قاعدة لا ضرر و لا ضرار‌ 

الكتاب : القواعد الفقهية والاجتهاد والتقليد (دراسات) ج3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8111

قاعدة لا ضرر و لا ضرار

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 495‌

حيث أن شيخنا الأنصاري قدّس سرّه تعرض في المقام لقاعدة لا ضرر استطرادا، فنحن نتبعه في ذلك، لأنه لا يخلو من فوائد مهمة. و البحث عن كونها فقهية أو أصولية لا يترتب عليه ثمرة عملية. و يظهر الحال فيه فيما بعد.

و الكلام في هذه القاعدة يقع من جهات،

الأولى: في بيان سند الرواية و متنها.

أما من حيث السند، فلا ينبغي التأمل فيه بعد صحة بعض طرق الحديث، و اشتهاره بين الفريقين، حتى ادعى فخر المحققين تواتره [1]، فلا ينبغي الريب في صدور الحديث عن المعصوم قطعا.

و اما من حيث المتن، فقد نقله علماؤنا الاعلام على ثلاثة وجوه.

أحدها: ما اقتصر فيه على قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا ضرر و لا ضرار» بلا زيادة شي‌ء كما في حديث ابن بكير «1» عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قضية سمرة ابن جندب، و كما في حديث عقبة ابن خالد «2» عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ و قال: «لا ضرر و لا ضرار» و ما رواه عقبة ابن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالشفعة بين‌

______________________________
[1] ذكر ذلك في الإيضاح: 2- 48 و نصّ عبارة الفخر (و الضرر منفي بالحديث المتواتر) و دعوى التواتر حكاها عنه النراقي في العوائد ص 47 و ولده في مشارق الأنوار ص 185 و مير فتاح في العناوين: 1- 306 و الشيخ الأنصاري في الرسائل: 2- 533 نعم في رسالته المعقودة لهذه القاعدة خاصة (رسائل فقهية: 112) ادعى عدم عثوره على ما نسب إلى الفخر في الرهن من الإيضاح، و لعل كتابة الرسالة كانت قبل الرسائل.

______________________________
(1) وسائل الشيعة: 17- باب 12 من أبواب إحياء الموات، ح 3.

(2) وسائل الشيعة: 17- باب 12 من أبواب إحياء الموات، ح 5.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 496‌

الشركاء في الأرضين و المساكن، و قال: لا ضرر و لا ضرار» «1» و روى القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام خبرين عن الصادق عليه السلام استشهد فيهما بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا ضرر و لا ضرار» «2».

ثانيها: ما زيد فيه على الجملتين كلمة على مؤمن كما في حديث ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قضية سمرة ابن جندب، و قد ذكر في ذيله قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسمرة «انك رجل مضار و لا ضرر و لا ضرار على مؤمن» «3».

ثالثها: ما زيد فيه على الجملتين كلمة في الإسلام كما في رواية الفقيه في باب ميراث أهل الملل و قد ذكر فيها قوله عليه السلام «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» «4» و قد حكى بهذه الزيادة عن تذكرة العلامة مرسلا، و عن كتاب مجمع البحرين.

و أما العامة فرواها أحمد ابن حنبل من طريق ابن عباس و من طريق عبادة ابن صامت «5» بغير الزيادة. و رواها النوويّ في الأربعين عن أبي سعيد سعد ابن مالك الخزرجيّ. و ذكر انّ ابن ماجة و الدار قطني روايات الحديث مسندا. و رواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرسلا، ثم قال: و له طرق يقوى بعضه بعضا «6». نعم زاد ابن الأثير في النهاية لفظ الإسلام «7».

إذا عرفت هذا فنقول: انه لا معارضة بين الروايات في غير قضية سمرة، لاحتمال صدور هاتين الكلمتين عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بوجوه مختلفة في موارد عديدة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة: 17- باب 5 من أبواب الشفعة، ح 1.

(2) دعائم الإسلام: 2- 499، 505.

(3) وسائل الشيعة: 17- باب 12 من إحياء الموات، ح 4.

(4) من لا يحضره الفقيه: 4- باب ميراث أهل الملل، ح 2.

(5) مسند أحمد: 1- 313.

(6) لاحظ المجالس السنية في شرح الأربعين النووية للشيخ أحمد الفشني، مجلس 32.

(7) النهاية: 3- 82.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 497‌

نعم ان قضية سمرة قصة واحدة شخصية، قد اختلفت فيها الروايات، فقد رويت تارة: بلا ذكر الكلمتين أصلا كما في رواية الفقيه عن الصيقل الحذاء، و أخرى: مع ذكرهما بلا زيادة كما في رواية ابن بكير عن زرارة المتقدمة، و ثالثة: بزيادة كلمة (على مؤمن) كما في رواية ابن مسكان عن زرارة المتقدمة.

أما عدم اشتمال رواية الصيقل على الكلمتين فلا يترتب عليه أثر، بعد ذكرهما في رواية الكافي و الفقيه، فيحتمل أن يكون السبب في عدم اشتمال خبر الصيقل عليهما لغفلة من الراوي، أو لعدم تعلق غرضه بنقل القضية بتمامها. و اما الروايتان الأخريان فالترجيح فيهما مع رواية ابن مسكان، لما حقق في محله من أن الترجيح عند دوران الأمر بين الزيادة و النقيصة مع ما اشتمل على الزيادة، فان احتمال الغفلة في الزيادة أبعد من احتمال الغفلة في النقيصة، و عليه فالأخذ برواية ابن مسكان هو المتعين.

و ما يقال: أن الزيادة يحتمل كونها من الراوي، أما لأجل النقل بالمعنى، أو من جهة استفادته لها باجتهاده، لمناسبة الحكم و الموضوع، خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلاّ بدليل.

فتلخص مما ذكرناه ان هاتين الكلمتين قد صدرتا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بغير زيادة على ما في روايات الخاصة و العامة، كما وردتا مع زيادة (على مؤمن) في قضية سمرة على رواية ابن مسكان، و مع زيادة (في الإسلام) كما في رواية الفقيه المتقدمة. و ما يقال: انها مرسلة لم يعلم انجبارها، فلا تكون حجة، مدفوع بان الإرسال انما يكون فيما إذا كان التعبير بلفظ روي و نحوه، و اما إذا كان بلفظ (قال) كما في ما نحن فيه فالظاهر كون الرواية ثابتة عند الراوي، و إلاّ لم يجز له الاخبار بتا لو لا ثبوته عنده.

