المسائل من 32 الى 46 

الكتاب : فقه الشيعة - الاجتهاد والتقليد   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6856

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 211‌

[ (مسألة 32) إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقف و التردد يجب على المقلّد الاحتياط]

(مسألة 32) إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقف و التردد يجب على المقلّد الاحتياط. أو العدول إلى الأعلم بعد ذلك المجتهد [1] (1).

[ (مسألة 33) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء]

(مسألة 33) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء [2] (2) و يجوز التبعيض في المسائل (3).

______________________________
(1) لزوال الرأي الذي هو موضوع التقليد بكشف الخطأ في مستنده و إن لم يتبدل إلى رأي آخر، و لا دليل على حجيّة رأيه السابق بعد كشف الخطأ في مستنده، و إن لم ينكشف خطأ نفسه، و إن شئت فقل إنّ حجيّة الرأي بالإضافة إلى العامي ليست بأولى من حجيته بالإضافة إلى نفس المجتهد، و من المعلوم سقوطه عن الحجية بالإضافة إليه.

التخيير بين المجتهدين

(2) مرّ الكلام في ذلك في ذيل (مسألة 13) و قد تقدم هناك أنه يتخيّر مع عدم العلم بالمخالفة، و إلا فيجب العمل بأحوط القولين فراجع. «3»

(3) هذا مع عدم العلم بالمخالفة، و إلا فيجب العمل بأحوط القولين، لما ذكرناه مرارا من سقوط إطلاق أدلة الحجية عند المعارضة، فلا بد من الاحتياط، لعدم ثبوت دليل على التخيير. و هذا من دون فرق بين أن يكون التقليد هو العمل أو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين، إذ لا ربط لحقيقة‌

______________________________
[1] و في تعليقته (دام ظله) على قول المصنّف «قده» «بعد ذلك المجتهد» (على تفصيل تقدّم) يعني في بحث تقليد الأعلم.

[2] جاء في تعليقته (دام ظله) على قوله «قده» «كان للمقلّد تقليد أيهما شاء» (مرّ حكم هذه المسألة).

______________________________
(3) راجع ص 117.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 212‌

و إذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك فالأولى بل الأحوط اختياره (1).

[ (مسألة 34) إذا قلد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم]

(مسألة 34) إذا قلد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم

______________________________
التقليد بحجية الفتوى في حق العامي، و جعل الحجية بمقتضى الإطلاقات الأولية لكلا المتعارضين أمر غير معقول و إن كان التقليد هو الالتزام، لأن مفادها حجية كل منهما تعيينا، نعم لو ثبتت الحجيّة التخييريّة بدليل لفظي أو إجماع أو غير ذلك كانت فعلية الحجية لإحدى الفتويين منوطة باختيار المقلد و الالتزام بالعمل بها، و أين هذا من الإطلاقات الأولية التي مفادها الحجية التعيينية.

و من الغريب ما قيل في المقام من أنّه بناء على كون التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين لا مانع من التبعيض لإطلاق أدلة الحجية، بدعوى أنّ اختلاف المجتهدين في الفتوى لا يوجب سقوط أدلة الحجية على هذا المبنى. و قد حقّقنا الكلام في ذلك فيما سبق فراجع. «1»

(1) سبق «2» أنّه لا دليل على لزوم التقديم بالأعدلية و الأورعية، و نحو ذلك، ففي صورة عدم العلم بالمخالفة يتخير بينهما، و في صورة العلم بها لا بد من الأخذ بأحوط القولين و لو كان الآخر أورع و أعدل.

______________________________
(1) راجع ص 47- 50.

(2) في ذيل مسألة 13.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 213‌

ثمّ وجد أعلم من ذلك المجتهد فالأحوط العدول [1] (1) إلى ذلك الأعلم و إن قال الأول بعدم جوازه.

______________________________
(1)
تجدد الأعلم قد يفرض الكلم فيما لا علم بمخالفة الأعلم غيره في الفتوى أو فيما علم توافقهما و قد تقدم أنّ في هذا الفرض لا يجب تقليد الأعلم ابتداء فضلا عن الاستدامة.

و قد يفرض الكلام مع العلم بالمخالفة، و توضيح الحال فيه يقتضي البحث عن وظيفة كل من المقلّد و المجتهد، أما المقلّد فلا إشكال في استقلال عقله بلزوم الرجوع إلى الأعلم في وجوب العدول و عدمه في كلا الفرضين و ذلك للشك في حجيّة فتوى الأول عند تجدد الأعلم فيدور الأمر عنده بين التعيين و التخيير و الأصل فيه التعيين كما مر مرارا.

نعم لو احتمل تعيين البقاء على تقليد الأول بحيث احتمل الفرق بين تقليد الأعلم ابتداء و العدول اليه من غير الأعلم و دار الأمر عنده في الصورة الثانية بين تعيينين كانت وظيفته الاستناد إلى كلا المجتهدين مع الموافقة و العمل بأحوط القولين مع المخالفة لاستقلال العقل بأن في الاحتياط أمنا من العقاب على كل تقدير.

و أما وظيفة المجتهد عند رجوع العامي إليه في هذه المسألة فهي الإفتاء بوجوب العدول إلى الأعلم مع العلم بالمخالفة، و ذلك لما سبق من أن إطلاق أدلة الحجيّة تسقط حينئذ بالمعارضة و المرجع بناء العقلاء و هو على الرجوع إلى‌

______________________________
[1] جاء في تعليقته دام ظله على قول المصنف «قده» «فالأحوط العدول» (بل هو الأظهر مع العلم بالمخالفة على ما مرّ).

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 214‌

[ (مسألة 35) إذا قلّد شخصا بتخيل أنه زيد فبان عمرا]

(مسألة 35) إذا قلّد شخصا (1) بتخيل أنه زيد فبان عمرا،

______________________________
الأعلم في هذا الفرض من دون فرق بين الابتداء و الاستدامة و لو شك في بناءهم على ذلك- و لا نشك فيه- لكفاه أصالة التعيين في الحجية في الإفتاء بلزوم العدول، و لو نوقش في انطباقها على المقام لاحتمال حرمة العدول من الحي إلى الحي و لو كان الثاني اعلم لوجود القول بذلك لزمه الإفتاء بوجوب العمل بأحوط القولين، إلا أنهما مجرد فرض لا نقول بهما.

ثمّ إنه إذا أفتى الأعلم بحرمة العدول وجب على العامي البقاء على تقليد غير الأعلم بمقتضى فتوى الأعلم و لا بدّ من مراعاتها سعة و ضيقا فقد يعتبر الأعلم في حرمة العدول العمل بالفتوى و قد يعتبر فيها التعلم و قد يكتفي بمجرد الالتزام فالعبرة بفتواه سعة و ضيقا لا بفتوى غير الأعلم و لو أفتى الأعلم بحرمة العدول و افتى غير الأعلم بوجوبه تعين العمل بفتوى غير الأعلم في سائر المسائل التي قلّده فيها و ذلك لحجية فتاواه في تلك المسائل بفتوى الأعلم و أما فتوى غير الأعلم بعدم حجية فتواه في سائر المسائل فهي لا يعقل ان تكون حجة بفتوى الأعلم بحرمة العدول، و ذلك لعين ما ذكرناه من عدم إمكان إثبات حجية فتوى الميت بحرمة البقاء بفتوى الحي بوجوب البقاء أو جوازه.

الخطاء في التطبيق

(1) ربما يشكل في الفرض بناء على أن التقليد هو العمل و قد كان المجتهدان متفقين في الفتوى، و لعل وجه الإشكال أنّ العمل حينئذ يكون مطابقا لفتوى كليهما، و لا أثر للتقييد في حقيقة التقليد على هذا المبنى فتقليد عمر بعينه يكون تقليدا لزيد، و يندفع بأنّ التقليد على هذا المبنى ليس مجرد العمل بل العمل عن استناد الى فتوى المجتهد، و الاستناد فعل اختياري قائم بالنفس، فإن كان للتقييد أثر في المقام فلا فرق فيه بين أن يكون التقليد هو‌

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 215‌

فان كانا متساويين في الفضيلة و لم يكن على وجه التقليد صح، و إلا فمشكل (1). [1]

______________________________
العمل أو الالتزام و بين أن يتفقا في الفتوى أو يختلفا فيها و إن لم يكن له أثر- كما هو الصحيح على ما نذكر- فكذلك على جميع التقادير.

(1) توضيح الحال: أنّ قصد الخلاف قد يكون مخلا بتحقق عنوان المأمور به لتقومه بالقصد فتخلفه و إن كان بنحو الداعي يترتب عليه البطلان و ذلك لعدم تحقق المأمور به في الخارج، و هذا كما في الأداء و القضاء، و الفريضة، و الناقلة، فلو صلى الظهر أداء بتخيل دخول الوقت- بحيث لو كان عالما بعدمه كان يصليها أيضا قضاء- ثم انكشف له الخلاف و أنها وقعت قبل الوقت بطلت صلاته، فهي كما لا تصح أداء لا تصح قضاء، لأن المميز لكل من العنوانين و الموجب لكون الصلاة مصداقا له هو القصد، و المفروض عدم تحققه، و هكذا لو أتى بركعتين بقصد فريضة بتخيل أنه قد صلى النافلة- بحيث لو كان ملتفتا الى عدم الإتيان بالنافلة كان يجعل الركعتين نافلة- لم تحسب هاتين نافلة إذا انكشف له الخلاف بعد ذلك.

و قد لا يكون قصد الخلاف مخلا بتحقق المأمور به لعدم دخل القيود الملحوظة في عنوانه، فظهور الخلاف عند قصدها لا يكون مضرا، و ان كان بنحو التقييد، فلو صلى صلاة الظهر في يوم بقيد انه يوم الجمعة- بحيث لو لم يكن يوم الجمعة لم يكن يصلى- لا يكون انكشاف الخلاف موجبا لبطلان الصلاة، إذ لا يعتبر في صحة المأمور به سوي تحقق ذاته مستندة اليه تعالى، و المفروض تحقق ذلك، و ظهور الخلاف إنّما كان في أمر خارج عنه.

