للثالث تسعا، فجاءوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام من جهة هذا التقسيم أن سبعة عشر بعيرا كيف تقسم على نصف و ثلث و تسع فأضاف عليه السّلام إليها بعيره فصارت ثمانية عشر بعيرا فقسّمها بينهم: تسعة لصاحب النصف، و ستة لصاحب الثلث، و اثنان لصاحب التسع فبقي واحد، فأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام بعيره.

هذا هو التقسيم الصحيح بحسب موازين القسمة بالنسبة فإنّه في هذه الموارد يوحّد مخرج الكسور، فمخرج التسع هو تسعة، و مخرج الثلث ثلاثة، و مخرج النصف اثنين.

محاضرات في المواريث، ص: 89‌

طبعا ثلاثة تكون ثلاثة أتساع إذا أضيفت إلى التسع فيكون أربعة أتساع، و النصف أربعة أتساع و نصف، فيكون المجموع ثمانية أتساع و نصف: تسع لواحد، و ثلاثة أتساع للآخر، و أربعة أتساع و نصف للثالث.

فيقسم مجموع المال و هو سبعة عشر- في مفروض المثال- على ثمانية و نصف فيكون الخارج اثنين، إذن يتحصل أن كلّ نصف تسع له واحد، و كلّ تسع له اثنان، فتكون النتيجة أن الأثنين لصاحب التسع، و ستة لصاحب الثلث، و تسعة لصاحب النصف.

فالآية المباركة ناظرة إلى أن تقسيم المال يكون بالنسبة النصف و الربع و الثلث و غير ذلك مما ذكر في الكتاب العزيز، إذن لا نحتاج إلى أن نجد موردا يكون للبنت المنفردة النصف، لأن المقصود بالنصف النصف بالنسبة لا النصف على الإطلاق، و النصف بالنسبة قد يزيد و قد ينقص. [1]

______________________________
[1] هذا الرد صحيح بالنسبة إلى البنت الواحدة و البنتين حيث تقع المزاحمة بين النصف للبنت الواحدة و الثلثين للبنتين و السدس أو السدسين لأحد الأبوين أو كلاهما، أمّا بالنسبة إلى الأخت و الأختين فلا يجري ما ذكره قدّس سرّه من التوجيه لعدم المزاحم لهما من أصحاب الفروض إلّا في فرض مزاحمة كلالة الام و مع مزاحمة كلالة الأم فإنّه لا يردّ عليهم فإن السدس الزائد في فرض تعدّد كلالة الام أو السدسين في فرض اتّحادها إنّما يردان على كلالة الأبوين أو الأب فقط، فلا يوجد فرض ترث فيه الأخت الواحدة النصف بلا زيادة و لا نقيصة، و بالنسبة إلى الأختين لا يوجد إلّا فرض واحد فقط و هو ما إذا اجتمع معهما اثنان أو أكثر من كلالة الأم.

فما هو الجواب فيما إذا أشكل على تشريع النصف بالنسبة إلى الأخت الواحدة و المفروض أن كلالة الأم لا يرد عليهم و يكون الرد عليها فقط؟! يمكن الإجابة على ذلك بأن الحكمة من تشريع النصف و الثلثين في المقام هي التأكيد على قلة نصيب الأنثى دائما و أنّها لا تفضّل على الذكر و لا تساويه فبالنسبة للأخت قال تعالى فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ

محاضرات في المواريث، ص: 91‌

القسم الثاني زيادة التركة على الفروض و الخلاف الواقع بين الشيعة و غيرهم من المذاهب من القول بالردّ على أصحاب الفروض و القول بالتعصيب

محاضرات في المواريث، ص: 93‌

الكلام في أدلة القول بالتعصيب [1]

______________________________
[1] تقدم من سماحة سيّدنا الأستاذ أن فقهاء الشيعة قالوا بالرّد على أهل الفروض عند زيادة التركة على فروضهم.

و قال مخالفوهم بالتعصيب إلّا أن سماحته لم يتعرض لأدلتهم ليناقشها، فأضفنا هذا الفصل للنظر في أدلتهم إتماما للفائدة.

كان مدار بحث سماحة سيّدنا الأستاذ حول إثبات صحة ما ذهب إليه الشيعة من القول برد ما زاد على الفروض على أصحابها و مناقشة ما أورد عليهم من الإشكالات و الإجابة عليها حلا و نقضا و قد امتاز بحثه قدّس سرّه بالأدلّة الحلّية التي لم يسبق لها نظير.

إلّا أنّه قدّس سرّه لم يتعرض لأدلّة القائلين بالتعصيب ليناقشها و لعل إعراضه عن ذلك إنّما كان لوهن أدلتهم فاكتفى بما ذكره من الأدلّة على صحة مذهبه و بطلان ما عداه.

و نحن إتماما للفائدة و لئلّا يبقى مجال للشكّ و الترديد آثرنا التعرض لما استدلوا به على القول بالتعصيب و مناقشته فعقدنا هذا الفصل لأجل ذلك فنقول مستعينين باللّه تعالى:

إنّ الآيات التي عينت الفرائض في الكتاب العزيز قد ذكرت فريضة البنت الواحدة، و البنتين فصاعدا و فريضة الأب مع الأمّ، و الأمّ في فرض وجود الولد و عدمه، و وجود الحاجب و عدمه، و كذا ذكرت فريضة الأخت إذا كانت واحدة أو أكثر من واحدة من كلالة الأبوين، أو الأب فقط، أو كلالة الأم.

إلّا أنّه قد تزيد التركة على الفروض في بعض الحالات فلمن تعطى هذه الزيادة؟ فقد زعم فقهاء المذاهب أن هذه الزيادة لم يذكر لها حكم في كتاب اللّه و لذا فإنّهم استدلوا بروايتين على أن الزيادة تعطى للعصبات، و أمّا الشيعة فقد قالوا بأن حكم هذه الزيادة مذكور في الكتاب العزيز و استدلوا بقوله تعالى:

وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* مضافا إلى ما ورد من الأحاديث المعتبرة المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام.

و قد أنكر فقهاء المذاهب الأخرى دلالة هذه الآية على الردّ بعد اتفاقهم على أنّها ناظرة إلى الإرث و ناسخة لما كان مشروعا قبل نزول الآية من التوارث بالهجرة و الموالاة [راجع تفسير الكشاف 2: 240.

و تفسير أبي السعود 7: 91، و غيرها من التفاسير]، فقد قال الصابوني في (تفسير آيات الأحكام):

الحكم الرابع: هل يورث ذوو الأرحام؟

(المراد من قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ* أن أصحاب القرابة مطلقا أولى

محاضرات في المواريث، ص: 94‌

______________________________
بميراث بعض من الأجانب، و هذه الآية نسخت التوارث الذي كان بين المسلمين بسبب (المؤاخاة و النصرة أو بسبب الهجرة)، فقد كان المهاجري يرث أخاه الأنصاري بعد موته، ثمّ نسخ الحكم و أصبح التوارث بالقرابة النسبيّة) [تفسير آيات الأحكام 2: 280].

و أمّا الفخر الرازي فقد ادعى دلالة الآية الكريمة على توريث العصبات بعد إنكار دلالتها على الرّد فقال: (و أجاب أصحابنا عنه بأن قوله وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ* مجمل في الشي‌ء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلمّا قال: (في كتاب اللّه) كان معناه في الحكم الذي بينه اللّه في كتابه، فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها اللّه تعالى في كتابه، و تلك الأحكام (ليست إلّا ميراث العصبات) فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط، فلا يتعدّى إلى توريث ذوي الأرحام) [تفسير الرازي 5: 520. و الأم للشافعي 4: 84].

أقول: لا ينقضي العجب من هذه المغالطة في كلام الرازي، كيف حصر تلك الأحكام التي بينها اللّه تعالى في كتابه المجيد بالعصبات فقال: (و تلك الأحكام ليست إلّا ميراث العصبات) مع أنّه لم يرد أي ذكر للعصبات في الكتاب العزيز لا تصريحا و لا تلويحا فمن أي آية استخرج ميراث العصبات ليستدل على عدم التعدي إلى توريث ذوي الأرحام؟! أ ليس هذا إلّا الافتراء و الكذب على اللّه تعالى؟! فالمذكورون في القرآن الكريم هم الأولاد و الأبوان و الأخوة و الأخوات الذين فرض اللّه لهم الفرائض في سورة النساء، و أمّا غير هؤلاء فلم يرد لهم أي ذكر في كتاب اللّه، فأين محل العصبات من كتاب اللّه؟! و عليه فيكون المراد بقوله تعالى فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* هم أصحاب الفروض المذكورون في الكتاب لا غير فهم أولى بالميراث من غيرهم.