ثم ان الظاهر ان ذكر الكلمتين في روايتي عقبة ابن خالد منضما إلى قضائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 498‌

بالشفعة، و نهيه أهل البادية عن منع فضل الماء، ليس من باب الجمع في المروي، بل هو من باب الجمع في الرواية، و نقل حكمين عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مجلس واحد، كما كان هو الدأب في نقل الروايات في الأصول، و الشاهد على ذلك.

اما في الرواية الأولى لعقبة أمران:

الأول: قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا ضرر و لا ضرار» لا ينطبق على مورد منع المالك فضل ماله، فان منع المالك غيره عن الانتفاع بملكه لا يعد ضررا عليه.

الثاني: ان النهي في هذا المورد نهي تنزيهي، فلا يندرج تحت كبرى لا ضرر و لا ضرار بجميع معانيه.

و اما في الرواية الثانية، فالشاهد أيضا امران.

أحدهما: أن تضرر الشريك ببيع شريكه حصته من غيره لا يكون ضرريا إلاّ في بعض الموارد، فبين مورد ثبوت خيار الشفعة و تضرر الشريك بالبيع عموم من وجه، فربما يتضرر الشريك و لا يثبت له الخيار كما في فرض تعدد الشركاء، و ربما يثبت الخيار بلا ترتب ضرر عليه كما في كثير من الموارد، فإذا لا يصح إدراج الحكم بالشفعة تحت كبرى لا ضرر، كما هو ظاهر.

ثانيهما: ان مفاد لا ضرر على ما سيجي‌ء بيانه انما هو رفع الحكم الضرري، و الضرر في مورد الشفعة انما أتى من قبل بيع الشريك حصته من الغير، فلو كان ذلك موردا للقاعدة لزم الحكم بالبطلان. و أما الخيار فهو جابر للضرر على تقدير وجوده، و ليس في أدلة الضرر ما يدل على جعل حكم يرتفع به الضرر، بل غاية مدلولها نفي الحكم الضرري. نعم لو كان الضرر ناشئا من اللزوم كان للقول بارتفاعه من جهة الضرر مجال واسع، لكن الأمر ليس كذلك كما عرفت.

الجهة الثانية: في فقه الحديث و بيان معناه.

فنقول: الضرر اسم مصدر من ضرّ يضرّ ضرا، و يقابله المنفعة. و أما النّفع فهو مصدر لا اسم مصدر، فلا مقابلة بينه‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 499‌

و بين الضرر كما ذكره في الكفاية. و مادة الضرر تستعمل متعديا إذا كانت مجردة، و اما إذا كانت من باب الأفعال فتستعمل متعدية بالباء، فيقال: أضرّ به، و لا يقال:

أضره. و أما معنى الضرر فهو النقص في المال، أو في العرض، أو في البدن، و بينه و بين المنفعة واسطة، فإذا لم يربح التاجر في تجارته و لم يخسر لا يتحقق في مورده منفعة و لا ضرر. و من ذلك يظهر انه لا وجه لما ذكره في الكفاية «1» من أن التقابل بين الضرر و النّفع تقابل العدم و الملكة.

و أما الضرار، فيمكن أن يكون مصدرا للفعل المجرد، كما يمكن أن يكون مصدرا من باب المفاعلة. لكن الظاهر أن المذكور في الحديث هو الثاني، إذ لو كان مجردا لزم التكرار في الكلام بلا موجب، مع ان ذكر كلمة «انك رجل مضار» في قضية سمرة يؤكد كونه كذلك.

ثم ان المعروف في باب المفاعلة أنه فعل الاثنين، و لكن التتبع في موارد الاستعمالات كما نبه عليه بعض أعاظم مشايخنا المحققين قدّس سرّه يفيد بطلان ذلك «2»، بل ان هيئة المفاعلة وضعت لإفادة قيام الفاعل مقام إيجاد المادة، قال عز من قائل يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلّٰا أَنْفُسَهُمْ «3» فذكر سبحانه ان المنافقين يقومون مقام إيجاد الخديعة، و لكنها لا تقع إلاّ على أنفسهم، و من ثم عبر في الجملة الأولى بهيئة المفاعلة، و في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد، و من تتبع موارد استعمال تلك الهيئة و لا سيما في القرآن الشريف تجد صحة ما ذكرناه. هذا كله فيما يرجع إلى معنى لفظي الضرر و الضرار.

و أما من جهة دخول كلمة (لا) عليهما، فالمحتملات فيها أمور.

______________________________
(1) كفاية الأصول: 2- 266.

(2) نهاية الدراية: 4- 437.

(3) البقرة: 9.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 500‌

الأول: أن يكون الكلام نفيا أريد به النهي، كما في قوله تعالى فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ «1» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل» «2» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا غش بين المسلمين» و «لا عمل في الصلاة» و غير ذلك مما لا يهمنا ذكره، و السر في صحة هذا الاستعمال ان الاخبار عن عدم شي‌ء كالاخبار عن وجوده، و كما يصح الاخبار عنه في مقام الأمر به، كذلك يصح الاخبار عن عدم شي‌ء في مقام النهي عنه.

و مما ذكر يظهر أنه لا وجه لما ذكره في الكفاية «3» من عدم تعاهد استعمال هذا التركيب في مقام النهي مع كونه من الكثرة بمكان، و على هذا فمفاد الجملتين حرمة الإضرار بالغير، و حرمة القيام مقام الضرر.

الثاني: ما أفاده في الكفاية «4» من كون مفاد الجملتين نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، كما في قوله عليه السلام «لا ربا بين الوالد و الولد» و «لا سهو على الإمام إذا حفظ عليه من خلفه» «5» و أمثال ذلك، و عليه فمفاد الجملتين نفي الأحكام الثابتة لموضوعاتها إذا كانت ضررية.

الثالث: ما أفاده الشيخ قدّس سرّه من أن مدلول الجملتين نفي الحكم الناشئ من قبله الضرر، فكل حكم ضرري سواء كان الضرر ناشئا من متعلقه كما هو الغالب، أم كان ناشئا من نفسه كلزوم البيع الغبني، يكون مرتفعا في عالم التشريع «6».