و مقامنا من قبيل الثاني لأن قصده بأن المجتهد هو زيد مثلا و لو كان‌

______________________________
[1] جاء في تعليقته دام ظله على قول المصنّف (قده) «و إلا فمشكل» (لا إشكال فيه إذ لا أثر للتقييد في أمثال المقام).

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 216‌

[ (مسألة 36) فتوى المجتهد تعلم بأحد أمور]

(مسألة 36) فتوى المجتهد تعلم بأحد أمور: (الأول) أن يسمع منه شفاها (الثاني) أن يخبر بها عدلان (الثالث) إخبار عدل واحد بل يكفي إخبار شخص موثق يوجب قوله الاطمئنان (1) و إن لم يكن عادلا.

______________________________
على وجه التقييد لا دخل له فيما هو مأمور به، و محقق لعنوان التقليد من الاستناد الى فتوى المجتهد في مقام العمل، فظهور الخلاف فيما قصده إنّما يكون في أمر خارج عن محقق التقليد و الاستناد، فإذا كان فتوى عمر و في المثال حجة في حقه، كما في صورة التساوي بينه و بين زيد في الفضيلة مع عدم العلم بالخلاف، أو فرض أعلميته من زيد و لو مع العلم بالخلاف كان تقليده صحيحا سواء قصد أنه زيد بنحو الداعي أو التقييد، فلا وجه لما يقال في صورة التقييد من أن ما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع، أو أن المقيد ينتفي بانتفاء قيده، و ذلك لعدم دخل خصوصيات الأشخاص في حقيقة التقليد، كي تكون انتفائها موجبا لانتفاء التقليد.

و أما إذا كان تقليده عمرا بتخيل أنّه زيد مع العلم بأعلمية زيد و العلم بالخلاف، أو مطلقا على القول بوجوب تقليد الأعلم و ان لم يعلم الخلاف فلا يكون تقليده صحيحا، و ان كان بنحو الداعي، لعدم حجية قول عمرو في هذا الحال، و يكون كمن لم يقلد، فالصحيح هو التفصيل على هذا النحو لا كما في المتن.

طرق العلم بفتوى المجتهد

(1) بل و ان لم يفد الاطمئنان الشخصي لحجية خبر الثقة في الأحكام مطلقا، كما حرّر في محله سواء قلنا بحجية خبر العدل الواحد و البينة في الموضوعات أم لا، لأن الإخبار عن الفتوى داخل في عنوان الإخبار عن الحكم، إذ لا فرق فيه بين أن يكون إخبارا عن الحكم الواقعي، كما هو شأن‌

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 217‌

(الرابع) الوجدان في رسالته و لا بد أن تكون مأمونة من الغلط (1).

[ (مسألة 37) إذا قلد من ليس له أهلية الفتوى ثمّ التفت وجب عليه العدول]

(مسألة 37) إذا قلد من ليس له أهلية الفتوى ثمّ التفت وجب عليه العدول، و حال الأعمال السابقة حال عمل الجاهل غير المقلّد (2) و كذا إذا قلد غير الأعلم وجب على الأحوط (3) [1] العدول

______________________________
الروايات عن المعصومين- عليهم السّلام-، أو عن الحكم الظاهري المستنبط من الأدلة فيشمله أدلة حجية خبر الواحد من السيرة و غيرها.

(1) و لو بإخبار ثقة عن صحتها، أو من جهة الوثوق بالكاتب، و أما احتمال صدور الخطأ منه غفلة فهو مدفوع ببناء العقلاء على أصالة عدم الغفلة.

تقليد غير الأهل

(2) هذا إذا لم يكن تقليده له على طبق الموازين الشرعية، و إلا فيدخل في كبرى مسألة البحث عن اجزاء الحكم الظاهري إذا انكشف خلافه بالقطع أو بأمارة معتبرة، كما ذكرنا في ذيل (مسألة 25) إلا أن الصحيح عدم ترتب الآثار على تقليده السابق على كل تقدير، و إنّما الفرق بين الصورتين هو أنه على الثانية كان تقليده تقليدا صحيحا ظاهرا بخلاف الأولى.

تقليد غير الأعلم

(3) إذا قلد غير الأعلم مع العلم بمخالفة فتواه لفتوى الأعلم كان‌

______________________________
[1] في تعليقته دام ظله على قول المصنّف «قده» «وجب على الأحوط» (بل على الأظهر فيه و فيما بعده مع العلم بالمخالفة على ما مرّ).

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 218‌

إلى الأعلم، و إذا قلّد غير الأعلم ثم صار بعد ذلك غيره أعلم وجب العدول إلى الثاني على الأحوط.

[ (مسألة 38) إذا كان الأعلم منحصرا في شخصين و لم يمكن التعيين]

(مسألة 38) إذا كان الأعلم منحصرا في شخصين (1) [1] و لم يمكن التعيين فإن أمكن الاحتياط بين القولين فهو الأحوط، و إلا كان مخيرا بينهما.

______________________________
تقليده باطلا من الأول، و وجب عليه العدول إلى الأعلم بل هو من التقليد الابتدائي لا العدول، لبطلان التقليد الأول ظاهرا و واقعا، و إذا قلده مع انتفاء أحد القيدين كان تقليده صحيحا، إلا أنّه يلزمه العدول إلى الأعلم عند علمه بمخالفة فتوى من قلده لفتواه. كما أنّ وجوب العدول في ما إذا صار غير من قلده أعلم بعد ذلك مختص بحصول القيدين العلم بأعلميته و العلم بمخالفة فتواه لفتوى من قلده.

و لا يخفى: أنّ العدول إلى الأعلم فيما يجب إنّما هو الأظهر بحسب الأدلة كما سبق في ذيل (مسألة 34) و إلا فمراعاة الاحتياط تقتضي العمل بأحوط القولين، للقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم، فلا وجه لما في المتن من جعل الأحوط العدول إلى الأعلم كما سبق ذلك أيضا في ذيل تلك المسألة، فراجع.

إذا انحصر الأعلم بين شخصين

(1) سبق «2» ان الواجب انما هو تقليد الأعلم في صورة العلم‌

______________________________
[1] في تعليقته دام ظلّه على قوله (قده) «منحصرا في شخصين» (فان لم يعلم بالمخالفة بينهما تخيّر ابتداء، و إلا فإن أمكن الاحتياط أخذ بأحوط القولين و إلا قلد مظنون الأعلمية، و مع عدم الظن تخيّر بينهما إن احتمل الأعلمية في كل منهما، و إلا قلد من يحتمل الأعلمية).

______________________________
(2) في ذيل مسألة 12- ص 110- 114.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 219‌

[ (مسألة 39) إذا شك في موت المجتهد، أو تبدل رأيه]

(مسألة 39) إذا شك في موت المجتهد، أو تبدل رأيه، أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده يجوز له البقاء (1) إلى أن يتبين الحال.

______________________________
بالمخالفة، و إلا فلا دليل على وجوبه، فمع عدمه يتخير بينهما ابتداء، لإطلاق ما دل على حجية الفتوى الشامل لفتوى غير الأعلم، فإن علم بالمخالفة فإن أمكن الاحتياط- كما إذا أفتى أحدهما بوجوب شي‌ء و الآخر بعدمه- لزمه الأخذ بأحوط القولين لأنه مبرء للذمة على كل تقدير سواء في ذلك العلم بأعلمية أحدهما إجمالا مع عدم التمكن من تعيينه و احتمال تساويهما، و لا وجه للحكم بالتخيير في شي‌ء من ذلك.

(و دعوى): اتفاق الأصحاب على التخيير من دون فرق بين صورة التساوي أو العلم بأعلمية أحدهما إجمالا أو دعوى السيرة العملية على ذلك.

(غير مسموعة) إذ الإجماع التعبدي خصوصا في صورة العلم بالمخالفة و بالأعلمية ممنوع كما سبق مرارا، و هكذا السيرة إذ المورد من الموارد النادرة التي لا يمكن تحصيل السيرة فيها، إذ الغالب هو التمكن من تعيين الأعلم و لو بالأمارات الشرعية، كما عليه عمل الناس في عصرنا و ما سبقه من الأعصار.

و بالجملة: مقتضى القاعدة هو الاحتياط، و لم يثبت دليل على خلافه، و لا عبرة بالظن بالأعلمية في هذه الصورة فضلا عن احتمالها.

و إن لم يمكن الاحتياط- كما إذا أفتى أحدهما بوجوب شي‌ء و الآخر بحرمته- قلّد مظنون الأعلمية، لأنه من دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية، و لم يثبت إجماع على التخيير، و مع عدم الظن يتخير بينهما إن احتمل الأعلمية في كل منهما، لعدم الترجيح، و إلا قلّد من يحتمل أعلميته للوجه المتقدم آنفا. و مما ذكرنا ظهر مواقع النظر في كلام المصنّف (قده).

(1) كل ذلك للاستصحاب، و عدم وجوب الفحص في الشبهات‌

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 220‌

[ (مسألة 40) إذا علم أنه كان في عباداته بلا تقليد مدة من الزمان]

(مسألة 40) إذا علم أنه كان في عباداته بلا تقليد مدة من الزمان و لم يعلم مقداره، فإن علم بكيفيّتها و موافقتها للواقع، أو لفتوى المجتهد الذي يكون مكلفا بالرجوع إليه فهو، و إلا فيقضي (1) [1] المقدار الذي يعلم.

______________________________
الموضوعية.

موارد وجوب القضاء على من لم يقلّد مدّة من الزمن

(1) ينبغي التكلّم في مقامين.

(الأول) في أصل وجوب القضاء عليه.

(الثاني) في المقدار الواجب منه.

أصل وجوب القضاء أما المقام الأول: فالبحث فيه من جهتين.