توضيح ذلك: أن كلّ عارف باللغة العربية إذا جرد نفسه عن العصبيات الجاهلية و أنصف في حكمه إذا راجع كتب اللغة يجد أن لفظ (الرّحم) كما ذكره ابن الأثير و غيره من علماء اللغة: (يقع على كلّ من يجمع بينك و بينه نسب) [النهاية لابن الأثير 2: 210] و قد جاءت هذه اللفظة في الآية الكريمة بصيغة الجمع و هي محلاة باللام الْأَرْحٰامِ* و الجمع المحلى باللام يفيد العموم لكلّ مصاديقه، فإذا كان (الرحم) من يجمع بينك و بينه نسب فهو شامل لمن يتقرب بالأناث كما يشمل من يتقرب بالذكور على حد سواء لأنهم كلهم يجمع بينك و بينهم نسب فالتخصيص بالذكور لا موجب له إلّا ما ذكروه من الحديثين الساقطين سندا و دلالة- كما نتعرض لهما قريبا- و لا يمكن تخصيص الكتاب بالأحاديث الضعيفة قطعا، فقول ابن الأثير:

(و يطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء) [النهاية لابن الأثير 2: 210] مناقض لقوله

محاضرات في المواريث، ص: 95‌

______________________________
السابق و قد ثبت بطلانه، إذا لا فرق في الرحم بين القرابة من جهة النساء أو الرجال إذ لا دليل على التخصيص بعد أن كان المعنى اللغوي شاملا للجميع هذا.

مضافا إلى أن نفس القائلين بالتعصيب لم يلتزموا بذلك فقد أجمعوا على حرمان بنت الابن، و بنت الأخ، و بنت العمّ و العمات من الميراث و قالوا إن هؤلاء ليسوا من أهل الفروض و لا من العصبات مع العلم بأنّهم يتقربون إلى الميت من جهة الذكور، فما هو الوجه في إخراجهم من العصبات و حرمانهم؟

و عليه فلفظ الأرحام عام للجميع و لا داعي إلى تخصيصه إذ لا دليل على التخصيص.

و أمّا قوله تعالى أُولِي* فهو اسم تفضيل و الأولوية من المفاهيم الإضافية فلا بدّ من طرفين متضايفين و المقصود هنا الأولوية بالنسبة إلى الميت قطعا لأنّها أولوية في الإرث فالميت هو طرف الإضافة و كلّ من يكون أقرب إلى الميت فهو أولى بميراثه من الأبعد، مضافا إلى التأكيد في قوله تعالى:

فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* الذي يعين لنا أصحاب الفروض المذكورين في الكتاب العزيز.

إذن دلالة الآية المباركة على الرد إلى أصحاب الفروض المذكورين في كتاب اللّه واضحة لا غبار عليها، و أمّا ما ذكره الرازي من دلالتها على توريث العصبات فهو تحكّم لا شاهد عليه حيث أنّه لم يرد أي ذكر للعصبات في كتاب اللّه تعالى مطلقا.

و أمّا دليلهم من السنّة: فعمدة دليلهم على التعصيب حديثان:

أحدهما: حديث عبد اللّه بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثانيهما: حديث عبد اللّه بن محمّد بن عقيل عن جابر بن عبد اللّه.

أمّا الحديث الأوّل: فقد روى الترمذي في الجامع الكبير في باب (ميراث العصبة): حدثنا و هيب قال: حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قال: «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» و قال: هذا حديث حسن و ليس هناك حديث غيره في هذا الباب [الجامع الكبير 3: 603.

أخرجه الطيالسي (2609). و سعيد بن منصور (288). و ابن أبي شيبة 11: 265 و أحمد 1: 292 و 313 و 325. و البخاري 8: 5 و 6 و 8. و تحفة الأحوذي 3: 180].

و لنا مناقشة في هذا الحديث من عدّة جهات: 1- أنّه روي بعدة طرق كلّها تنتهي إلى عبد اللّه بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقد تفرد بروايته ابن طاوس عن أبيه، و تفرد أبوه أيضا بروايته عن ابن عباس.

محاضرات في المواريث، ص: 96‌

______________________________
و هذا الحديث مضافا إلى ضعف عبد اللّه بن طاوس- كما تأتي الإشارة إلى ذلك- فإن جميع طرقه مرسلة إلّا طريق واحد فيه (علي بن عاصم) و هو ضعيف، فقد قال الحاكم في مستدركه، و كذا الذهبي في تلخيص المستدرك قالا: (و قد أرسله) سفيان الثوري، و سفيان بن عيينة، و ابن جريج، و معمر بن راشد عن عبد اللّه بن طاوس.

و أمّا الطريق المسند فقد قال الحاكم: (أخبرنا) أبو عمرو عثمان بن أحمد الدقاق ببغداد ثنا أحمد بن حبان ابن ملاعب ثنا علي بن عاصم ثنا عبد اللّه بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: قال لي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «الحقوا المال بالفرائض فما بقي فلأولى رجل ذكر» هذا حديث صحيح الأسناد، فإن علي بن عاصم صدوق، فقد صححه الحاكم استنادا إلى حكمه بصدق (علي بن عاصم)، إلّا أنّ الذهبي في ذيله علق عليه بقوله: (قلت: بل أجمعوا على ضعفه) [راجع المستدرك و في ذيله التلخيص 4: 338]، كما أن بن حجر قد ضعفه في (تهذيب التهذيب) فقد ذكر أقوال كبار العلماء في (علي بن عاصم) و قد أجمعوا على ضعف روايته و اضطراب حديثه و أنّهم لا يعتمدون عليه و إن كان البعض قد وثقه، إذ لا تنافي بين كون الرجل ثقة في دينه و كونه كثير الخطأ و اضطراب روايته فمن جملة ما نقله بن حجر قوله: قال محمّد بن المنهال ثنا يزيد بن زريع قال: لقيت علي بن عاصم بالبصرة و خالد ابن الحذاء حي، فأفادني أشياء عن خالد، فسألته عنها، فأنكرها كلّها، و أفادني عن هشام بن حسام حديثا، فأتيت هشاما فسألته عنه فأنكره. و قال البخاري: قال وهب بن بقية سمعت يزيد بن زريع ثنا علي عن خالد بسبعة عشر حديثا، فسألنا خالدا عن حديث فأنكره، ثمّ آخر فأنكره، ثمّ ثالث فأنكره فأخبرناه فقال: كذاب فاحذروه.

[تهذيب التهذيب 7: 346].

و بما ذكرناه يظهر ضعف الطريق المسند الذي صححه الحاكم و ضعفه الذهبي و ابن حجر، و لعلّ الحاكم كان مستندا في تصحيحه إلى توثيق على بن عاصم من قبل البعض، إلّا أن هذا التوثيق معارض بما ذكرناه من إجماعهم على اضطراب حديثه و عدم ضبطه ممّا أدّى إلى عدم قبول روايته عند العلماء.

فعلم مما قدّمناه أن طرق هذا الحديث كلّها مرسلة إلّا طريق واحد فيه (علي بن عاصم) و هو ضعيف فلا يصح الاستناد إلى مثل هذه الرواية.

2- أن عبد اللّه بن طاوس الذي تنتهي إليه جميع هذه الطرق و قد تفرد برواية هذا الحديث ضعيف و لا يمكن الاستناد إلى روايته فهو أمين سرّ بني مروان قال ابن حجر: فقد جاء في رواية الحميري: أنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك و كان كثير الحمل على أهل البيت عليهم السّلام [نفس المصدر 5: 268] و من المعلوم أن بني مروان كانوا شديدي العداء لأهل البيت الطاهر و لا يأتمنون أحدا على سرّهم إلّا بعد أن

محاضرات في المواريث، ص: 97‌

______________________________
يعرفوا منه أنّه موافق لهم، فكان هذا الرجل يحاول مخالفة أهل البيت سلام اللّه عليهم و لو بوضع الأحاديث و الافتراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسند هذا الحديث ساقط من عدّة جهات و لا يمكن الاعتماد عليه.