و الفرق بين هذا الوجه و الوجه الثاني هو أن الوجه الثاني يختص بما إذا كان متعلق الحكم ضرريا في نفسه كالوضوء الموجب للضرر، و أما هذا الوجه فيعم ما إذا‌

______________________________
(1) البقرة: 197.

(2) وسائل الشيعة: 13- باب 3 من أحكام السبق و الرماية، ح 1.

(3) كفاية الأصول: 2- 268.

(4) كفاية الأصول: 2- 268.

(5) التهذيب: 3- 54.

(6) فرائد الأصول: 2- 534 (ط. جامعة المدرسين).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 501‌

كان الضرر ناشئا من نفس الحكم دون متعلقه كما في المثال.

الرابع: أن يكون مدلول الجملتين نفي الضرر غير المتدارك، و لازمه ثبوت التدارك في موارد الضرر بالأمر به في الشريعة المقدسة. و لا يخفى بعد هذا الوجه، إذ لا موجب لتقييد الضرر بغير المتدارك إلاّ ما يتوهم من أن الضرر المتدارك لا يكون ضررا حقيقة، فالمنفي حينئذ ينحصر بغير المتدارك، فانه الضرر حقيقة. و لكنه يرد عليه.

أولا: أن التدارك الموجب لانتفاء الضرر لو سلم يختص بالتدارك الخارجي التكويني، فمن خسر مالا خسارة متداركة يصح أن يقال و لو بالمسامحة أنه لم يخسر، و أما حكم الشارع بوجوب التدارك فلا يوجب ارتفاع الضرر خارجا، فالمسروق ماله متضرر وجدانا مع حكم الشارع بوجوب رده عليه.

و ثانيا: أن كل ضرر في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا، فلو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر أموالا كثيرة لم يجب تداركه لا تكليفا و لا وضعا، و الالتزام بوجوب التدارك في أمثاله يستلزم تأسيس فقه جديد. نعم لو كان الإضرار بإتلاف المال وجب تداركه، لا بدليل لا ضرر، بل بدليل آخر كما هو ظاهر. و بذلك ظهر بطلان هذا الوجه، فالأمر يدور بين الاحتمالات الثلاثة.

إذا عرفت ذلك فنقول: ان الظاهر من الجملتين هو الاحتمال الثالث الّذي اختاره الشيخ قدّس سرّه، و بيانه يبتني على استقصاء موارد استعمالات الجمل المنفية بكلمة (لا) النافية للجنس في مقام التشريع، و هي على أقسام.

فمنها: ما يكون الجملة فيه مستعملة في مقام الاخبار عن عدم تحقق المدخول في الخارج كناية عن مبغوضيته و حرمته، كما يخبر عن ثبوت الشي‌ء في الخارج كناية عن محبوبيته و وجوبه، و قد مر جملة من أمثلة ذلك فيما تقدم.

و منها: ما تكون مستعملة اخبارا عن عدم انطباق الطبيعة على المتخصص‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 502‌

بالخصوصية المذكورة في الكلام كما في قوله عليه السلام «لا ربا بين الوالد و الولد» و «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» «1» فان المتحصل منهما ان الشارع لا يرى الرّبا بين الوالد و الولد، و لا الغيبة لمن ألقى جلباب الحياء مصداقا لطبيعي الرّبا أو الغيبة، فالحكم الثابت لهما شرعا يرتفع عن الموردين لا محالة. و كذلك الحال فيما إذا لم يكن الحكم الثابت للطبيعة حكما تحريميا فيرتفع عما حكم الشارع بعدم انطباقها على مورد كائنا ما كان، كما في قوله عليه السلام «لا سهو في النافلة» «2» و قوله عليه السلام «لا يمين للمملوك مع مولاه» «3» و هذا هو الّذي يعبر عنه بنفي الحكم بلسان نفي موضوعه، و لأجله يتقدم الدليل فيه على الأدلة الواقعية بالحكومة، فيخرج مورده عن موضوعها.

و بذلك يظهر ان هذا الاستعمال لا بد فيه من ثبوت حكم إلزاميّ، أو غير تكليفي، أو وضعي في الشريعة المقدسة لنفس الطبيعة، ليكون الدليل الحاكم رافعا له برفع موضوع، هذا كله فيما إذا كان النفي حقيقا. و اما إذا كان ادعائيا، فلا يترتب عليه إلاّ نفي الآثار المرغوبة، المعبر عنه بنفي الكمال، لا نفي الحقيقة ليترتب عليه نفي الحكم الشرعي، و مثال ذلك كثير في الشرعيات كما في قوله عليه السلام «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في مسجده» «4».

و منها: ما تكون مستعملة اخبارا عن عدم ثبوت الموضوع في الشريعة المقدسة، فيستفاد منها نفي الحكم الثابت له في الشرائع السابقة أو عند العقلاء، كما في قوله عليه السلام «لا رهبانية في الإسلام» «5» فان الرهبانيّة كانت مشروعة في الأمم السابقة، لكنها غير مشروعة في الشريعة المقدسة، فنفيها في الإسلام كناية عن نفي‌

______________________________
(1) مستدرك الوسائل: 8- 461.

(2) مستدرك الوسائل: 6- باب 16 من أبواب الخلل في الصلاة، ح 2.

(3) الكافي: 5- كتاب النكاح، باب انه لا رضاع بعد فطام، ح 5.

(4) وسائل الشيعة: 3- باب 2 من أبواب أحكام المساجد، ح 1.

(5) مستدرك الوسائل: 14- 155.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 503‌

تشريعها، و مثله قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا مناجشة في الإسلام» فان الزيادة في ثمن السلعة من غير إرادة شرائها كانت أمرا ثابتا متعارفا عند العقلاء، لكن الشارع نفاها بنفي تشريعها، و مثله قوله عليه السلام «لا قياس في الدين» [1] فانّ حجية القياس كانت مرتكزة عند العامة، و قد نفي بنفي حجيته. و بالجملة الحكم المنفي في هذا القسم هو ما كان ثابتا للموضوع في الشرائع السابقة أو ببناء العقلاء، من غير فرق بين كونه إلزاميا أو غير إلزاميّ، تكليفيا أو وضعيا.