(الأولى) في وظيفة العامي. و هي وجوب الرجوع إلى من يجب تقليده فعلا، فإنّه شبهة حكمية لا بدّ فيها من الرجوع إلى المجتهد لتعيين الوظيفة، و لا عبرة بمطابقة أعماله لفتاوى من كان يجب تقليده حال العمل كما سبق. «2»

(الثانية) في البحث عن إفتاء المجتهد له بموارد وجوب القضاء و عدمه. فنقول: للمسألة صور ثلاث. لأنه إما أن يجهل كيفية أعماله‌

______________________________
[1] جاء في تعليقه دام ظله على قول المصنّف «قده» «و إلا فمقتضى» (وجوب القضاء ينحصر بموارد العلم بمخالفة المأتي به للواقع و كون تلك المخالفة موجبة للقضاء بنظر من يجب الرجوع إليه فعلا).

______________________________
(2) في مسألة 16.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 221‌

..........

______________________________
السابقة، أو يعلم بها، و على الثاني إما أن تكون موافقة للواقع أو لفتوى من يجب الرجوع إليه فعلا، أو تكون مخالفة له.

الجهل بالكيفية من جهة النسيان أما الصورة الأولى: و هي أن يجهل بالكيفية من جهة نسيانه صورة أعماله السابقة، إلا أنّه يحتمل مطابقتها لفتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه فعلا فلا يجب فيها القضاء، لأصالة البراءة، لأن وجوبه بأمر جديد، و موضوعه فوت الفريضة في الوقت، و استصحاب عدم إتيانه في الوقت لا يثبت عنوان الفوت، لأنه أمر وجودي ملازم لعدم الإتيان، إذ الفوت عبارة عن ذهاب الفعل عنه لا مجرد عدم الإتيان به.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ وجوب القضاء بالأمر الأول، و أنّ وجوب الأداء في الوقت بنحو تعدد المطلوب فيكفي في وجوب القضاء استصحاب التكليف، أو قلنا بأن استصحاب عدم إتيان الواجب في الوقت محرز لموضوع وجوب القضاء، أو فرضنا الكلام في إعادة الصلاة في الوقت أو في غير العبادات الموقتة كالحج فهل يمكن تصحيح أعماله السابقة- التي أتى بها بلا تقليد- بقاعدة الفراغ أولا؟

فنقول:

السهو و قاعدة الفراغ إن كان منشأ الشك في صحة العبادة احتمال ترك جزء أو شرط سهوا بأن كان العامي مراعيا للاحتياط فيها، و ملتفتا حين الشروع إلى جميع الأجزاء و الشرائط المحتملة بحيث كان بانيا على الإتيان بالعبادة كما يأتي بها المتشرعة فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الصلاة و غيرها من‌

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 222‌

..........

______________________________
العباديات، إذ هي قاعدة كلية بني عليها العقلاء في أعمالهم و أمضاها الشارع و القدر المتيقن منها هو البناء على عدم الاعتناء باحتمال الترك سهوا مع فرض الالتفات إلى أجزاء العمل و شرائطه حين الشروع أو حتماله.

الغفلة و قاعدة الفراغ و إن كان منشأ الشك الغفلة عن الجزء أو الشرط حين الشروع جهلا بوجوبهما بحيث لو فرض مطابقة المأتي به للمأمور به كان ذلك أمرا اتفاقيا حصل بغير اختيار المكلّف و إرادته كما هو مفروض المقام، فلا مجرى لقاعدة الفراغ، خلاف لشيخنا المحقق النائيني (قده) حيث ذهب إلى شمول أدلتها لصورة الغفلة، لإطلاق دليلها [1] و عدم اختصاصها بما احتمل أو إحراز الالتفات إلى العمل حين صدوره.

و لكن. الأقوى عدم جريانها في هذا الفرض، لظهور أدلتها في كونها إمضاء للقاعدة العقلائية كما يرشد إليه قوله- عليه السّلام- في رواية بكير بن أعين «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» [2] إذ في التعليل بالأذكرية‌

______________________________
[1] كقوله- عليه السّلام- في موثقة محمّد بن مسلم عن أبى جعفر- عليه السّلام- «كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو»- الوسائل ج 5 ص 336 في الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 3.

و فيما رواه عن الصادق- عليه السّلام- «كلما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فأمضه و لا إعادة عليك فيه»- الوسائل ج 1 ص 331 في الباب 42 من أبواب الوضوء ح 6.

فإنّهما لم يقيدا بالالتفات حين الاشتغال بالعمل إلى الأمور المعتبرة فيه.

[2] عن الشيخ بإسناده إلى بكير بن أعين قال: قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟

قال: هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك (الوسائل ج 1 ص 331 ب 42 من أبواب الوضوء ح 7) حسنة.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 223‌

..........

______________________________
إشارة إلى أنّها ليست تأسيسا لقاعدة تعبدية، بل هي إمضاء لما جرت عليه العقلاء في أعمالهم [1]، و عليه لا يمكن الأخذ بالإطلاق بل اللازم الاقتصار على موارد بناء العقلاء على عدم الالتفات.

هذا مضافا إلى أنّ ظاهر قوله- عليه السّلام- «هو حين يتوضأ.»‌

أنّ الأذكريّة علة لعدم وجوب الاعتناء بالشك بعد الفراغ، فيدور مدارها وجودا و عدما، لا أنّها حكمة له كما صنعة (قده) فلا مجال للأخذ بالإطلاق مع خصوص التعليل الموجب للتقييد.

و أما رواية حسين بن أبي العلاء [2] فقاصرة عن الدلالة على عدم وجوب الاعتناء بالشك مع فرض الغفلة من حين الشروع كما حققنا ذلك في‌

______________________________
[1] و نحوها رواية محمّد بن مسلم عن أبى عبد اللّه- عليه السّلام- إنه قال: إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أ ثلاثا صلى أم أربعا، و كان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم لم يعد الصلاة، و كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك»- الوسائل ج 5 ص 343 ح 3 في الباب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

[2] عن الكافي بإسناده عن الحسين بن أبى العلاء قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال: حوله من مكانه، و قال في الوضوء: تديره، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة (الوسائل ب 41 من أبواب الوضوء ح 2).

و قد يتوهم دلالتها على أنّ الشك في صحة الغسل أو الوضوء لا يوجب إعادة الصلاة، و إن كان منشأ الشك الغفلة عن تحريك الخاتم.

(و لكن) دقة النظر فيها تقضى بأنّها ليست في مقام بيان عدم وجوب الاعتناء بالشك في وصول الماء إلى البشرة، بل هي ناظرة إلى بيان استحباب تحويل الخاتم في الغسل و إدارته في الوضوء و أنّهما ليسا من الواجبات في الغسل و الوضوء بحيث لو أخل بهما وجب إعادة الصلاة كما لعلّه يوهمه صدر الرواية فقوله- عليه السّلام- «فإن نسيت.» في مقام دفع هذا التوهم و إلّا لم يكن وجه لأخذ خصوص التحويل في الغسل و إدارته في الوضوء، إذ لا فرق بين الغسل و الوضوء في كيفية إيصال الماء إلى ما تحت الخاتم بأي وجه أمكن.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 224‌

..........

______________________________
بحث قاعدة الفراغ من مباحثنا الأصولية
«1»، على أنّها ضعيفة السند. [1]

و بالجملة: لا تجري القاعدة في فرض الغفلة الذي هو مفروض المقام، فلا بد من القضاء أو الإعادة نعم يمكن تصحيح خصوص الصلاة في بعض الصور ب‍ (حديث لا تعاد) كما يأتي في الصورة الثالثة.

العلم بالموافقة و أما الصورة الثانية: و هي أن يعلم بموافقة أعماله للواقع أو لفتوى من يجب الرجوع إليه- فلا يجب فيها القضاء كما في المتن، و الوجه فيه ظاهر.

العلم بالمخالفة و أما الصورة الثالثة: و هي أن يعلم مخالفتها لفتوى من يجب الرجوع إليه ففيها يجب القضاء إلا في موارد يحرز فيها صحة العبادة المأتي بها في الوقت، و ذلك كما في غير ما يجب فيه إعادة الصلاة مما كان المتروك فيها من الخمسة المستثناة في (حديث لا تعاد) و غيرها من الموارد المنصوصة تمسكا بالحديث المزبور، و بذلك يحكم بصحة صلاته في الوقت و معه لا فوت حتى يجب القضاء.

و أما مع عدم إحراز الصحة لكون المتروك مما يخلّ تركه بصحة العمل فيحكم بوجوب القضاء خارج الوقت، لإحراز موضوعه و هو الفوت.

______________________________
[1] بحسين بن أبى العلاء لعدم ثبوت وثاقته و كونه أوجه إخوته لا يدلّ على توثيقه و إن كان أخوه عبد الحميد ثقة، نعم إنه من رجال كامل الزيارات و قد وثقهم السيّد الأستاذ (دام ظله) أخيرا، فراجع (معجم رجال الحديث ج 5 ص 184).

______________________________
(1) راجع مباني الاستنباط ج 4 ص 357- 363 من تقريرات بحث سيدنا الأستاذ دام ظله.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 225‌

..........

______________________________
مثاله: ما إذا اكتفى العامي بضربة واحدة في التيمم و كان المجتهد الذي يجب الرجوع إليه يعتبر التعدد في صحته ففيه يجب القضاء، لبطلان عمله في الوقت بفتوى المجتهد المزبور على الفرض، و عدم جريان حديث لا تعاد.

و ما ذكرناه مبني على شمول (حديث لا تعاد) للجاهل القاصر و المقصّر غير الملتفت و عدم اختصاصه بالناسي، خلافا لشيخنا المحقق النائيني [1] حيث ذهب إلى اختصاصه بصورة السهو و النسيان.