3- هذا الحديث مخالف لما ثبت عن ابن عباس قطعا، فإنّه كان يرى الرّد على أهل الفروض و يخالف القول بالتعصيب حتّى أنّه كان مستعدا للمباهلة مع من يخالفه في هذا الأمر فقد أخرج الحاكم بسنده و صححه على شرط الشيخين عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة قال: جاء ابن عباس رضي اللّه عنه رجل فقال:

رجل توفّي و ترك بنته و أخته لأبيه و أمّه، فقال: لابنته النصف و ليس لأخته شي‌ء، فقال الرجل: فإن عمر (رض) قضى بغير ذلك: جعل للابنة النصف و للأخت النصف، قال ابن عباس: أنتم أعلم أم اللّه؟! فلم أدر ما وجه هذا حتّى لقيت ابن طاوس فذكرت له حديث الزهري، فقال: أخبرني أبي أنّه سمع ابن عباس يقول: قال اللّه عزّ و جلّ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ قال ابن عباس: (فقلتم أنتم: لها النصف و إن كان له ولد) [المستدرك 4: 339] هذا و قد نقلنا عن ابن عباس رواية مفصلة في هذا الموضوع في مقدّمة هذا البحث [راجع المقدّمة ص 23 و ما بعدها] و هناك أحاديث اخر تدلّ على عدم التزام ابن عباس بالتعصيب، و هذا ممّا يدلّ على كذب رواية ابن طاوس عنه، فلو كان ابن عباس قد روى هذه الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم خالفها و عمل على خلافها مع أنّه كان مستعدا للمباهلة مع من يخالفه في ذلك.

4- و ممّا يدلّ على كذب هذا الحديث هو مخالفته لما ثبت بالضرورة عند جميع المسلمين و مخالفة الآية المباركة قال تعالى لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 7] قال المراغي في تفسير هذه الآية: (أي إذا كان لليتامى مال ممّا تركه لهم الوالدان و الأقربون فهم فيه سواء لا فرق بين الرجال و النساء، و لا فرق بين كونه قليلا أو كثيرا و أتى بقوله نَصِيباً مَفْرُوضاً* لبيان أنّه حقّ معيّن مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا و لا أن يحابي فيه) [تفسير المراغي 4: 192].

و قال السيوطي في تفسير قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ*: و أخرج بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير .. يعني من يكفر بقسمة المواريث و هم المنافقون كانوا لا يعدون أن للنساء و الصبيان الصغار من الميراث نصيبا) [الدر المنثور 2: 128].

و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الفرائض التي فرض اللّه فيها ما فرض للولد الذكر و الانثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن و تعطى الابنة النصف و نعطي الغلام الصغير و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك

محاضرات في المواريث، ص: 98‌

______________________________
في الجاهلية لا يعطون الميراث إلّا لمن قاتل القوم و يعطون الأكبر فالأكبر [نفس المصدر السابق:

125].

فحديث ابن طاوس الذي خص الميراث بالذكور دون الإناث موافق لحكم الجاهلية الذي نقضه الإسلام و هذه الآية المباركة تقرر لنا حكما مخالفا تماما لحكم الجاهلية فقد أوجبت للنساء في كلّ موضع يرث فيه الرجال في كلّ ما قل أو كثر، و هذا الحديث خص الإرث «بأولى رجل ذكر».

5- نرى أنّ فقهاء المذاهب مع تمسكهم بهذا الحديث و التزامهم بالتعصيب فقد أجمعوا على مخالفته في كثير من الموارد- و هذا التناقض يكشف عن أمور تظهر للمنصف بأدنى تأمل- و نحن نذكر على سبيل المثال موردين منها:

الأوّل: إذا خلف بنتا و أبا، فالبنت لها النصف، و الأب له السدس فيبقى ثلث المال، و المفروض حسب حديث ابن طاوس أن يعطى هذا الثلث إلى العصبات، لأن ما زاد على الفروض يعطى (لأولى رجل ذكر) مع أنّهم أجمعوا على إعطاء الثلث للأب زيادة على سدسه المفروض له مع أنّه ليس من العصبات فإنّهم قالوا في تعريف العصبة: (العصبة من لم يكن له نصيب مقدر) [الفقه الحنبلي الميسر 3: 415.

و المعاني البديعة 2: 176]. و المفروض أن الأب له نصيب مقدّر و هو السدس، فإعطاؤه الثلث الباقي مناف لقوله: «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» و هنا بعد ما أعطوا الأب نصيبه أرجعوا إليه ما بقي.

الثاني: إذا خلف بنتا و أخا و أختا من الأب و الأمّ، فقد حكموا بالإجماع أن النصف للبنت و النصف الآخر بين الأخ و الأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، مع أنّه مقتضى هذا الحديث أن النصف الباقي جميعه للأخ و الأخت تحرم من الإرث، إذ أن (ما بقي لأولى رجل ذكر) و هو الأخ، و أمّا الأخت فليست بذكر لتشارك الأخ فيما بقي.

فمخالفتهم العملية بالإجماع لهذا الحديث أدلّ دليل على وهنه.

فقد ظهر ممّا قدّمناه سقوط هذا الحديث سندا و دلالة فهو لا يصلح لإثبات حكم شرعي.

و أمّا الحديث الثاني: فهو ما رواه عبد اللّه بن محمّد بن عقيل و هو أيضا متفرد برواية هذا الحديث عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري و جميع أسانيد هذا الحديث تنتهي إلى عبد اللّه هذا و لم ينقل عن غيره، فقد جاء في صحيح الترمذي باب (ما جاء في ميراث البنات):

حدثنا عبد اللّه بن حميد حدثني زكريا بن عدي أخبرنا عبد اللّه بن عمرو عن عبد اللّه بن محمّد بن

محاضرات في المواريث، ص: 99‌

______________________________
عقيل عن جابر بن عبد اللّه قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالت: يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، و إنّ عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، و لا تنكحان إلّا و لهما مال، قال صلّى اللّه عليه و آله: يقضي اللّه في ذلك، فنزلت آية الميراث، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، و أعط أمهما الثمن، و ما بقي فهو لك» [عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي 8: 242].

و هذا الحديث غير قابل للاستناد إليه، و لا يمكن الاحتجاج به لإثبات حكم شرعي لأنّ أعاظم أصحاب الجرح و التعديل قد أجمعوا على ضعف عبد اللّه بن محمّد بن عقيل، كما ذكر ذلك ابن حجر في (تهذيب التهذيب) [تهذيب التهذيب 6: 13- 15] فإنّهم أجمعوا على أنّه منكر الحديث و أنّهم لا يحتجون بحديثه، و قال ابن حبان فيه: (كان ردي الحفظ و كان يحدّث على التوهم فيجي‌ء بالخبر على غير سننه فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها و الاحتجاج بضدها) [كتاب المجروحين 2: 3].

فهذا الحديث ساقط سندا و لا يمكن الاحتجاج به إذ لم يروه إلّا هذا الرجل و هو كما ترى.

و أمّا دلالته فهي معارضة لآية أُولُوا الْأَرْحٰامِ*- كما بينا سابقا- و معارضة أيضا لما ورد في الأحاديث المعتبرة فقد روى النسائي في الباب الرابع من الفرائض أربعة أحاديث بطرق مختلفة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أن امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالت: إني تصدقت على أمّي بجارية، فماتت، فرجعت إليّ في الميراث، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قد آجرك اللّه و ردّ عليك في الميراث» [السنن الكبرى 4: الباب الرابع من الفرائض] فنرى أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يحكم بالنصف للعصبة إذ المفروض أنّها بنت واحدة و لها النصف فلم لا يكون النصف الآخر للعصبة، بل إن النبيّ الكريم يقول لها: «قد آجرك اللّه و ردّ عليك في الميراث» فقد رد لها جميع الجارية نصفا بالفرض و نصفا بالرد. و قد روى النسائي في نفس الباب روايات اخر كلّها تدل على ذلك.