و منها: ما تكون مستعملة في نفي نفس الحكم الشرعي ابتداء حقيقة و بلا عناية، كما في قضية لا حرج في الدين، فان ثبوت الحرج في الشريعة انما هو بجعل حكم حرجي، كما أن الحرج في الخارج يكون بإيجاد الفعل الحرجي، فنفيه في الشريعة بعد جعل حكم يلزم من امتثاله الحرج. و ان شئت قلت: ان إلزام المولى بالإضافة إلى امتثال العبد المنقاد بمنزلة العلة التامة بالقياس إلى معلولها، فإذا وقع العبد في الحرج من جهة امتثال تكليف المولى فالمولى هو الّذي أوقعه في الحرج، فنفي الحرج في الدين عبارة عن عدم جعل حكم يستلزم امتثاله وقوع المكلف في الحرج.

إذا عرفت ذلك فنقول: اما الاحتمال الأول، و هو كون المراد بنفي الضرر النهي عنه شرعا، فهو و ان كان في نفسه ممكنا، إلاّ انه خلاف الظاهر من وجهين.

الأول: أن بعض الروايات كانت مشتملة على زيادة قيد (في الإسلام) و مثل هذا القيد كاشف عن ان عناية المتكلم انما هو في النفي في مقام التشريع، لا بنفي الوجود الخارجي بداعي الزجر عنه.

الثاني: ان حمل النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور‌

______________________________
[1] وسائل الشيعة: 18- باب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 34 و فيه «لا رأي في الدين».

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 504‌

الجملة في كونها خبرية، كما هي ثابتة في مثل قوله عليه السلام «يعيد صلاته» أو قوله تعالى فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ «1» فانّ العلم بعدم جواز الكذب على المتكلم قرينة قطعية على إرادة النهي من الكلام. و اما في المقام الممكن حمل القضية على الخبرية فلا موجب لرفع اليد عن الظهور بحمل النفي على النهي.

ثم ان الإضرار بالغير لما لم يكن جائزا في الشرائع السابقة، و لا عند العقلاء، فلا يمكن أن تكون هذه القضية من قبيل القسم الثالث من موارد استعمالات هذا التركيب كما في قوله عليه السلام «لا مناجشة في الإسلام»، و عليه فلا وجه لما أصر عليه شيخ الشريعة الأصفهاني قدّس سرّه من كون النفي فيما نحن فيه مستعملا في النهي حقيقة «2».

و أما الاحتمال الثاني، و هو كون القضية مسوقة لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه، فهو أيضا غير صحيح، لأن المنفي في المقام بما أنه عنوان الضرر فلو كان النفي نفيا للحكم بلسان نفي موضوعه لزم أن يكون المنفي نفس الأحكام المترتبة على الضرر، و لازمه جواز الإضرار بالغير، لعدم كونه إضرارا تشريعا، و هذا يؤدي إلى خلاف المقصود. مضافا إلى أن عنوان الضرر لو كان موضوعا أو جزء موضوع لحكم من الأحكام امتنع أن يكون رافعا له، فان موضوع الحكم بمنزلة المقتضى له، فكيف يعقل أن يكون مانعا عنه. و بالجملة نفي الحكم بلسان نفي موضوعه انما يكون فيما إذا كان عموم دليل أو إطلاق شاملا لمورد، ليكون دليل النفي ناظرا إلى نفي شموله له بنفي انطباق موضوعه عليه. و أما فيما إذا كان المنفي مثل عنوان الضرر، فلا معنى لنفي الحكم الثابت له بعنوانه و هو الحرمة، لما عرفت.

فان قلت: هذا انما يتم فيما إذا كان المنفي نفس عنوان الضرر و أما إذا كان المنفي هو فعل المكلف المعنون بالضرر، فنفيه يستتبع نفي الحكم الثابت لنفس الفعل، فيقيد‌

______________________________
(1) البقرة: 197.

(2) قاعدة لا ضرر: 25.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 505‌

به إطلاق الدليل أو عمومه المثبت لذلك الحكم، فيتم كون القضية مسوقة لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

قلت: الضرر ليس عنوانا للفعل الخارجي و مما يحمل عليه بالحمل الشائع، بل هو مسبب عنه و مترتب عليه، فما هو موضوع الحكم لم يرد عليه النفي في القضية، و ما ورد عليه النفي يستحيل رفع حكمه كما عرفت. اللهم إلاّ أن يقال: ان القضية مسوقة لنفي السبب بنفي مسببه، و قد أريد بنفي السبب نفي حكمه، و لكن من الواضح ان مثل هذا الاستعمال لو صح فهو خلاف الظاهر، بل لم يعهد مثله أبدا.

فان قيل: أ ليس الرفع في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «رفع الخطأ و النسيان» رفعا للحكم المتعلق بالفعل الصادر حالهما، و نفيا للحكم بلسان رفع موضوعه، فليكن الأمر في المقام كذلك، و عليه فالمنفي هو حكم الفعل الصادر حال الضرر بلسان نفي موضوعه.

قلت: أولا: ان الرفع المتعلق بالخطإ و النسيان في الشريعة المقدسة يمكن أن يكون من قبيل القسم الثالث من الأقسام المذكورة في استعمال هذا التركيب، فيكون المنفي حينئذ الحكم الثابت لهما في الشرائع السابقة من التحريم المترتب عليه استحقاق العقاب، فان الخطأ و النسيان و ان لم يمكن الزجر عنهما ابتداء، إلاّ أنه يمكن الزجر عنهما بإيجاب التحفظ لأن لا يقع الإنسان فيهما، و عليه فلا وجه لقياس النفي في المقام برفعهما في الشريعة.

و ثانيا: لو سلمنا ان المرفوع في الموردين حكم الفعل الصادر عن خطاء أو نسيان، فالالتزام به انما هو لأجل انه لا معنى لرفعهما في الشريعة إلاّ ذلك، و هذا بخلاف المقام، إذ يمكن فيه أن يتعلق النفي بنفس الضرر ليكون مفاده نفي الحكم الضرري كما ذكرنا.