______________________________
[1] ذكر دام ظله: إنّ حاصل ما أفاده المحقق المزبور (قده) في وجه المنع عن شمول «حديث لا تعاد» لصورة الجهل هو أنّ الظاهر من قوله- عليه السّلام- «لا تعاد» توجه الخطاب إلى من يكون تكليفه إلا عادة بمقتضى طبعه، بحيث لو لا الحديث المزبور لكان مخاطبا بخطاب «أعد» و ذلك هو الساهي، لأنه حين يسهو و يترك الجزء أو الشرط سهوا لم يكن مكلفا بإتيانه واقعا، لعدم إمكان توجيه الخطاب الى الغافل، فليس له أمر بذلك الشي‌ء واقعا حتى يكون هو الداعي إلى الإتيان بالعمل التام، فينحصر خطابه بالتمام في الأمر بالإعادة بعد الالتفات إلى الترك، و فوات محل المتروك، فيكون «حديث لا تعاد» نافيا لذلك الخطاب، و أنّه بعد الالتفات لا يجب عليه الإعادة. و أما (الجاهل) فلا مانع من توجيه الخطاب إليه و أمره واقعا بالإتيان بالجزء أو الشرط في محلّه، لأن الجهل لا يمنع عن ذلك فهو في حال الجهل مخاطب بالواقع بالأمر بإتيان التمام و بتطبيق العمل عليه.

(و لكن) الصحيح عدم قصور الحديث المزبور عن شمول الجاهل على هذا التقريب. لأن الجاهل و إن كان مخاطبا بمراعاة ذلك الجزء في محلة، إلّا أنه بعد تركه جهلا و فوات محله ينحصر تصحيح العمل بالإعادة فيكون مخاطبا بخطاب «أعد» كالناسي. و الساهي من دون فرق أصلا.

و على هذا يكون الحديث شاملا بإطلاقه للناسي و الجاهل كليهما، و مقتضاه عدم وجوب الإعادة على من ترك جزء أو شرطا من صلاته غير الأمور الخمسة جهلا أو سهوا، و التفت إلى ذلك بعد الفراغ من الصلاة أو بعد فوات محل المتروك، كما إذا استلزم التدارك زيادة الركن، (نعم) لا يشمل الحديث للتارك عمدا، لأن ظاهره عدم وجوب الإعادة في صورة دخول المصلى في الصلاة بانيا على الإتيان بالصلاة الصحيحة، و يكون المأتي به تاما بزعمه، فينكشف عدم التمامية، و ليس ناظرا إلى من يكون بانيا على عدم الإتمام و ترك بعض الأجزاء و الشرائط، فعدم شموله له إنّما هو لظهوره في الاختصاص بغيره، لا من جهة عدم إمكان ذلك عقلا، فإنّ من الممكن أن يأمر المولى بمركب ثمّ يحكم بعدم وجوب إعادته على من أتى به ناقصا عمدا، فيكون عليه

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 226‌

..........

______________________________
دوران الفائت بين الأقل و الأكثر و أما المقام الثاني: و هو في مقدار الواجب عليه من قضاء الصلوات الماضية.

فنقول: إنّ الشبهة في المقام بما أنّها دائرة بين الأقل و الأكثر الاستقلاليين فمقتضى القاعدة فيها البراءة عن وجوب الزائد على القدر المتيقن، فلا يجب عليه إلا الإتيان بالأقل، كما هو الأقوى، و اختاره المصنف (قده) و إن احتاط بالأكثر.

(و لكن) أفتى جماعة- بل ربما نسب إلى المشهور- بوجوب قضاء الفوائت بمقدار يعلم معه بالبراءة إن لم يكن حرجيا، و إلا فبمقدار يحصل معه الظن بها.

(و يمكن) أن يكون الوجه في ذلك أحد أمرين.

(الأول) استصحاب عدم الإتيان بالفرائض المشكوك فواتها في الوقت و هو حاكم على أصالة البراءة.

(و فيه) ما عرفت «1» من أنّه لا يثبت به موضوع وجوب القضاء.

(الثاني) ما أفاده المحقق صاحب الحاشية (قده) و حاصله: أنّ الشك في المقام قد تعلق بالتكليف المنجز على تقدير ثبوته، كما في مورد الشبهة‌

______________________________
العقاب فقط، كما في بعض واجبات الحج.

و مما ذكرناه في العامد يظهر وجه عدم شموله للملحق به من الجاهل و هو المقصر الملتفت، فإنّه ليس زاعما صحة الصلاة، فلو ترك بعض الواجبات لتردده في اعتباره ثمّ ظهر الاعتبار لا يمكن تصحيح الصلاة فيكون الحديث مختصا بالناسي، و الساهي و الجاهل القاصر، أو المقصر غير الملتفت، و الجامع هو من يعتقد صحة عمله.

______________________________
(1) سبق في ص 221.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 227‌

معه بالبراءة على الأحوط، و إن كان لا يبعد جواز الاكتفاء بالقدر المتيقن.

[ (مسألة 41) إذا علم أن أعماله السابقة كانت مع التقليد]

(مسألة 41) إذا علم أن أعماله السابقة كانت مع التقليد

______________________________
قبل الفحص و مورد العلم الإجمالي بين المتباينين، إذ المكلّف عند تركه للصلاة، أو إتيانها بغير الوجه الصحيح يحصل له العلم بالفوات فيتنجّز عليه التكليف بالقضاء، فإذا شك بعد ذلك في المقدار يكون شكه في ثبوت التكليف المنجّز، و هو مورد للاشتغال لا البراءة.

(و فيه) أولا: أنّ بقاء التكليف على التنجّز مشروط ببقاء موضوعه و هو العلم فإذا زال يزول التنجّز لا محالة، كما في الشك الساري. و المفروض في المقام زوال العلم و الشك في المقدار، فتجري البراءة عن المشكوك.

و ثانيا: أنّ هذا الوجه لو تم في نفسه فلا ينطبق على المقام، لأن العلم بالمخالفة في مفروض كلامنا لم يتعلق من الأول إلا بالأقل، لأن العلم بوجوب القضاء إنّما حصل بعد العلم بالمخالفة لفتوى المجتهد، فليس التكليف المحتمل مسبوقا بالعلم، كي يجري فيه التوهم المزبور.

ثمّ إنّه على كلا التقديرين من الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في محل الكلام لا موجب للعمل بالظن. و ذلك من جهة أنّه بعد ما لم تثبت حجيّته لا ينجز الواقع مع فرض جريان البراءة كما أنّه لا يعذر عن مخالفته مع فرض جريان قاعدة الاشتغال. و لو بنينا على لزوم تحصيل الفراغ اليقيني و عدم جواز الرجوع إلى البراءة- و لكنه استلزم الحرج الشخصي- لزم الاكتفاء في مقدار القضاء بما لا يكون حرجيّا، فلا عبرة بالظن على هذا التقدير أيضا. فما نسب إلى المشهور من جواز الاكتفاء بالظن فيما إذا استلزم الاحتياط الحرج لا نعرف له وجها صحيحا.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 228‌

لكن لا يعلم أنها كانت عن تقليد صحيح أم لا بنى على الصحة (1).

______________________________
الشك في صحة التقليد

(1) لعلّ الوجه في ذلك تمسكه بأصالة الصحة، فإنّ التقليد عمل من أعمال المكلّف، فإذا شك في إيقاعه على وجه صحيح جرت فيه قاعدة الفراغ، لعموم دليلها و عدم اختصاصه بعمل دون عمل، و يترتب على صحته صحة الأعمال السابقة، لتمحص الشك في مفروض الكلام في صحته، و إلا فلا شك في صحة الأعمال على تقدير صحة التقليد.

و لكن التحقيق هو التفصيل في المقام.

فنقول: قد يفرض الكلام فيما لا أثر لصحة الأعمال السابقة و فسادها بالنسبة إلى الإعادة و القضاء، ففي ذلك لا أثر للشك بالنسبة إلى نفس الأعمال، و أما بالنسبة إلى التقليد نفسه فسيظهر أنّ الحكم بصحته لا يترتب عليه أثر من جهة حرمة العدول أو جواز البقاء أو وجوبه. و قد يفرض الكلام فيما له أثر، و عليه فالشك في صحة التقليد فيها لا يخلو عن أحد وجوه ثلاثة.

(الأول): أن يقلد مجتهدا جامعا لشرائط الحجيّة ثمّ يشك في أن الاستناد إلى فتواه في ظرفه هل كان بميزان شرعي أولا؟ ففي هذا الفرض لا أثر للأصل بالنسبة إلى الأعمال الماضية، لأن العبرة بصحتها مطابقتها لحجة معتبرة سواء أ كانت عن استناد إليها أم لا، فلا حاجة في تصحيح الأعمال الماضية الى الأصل، لأنها محرز الصحة وجدانا، و هذا من دون فرق بين أن نقول باجزاء الحكم الظاهري أو بعدمه، فإنه بحث آخر لا ربط له بصحة الأعمال السابقة في نفسها، و لا أثر للأصل بالنسبة إلى نفس التقليد، لأن جواز البقاء أو وجوبه أو حرمة العدول من آثار حجية الفتوى و هي محرزة بالفعل على الفرض، و معه لا حاجة إلى الأصل فيه‌

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 229‌

..........

______________________________
بلحاظ ترتب هذه الآثار لو كانت من آثار التقليد الصحيح.

(الثاني): أن يقلد من يشك فعلا في استجماعة للشرائط حين العمل و يشك في أنّ تقليده له كان بميزان شرعي أولا؟

و في هذا الفرض أيضا لا مجرى لقاعدة الفراغ لا في نفس التقليد و لا في الأعمال السابقة، لاختصاص القاعدة بما إذا كان الشك في انطباق المأمور به على المأتي به دون ما إذا شك في وجود الأمر، و قد فرض أن الشك في وجود الأمر الظاهري للشك في حجيّة الفتوى من جهة الشك في استجماع المفتي لشرائط الإفتاء، و أما الأمر الواقعي فهو و إن كان معلوما إجمالا، و الشك إنّما هو في انطباق المأمور به على المأتي به، إلا أنّه على تقديره اتفاقي لا اختياري، و هو أيضا خارج عن مورد القاعدة.