و روى الشيخ الطوسي قدّس سرّه «عن أبي بكر بن عياش في حديث أنّه قيل له: ما تدرى ما أحدث نوح بن دراج في القضاء إنّه ورّث الخال، و طرح العصبة، و أبطل الشفعة، فقال ابن عياش: ما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب و السنّة، إن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما قتل حمزة بن عبد المطلب بعث علي بن أبي طالب عليه السّلام فأتاه علي عليه السّلام بابنة حمزة فسوّغها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميراث كلّه» [التهذيب 6: 310، ح 64] فهذه الرواية المعتبرة صريحة في أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى الميراث كلّه لابنة حمزة مع العلم أن عمها العباس بن عبد المطلب كان موجودا و مقتضى القول بالتعصيب إعطاؤها فريضتها النصف، و النصف الآخر لا بدّ من إعطائه لعمها العباس لأنّه عصبة مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطاها جميع المال فرضا وردا.

محاضرات في المواريث، ص: 100‌

______________________________
فرواية عبد اللّه بن محمّد بن عقيل بالإضافة إلى إجماعهم على ضعف سندها معارضة بروايات معتبرة سندا واضحة دلالة.

و مع ذلك يمكن توجيهها بما يوافق القول بالردّ فيمكن أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد تصرف بحسب ولايته فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيكون الحكم شخصيا في واقعة خاصة لا يمكن تسريته إلى غيرها، و قد احتمل صاحب الوسائل قدّس سرّه كون الحكم في هذه الرواية على وجه الصلح مع رضاء الوارث بذلك و إرادة تأليف قلب العم [الوسائل 26: 88 باب 8 من أبواب موجبات الإرث، ح 8].

إذا هذه الرواية ساقطة سندا و معارضة دلالة بالروايات المعتبرة و الصريحة مع إمكان حملها على ما ذكرناه، فهي لا تصلح لأن تكون دليلا على التعصيب.

فيبقى الأمر دائر بين العمل بهذين الحديثين الساقطين سندا و دلالة و بين العمل بالآيتين المباركتين مع أن التعارض بينهما بالتباين و لا يمكن الجمع بينهما بوجه فآية أُولُوا الْأَرْحٰامِ* دالة على أن الأقرب للميت أولى بميراثه و أن الميراث للأقرب فالأقرب، و مفاد الحديثين أن العصبات أولى من الأقربين و من ذوي الأرحام، و آية لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ ..* دالة على توريث النساء في كلّ مورد يرث فيه الرجال و حديث ابن طاوس يحرم النساء من الإرث و يخصه بالرجال.

فباعتبار أن الآيتين المباركتين قطعيتي الصدور و واضحتي الدلالة، و الحديثين ساقطين سندا و دلالة، مع ما ورد من أن ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف و باطل لا محيص من طرح هذين الحديثين الموافقين لأحكام الجاهلية، فلم يبق لديهم دليل على القول بالتعصيب.

أمّا القول بالرد فقد دلّت عليه آية أُولُوا الْأَرْحٰامِ* كما بيناه مضافا إلى ما ورد من الأحاديث المعتبرة المستفيضة عن أهل البيت الطاهر عليهم السّلام:

1- منها ما رواه الشيخ قدّس سرّه في كتابيه، و الكليني في الكافي عن أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن في كتاب علي عليه السّلام أن كلّ ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجر به إلّا أن يكون وارث أقرب إلى الميت منه فيحجبه» [الاستبصار 4: 239. و التهذيب 9: 233. و الكافي 7: 77، ح 1].

و في حديث آخر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا التفت القرابات فالسابق أحق بميراث قريبه، فإن استوت قام كلّ واحد منهم مقام قريبه» [الاستبصار 4: 239. و التهذيب 9: 233. و الكافي 7: 77، ح 2].

و قد أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باتباع الكتاب العزيز و العترة الطاهرة فيكون القول بالرد هو الحقّ الذي لا محيص عن اتباعه.

في الختام: نكرّر الإشارة إلى أنّنا قد عقدنا هذا الفصل لإبطال دليل القائلين بالتعصيب إتماما للفائدة و إن لم يتعرّض السيد الاستاذ لذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 101‌

مناقشة القول بالتعصيب

ذكرنا أن المستفاد من الآية المباركة أن التقسيم في باب الإرث ليس تقسيما على الإطلاق- بمعنى أن يكون النصف على الإطلاق أو الربع على الإطلاق أو الثلث على الإطلاق- بل إنّما القسمة بالنسبة.

فالمذكور في الكتاب العزيز أن الوارث هم أولوا الأرحام و الأقربون على ما يستفاد من الآيتين المباركتين:

وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* و لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ.

فالوارث منحصر في أولي الأرحام و في الأقربين يأخذ بعضهم ثلثا و بعضهم نصفا و بعضهم سدسا و بعضهم ثلثين .. و هكذا على ما هو مذكور في الآيات المباركة، فالتقسيم يكون تقسيما بالنسبة لا بلحاظ الكسر على الإطلاق و على هذا الفرض لا يتصوّر زيادة في المقام، فالتركة لا تزيد على السهام أبدا.

نعم ورد في الروايات- كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى- أن الزّوجة لا يرد عليها شي‌ء تأخذ الثمن بلا زيادة و لا نقيصة، كما أن الزّوج لا يرد عليه شي‌ء إلّا في فرض نادر و هو ما إذا لم يكن للزّوجة أي وارث حتّى الوارث بالولاء، و كان الوارث منحصرا بالإمام فالزوج يرث الزائد، و أمّا في غير هذا الفرض فلا يرد عليه.

محاضرات في المواريث، ص: 102‌

إذا لا يتصور في الخارج مورد يكون فيه زيادة عن التركة حتّى نحتاج إلى البحث عن الزائد و أنّه ما ذا نفعل به، بل التقسيم يكون تقسيما بالنسبة في غير الزوج و الزّوجة، و عليه فيكون الردّ الذي ذكره فقهاؤنا و الذي ذكر في الروايات: أن الزائد يرد إليهم و ليس للعصبة إلّا التراب، أو أن العصبة ليس لهم أي شي‌ء يكون موافقا للآية المباركة، فلا مقتضي للتعصيب من الأوّل. هذا.

و مع الإغماض عما ذكرناه إذا قلنا بأن الآية ظاهرة في ذكر التركة على الإطلاق لا بالإضافة أي أنّه ليس التقسيم تقسيما بالنسبة، فيفرض في التركة زيادة كزيادة السدس في المثال المتقدّم، أو إذا فرضنا أنّه ليس للميت و الدان فالبنت تأخذ النصف و النصف الآخر ليس له صاحب، على هذا التقدير أيضا نلتزم بأن النصف الآخر يرد إلى البنت فقط، و السدس في الفرض الأوّل يرد إلى الجميع- أي إلى الوالدين و البنت- و ذلك لقوله سبحانه وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* فيرثون القدر المفروض بالفريضة و الزائد بالقرابة و ليس للعصبة شي‌ء، إذ أنّه مع وجود الأقرب كيف تصل النوبة إلى الأبعد، فمع وجود البنت كيف تصل النوبة إلى ابن العم أو العمّ و نحوهم، فالآية المباركة تدلّ على أن الزائد يرد إلى أصحاب الفروض لأنّهم أقرب إلى الميت من العصبة، و لأجل ذلك نجد نفس القائلين بالتعصيب هم أيضا التزموا في فرض عدم وجود عصبة للميت أن الزائد لا يدخل في بيت المال، و إنّما يرد على الورثة، فلو فرضنا أن للميت بنتا واحدة أخذت النصف و لم يكن هناك أحد من العصبة ليرث النصف الآخر قالوا يرد النصف الآخر على البنت و لا يدخل في بيت المال، لأن البنت أقرب إلى الميت و هي‌

محاضرات في المواريث، ص: 103‌

رحمه فيرد عليها. [1]

فإذا كان القرب و كونه رحما موجبا للردّ بحكم الآية المباركة فكيف لا يوجبه عند وجود العصبة؟! و بعبارة اخرى: ما هو الفرق بين ما إذا كان العمّ أو ابن العمّ موجودا و ما إذا لم يكن موجودا إذا التزمنا بأن الآية المباركة شاملة لما هو زائد على الفروض؟! فبعد استدلالهم بالآية المباركة على أن المال يرد على أصحاب الفروض عند عدم وجود عصبة للميت باعتبار أن أصحاب الفروض هم أقرب إلى الميت فيرثون الباقي بالقرابة و لا يعطى إلى بيت المال يقال لهم إن أقربيتهم إلى الميت ثابتة حتّى مع وجود العصبة فهم أولى من العصبة بهذه الزيادة.