و ثالثا: ان نسبة الخطأ و النسيان إلى الفعل كنسبة العلة إلى معلولها، فيصح أن‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 506‌

يكون النفي نفيا للمعلول بلسان نفي علته، فالفعل الصادر في الحالين كأنه لم يصدر في الخارج، فيرتفع عنه الحكم لا محالة. و هذا بخلاف عنوان الضرر، فانه معلول للفعل و مترتب عليه خارجا، و لم يعهد في الاستعمالات المتعارفة أن يكون النفي في الكلام متعلقا بالمسبب و قد أريد به نفي سببه ليترتب عليه انتفاء حكمه، و لو سلم صحة مثل هذا الاستعمال فلا ينبغي الريب في أنه خلاف الظهور جدا، لا يصار إليه من دون قرينة.

فتلخص من جميع ما ذكرناه أن الحق في المقام هو ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه، من أن دليل لا ضرر ناظر إلى مقام التشريع، و دال على نفي الحكم الضرري، سواء كان الحكم بنفسه ضرريا أم كان الضرر ناشئا من متعلقه.

الجهة الثالثة: في بيان انطباق نفي الضرر على ما ذكر في قضية سمرة:

ربما يقال: ان ما ورد في قضية سمرة من نفي الضرر لا يمكن الاستدلال به في غير مورده، و ذلك لأن الضرر في تلك القضية لم يكن إلاّ في دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان. و اما بقاء عذقه في البستان فلم يكن يترتب عليه ضرر أصلا، و مع ذلك أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقلع العذق و الرمي به إليه فالكبرى المذكورة فيها لا ينطبق على موردها، فضلا عن الاستدلال بها في غيره.

و أجاب عنه شيخنا الأنصاري رحمه اللّه، بأن الجهل بكيفية انطباق الكبرى على موردها لا يضر بصحة الاستدلال بها فيما علم انطباقها عليه «1».

و ما ذكره و ان كان وجيها في نفسه، إلاّ أنه يمكن أن يقال: ان ما يستفاد من الرواية أمران: أحدهما: عدم جواز دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذانه.

الثاني: حكمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقلع العذق و الرمي به إليه، و الإشكال المزبور يبتني على أن‌

______________________________
(1) رسائل فقهية للشيخ الأنصاري: 111.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 507‌

يكون الحكم الثاني بخصوصه أو منضما إلى الأول مستندا إلى نفي الضرر في الشريعة.

و اما إذا كان المستند إليه خصوص الحكم الأول، و كان الحكم الثاني من جهة ولايته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أموال الأمة و أنفسهم دفعا لمادة الفساد، كما ذكره المحقق النائيني «1»، أو تأديبا له لقيامه مقام المعاندة و اللجاج، كما يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «اقلعها و ارم بها وجهه» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له «فاغرسها حيث شئت» فانهما ظاهران في غضبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على سمرة، و انه في مقام التأديب و التحقير، فالإشكال مندفع من أصله.

ثم ان المحقق النائيني ذكر في المقام جوابا آخر حاصله «2»: ان دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان إذا كان ضرريا فكما يرتفع هو بنفي الضرر، كذلك ترتفع علته التي هي ثبوت حق لسمرة في إبقاء نخلته في البستان، و نظير ذلك ما إذا كانت المقدمة ضررية، فانه كما ينتفي بذلك وجوب المقدمة، كذلك ينتفي به وجوب ذي المقدمة، فلا مانع من سقوط حق سمرة لكون معلوله ضرريا.

و لا يخفى عليك ان كون المعلول ضرريا لا يوجب إلاّ ارتفاع نفسه دون علته، فانه بلا موجب، فإذا كانت إطاعة الزوجة لزوجها ضررية لا يرتفع بذلك إلاّ وجوب نفسها، و اما الزوجية التي هي علة لوجوب الإطاعة فلا مقتضى لارتفاعها أصلا. كما انه إذا اضطر أحد إلى شرب النجس، فالمرتفع بالاضطرار انما هو حرمته دون نجاسته التي هي علة الحرمة، و الالتزام بارتفاع العلة في المثالين و نظائرهما يستلزم تأسيس فقه جديد. و قياس المقام بكون المقدمة ضررية الموجب لارتفاع وجوب ذي المقدمة قياس مع الفارق، ضرورة ان كون المقدمة ضررية مستلزم لكون ذي المقدمة ضرريا لا محالة، سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لم نقل به، فالمرتفع ابتداء انما هو وجوب ذي المقدمة، لكونه ضرريا بنفسه، و لا ربط له بانتفاء العلة بارتفاع معلولها.

______________________________
(1) منية الطالب: 2- 209.

(2) منية الطالب: 2- 209.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 508‌

تنبيهات قاعدة لا ضرر:

و ينبغي التنبيه على أمور:

التنبيه الأول:

انه بناء على ما ذكرنا من كون الدليل ناظرا إلى نفي تشريع الحكم الضرري، فكل مورد كان الترخيص فيه مستلزما لضرر الغير لم يكن مجعولا، فيستفاد من الحديث حرمة الإضرار بالغير، كما يستفاد منه نفي سائر الأحكام الضررية بجامع واحد من دون استلزام ذلك لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

التنبيه الثاني: ان الضرر كسائر العناوين الكلية انما يثبت له الحكم المجعول في الشريعة عند تحقق مصداقه في الخارج،

ففي كل مورد لزم من جعل الحكم تضرر المكلف نحكم بعدمه دون غيره مما لا يلزم من جعله الضرر، فإذا فرضنا ان الوضوء في زمان ضرري على نوع المكلفين و لم يكن ضرريا على شخص أو اشخاص معدودة لا يحكم بعدم وجوبه إلاّ لمن يتضرر به دون غيره.

و من هنا يظهر أن النزاع في ان الاعتبار في شمول لا ضرر هل هو بالضرر النوعيّ نزاع لا معنى له، فانه لو صح القول بأن الاعتبار بالضرر النوعيّ لصح القول بأن الاعتبار في موارد رفع الخطأ و النسيان و ما لا يطاق بنوعية هذه الأمور لا بشخصيتها، و هذا مما لا يتفوه به فقيه.

فان قلت: على ما ذكرت لا يمكن الحكم بثبوت الخيار للشفيع و المغبون على الإطلاق، فان الضرر في موردهما غالبي لا دائمي، و بذلك يستكشف ان الاعتبار بالضرر النوعيّ دون الشخصي.