و هذا كما إذا صلّى إلى جهة معيّنة ثمّ شك في أنّها قبلة، و شك في أنّ صلاته إليها كانت بأمارة معتبرة أولا. و عليه فلا بد من الرجوع إلى من يجوز تقليده فعلا، فإن حكم بصحة ما صدر منه فهو، و إلا وجبت الإعادة، إذ لا بد من تحصيل الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة بالواجب، و أما القضاء فلا يجب عليه ما لم ينكشف مخالفة ما أتى به لفتوى من يجب الرجوع إليه على تقصيل قد مر، و ذلك لأنه بأمر جديد.

(الثالث): أن يقلد ثمّ يشك في أنه هل قد المستجمع أو غيره و هذا يكون على نحوين.

(الأول): أن يقلد شخصا بعينه، و يطبق أعماله على فتاواه، ثم يتردد بين أنّه زيد أو عمر، و كان الثاني جامعا للشرائط دون الأول، ففي هذا الفرض لا مجرى أيضا لأصالة الصحة لا في نفس التقليد و لا في الأعمال، لأن الحكم الظاهري كالواقعي و إن كان معلوما حينئذ إلا أنّ الانطباق على تقديره اتفاقي،

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 230‌

[ (مسألة 42) إذا قلّد مجتهدا ثمّ شك في أنه جامع للشرائط أم لا وجب عليه الفحص]

(مسألة 42) إذا قلّد مجتهدا ثمّ شك (1) في أنه جامع للشرائط أم لا وجب عليه الفحص.

______________________________
و هذا كما إذا صلى إلى جهة معينة ثمّ شك بعد ذلك في أنها كانت قبلة أو لم تكن.

(الثاني): أن يتردد في أنّه هل قلد زيدا أو عمرا بحيث لا يعلم أنّه طبق أعماله على فتوى أيّهما، ففي هذا الفرض تجري قاعدة الفراغ في التقليد و في نفس الأعمال، لأن الشك إنّما هو في تطبيق العمل على الحكم الظاهري المفروض وجوده و في مثله تجري القاعدة بلا إشكال.

ثمّ إنّه إذا جرت أصالة الصحة بالنسبة إلى التقليد في هذا الفرض فلا يثبت بها تعين تقليد المستجمع للشرائط و حرمة العدول عنه و وجوب البقاء على تقليده أو جوازه، إذ أصالة الصحة في التقليد لا يثبت أنّ المقلّد كان هو المستجمع للشرائط كما هو ظاهر، فلا حظ و تدبّر.

الشك في جامعية المجتهد للشرائط

(1) أى على نحو الشك الساري فيجب عليه الفحص للشك في حجية فتواه بقاء و إن كان قد اعتقد بحجيّتها قبل ذلك بالوجدان أو بطريق اعتقد حجيّته ثمّ انقلب الاعتقاد شكا، فإن ظهر له بعد الفحص أهليته للفتوى جاز البقاء على تقليده، و إلا وجب العدول إلى الغير، لعدم صحة قاعدة الشك الساري. [1]

______________________________
[1] هذا في الشك الساري، نعم لو كان الشك في بقاء الشرائط في المجتهد، لا في أصل حدوثها جرى الاستصحاب- كما تقدم (في ذيل مسألة 39) و أما لو كان واجدا لها ثمّ زالت عنه كان مقتضى عمومات حجيّة الفتوى جواز البقاء على تقليده لعين ما ذكرناه في جواز البقاء على تقليد الميت- كما تقدم- (في ذيل مسألة 8 و 9) و لكن علمنا من مذاق الشارع الحكيم عدم جواز إعطاء الزعامة الدينيّة لفاقد العقل و العدالة، كما تقدم أيضا (في ذيل مسألة 24).

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 231‌

[ (مسألة 43) من ليس أهلا للفتوى يحرم عليه الإفتاء]

(مسألة 43) من ليس أهلا للفتوى (1) يحرم عليه الإفتاء.

______________________________
حرمة الإفتاء على غير الأهل

(1) المراد به من لم يبلغ درجة الاجتهاد سواء أ كان من أهل العلم أم من العوام، و حرمة الإفتاء على مثله مما لا ينبغي الريب فيه، لأنه تقوّل على اللّه بغير علم و حرمته غنية عن البيان، و قد دلت الآيات الشريفة [1] و الأخبار المتضافرة «2» على ذلك.

ثمّ إنّ الإفتاء لما كان إخبارا عن الرأي المتعلق بالحكم الشرعي. فإذا أخبر عن رأيه و لم يكن له رأي واقعا يحرم 1- من جهة الكذب و 2- من جهة إخباره بالالتزام عن الحكم الشرعي إذا لم يكن عنده حجة عليه.

و إذا أخبر عن رأيه و كان رأيه مستندا إلى ما ليس بحجة في حقه شرعا، كالقياس و الاستحسان و نحو ذلك يحرم من الجهة الثانية.

و إذا أخبر عن الحكم مستندا إلى فتوى من يكون فتواه حجة علي الجميع فلا حرمة فيه. و هو خارج عن محل الكلام.

و إذا أخبر عن الحكم العام مستندا إلى حجة في حقه خاصة، كما إذا أخبر استنادا إلى فتوى غير الأعلم، فإنّها لا تكون حجة على من يعلم بالمخالفة إجمالا- يحرم من الجهة الثانية.

و أما إذا أخبر عن رأيه، و كان له رأي عن حجة شرعيّة إلا أنه كان فاقدا لشرائط صحة الرجوع إليه- فالظاهر أنه لا محذور فيه لا من جهة الإخبار عن الرأي و لا من جهة الإخبار عن الواقع.

______________________________
[1] كقوله تعالى آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ- سورة يونس/ 59- و قوله تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ- سورة الحاقة/ 44/ 45.

______________________________
(2) ذكر صاحب الوسائل (قده) جملة من هذه الأخبار في كتاب القضاء في الباب الرابع من أبواب صفات القاضي، فراجع ج 18 ص 9.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 232‌

و كذا من ليس أهلا للقضاء يحرم (1) عليه القضاء بين الناس.

______________________________
(و قد) يستشكل في جوازه فيما إذا علم برجوع الغير اليه من جهة أنّه إغراء بالجهل.

و لكنه (يندفع) بأنّه لا إغراء بالنسبة إلى الواقع، لقيام الحجة عليه على الفرض، و كذلك بالنسبة إلى الظاهر إذا قامت الحجة عند العامي على استجماعة الشرائط، فهو نظير ما إذا أخبر فاسقان عن طهارة ماء كان نجسا سابقا، فتوضأ به الغير، لقيام الحجة عنده على عدالتهما. فإنّه لا إغراء حينئذ بوجه.

نعم: إذا كان رجوع الغير إليه من جهة جهله بالحكم مع العلم بموضوعه، كما إذا علم العامي بفسق المجتهد و مع ذلك رجع إليه جهلا منه باعتبار العدالة في جواز الرجوع إلى المجتهد- وجب على المجتهد إخباره بعدم حجية قوله من جهة وجوب تبليغ الأحكام.

حرمة القضاء على غير الأهل

(1) لدلالة جملة من الروايات على أنّ الولاية على القضاء من المناصب المختصة بالنبي- صلّى اللّه عليه و آله- و أوصيائه الكرام- عليهم السّلام-، فلا يجوز لغيرهم التصدي له.

نعم: لا بأس بالتصدي له بإذن من الأئمّة- عليهم السّلام- خصوصا أو عموما، فيخصص تلك الروايات أو يلتزم بدخول المأذون في عنوان الوصي بناء على أنّ المراد به مطلق من عهد إليه.

(منها): حسنة سليمان بن خالد [1] عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-

______________________________
[1] رواها المشايخ الثلاثة، و في طريق الشيخ و الكليني سهل بن زياد، و هو ضعيف، و ليس في طريق الصدوق، إلا أن طريقه إلى سليمان بن خالد حسنة بإبراهيم بن هاشم، و قد عبّر

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 233‌

..........

______________________________
قال: اتقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، كنبي أو وصي نبي (خ ل لنبي أو وصي نبي).
«1»

(و منها): رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

قال أمير المؤمنين لشريح، يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي. [1]

(و منها): صحيحة أبي خديجة قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-:

إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، و لكن أنظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (خ ل قضائنا) فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه. [2]

فإن قوله- عليه السّلام- «فاني قد جعلته قاضيا.» يدل على أن ثبوت منصب القضاء لأحد يحتاج إلى جعل منهم- عليهم السّلام-، و بدونه ليس له القضاء.

هذا مضافا إلى أنّ حرمة الحكومة لغير من ثبت في حقه الإذن هي مقتضى الأصل، لأنّ ثبوت الولاية على الحكم لشخص، و نفوذ حكمه في حق‌

______________________________
بعضهم كصاحب المستند عن الرواية بالصحيحة، و لعلّ الوجه فيه: أنّ جمعا من العلماء حكموا بصحة رواية قد وقع إبراهيم بن هاشم في سندها.

[1] الوسائل ج 18 ص 6 في الباب 3 من أبواب صفات القاضي ح 2.

و هي ضعيفة ب‍ «يحيى بن المبارك» الواقع في سندها.

[2] الوسائل ج 18 ص 4 في الباب 1 من أبواب صفات القاضي ح 5.

و قد تقدم بعض الكلام في تصحيح سند هذه الرواية في ص 29 و قلنا إن أبا خديجة- و هو سالم بن مكرم- ثقة، و قد أوضح الكلام سيدنا الأستاد دام ظله في توثيق الرجل بما لا مزيد عليه في (ج 8 من معجم رجال الحديث ص 24- 29) و دفع ما يتوهم من تضعيف الشيخ «قده» إيّاه في الفهرست، و معارضته بتوثيقه له أيضا، فراجع.

______________________________
(1) الوسائل ج 18 ص 7 في الباب 3 من أبواب صفات القاضي ح 3».

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 234‌

..........

______________________________
غيره يحتاج إلى الدليل، و مع فقده فالأصل عدمها، فالحكم بعنوان الأهلية تشريع محرم، لأنه من عناوين نفس الفعل خارجا، لا من أفعال النفس، كما ذكرنا في محله.