و مع غض النظر عما ذكرناه و لنفرض أن ظاهر القرآن الكريم هو التقسيم على الإطلاق لا بالنسبة و لا يمكننا الاستدلال بالآية المباركة يكفينا في ذلك الروايات‌

______________________________
[1] قال الدكتور وهبة الزحيلي: (فإن لم يكن للميت عصبة و لا ولاء، عملنا بالردّ على ذوي الفروض، فيقدّم على ذوي الأرحام، فإن لم يكن ذو فرض يردّ عليه ورّثنا ذوي الأرحام، لقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ*، لأن سبب الميراث القرابة، بدليل أن الورّاث من ذوي الفروض و العصبات إنّما ورثوا لمشاركتهم الميت في نسبه، و هذا موجود في ذوي الأرحام، فيرثون كغيرهم) [راجع الفقه الحنبلي الميسر 3: 441. و الفقه الإسلامي و أدلته 10: 740].

و قال في موضع آخر في تعريف الردّ على ذوي الفروض: و أصحاب الفروض النسبية هم من عدا الزوجين فلا يرد عليهما من حيث الزوجية، لأنّهما لا رحم لهما فلم يدخلا في الآية.

و على هذا حيث لا تستغرق الفروض التركة، و لا عاصب، ردّ الفاضل على كلّ ذي فرض من الورثة بقدره كالغرماء يقتسمون مال المفلس بقدر ديونهم، لقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ*. و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من ترك مالا فللوارث» .. إلى أن قال: فإن لم يكن للميت إلّا صاحب فرض أخذ الكلّ فرضا وردا، لأنّ تقدير الفروض شرع بسبب المزاحمة، و قد زال هنا، كما لو لم يرث الميت من أصحاب الفروض إلّا أخ لأم، أو أمّ، أو جدة، أو بنت، أو أخت» [نفس المصدر السابق: 444].

محاضرات في المواريث، ص: 104‌

و السيرة القطعية في زمن المعصومين عليهم السّلام على أن العصبة لا يرثون شيئا، [1] فأهل البيت هم المرجع في تفسير القرآن الكريم و معرفة أحكام اللّه تعالى بمقتضى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ..» و غير ذلك من الأحاديث الدالة على لزوم الرجوع إليهم، فهم المرجع و لا بدّ من الأخذ منهم حتّى في فرض عدم تمكننا من استظهار ذلك من الآية المباركة.

ثمّ إنّه يلزم على القول بالتعصيب لوازم فاسدة لا يمكن الالتزام بها، فلو فرضنا الإغماض عما ذكرناه سابقا و لم يكن هناك رواية فإن القول بالتعصيب باطل وجدانا و لا يمكن الالتزام به فهو مخالف لصريح الآية المباركة مع قطع النظر عن جميع ما ذكرناه و ذلك لأن القول بالتعصيب يستلزم أمرا لا يمكن الالتزام به و هو أن يكون ابن العم مثلا مقدما على الابن في الإرث و يكون حاجبا لإرث البنات أو إرث البنت بمقدار مع أن الولد لا يكون حاجبا له، فيكون مقام ابن العم أعظم من مقام الولد و هذا غير محتمل أبدا.

فلو فرضنا أن الميت ترك ست بنات و ولدا واحدا بطبيعة الحال يكون المخرج ثمانية لأن الولد بمنزلة بنتين، فمن هذه الثمانية يأخذ الولد ثمنين، و لكل بنت ثمن، فإذا كانت التركة أربعة و عشرين دينارا مثلا يأخذ الولد ستة دنانير و يبقى ثمانية عشر لكل من البنات ثلاثة دنانير.

فلو فرضنا أن الولد غير موجود و انحصر الوارث بالبنات فنصيبهن الثلثان و الثلث الباقي لابن العم، معنى ذلك أن ابن العم يأخذ ثمانية و الستة عشر تنقسم‌

______________________________
[1] قال حسين الرزاز أمرت من يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: المال لمن هو للأقرب أو للعصبة؟ فقال عليه السّلام: «المال للأقرب و العصبة في فيه التراب» [الوسائل 26: 64 باب 1 من أبواب موجبات الإرث، ح 3].

محاضرات في المواريث، ص: 105‌

على ستة بنات فتأخذ كلّ واحدة منهن ثلاثة دنانير إلّا ثلث دينار، فيكون ابن العم حاجبا بالنسبة إلى هذا الثلث، يعني تكون حصة البنت مع الولد أكثر من حصة البنت مع ابن العم، و تكون حصة ابن العم أكثر من حصة الولد و هذا أمر غير محتمل قطعا لقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* فكيف يكون ابن العم مقدّما على ولد الميت، و الولد لا يأخذ هذا المقدار و ابن العم يأخذه.

و كلّما زاد عدد البنات يزيد النقص في حصصهن و تزيد حصة ابن العم، فإذا فرضنا أن البنات ثمانية مع ولد واحد فتكون الحصص عشرة لا محالة، فإذا كانت التركة ثلاثين دينارا مثلا يأخذ الولد عشرين و هما ستة دنانير و لكلّ من البنات ثلاث دنانير عشر التركة.

فإذا فرضنا أنّه في نفس هذه الصورة لم يكن ولد و كان مكانه ابن عم، فابن العمّ يأخذ الثلث و هو عشرة، و يبقى عشرون للبنات لكلّ منهن ديناران و نصف، فنقص من كلّ منهن نصف دينار و زيد على حصة ابن العم.

أ فيحتمل هذا؟ أن يأخذ الولد ستة و ابن العمّ يأخذ عشرة؟!! و كلّما زاد عدّد البنات ينقص من حصصهن و يزاد في حصة ابن العمّ، و هذا مقطوع البطلان وجدانا، سواء كانت هناك رواية أم لم تكن دلت الآية المباركة عليه أم لم تدل.

مناقشة القول بالتعصيب ببيان آخر

إن اللّه تبارك و تعالى بيّن المواريث في كتابه العزيز فذكر اجتماع الأبوين، و اجتماع أب و أمّ مع البنت، أو مع البنتين و انفرادهما كذلك.

محاضرات في المواريث، ص: 106‌

و لم يذكر انفراد الأب إذا لم يكن معه أي أحد لا أمّ و لا ولد و لا بنت، كما أنّه لم يذكر الولد الواحد، أو الولدين فإنّه لم يتعرض لذلك.

الذي يستفاد من هذا الترتيب في الآيات المباركة أن عدم الذكر إنّما هو للوضوح، فإنّه سبحانه بعد ما بيّن أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض و أن الأقرب يمنع الأبعد كما في قوله سبحانه لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ فيستفاد أن الأقرب يمنع الأبعد فتدل الآية المباركة على أن الأب إذا كان منفردا يكون تمام المال له، و أن الابن الواحد إذا كان منفردا يكون تمام المال له.

كما يستفاد أيضا أن الولدين بما أنّهما متماثلان و لا يحتمل فضل أحدهما على الآخر، فإذا كانا مجتمعين، أو كان هنا أولاد كثيرون فيقسّم المال بينهم بالسوية.

فمن هذه الأحكام المستفادة من القرآن الكريم يعلم بوضوح أن البنت الواحدة أيضا كذلك فإذا كانت منفردة لا تحتاج إلى جعل فرض لها، بل يكون تمام المال لها، و أمّا إذا كانت مع الولد فللذكر مثل حظ الأنثيين- كما هو مذكور في الآية المباركة.

فالولد وحده يرث تمام المال و البنت وحدها ترث تمام المال، فإذا اجتمعا تكون حصته ضعف حصة الانثى.

حكم الأم أيضا يستفاد من ذلك، فإن جعل الثلث أو السدس للأم إنّما هو مع ارتباطها مع غيرها، أمّا إذا كانت وحدها فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فترث تمام المال.

و كذلك البنتان فهما متماثلتان و لا يحتمل التفاضل بينهما أيضا يكون تمام المال بينهما.