قلت: انما يصح ما ذكرت لو كان مدرك ثبوت الخيار في المقامين دليل لا ضرر، و لكن الأمر ليس كذلك، لما تقدم من أن الضرر في مورد الغبن و بيع الشريك لو كان فهو في نفس البيع، فلو كان دليل لا ضرر شاملا لمثله لزم الحكم بفساد‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 509‌

البيع، فانه الموجب للضرر، و اما الحكم باللزوم فلا ضرر فيه بنفسه، بل هو حكم بالالتزام بالضرر و إبقاء له، كما أن الخيار حكم بتدارك الضرر و رفعه، و لا يستفاد من الحديث إلاّ نفي الحكم الضرري، لا ثبوت التدارك له بعد تحققه، بل المدرك للخيار في مورد الشفعة الروايات الخاصة الواردة فيه، و في مورد الغبن تخلف الشرط الارتكازي الثابت في المعاملات العقلائية من تساوي العوضين من حيث المالية، ليكون التبديل واردا على شخصيهما مع التحفظ على المالية، فإذا فرضنا أن المالية لم تكن محفوظة لنقصان أحدهما عن الآخر في القيمة ثبت الخيار لتخلف الشرط، و تفصيل الكلام في محله. و قد مر أن ذكر حديث لا ضرر متصلا بقضاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالشفعة في رواية عقبة ابن خالد انما هو من قبيل الجمع في الرواية لا في المروي، و لو سلم كونه من باب التطبيق و الجمع في المروي لزم الحكم بكونه من باب الحكمة دون العلة. و كيف كان لا ينبغي الشك في ان الاعتبار في غير مورد النص بالضرر الشخصي دون النوعيّ.

التنبيه الثالث: ذكر الشيخ الأنصاري قدّس سرّه أن كثرة التخصيصات الواردة على قاعدة نفي الضرر موهنة للتمسك بها في غير الموارد المنصوصة،

فان الخارج من عمومها يعادل أضعاف ما بقي تحته «1» توضيح ذلك: أن الأحكام المجعولة في أبواب الحدود و الدّيات و القصاص و التعزيرات و الضمانات كلها ضررية، كما أن تشريع الخمس و الزكاة و الحج و الجهاد كذلك، مع أنها مجعولة بالضرورة، و من هذا القبيل الحكم بنجاسة ملاقي النجاسة فيما كان مسقطا لماليته أو منقصا لها، مع أنه ثابت بلا إشكال، و عليه فلا مناص من الالتزام بكون الضرر المنفي في الشريعة ضررا خاصا غير شامل لهذه الموارد، و لازم ذلك هو الالتزام بكون مدلول الحديث مجملا غير‌

______________________________
(1) فرائد الأصول: 2- 537 (ط. جامعة المدرسين).

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 510‌

قابل للاستدلال به إلاّ في موارد انجباره بعمل المشهور و نحوه.

و قد أجاب الشيخ رحمه اللّه عنه بان التخصيص في هذه الموارد يمكن أن يكون بجامع واحد، و لا قبح في التخصيص بعنوان واحد، و لو كان أفراده أكثر من أفراد الباقي تحت العام، و عليه فلا مانع من التمسك بالعموم في موارد الشك في التخصيص.

و التحقيق أن يقال: ان دليل العموم إذا كان ناظرا إلى الخارج و كان من قبيل القضايا الخارجية فلا فرق في قبح تخصيص الأكثر بين كونه بعنوان واحد أو بعناوين عديدة، فإذا فرض ان علماء البلد على كثرتهم ليس فيهم إلاّ هاشمي واحد، و أراد المولى إيجاب إكرامه فقط، فكما لا يصح التعبير عن مراده بقوله «أكرم كل عالم في البلد إلاّ زيدا و عمرا و بكرا» و هكذا إلى أن يستوعب الجميع غير الهاشمي، كذلك لا يصح التعبير عنه بقوله «أكرم علماء البلد إلاّ من لم يكن هاشميا» و ذلك ظاهر لمن راجع الاستعمالات المتعارفة عند أهل العرف. نعم لو كان العموم بنحو القضية الحقيقية أمكن القول بعدم الاستهجان بكثرة أفراد المخصص خارجا، فان القضية الحقيقية قضية لم يلحظ فيها الخارج إلاّ على نحو الفرض و التقدير، فلا يضر فيها كثرة أفراد المخصص خارجا، إلاّ أن الشأن في كون الموارد المزبورة من باب التخصيص في القاعدة دون التخصص.

بيان ذلك: ان حكم الشارع في أبواب الحدود و الدّيات و القصاص و ان كان ضرريا، إلاّ أن دليل لا ضرر لا يتكفل برفعه، فان نفي الحكم الضرري حكم ورد امتنانا على الأمة، و من الظاهر أن نفي الحكم في هذه الموارد يستلزم الإضرار لشخص آخر، فإذا أتلف أحد مال غيره فالحكم بضمانه و ان كان ضرريا بالإضافة إليه، إلاّ ان نفي الضمان يوجب تضرر المالك، فلا يتكفل الحديث الوارد في مقام الامتنان على الأمة ذلك. و اما وجوب الخمس أو الزكاة فتشريعه لا يكون ضررا على أحد، فان الشارع لم يعتبر المالك مالكا في مقدار الزكاة و الخمس، بل اعتبره‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 511‌

شريكا مع السادة أو الفقراء، فبابه باب قلة النّفع، و هو أجنبي عن الضرر المفسر بالنقصان كما عرفت. نعم في موارد وجوب الزكاة فيما ملكه الإنسان سابقا، كما إذا ملك مائتين و عشرة دراهم و مضى عليها سنة، فأدى زكاته، و هي خمس دراهم و ربع درهم، ثم أبقى الباقي عنده حتى مضت عليه سنة أخرى، فوجب عليه إخراج زكاته ثانيا كان هذا الحكم ضرريا لا محالة، لكنك ستعرف ان هذا ليس تخصيصا للقاعدة أيضا. و أما وجوب الحج أو الجهاد فهو و ان كان ضرريا إلاّ أن دليل لا ضرر لا يعم إلاّ ما كان الحكم الشرعي ضرريا اتفاقا، و اما إذا كان الحكم في نفسه و طبعه ضرريا فهو غير مشمول له أصلا، و الشاهد على ذلك أن وجوب الحج و الجهاد و غيرهما من الأحكام الضررية كانت ثابتة عند صدور هذا الكلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قضية سمرة و مع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة بجعل هذه الأحكام في الشريعة. و بذلك يظهر لك الجواب عن وجوب الزكاة و عن التعزيرات، بل هو جار في جميع الموارد المتقدمة، فمع الإغماض عما قدمناه من الجواب كان هذا جوابا عن الجميع. نعم لو استلزمت هذه الأحكام الضررية في أنفسها ضررا آخر مغايرا لما يقتضيه طبعها صح التمسك بحديث لا ضرر لنفي ذلك، و الوجه فيه ظاهر.