و عليه فلا بد من ملاحظة أدلة النصب، و أنّ المستفاد منها هل هو ثبوت الإذن لخصوص المجتهد، أو لمطلق المؤمنين العالمين بالقضاء و لو عن طريق التقليد.

و المشهور هو الأول، و عن المسالك و غيره دعوى الإجماع عليه، و ذهب بعضهم إلى الثاني منهم صاحب الجواهر (قده) في كتاب القضاء «1» بعد أن ناقش في ثبوت الإجماع المدعى في المقام.

و استدل على ذلك بإطلاق جملة من الآيات [1] و الروايات «3» و لكن من الظاهر أنّه لا يمكن التمسك بتلك الإطلاقات، إذ هي وردت في مقام بيان حكم آخر، فان قوله تعالى وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».

إنّما ورد في مقام بيان أنّه يلزم في القضاء أن يكون بالعدل، و ليس في مقام بيان صفة الحاكم، و أنّه من أي صنف من الأصناف.

______________________________
[1] قد استدل «قده» بآيات عديدة.

1- إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ- النساء/ 58.

2- يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ، وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ- المائدة/ 8.

3- يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا، فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا.»- النساء/ 135.

4- و مفهوم قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ- المائدة/ 47.

بدعوى دلالة هذه الآيات و نحوها على صحة الحكم بالحق و العدل و القسط من كل مؤمن و إن لم يكن مجتهدا.

______________________________
(1) الجواهر ج 40 ص 15.

(3) سيأتي ذكرها، و راجع الجواهر أيضا ج 40 ص 15- 17.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 235‌

..........

______________________________
كما أن مرفوعة البرقي «القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنة، رجل قضى بجور، و هو يعلم به فهو في النار. و رجل قضى بجور، و هو لا يعلم أنه قضى بجور فهو في النار. و رجل قضى بالحق، و هو لا يعلم فهو في النار و رجل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنة».
«1»

إنّما تدلّ على لزوم أن يكون القضاء قضاء بالحق و عن علم و أما مبادئ العلم بالحكم فليست الرواية في مقام بيان تعيينها.

و بما ذكرنا يظهر الحال في سائر الآيات و الروايات، و لو سلّم الإطلاق فيها فلا بد من تقييده بما يأتي.

و أحسن ما استدل به على عموم الإذن إطلاق صحيحة أبي خديجة المتقدمة «2». بتقريب: أنه من المعلوم ضرورة أنّ المراد من العلم هو الأعم من القطع الوجداني، أو قيام الحجة المعتبرة على الحكم، لانتهاءه إلى العلم بحجيّته، و إلا لم يصدق العالم على المجتهد أيضا، إذ أكثر استنباطاته ظنية. و عليه فتشمل الرواية المقلّد أيضا، لحصول الظن المعتبر له من فتوى المجتهد.

و مثلها في الإطلاق.

روايته الأخرى قال: بعثني أبو عبد اللّه إلى أصحابنا فقال: قل لهم:

إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي‌ء من الأخذ و العطاء ان تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فإني قد جعلته قاضيا، و إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر». «3»

و صحيحة الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: ربما كان بين‌

______________________________
(1) الوسائل ج 18 ص 11 في الباب 4 من أبواب صفات القاضي ح 6.

(2) ص 233.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 100 في الباب 11 من أبواب صفات القاضي ح 6.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 236‌

..........

______________________________
الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي‌ء، فيتراضيان برجل منا؟ فقال: ليس هو ذاك إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط».
«1»

فإن إطلاق الرجل المراد به الرجل المؤمن يشمل المقلّد العارف بالقضاء عن طريق التقليد.

و ربما يؤيّد الإطلاق المذكور: بأن المنصوبين من قبل الأئمّة- عليهم السّلام- في زمن الحضور الذاهبين الى البلدان، بل الموجودين في بلدهم لم يكونوا كلهم مجتهدين عالمين بالأحكام عن طريق ملكة الاستنباط، بل إنّما كانوا قد سألوا الإمام عن الأحكام، و علموا بها من جهة جوابه، و هذا مما لا يحتاج فيه إلى قوة الاستنباط، كاستفتاء العوام المجتهدين في أمثال هذه الأعصار.

(و الجواب) أما عن الروايات. فأولا: بأنه لا يبعد أن يقال: إنّها في مقام البيان من جهة اشتراط الإيمان في القاضي في مقابل قضاة العامة، فلا بد و أن يكون المرجع في القضاء من الشيعة، و أما أنّه مطلق من يعرف الحكم أو خصوص المجتهد فليست الروايات في مقام بيانه.

و ثانيا: بانا نمنع عن صدق العالم بالقضاء أو العالم بالأحكام- على العامي لا من جهة أنه ليس بعالم بالحكم، و إنّما هو عالم بفتوى المجتهد، لما ذكرنا من أنه لا فرق بين المجتهد و العامي من هذه الجهة، فإن العامي أيضا يعلم بالحكم من طريق الأمارة المعتبرة، و هي فتوى المجتهد، كما أن المجتهد يعلم به من طريق الكتاب أو السنة، بل من جهة ظهور الكلام في حصول العلم عن طريق النظر و الاستدلال، لا الاستناد إلى رأي الغير، فإنه لا يطلق العالم عند العرف على العامي.

و يظهر هذا من المراجعة إلى العرف في سائر موارد استعمال هذا‌

______________________________
(1) الوسائل ج 18 ص 5، في الباب 1 من أبواب صفات القاضي ح 8.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 237‌

..........

______________________________
الكلام، فإنّهم لا يطلقون العالم بالطب على من سمع جملة من المسائل الطبّية من طبيب تقليدا و إنّما يطلقونه على من علم بها استدلالا.

و ثالثا: لو سلم الإطلاق فيها فلا بد من تقييدها بمقبولة عمر بن حنظلة، فإنّها كالصريحة في اعتبار النظر و الاستدلال في نفوذ القضاء، فان الظاهر من الفقرات الثلاث في قوله- عليه السّلام- «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» «1» هو اعتبار أن يكون منشأ المعرفة بالحكم رواية الحديث من حديث السند، و النظر في مقتضاها من حيث الدلالة، و يستلزم ذلك دفع المعارضات من حيث السند و الدلالة بما لهما من العرض العريض، و هذا هو الاجتهاد.

و مثلها في الدلالة على التقييد ما ورد في التوقيع المبارك عن الإمام الغائب عجل اللّه فرجه: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه.».

فإنه- عليه السّلام- أرجع الناس الى رواة الحديث، و هم العارفون بالأحكام من طريق النظر في رواياتهم- عليهم السّلام-، و لم يرجعهم إلى مطلق من عرف الأحكام، و لو من طريق الاستفتاء من العلماء مع انه- عليه السّلام- في مقام بيان نصب نائب الغيبة على نحو العموم.

(و بالجملة): مقتضى الجمع بين الروايات هو حمل المطلقات منها على المقيدات و ان كانا مثبتين، لو ورود القيد فيها في مقام البيان. [1]

______________________________
[1] و لا يخفى أن التقييد بالمقبولة انما يتم على مسلك المشهور من العمل بها، و أما على ما سلكه دام ظله من المناقشة في سندها كما تقدم في (ص) فيشكل التقييد بها كما يشكل التقييد بالتوقيع المبارك فان سنده و ان كان حسنا عن طريق الشيخ (قده) إلا أن الكلام في نفس إسحاق بن يعقوب صاحب التوقيع فإنه لم يذكر في حقه شي‌ء سوى نفس هذا التوقيع المشتمل على دعائه

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 99 في الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 238‌

و حكمه ليس بنافذ (1) و لا يجوز الترافع إليه (2).

______________________________
(و أما الجواب): عن التأييد بنصب الأئمّة- عليهم السّلام- للقضاء من لم يبلغ درجة الاجتهاد: فبان هذا لم يثبت، إذ من الجائز بل المقطوع به أن المنصوبين من قبلهم- عليهم السّلام- لمرجعيّة الناس في قطر أو بلد للقضاء و نحوه مما هو شأن المرجع الديني- كانوا عارفين بجملة معتد بها من الأحكام بما وصلت إليهم من كلمات المعصومين- عليهم السّلام- بلا واسطة أو مع الواسطة، و هي لا تخلو عن عام، و خاص، و مطلق، و مقيد، و معارض، و سليم عن المعارض، و أمر، و نهي، و مجمل، و مبين، إلى غير ذلك من الخصوصيات التي لا بد من معرفتها، و معرفة أحكامها في العمل بالروايات، و ليس الاجتهاد إلا ذلك غاية الأمر سهولة المقدمات في ذلك الزمان و صعوبتها في زماننا، لبعد العهد و كثرة الدّس في الأخبار و توسعة العلوم المتوقف عليها الاستنباط، كالأصول و غيره. فالمتحصل: ان الأقوى اعتبار الاجتهاد في القاضي كما يعتبر في المفتي.

(1) كما هو مقتضى الأصل إلا فيما خرج بالدليل، و هو من كان أهلا للقضاء.

(2) لا إشكال في حرمة الترافع إلى حكّام الجور، و قضاة العامة و إن كان في حق، للتصريح بالنهي في الرّوايات المتضافرة [1] بل في بعضها‌

______________________________
- عليه السّلام- في حقه بأنه «أرشدك اللّه و ثبتك» و ثبوت وثاقته به لا يخلو عن إشكال، غايته أنه إمامي، على أن سنده ينتهي إلى نفسه إلا أن الذي يسهل الخطب انه ليس في البين ما يمكن الاعتماد على إطلاقه من الآيات و الروايات فالقدر المتيقن في الخروج عن الأصل إنما هو خصوص المجتهد، فلاحظ.

[1] (منها) رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: قول اللّه عز و جل في كتابه: «وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ» فقال: يا أبا بصير أن اللّه عز و جل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون أما أنه لم يعن حكام أهل العدل، و لكنه عنى حكام

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 239‌

..........

______________________________
النهي عن مجالسة قضاة الجور. [1]

و أما الفاقد لسائر الشرائط كالاجتهاد و العدالة فثبوت الحرمة الذاتية للترافع اليه بعنوانه الأولى لا دليل عليه.