محاضرات في المواريث، ص: 107‌

فمن جميع ذلك يظهر بوضوح أن الفرائض المذكورة في القرآن الكريم من السدس و الثلث و الثلثين و النصف إنّما هي مع اجتماع أصحابها مع بعضهم، كما إذا كانت البنت- مثلا- مع الأب أو مع الأم فلها النصف مما ترك لا أنّه على الإطلاق حتّى إذا كانت منفردة، و كذلك البنتان مع الاجتماع لهما الثلثان لا في حالة انحصار الوارث بهما.

ففي حال وحدة الوارث أو تعدّده مع عدم احتمال فضل أحدهما على الآخر كما في الولدين أو في البنتين الإرث إنّما يكون بالقرابة لا بالفرض، فإذا كان الوارث بنتا واحدة فقط فالإرث إنّما هو بالقرابة، و النصف المجعول لها إنّما هو فيما إذا كان لها شريك.

هذا هو الذي يتحصل من الآيات المباركة بعد التأمل فيها، فالفروض المذكورة إنّما هي في فرض الاجتماع لا في فرض الانفراد، فإذا انفرد الأب، أو انفردت الأم، أو انفرد الولد أو البنت الإرث إنّما يكون بالقرابة لا بالفرض.

زيادة إيضاح:

نقول زيادة على ما تقدم: إن المال الواحد إذا فرض لأشخاص متعددين على حسب الحصص المشاعة بينهم فكان المال زائدا على الحصص.

فإمّا أن يكون تمام المال من الأوّل لهم ثمّ تبيّن كيفية التقسيم على حصص معينة.

و إمّا أن لا يكون المال لهم بل تكون الحصص لهم فقط.

و نمثل لذلك بالوصية:

فتارة يقول ما تركته من الدنانير أو من الأغنام أو نحو ذلك: نصفه لولدي‌

محاضرات في المواريث، ص: 108‌

الأكبر، و ربعه لولدي الأوسط، و ثمنه لولدي الأصغر.

ففي مثل ذلك لم يجعل لهم من الأوّل إلّا نصفا و ربعا و ثمنا، فيبقى ثمن المال من الدنانير أو الأغنام خارجا عن مورد الوصية.

فلو فرضنا أن الأغنام ثمانية يعطى أربعة منها إلى الأكبر، و اثنان للأوسط، و واحد لأصغر. و يبقى واحد خارجا عن مورد الوصية، فيبقى في ملك الميت فينتقل إلى الورثة إلّا أن يكون الموصي قد عين له مصرفا، فحينئذ يكون خارجا عن محل الكلام.

و تارة من الأوّل يوصي أن يكون تمام هذا المال لولده الثلاثة و بعد ذلك يبيّن كيفية التقسيم، فيقول: ما أتركه من النقود أو ما أتركه من الأغنام كلّها لولدي الثلاثة على أن تقسّم بينهم بهذه الكيفية: نصفها للأكبر، و ربعها للأوسط، و ثمنها للأصغر، فإذا قسمنا المال كذلك يزيد ثمن فيبقى خروف- مثلا- هذا الخروف الزائد الذي هو ثمن المال أيضا داخل في الوصية، فهو أيضا نصفه للأكبر و ربعه للأوسط، و ثمنه للأصغر، و يزيد منه ثمن هذا الثمن يقسم أيضا بذلك الترتيب و هكذا الكسور تلزم إلى الآخر.

فمورد كلامنا الذي أشرنا إليه (التقسيم بالنسبة) إنّما هو هذا المورد لا المورد الأوّل، ففي المورد الأوّل الكلام ظاهر في أن الولد الأكبر له نصف هذا المال، و الأوسط له ربعه، و الأصغر له ثمنه، و الثمن الباقي يبقى على ملك الميت لأنه خارج عن مورد الوصية.

و أمّا على الفرض الثاني الذي أوصى بأن يكون تمام المال لهم و يقسم على هذا النحو يكون نظير ما نسب إلى أمير المؤمنين (عليه أفضل السلام) في قسمة‌

محاضرات في المواريث، ص: 109‌

الأباعر، أوصى بأن يكون سبعة عشر بعيرا كلّها لهؤلاء الثلاثة على أن تقسم بهذا النحو، نصف و ثلث و تسع، فإذا قسمت يبقى شي‌ء و الباقي أيضا يقسم و هكذا.

ففي مقامنا أيضا المستفاد من الآيات المباركة أن الإرث إنّما هو للأقرب من الأرحام وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ* و كذلك قوله سبحانه لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ فالمستفاد من هاتين الآيتين أن جميع ما تركه الميت إنّما هو للوارث القريب، فإذا عين أن النصف لهذا مثلا و السدسين للوالدين يعني أن الميت ترك بنتا واحدة و ترك والدين المال يكون جميعه لهم لأنّهم الأقرب و الأولى بميراث الميت، فالتقسيم يكون تقسيما بهذه النسبة.

فمورد التقسيم بالنسبة الذي هو موافق لظاهر الكلام إنّما هو فيما إذا فرض أن المال جميعه لهم فحتى إذا بقي منه شي‌ء الباقي أيضا يقسم كذلك.

و معنى التقسيم بالنسبة هو أن يوحد المخرج و تلاحظ النسبة بين جميع الكسور.

هذا ملخص ما ذكرناه سابقا من التقسيم بالنسبة، و لا نلتزم به في جميع الموارد، و إنّما نلتزم به في الموارد التي. دلّت القرينة على أن تمام المال لهم- كما في مسألة تقسيم أمير المؤمنين عليه السّلام للإبل السبعة عشر- و أمّا في سائر الموارد فإن ظاهر الكلام هو القسمة على الإطلاق بأن يعطي نصف المال و ثلثه و هكذا، فيكون الزائد خارجا عن مورد القسمة.

محاضرات في المواريث، ص: 111‌

القسم الثالث نقص التركة عن الفروض و البحث في الخلاف في مسألة العول

محاضرات في المواريث، ص: 113‌

الكلام في العول

إذا فرضنا أن الفروض زادت على التركة كما إذا فرضنا أنّ امرأة تركت بنتا واحدة و أبوين و زوجا، فللبنت النصف، و لكل من الأبوين السدس، و للزوج الربع، فطبعا هذه الفروض تزيد على التركة، لأن المال الواحد لا يمكن تقسيمه على نصف و سدسين و ربع لأن نصف سدس يكون هنا زائدا على التركة.

و هكذا إذا فرضنا بنتين و أبوين و زوج، فللبنتين الثلثان و للأبوين الثلث فهذا مجموع التركة و يبقى ربع الزوج زائد على التركة لا محالة.

فالفروض تزيد على التركة كلما كان هناك زوج أو زوجة الزوج يأخذ الربع و الزوجة تأخذ الثمن.

و على كلّ حال إذا زادت الفروض على التركة كما في المثال المتقدّم، البنتان لهما الثلثان و الأبوان لهما الثلث فهذا تمام المال، فأين يكون ربع الزوج؟

ففي مثل ذلك ذهب مخالفونا إلى العول [1] و أن النقيصة تقع على الجميع بنسبة‌

______________________________
[1] قال الدكتور و هبة الزحيلي: (العول لغة: الجور و الظلم و تجاوز الحدّ، و اصطلاحا: زيادة في السهام و نقص في الانصباء).

و قال في مشروعيته: (أوّل من حكم بالعول: عمر بن الخطاب (رض) فقد وقعت في عهده مسألة

محاضرات في المواريث، ص: 114‌

سهامهم فينقص من كلّ واحد منهم على نسبة حصته.

و لكنّ أصحابنا ذهبوا إلى أن النقص يرد على البنت الواحدة أو على البنتين- في مفروض المثالين- و لا يرد نقص على الزوج أو الزّوجة و لا على الأبوين في شي‌ء من الموارد في الطبقة الاولى.

و إذا كان النقص في الطبقة الثانية فهو يرد على المتقربين بالأبوين أو الأب فقط، و لا يرد على المتقربين بالأمّ.