و أما الحكم بنجاسة الملاقي للنجس فيما تعذر تطهيره أو استلزم نقصا في ماليته فكونه ضرريا يتوقف على شمول عنوان الضرر للنقص في المالية أيضا، و هو و ان كان قريبا جدا إلاّ أن تخصيص القاعدة بذلك كتخصيصه بوجوب شراء ماء الوضوء و لو بأضعاف قيمته، و بوجوب غسل المريض إذا تعمد الجنابة و لو تضرر بذلك على قول، لا يوجب تخصيص الأكثر، المانع عن التمسك بالقاعدة في موارد الشك.

فتحصل مما ذكرناه ان ما ذكر من الموارد تخصيصا للقاعدة يدور أمره بين ما لا يكون تخصيصا و ما لا يلزم من التخصيص به تخصيص الأكثر.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 512‌

التنبيه الرابع: ان النسبة بين دليل لا ضرر و بين كل واحد من الأدلة المثبتة للأحكام عموم من وجه،

مثلا إطلاق دليل وجوب الوضوء يقتضي وجوبه حتى في حال الضرر، كما أن إطلاق دليل لا ضرر لمورد الوضوء ينفي وجوبه حال الضرر، فالوضوء الضرري مورد للنفي و الإثبات بمقتضى إطلاق الدليلين، و من ثم وقع الكلام في وجه تقدم دليل لا ضرر على إطلاق الدليل المثبت للحكم.

و قد ذكر في وجه التقدم وجوه.

الأول: ان الموجب للتقدم عمل المشهور به في مورد المعارضة، فيكون الترجيح بالشهرة، و مع قطع النّظر عن الترجيح بها فالحكم هو التساقط، و الرجوع إلى الأصل الجاري في المقام، فيحكم بعدم وجوب ما دل الدليل على وجوبه بالإطلاق، فتكون النتيجة نتيجة تقدم دليل لا ضرر على الدليل المعارض له.

و فيه: أنه لو فرض التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه لم تكن مطابقة أحدهما لفتوى المشهور مرجحا له، فان الشهرة المرجحة في باب التعارض انما هي الشهرة في الرواية دون الفتوى، و قد تقدم بيانه في بحث حجية الشهرة، و لا معنى لادعائها في العامين من وجه. و اما الحكم بالتساقط و الرجوع إلى الأصل فهو و ان كان مقتضى القاعدة فيما إذا كان التعارض بالعموم من وجه، و كان العموم مستفادا من الإطلاق و مقدمات الحكمة على ما سيجي‌ء بيانه إن شاء اللّه، إلاّ ان ذلك لا يترتب عليه إلاّ نفي التكليف المتكفل به الدليل المعارض لقاعدة لا ضرر، و هذا لا يكفي في إثبات حكم آخر مترتب على ترجيح القاعدة من وجوب التيمم و نحوه.

الثاني: ان دليل لا ضرر إذا لوحظ مع كل من الأدلة المثبتة للتكليف فالنسبة بينهما و ان كانت عموما من وجه، إلاّ أنه إذا لوحظ مع مجموع الأدلة المثبتة للأحكام فالنسبة بينهما عموم مطلق، فيخصص به تلك الأدلة، و يتقدم عليها لا محالة.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 513‌

و فيه: أنه لا موجب لفرض جميع الأدلة بمنزلة دليل واحد و ملاحظة النسبة بينها و بين دليل لا ضرر، فان المعارضة انما هي بينه و بين كل واحد منها لا مجموعها.

الثالث: ان الموجب للترجيح هو أن تقديم دليل لا ضرر على تلك الأدلة لا يستلزم إلاّ التخصيص فيها، و اما تقديمها عليه بأجمعها فهو يستلزم أن لا يبقى مورد لدليل لا ضرر أصلا، و أما تقديم بعضها عليه دون بعض فترجيح بلا مرجح.

و فيه: ان نسبة دليل نفي الضرر مع الأدلة المثبتة للأحكام في مواردها بما انها عموم من وجه، فبناء على ما هو المختار من ان الدليلين المتعارضين بالعموم من وجه إذا كان العموم في أحدهما مستندا إلى الوضع و في الآخر إلى مقدمات الحكمة يتقدم ما يكون عمومه بالوضع على الآخر، و إذا كان كل منهما بالإطلاق يتساقط الظهوران، فيرجع إلى عموم أو إطلاق غيرهما، أو إلى أصل عملي، فلا بد من النّظر إلى الدليل المعارض لدليل نفي الضرر، فان كان عمومه بالإطلاق فيسقط الظهوران و يرجع إلى الأصل العملي، فتكون النتيجة نتيجة نفي الضرر من حيث نفي الحكم الإلزامي، و اما إذا كان عموم الدليل وضعيا، فيتقدم على دليل نفي الضرر، و على ذلك فلا بد من التفكيك بين الموارد من دون لزوم الترجيح بلا مرجح.

و اما بناء على ما سلكه غير واحد من الرجوع إلى المرجحات السندية في معارضة العامين من وجه مطلقا، فلا بد من النّظر في كل واحد من الأدلة المعارضة لدليل نفي الضرر، فما كان منها أقوى سندا منه يقدم عليه، و ما كان أضعف منه يترك العمل به، و ما كان مساويا معه يتخير بينهما، و تمام الكلام في محله، و عليه أيضا لا يكون الترجيح بلا مرجح. و بالجملة لو سلمت المعارضة بين دليل نفي الضرر و أدلة الأحكام لم يكن وجه لتقدمه عليه ببطلان الترجيح بلا مرجح.