اللّهم إلا أن يقال بصدق التحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به على الترافع عنده، فإنه بتصديه لما ليس أهلا له من منصب القضاء يكون طاغيا و خارجا عن حد العبودية، فلا فرق بين طواغيت المخالفين و الموافقين من جهة حرمة الترافع إليهم.

نعم: لا يبعد اختصاص الحرمة بمن جعل الحكم منصبا له، كالقضاة، لأن الطاغوت من صيغ المبالغة، فلا يصدق على من حكم نادرا و لم يجعل الحكم منصبا لنفسه، إلا أن يقال ان التصدي لهذا المنصب بغير إذن و لو مرة واحدة من الكبائر الموبقة، فيكفي في صدق الطاغوت عليه بهذا اللحاظ.

و أما الاستدلال على حرمته بأنه إعانة على الإثم فمخدوش بما ذكرناه في بحث المكاسب من أنه لا دليل على حرمتها على الإطلاق، و إنّما المحرم معونة‌

______________________________
أهل الجور يا أبا محمد انه لو كان لك على رجل حق، فدعوته إلى حكام أهل العدل، فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له- كان ممن حاكم الى الطاغوت. (الوسائل ج 18 كتاب القضاء ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 3).

و كرواية أبي خديجة الأولى المتقدمة في ص 233 و الثانية المتقدمة في ص 235 و مقبولة عمر بن حنظلة لقوله- عليه السّلام- فيها: «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت» (الوسائل كتاب القضاء ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 1).

[1] كرواية محمد بن مسلم قال: مر بي أبو جعفر- عليه السّلام- أو أبو عبد اللّه- عليه السّلام- و أنا جالس عند قاض بالمدينة، فدخلت عليه من الغد، فقال لي: ما مجلس رأيتك فيه أمس؟ قال: فقلت جعلت فداك ان هذا القاضي لي مكرم، فربما جلست اليه، فقال لي: و ما يؤمنك أن تنزل اللعنة فتعم من في المجلس (الوسائل ج 18 كتاب القضاء ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 10).

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 240‌

و لا الشهادة عنده (1) و المال الذي يؤخذ بحكمه حرام [1]، و إن كان الآخذ محقا (2).

______________________________
الظالم على ظلمه. [2]

(1) فإنها إمضاء عملي للمنكر، و رضاء بفعل القاضي المفروض حرمته، و قد تكون محرمة بعنوان آخر أيضا، كما إذا كانت الشهادة معونة للظالم في ظلمة، و أما دعوى حرمتها من جهة كونها إعانة على الإثم فقد ظهر الحال فيها آنفا.

(2) و قد حكى في المستند دعوى الإجماع على ذلك عن والده أقول لا إشكال في الحرمة فيما إذا كان ثبوت الحق بحكمه. و أما إذا كان ثابتا واقعا فهل المحرم الأخذ بحكمه مع حلية التصرف في المأخوذ مطلقا؟ أو حرمته كذلك؟ أو يفصل بين الدين و العين؟ وجوه بل أقوال. و لا يخفى: أن مقتضى القاعدة في العين الشخصية عدم حرمتها ما لم يرد دليل تعبدي على التحريم، لأنه ملكه فيجوز للآخذ التصرف فيه. و أما الدين فان لم يكن للغريم حق التأخير- كما إذا كان الدين معجّلا- فيحل أيضا إذا كان هو المباشر للأداء بإجبار الحاكم، لعدم شمول (حديث رفع الإكراه) لمثله، لأنه خلاف الامتنان على الدائن.

______________________________
[1] و في تعليقته (دام ظله) على قول المصنّف «قده»: «يؤخذ بحكمه حرام» (هذا إذا كان المال كليا في الذمّة و لم يكن للمحكوم له حق تعيينه خارجا، و أما إذا كان عينا خارجيّة، أو كان كليا و كان له حق التعيين فلا يكون أخذه حراما).

[2] من الواضح أن محل الكلام و الالتزام بالحرمة إنّما هو الترافع عند فاقد الشرائط لغاية فصل الخصومة شرعا و قطع النزاع و سقوط حق الدعوى بعد حكمه، و أما إذا كان الترافع عنده من جهة تراضي الخصمين بقوله بحيث لو حكم لكل منهما تنازل الآخر عنده و رضى به و لو كان محقا، فلا مانع منه لخروجه حينئذ عن القضاء المصطلح، و اندراجه تحت عنوان الصلح و الرضا لا الحكومة الشرعيّة، بحيث يوجب سقوط حق الدعوى للمدّعى، بل يبقى الحقّ على حاله لو أراد المدّعي ذلك.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 241‌

..........

______________________________
نعم: لو كان المباشر لتعيين الدين في ملك الغريم هو الحاكم، أو أمر الدائن بذلك كان المأخوذ محرما، لعدم نفوذ حكمه على الفرض.

نعم: يجوز أخذه و تملكه تقاصا بشرائطه التي منها امتناع الغريم عن الأداء، (و ان) كان للغريم حق التأخير، و أجبره الحاكم على التعجيل في الأداء يحرم المأخوذ، لعدم تعين الدين فيه إلا برضاء الغريم، و مع إلزام الحاكم و إجباره لا يتعين فيه ل‍ (حديث رفع الإكراه).

هذا كله إذا لم نعمل بالمقبولة تضعيفا لسندها و لا حظنا المقام بحسب القاعدة الأوليّة فلا يفرق الحال بين أن يؤخذ بحكم السلطان و القضاة، أو غيرهم من فاقدي شرائط القضاء.

و أما بناء على العمل بها كما عليه المشهور فربما يقال بدلالتها على الحرمة مطلقا عينا كان المأخوذ أم دينا لإطلاق قوله- عليه السّلام- في المقبولة: «و ما يحكم له فإنما يأخذ سحتا» [1] مؤيدا ذلك بما في صدر الرواية من المقابلة بين الدين و الميراث إذ حمل الميراث على الدين بعيد جدا.

و مورد الرواية و ان كان المأخوذ بحكم السلطان و القضاة إلا أن عموم التعليل بقوله- عليه السّلام-: «لأنه أخذ بحكم الطاغوت» يشمل كل طاغ و لو كان من الموافقين الفاقدين لشرائط القضاء المتصدين للقضاء المحرم.

(أقول): الظاهر ان «السحت» هو كل ما لا يحل كسبه، كما يظهر من كلمات أهل اللغة [2] فلا يطلق إلا على ما انتقل إليه من الغير على وجه‌

______________________________
[1] كذا في متن الوسائل ج 18 ص 99 ح 1 و أما متن الكافي ج 1 ص 67 ح 10 و التهذيب ج 1 ص 301 ح 52 فهكذا: «من تحاكم الى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا».

[2] في المجمع قوله تعالى وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ هو بضمتين و إسكان الثاني تخفيف: كل مالا يحل كسبه. و في القاموس: السحت الحرام و ما خبث من المكاسب، و في المصباح: السحت مال حرام لا يحل أكله و لا كسبه. و في لسان العرب: السحت كل حرام قبيح الذكر. و قيل: هو

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 242‌

..........

______________________________
محرم، و أما مال نفسه فلا يكون سحتا و ان حرم التصرف فيه بعنوان ثانوي.

و لو سلم إطلاقه على مطلق الحرام كان ذلك فيما خبث ذاتا. و أما ما كان غير خبيث في ذاته فليس بسحت و إن حرم بطرو عنوان عرضي عليه، فلا يقال: (آكل السحت) لمن أفطر في نهار رمضان بطعام مملوك له، أو قطع صلاته به، و لا يحتمل في المقام خروج العين عن ملكه من جهة أنها مأخوذة بحكم الجائر و عليه فلا محذور في الالتزام بحرمة الترافع إلى حكام الجور مطلقا في الدين و العين، كما هي مدلول صدر المقبولة، و بحرمة المأخوذ في خصوص الدين دون العين لو عصى و ترافع إليهم بمقتضى هذه الجملة إذ لا ملازمة بين حرمة الترافع و حرمة المأخوذ، فعموم أحد الحكمين لا يلازم عموم الآخر. هذا، مع أن شمول الميراث للعين الشخصية إنّما يكون بالإطلاق، و من الجائز حمله على العين المشتركة التي هي في حكم الدين لتوقف الحلية فيها على رضاء الطرفين بالقسمة، فلو باشر الحاكم قسمة الميراث بينهم أو أمر الغير بذلك كان المأخوذ أيضا سحتا، لبقائه على الشركة، و ان التصرف فيه تصرف في مال الغير.

و لو سلم دلالتها على حرمة المأخوذ مطلقا فلا يعارضها موثقة ابن فضال [1] لورودها في تفسير الآية المباركة «لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ

______________________________
ما خبث من المكاسب و حرم فلزم عنه العار، و قبيح الذكر كثمن الكلب و الخمر و الخنزير، و الجمع أسحات، و السحت الحرام الذي لا يحل كسبه، لأنه يسحت البركة- أى يذهبها- و اسحتت تجارته خبثت و حرمت و اسحت اكتسب السحت و في أقرب الموارد: السحت و السحت بالضم و بضمتين الحرام، و قيل: ما خبث و قبح من المكاسب فلزم عنه العار، كالرشوة و منه الحديث: «أ تطعمونى السحت» أى الحرام من سحته إذا استأصله، لأنه مسحوت البركة، أو لأنه يسحت صاحبه بشؤمه.

[1] و هي ما عن على بن فضال قال: قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبى الحسن الثاني- عليه السّلام- و قرأته بخطه سأله ما في تفسير قوله تعالى (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ)

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 243‌

إلا إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع عنده (1).

______________________________
بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ.» الواردة في حرمة أكل مال الغير على وجه الظلم و العدوان، و أما احتمال حملها على حكام العدل فينافيه ظاهر الآية في نفسها، و ما ورد [1] في تفسيرها من أن المراد بالحكام فيها قضاة الجور.