دليل المخالفين على صحة العول

استدل مخالفونا على أنّه إذا كان المستحقون لهذا المال يزيد حقهم على المال ليس هنا ترجيح لأحدهم فيقسّم النقص على الجميع، كما في غرماء الميت أو المفلس، فإذا فرضنا أن الميت مدين لواحد بعشرة، و لآخر بعشرين، و لثالث بثلاثين، فالمجموع ستّون، و التركة ثلاثون دينارا فقط فمقتضى القاعدة تقسيم هذه الثلاثين بينهم على نسبة حصصهم.

هذا هو مقتضى القاعدة: مال واحد متعلّق لحقوق أشخاص لا يفي بحقوقهم‌

______________________________
ضاق أصلها عن فروضها، و هي: زوج و أختان، أو زوج و أمّ و أخت، فشاور الصحابة فيها، فأشار العباس أو زيد بن ثابت إلى العول، و قال: (أعيلوا الفرائض) فأقره عمر على ذلك و قضى به، و تابعه الصحابة عليه، و لم ينكره إلّا ابن عباس بعد وفاة عمر، فسأله رجل عما يصنع بالفريضة إذا عالت، فقال:

أدخل النقص على من هو أسوأ حالا، و هن البنات و الأخوات فإنّهن ينقلن من فرض مقدّر إلى فرض غير مقدر، و قال: هلّا تجتمعون حتّى نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين، إن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في مال نصفين و ثلثا) [راجع الفقه الحنبلي الميسر 3: 442. و مستدرك الحاكم 4: 340. و سنن البيهقي 6: 253. و أحكام القرآن للجصاص 3: 22.]

محاضرات في المواريث، ص: 115‌

فطبعا يكون الضرر متوجها إليهم على حسب نسبة أموالهم: فمن يطلب ثلاثين يعطى له خمسة عشر، و من يطلب عشرين يعطى عشرة، و من يطلب عشرة يعطى خمسة، فالمجموع ثلاثون.

فهم قاسوا الإرث على هذا الباب، و قالوا باعتبار أن أشخاصا متعددين لهم حقّ في هذا المال بنسبة فرائضهم فيدخل النقص عليهم بهذه النسبة.

فإذا فرضنا أن ما تركه الميت هو اثنا عشر دينارا و له بنت واحدة فستة لها طبعا، و له والدان فلهما أربعة من اثني عشر فالمجموع يكون عشرة، و فرضنا أن للميت زوجا و هو يأخذ الربع، و ربع الاثني عشر ثلاثة طبعا، فيكون المجموع ثلاثة عشر، فينقص من التركة دينار واحد، و هذا النقص يوزع على الجميع، فالواحد يقسّم ثلاثة عشر جزءا ينقص من كلّ من الورثة بنسبة حصته:

فالبنت ينقص منها ستة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا، و الزوج ينقص منه ثلاثة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا، و كلّ من الوالدين ينقص منه جزءان من ثلاثة عشر جزءا من الواحد.

فيقسّم بينهم على هذا النحو كما في غرماء الميت و المفلّس على ما ذكرنا.

محاضرات في المواريث، ص: 116‌

مناقشة ما استدلوا به على صحة العول

و لكنّ هذا القياس واضح البطلان، فإن كلامنا في المقام في ثبوت الحقّ، و الكلام في مسألة الغرماء في أداء الحقّ بعد ثبوته.

و بعبارة أوضح: إذا كان أحد الغرماء يطلب الميت ثلاثين دينارا فهذا لا إشكال فيه في أصل الثبوت، و كان الثاني يطلبه عشرين دينارا و الثالث يطلبه عشرة دنانير، و لكن التركة لا تفي بذلك لأنها ثلاثون دينارا، فالنقص إنّما هو في مقام الأداء لا في مقام ثبوت الحقّ، إذ المفروض أن الحقّ ثابت لا شكّ فيه، و إنّما المتعذّر هو الأداء الخارجي لأن تركة الميت لا تفي بالديون.

و أمّا في مقامنا فالكلام إنّما هو في أصل ثبوت الحقّ، و ذلك لأن هذا الجعل بنفسه غير معقول.

فلو أوصى شخص بأن يعطى ثلثا أغنامه لزيد، و نصفها لعمرو، و ربعها لخالد، و ثمنها لبكر. يقال هذا الرجل مجنون لأن المال الواحد لا يكون له ثلثان و نصف و ربع و ثمن، فإذا كان هذا التناقض في كلام واحد يسقط و تبطل الوصية، و إن كان في كلام متعدد يكون متعارضا، إطلاق كلّ من الوصايا يتعارض مع إطلاق الاخرى لأنّ الجمع بينها غير معقول.

فمثل هذه الوصية يحكم ببطلانها من الأوّل إن كانت في كلام واحد. و أمّا إن‌

محاضرات في المواريث، ص: 117‌

كانت في عبارات منفصلة يكون الإطلاق في كلّ واحد معارضا بالإطلاق في الآخر، فما دلّ على أن البنتين تأخذان الثلثين على الإطلاق سواء كان هنا أبوان أم لم يكن أبوان، و سواء كان زوج أم لم يكن، و كذلك الأبوان يأخذ كلّ واحد منهما السدس سواء كان هنا بنتان أم لم تكونا، و سواء كان هنا زوج أم لم يكن .. و هكذا.

فالمعارضة إنّما هي بالإطلاق و التقييد في جميع الأطراف بأن يقيد الثلثان بعدم غيرها، و السدسان بعدم غيرها .. و هكذا فهذا تقييد بلا موجب يحتاج إلى دليل.

فالالتزام بالعول إلغاء لجميع الإطلاقات، و ليس لديهم أي دليل على الإلغاء سوى ما ذكروه من القياس على مسألة الغرماء، و قد تقدّم منا بيان الفارق بين مسألتنا و مسألة غرماء الميت أو المفلس، فهذا القياس باطل من أساسه فلا بدّ من التماس دليل مقيّد حيث أن الأخذ بالإطلاق غير ممكن- كما تقدّم- للتناقض و التعارض، و ليس لنا إلّا التمسك بأحاديث أهل البيت الطاهر عليهم السّلام حيث قالوا: إنّما يدخل النقصان على الذين لهم الزيادة من الولد و الأخوات من الأب و الأم أو من الأب فقط.

مناقشة العول بنحو آخر غير ما تقدّم

قلنا: إن فقهاءنا (قدّس اللّه أسرارهم) ذهبوا طبقا لما ورد عن أهل البيت الطاهر عليهم السّلام من الأحاديث التي أنكروا فيها العول، و في بعض الروايات أن الأصل في ذلك هو تقسيم عمر بن الخطاب عند ما التبست عليه الفرائض فلم يدر أيهم قدم‌

محاضرات في المواريث، ص: 118‌

اللّه و أيهم أخر، و لذا فإنّه أورد النقص على الجميع. [1]

______________________________
[1] فقد روى عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، قال: (دخلت أنا و زفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس .. فقال له زفر: يا ابن عباس من أوّل من عال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب (رض)، قال:

و لم؟ قال: لما تدافعت عليه و ركب بعضها بعضا قال: و اللّه ما أدري كيف أصنع بكم!! ما أدري أيكم قدّم اللّه و لا أيكم أخّر و ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه بالحصص، فأدخل على كلّ ذي حقّ ما دخل عليه من عول الفريضة). [راجع المستدرك للحاكم 4: 340، و قد صححه على شرط مسلم و نقله عن أبي الشيخ في الفرائض، و البيهقي في السنن، و كنز العمال 11: 27- 28، ح 30489. و الدر المنثور 2:

127. و الوسائل 26: 78: ب 7 من أبواب موجبات الإرث، ح 6. و الكافي 7: 79- 80. و هناك إختلاف في بعض ألفاظ الحديث] فالذي يظهر من هذه الرواية هو أن عمر كان يعلم بأن هناك من قدّمه اللّه و هناك من أخّره و أنّه لا بدّ من إدخال النقص على بعض دون بعض إلّا أنّه لما اشتبه عليه الأمر فهو لا يدري أيهم قدّم اللّه و أيهم أخّر التجأ إلى أمر كان يحسبه صحيحا و هو إدخال النقص على الجميع.

و لكن باب مدينة علم الرسول علي بن أبي طالب عليه السّلام لا يخفى عليه ذلك فقد روى يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام .. يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدّمتم من قدّم اللّه و أخّرتم من أخّر اللّه و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها اللّه ما عال وليّ اللّه و لا عال سهم من فرائض اللّه و لا اختلف اثنان في حكم اللّه و لا تنازعت الامّة في شي‌ء من أمر اللّه إلّا و عندنا علمه من كتاب اللّه، فذوقوا و بال أمركم و ما فرّطتم فيما قدّمت أيديكم ..» [الكافي 7: 78].