(1) إذا توقف استنقاذ حقه المعلوم واقعا، أو بأمارة معتبرة، كالبيّنة أو فتوى المجتهد بكونه ذا حق- على الترافع إلى غير الأهل من قضاة الجور، أو غيرهم، إما لعدم رضى الطرف المقابل إلا بالترافع إليهم أو لعدم وجود الحاكم الشرعي، أو لعدم إمكان إثبات الحق عنده و نحو ذلك فهل يحرم الترافع عنده أيضا أولا؟ قولان. نسب إلى جماعة، بل إلى الأكثر القول بالحرمة، و الظاهر الجواز و حليّة المأخوذ، و نسبه في المستند إلى جمع من الأصحاب أيضا.

و الوجه فيه حكومة قاعدة نفي الضرر على جميع ما يتوهم كونه دليلا على الحرمة من إطلاق الأخبار الناهية عن الرجوع إلى غير الأهل، و عموم حرمة الإعانة على الإثم، و طلب المنكر. علي أن بعض الوجوه المذكورة قابلة‌

______________________________
فكتب بخطه: الحكام القضاة، ثمّ كتب تحته: هو أن يعلم الرجل انه ظالم. فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم.

الوسائل ج 18- كتاب القضاء ص 5 ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 9.

[1] و هي رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام) قول اللّه عز و جل في كتابه «وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ» فقال يا أبا بصير.

فقال: يا أبا بصير ان اللّه عز و جل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما انه لم يعن حكّام أهل العدل، و لكنه عنى أهل الجور يا أبا محمد انه لو كان لك على رجل حق فدعوته الى حكام أهل العدل، فأبى عليك إلا أن يرافعك الى حكام الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم الى الطاغوت، و هو قول اللّه عز و جل (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ) (الوسائل ج 18 ص 3 كتاب القضاء ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 3).

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 244‌

[ (مسألة 44) يجب في المفتي و القاضي العدالة]

(مسألة 44) يجب في المفتي و القاضي العدالة (1) و تثبت العدالة بشهادة عدلين [1]، و بالمعاشرة المفيدة للعلم بالملكة، أو الاطمئنان بها.

______________________________
للمناقشة، لإمكان دعوى انصراف الأخبار إلى صورة التمكن من غير حاكم الجور، بل صريح المقبولة و رواية أبي خديجة و غيرهما هو فرض التمكن منه، و حرمة الإعانة على الإثم غير ثابتة كما ذكرنا، فإذا أجبر الحاكم الغريم على الأداء في هذا الحال حلّ الأخذ و المأخوذ، إذ لا عبرة برضاه حينئذ لعدم شمول (حديث نفي الإكراه) لمثل المقام، لأنه خلاف الامتنان على الدائن.

اشتراط العدالة في القاضي

(1) سبق «2» ما يدل على اشتراط العدالة في المفتي، و يجري بعينه في القاضي، لشرف المنصب و علو رتبته، كيف و هو من مناصب النبي- صلّى اللّه عليه و آله- و أوصيائه الكرام، فكيف يرضى الشارع بتصدي الفاسق الخارج عن طريقة الشرع له، هذا. مضافا إلى الإجماع المستفيض نقله في كلمات الأصحاب، و يؤيده بعض الروايات كقوله- عليه السّلام- في رواية أبي خديجة «إيّاكم ان تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفساق.» «3»

لظهوره في تعليق النهي على وجود صفة الفسق فيهم، و كقوله- عليه السّلام- فيما روى عن الخصال «اتقوا الفساق من العلماء». «4»

______________________________
[1] و في تعليقته (دام ظله) على قوله «قده»: «بشهادة العدلين» (مرّ أنّ الأظهر ثبوتها بشهادة عدل واحد، بل بمطلق الثقة أيضا).

______________________________
(2) في ص 150.

(3) تقدمت في ص 233.

(4) المروية في البحار ج 2 ص 106 طبع طهران عام 1376.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 245‌

و بالشياع المفيد للعلم [1] (1).

[ (مسألة 45) إذا مضت مدة من بلوغه و شك بعد ذلك في أن أعماله كانت عن تقليد]

(مسألة 45) إذا مضت مدة من بلوغه و شك بعد ذلك في أن أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا يجوز له البناء على الصحة في أعماله السابقة، و في اللّاحقة يجب التصحيح فعلا (2).

______________________________
(1) سبق
«2» ان طرق ثبوت العدالة لا تنحصر بما ذكر، بل تثبت بخبر العدل، بل الثقة، و بحسن الظاهر، و الشياع و ان لم يفد العلم أو الوثوق بالعدالة.

الشك في تقليد صحيح

(2) الفرق بين هذه المسألة و (مسألة 41) هو أن المفروض هنا الشك في وجود التقليد الصحيح، و هناك في صحته مع فرض العلم بوجوده.

و كيف كان فوجه الحكم بالصحة هو التمسك بقاعدة الفراغ، إلا أنه مع ذلك لا بد في تصحيح الأعمال اللّاحقة من إحراز تقليد صحيح، لما ذكرناه في مباحثنا الأصولية من أن قاعدة الفراغ لا تثبت الآثار المرتبة على مؤداها بواسطة اللوازم العقلية، سواء أ كانت أصلا أم أمارة، فإن بقاء الشرط من اللوازم العقلية لواجدية العمل السابق للشرط المشكوك- بعد إحراز عدم انتقاضه- و قاعدة الفراغ و ان كانت أمارة على الأظهر، إلا أن دليل اعتبارها انما تدل على لزوم التعبد بنفس المؤدى و هي واجدية العمل السابق للمشكوك و أما كشفها عن جميع اللوازم العقلية أو العادية فلا دليل على اعتباره.

______________________________
[1] جاء في تعليقته (دام ظله) على قول المصنّف «قده» «و بالشّياع المفيد للعلم» (بل يكفي الاطمئنان).

______________________________
(2) ص 200.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 246‌

[ (مسألة 46) يجب على العامي أن يقلد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم]

(مسألة 46) يجب على العامي أن يقلد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم أو عدم وجوبه (1) و لا يجوز أن يقلد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم. بل لو أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد

______________________________
و ما اشتهر من أن مثبتات الأمارات تكون حجة دون الأصول فكلام لا أساس له، و انما يتم ذلك فيما كان من قبيل الحكايات كالخبر و البينة و الإقرار.

(و لكن الصحيح) في المقام أن يقال: إن كان الشك في مطابقة أعماله السابقة لفتوى من يجوز الرجوع اليه- بحيث لم تكن صورة العمل محفوظة- فتجري قاعدة الفراغ، لأن الشك في انطباق الحكم الظاهري، و مجرد احتمال الالتفات إلى تصحيح العمل حين صدوره كاف في جريانها، و إن كان الشك في الاستناد إليها على وجه صحيح- بحيث كانت صورة العمل محفوظة، و شك في أنه كان عن تقليد صحيح أم لا- فلا مجرى لقاعدة الفراغ، لأن الشك في الحكم الظاهري، لا في الانطباق، و قد ذكرنا في ذيل تلك المسألة ما ينفع في المقام، فراجع.

وجوب تقليد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم

(1) لا ريب في أن وجوب التقليد ليس تقليدنا، و إنّما هو بحكم العقل، و إلا لدار أو تسلسل. و أما وجوب تقليد الأعلم و عدمه في المسائل الفرعية فتقليدي، لعدم استقلال العقل بوجوبه إلا من باب الاحتياط، و الأخذ بما هو القدر المتيقن في الحجيّة. و مع قيام الحجة على عدمه يرتفع موضوع الاحتياط. نعم يستقل العقل بلزوم الرجوع إلى الأعلم في هذه المسألة، للشك في حجية فتوى غيره المساوق للقطع بعدمها فلو أفتى بالجواز جاز تقليد غير الأعلم، لأن مرجعه في الحقيقة إلى تقليد الأعلم.

فقه الشيعة - الاجتهاد و التقليد، ص: 247‌

الأعلم يشكل [1] (1) جواز الاعتماد عليه، فالقدر المتيقن للعامي تقليد الأعلم في الفرعيات.

______________________________
(1) يمكن توجيه الإشكال: بأن مسألة وجوب تقليد الأعلم ليست بتقليدية- كأصل التقليد- فلا يجوز فيها تقليد غير الأعلم، للشك في حجيّة فتواه، و لا تقليد الأعلم لاستلزامه الدور أو التسلسل، لأنه لو قلد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم فينقل الكلام في تقليده له في هذه المسألة، و هكذا فيدور أو يتسلسل فينتج أن تقليد الأعلم عقلي لا تقليدي.

و جوابه: أن وجوب تقليد الأعلم و ان كان عقليا في الجملة. إلا أنه لا تنافي بينه و بين جواز الرجوع الى غير الأعلم بفتوى الأعلم.

و ذلك من جهة أن وجوب التقليد بعد ما ثبت بحكم العقل فيستقل عقل العامي بوجوب رجوعه إلى الفقيه في معرفته للأحكام الشرعيّة، لكنه يتردد في الحجيّة بين التعيين و التخيير فيستقل عقله بالرجوع إلى الأعلم، لعدم ثبوت حجية فتوى غيره عنده، و لكن الأعلم إذا أفتى بحجية فتوى غير الأعلم كانت حجيتها محرزة عنده، فلا تنافي بين استقلال العقل بلزوم الرجوع إلى الأعلم، و جواز الرجوع الى غير الأعلم بفتوى الأعلم.

نعم: إذا كان استقلال العقل بعدم حجية فتوى غير الأعلم بمعنى كشفه عن عدم جعل الحجية لها واقعا لم يجز تقليده، و لو أفتى الأعلم بجوازه، فان فتوى الأعلم بالجواز حينئذ مما يقطع العامي ببطلانه، و لا يمكن التعبد على خلاف ما هو معلوم له بالوجدان، و لكن من الظاهر عدم ثبوت حكم العقل بهذا المعنى.

______________________________
[1] جاء في تعليقته دام ظله على قوله «قده» «يشكل جواز الاعتماد» (لا إشكال فيه أصلا).




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net