و لذا فإنّا نجد أن ابن عباس تلميذ أمير المؤمنين عليه السّلام في الرواية السابقة يقول لزفر: (و أيم اللّه لو قدّم من قدّم اللّه و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة، فقال له زفر: و أيّهم قدّم و أيهم أخّر؟ فقال: كلّ فريضة لا تزول إلّا إلى فريضة فتلك التي قدّم اللّه، و تلك فريضة الزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي‌ء، و الزوجة لها الربع فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي‌ء، و الأمّ لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي‌ء، و أمّا التي أخّر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلّا ما بقي ..)

فهذه الرواية و غيرها من الروايات دلت على أن الفرائض التي بينها اللّه تعالى في كتابه العزيز على قسمين:

القسم الأوّل: كلّ من فرض له فرضين في كتاب اللّه تعالى، و هم: الزوج و الزّوجة و الأمّ و كلالتها و هؤلاء هم الذين قدّمهم اللّه، فإذا زال أحدهم عن فرضه الأوّل ثبت على الفرض الثاني لا يزيله عنه شي‌ء.

محاضرات في المواريث، ص: 119‌

قلنا إيراد النقص على الجميع يحتاج إلى دليل و لا دليل عليه، فإن الكسور التي تزيد على الأصل إن كانت في كلام واحد فيعدّ هذا من التهافت في الكلام و لا ينعقد له ظهور من الأوّل فيلغى كأنه لم يكن و ذلك كما إذا أوصى زيد و قال: داري هذه بعد وفاتي نصفها لولدي الأكبر، و ربعها للأوسط و ثلثها للأصغر، فإن هذا غير ممكن النصف و الثلث و الربع يزيد على المال لا محالة، فيكون تهافتا في الكلام.

و كذلك إذا أقر فقال: نصف داري هذا لزيد و ربعه لعمرو و ثلثه لخالد و ثمنه لفلان، هذا الإقرار لا يسمع منه لأنّه تهافت في الكلام.

و إذا فرضنا أنّه في كلام منفصل ينعقد ظهور لكلّ واحد واحد و لكنها تكون متعارضة لا يمكن الأخذ بجميع هذه الإطلاقات، فلا بدّ من الالتزام بالتقييد إمّا في بعضها و إمّا في الجميع على حسب ما يقتضيه الدليل.

و أمّا إلغاء الظهور- و لو في الجملة- بالنسبة إلى النصف أو الثلث فيعطى لمن له النصف أقل من النصف و لمن له الثلث أقل من الثلث و هكذا. هذا إلغاء لظهور الكلام بلا أي قرينة، لأنّ التعارض إنّما هو بالإطلاق لا في أصل المقدار فلو فرضنا أنّنا رفعنا اليد عن إطلاق واحد منها يرتفع التعارض فلا بدّ من التدارك بالتقييد، لا التدارك بإيراد النقص على الجميع المخالف لظاهر الكلام بلا موجب و بلا دليل.

و على هذا لا بدّ من الرجوع إلى المقيّد و أنّه هل يوجد هنا مقيد أم لا؟

فإذا لم يكن هناك مقيد تسقط جميع هذه الإطلاقات و لا بدّ من الرجوع إلى‌

______________________________
القسم الثاني: من يكون له فرض واحد و ليس له فرض غيره فإذا زال عن فرضه لم يكن له إلّا ما بقي و هؤلاء هم الولد و البنات و الأخوة و الأخوات من الأب و الأمّ أو من الأب فقط.

محاضرات في المواريث، ص: 120‌

أصل آخر.

و قد ورد المقيّد في رواياتنا فقد دلّت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام على أن الزوجين لا يرد عليهما نقص، فهما يأخذان نصيبهما و لا ينقص منهما أي شي‌ء، فهذا يبقى على إطلاقه. و كذلك ورد بالنسبة إلى الأبوين فهذا الإطلاق أيضا يبقى على حاله.

إذا يرد النقص على البنت الواحدة و البنتين، إذ لم يرد فيهما ما يدلّ على عدم ورود النقص عليهما، فطبعا يرد النقص على البنت الواحدة أو البنتين، فإذا اجتمعت البنت مع الأبوين و الزوج يدخل النقص على البنت لأن الإطلاق في الباقي محفوظ فيرفع اليد عن إطلاق قوله سبحانه أنّها تأخذ النصف إذا كانت واحدة فهي في هذه الصورة لا تأخذ النصف بل أقل من النصف، و هكذا بالنسبة إلى البنتين إذا اجتمعتا مع الأبوين و الزوج أيضا يرفع اليد عن إطلاق أن لهما الثلثان و يرد النقص عليهما.

و هكذا الكلام في الطبقة الثانية و تفصيل الكلام عند البحث عن اجتماع هذه الفروض إن شاء اللّه تعالى فلا نلتزم لا بالتعصيب و لا بالعول.

على أنّه يجري نظير ما ذكرناه في التعصيب من اللوازم الفاسدة كما في زيادة إرث ابن العم على إرث الولد في بعض الفروض ممّا هو غير محتمل و باطل جزما.

فيجزي نظير ذلك في العول أيضا، لأنّ لازم ذلك أن تكون البنت تأخذ أكثر من نصيب الولد مع أن الرجال لهم فضل على النساء بنص الكتاب العزيز الرِّجٰالُ

محاضرات في المواريث، ص: 121‌

قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ «1» و قوله تعالى وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. «2» [1]

فيعلم من ذلك أن الذكر لا يكون أقل حظا من الانثى، و بناء على العول يلزم أن يكون الولد أقل حصة من البنت، فلو فرضنا أن امرأة ماتت و لها ولد و أبوان و زوج، و لنفرض أن تركتها اثنا عشر دينارا فبطبيعة الحال الأم تأخذ السدس و هو اثنان، و الأب يأخذ السدس أيضا فالمجموع أربعة، و الزوج يأخذ الربع ثلاثة، فيكون مجموع حصة الأبوين مع الزوج سبعة دنانير من اثني عشر دينارا، و تبقى خمسة دنانير للابن.

فإذا فرضنا عين هذا الفرض و لكن بدل الولد بنت واحدة الزوج يأخذ ثلاثة و الأبوان يأخذان أربعة فالمجموع سبعة و البنت تأخذ النصف ستة، فيصير ثلاثة عشر فينقص واحد، فإذا أوردنا هذا النقص على الجميع يكون ستة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا تنقص من حصة النبت، و ينقص جزءان من ثلاثة عشر جزءا من كلّ من الأب و الأم، و ثلاثة من ثلاثة عشر جزءا تنقص من حصة الزوج.

______________________________
[1] و قد دلت الأحاديث المستفيضة على ذلك: منها ما رواه بكير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سأله رجل عن أختين و زوج، فقال عليه السّلام: «النصف و النصف، فقال الرجل: أصلحك اللّه قد سمّى اللّه لهما أكثر من هذا لهما الثلثان، فقال: ما تقول في أخ و زوج؟ فقال: النصف و النصف، فقال: أ ليس قد سمّى اللّه المال فقال:

وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ» [الكافي 7: 103] و قد روى بكير أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام- في حديث- قال: «و المرأة لا تكون أبدا أكثر نصيبا من الرجل لو كان مكانها» [الوسائل 26: 109 باب 6 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، ح 2]

______________________________
(1) النساء: 34.

(2) البقرة: 228.

محاضرات في المواريث، ص: 122‌

فتكون حصة البنت ستة إلّا ستة أجزاء من ثلاثة عشر يعني خمسة و نصفا و شيئا زائدا على النصف، فصارت حصة البنت أزيد من حصة الولد، لأنّ في فرض كونه ولدا يأخذ خمسة دنانير، و إذا فرضناها بنتا تأخذ أكثر من خمسة و نصف، و هذا غير محتمل في نفسه جزما، فالعول باطل جزما، و أمّا قياسه بمسألة الدين فهو قياس مع الفارق كما مرّ عليك تفصيل ذلك.





 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net