الرابع: ما ذكره في الكفاية «1» من ان الجمع العرفي يقتضي تقديم دليل نفي‌

______________________________
(1) كفاية الأصول: 2- 269.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 514‌

الضرر المتكفل بتشريع الحكم لعنوان ثانوي، فتحمل الأدلة المثبتة للأحكام للعناوين الأولية على بيان الأحكام الاقتضائية، و هذا جار في كل ما تحققت المعارضة بين دليل مثبت للحكم بعنوان أولي مع دليل آخر متكفل ببيان حكم لعنوان ثانوي، فإذا لاحظ العرف إطلاق دليل وجوب الوضوء لحال الضرر مع دليل نفي الضرر يستكشف منهما ان في الوضوء مقتضى لجعل الوجوب، و كونه ضرريا مانع عن ذلك، فيتحصل منهما عدم الوجوب الفعلي في مورد الضرر.

و فيه: انه ان أريد بالحكم الاقتضائي ما يكون من سنخ الحكم المجعول حقيقة، و مع ذلك كان اقتضائيا غير مشتمل على البعث أو الزجر، فقد ذكرنا في محله انه لا نتعقل له معنى صحيحا، فان الأحكام المجعولة في الشريعة كلها مجعولة بنحو القضية الحقيقية، فيستحيل عدم فعليتها مع تحقق موضوعها خارجا. هذا مضافا إلى ان تلك الأحكام ان كانت اقتضائية في غير موارد الضرر أيضا فما هو الموجب لامتثالها، و ان كانت فعلية فيها فكيف يعقل أن يكون الدليل الواحد متكفلا لبيان حكم واحد قد يكون فعليا و قد يكون اقتضائيا باختلاف موارده.

و ان أريد بالحكم الاقتضائي مجرد اشتمال الفعل على الملاك، بأن يكون إيجاب شي‌ء مثلا في الحقيقة اخبارا عن اشتمال ذلك الفعل على المصلحة الملزمة، فيرد عليه.

أولا: ان الجمع العرفي لا يساعد على حمل القضية الإنشائية على القضية الخبرية بالوجدان.

و ثانيا: ان لازم ذلك عدم وجوب امتثال الأحكام في غير موارد الضرر، فان وجود المصلحة الإلزامية فيها و ان كان ثابتا بالدليل إلاّ أنه يحتمل عدم التكليف لمانع لا نعلمه، فالتكليف مشكوك فيه، فما الموجب للزوم الامتثال فيها.

و التحقيق في المقام ان يقال: انه لا معارضة بين دليل نفي الضرر و أدلة‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 515‌

الأحكام، بل هو حاكم عليها، و الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم من دون ملاحظة النسبة بينهما، و توضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمرين:

الأول: ان دليل نفي الضرر حاكم على الأدلة المثبتة بعمومها أو إطلاقها للأحكام في مورد الضرر.

الثاني: ان الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم و لو كانت النسبة بينهما عموما من وجه، أو كان المحكوم أقوى دلالة من الحاكم.

اما الأمر الأول: فبيانه ان كل دليل إذا لوحظ بالإضافة إلى دليل آخر، ان لم يكن بينهما تناف في المدلول و أمكن الأخذ بظاهر كل منهما فلا إشكال. و ان كان بينهما تناف، و لزم رفع اليد عن ظهور أحدهما، فان لم يكن أحدهما ناظرا إلى الآخر، بل كان التنافي بينهما لمجرد عدم إمكان اجتماع مدلوليهما خارجا فهما من المتعارضين، فلا بد في مثله من الرجوع إلى قواعد التعارض، من تقديم الأقوى منهما دلالة أو سندا، أو التخيير، أو التساقط على اختلاف الموارد. و أما إذا كان أحدهما ناظرا إلى الآخر بحيث لو لم يكن الآخر مجعولا أصلا كان جعله لغوا، فهو حاكم على الدليل الآخر و مبينا للمراد منه.

ثم ان النّظر إلى الدليل الآخر قد يكون مدلولا مطابقيا للدليل الحاكم، كما في قوله عليه السلام حينما سئل عن قوله «الفقيه لا يعيد الصلاة» «1» انما عنيت بذلك الشك بين الثلاث و الأربع. و هذا القسم من الحكومة في الروايات نادر جدا. و قد يكون مدلولا التزاميا له، تارة: بالتصرف في عقد الوضع و بيان المراد به سعة أو ضيقا، كما في قوله عليه السلام «الطواف في البيت صلاة» «2» و قوله عليه السلام «لا سهو للإمام إذا حفظ عليه من خلفه» «3» فانهما يكشفان عن كون شرائط الصلاة عامة للطواف أيضا، و انّ أحكام‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة: 5- باب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 5.

(2) السنن الكبرى للبيهقي: 5- 87.

(3) التهذيب: 3- 54.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 516‌

السهو خاصة بغير الإمام إذا حفظ عليه المأمور. و هذا القسم من الحكومة كثير في الروايات. و أخرى: بالتصرف في عقد الحمل، كما في المقام، و في دليل نفي الحرج، فانهما ناظران إلى أدلة الأحكام، و ان كل حكم مجعول في الشريعة قبل ورودهما أو مجعول بعدهما مختص بغير موارد الضرر أو الحرج، فالحكم الحرجي أو الضرري غير مجعول في الشريعة المقدسة، و لا يجعل أبدا.

و بذلك ظهر ان الميزان في الحكومة كون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر و متأخرا عنه رتبة، سواء في ذلك تأخره عنه زمانا و عدمه. و لا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدّس سرّه من اعتبار التأخر زمانا في الدليل الحاكم «1» كما هو ظاهر.

و اما الأمر الثاني: فبيانه أن الدليل الحاكم إذا كان ناظرا إلى عقد الوضع في الدليل المحكوم فالوجه في تقدمه عليه ظاهر، فان كل دليل مثبت للحكم على تقدير وجود موضوعه لا يكون ناظرا إلى تحقق موضوعه خارجا، فإذا فرض دليل كان مدلوله نفي موضوع الآخر لم يكن بينهما تناف و تعارض أبدا، مثلا لا يكون دليل حرمة الرّبا ناظرا إلى مورد تحقق الرّبا، بل غاية مدلوله إثبات الحرمة له على فرض تحققه، فإذا ورد انه لا ربا بين الوالد و الولد فهو ينفي ما لا يثبته الدليل الأول، فيتقدم عليه لا محالة.

و ان شئت قلت: ان الحكم في الدليل الأول مجعول على نحو القضية الشرطية من دون تعرض لتحقق الشرط و عدمه، و الثابت بالدليل الثاني انتفاء الشرط، فهو انتفاء الحكم بانتفاء شرطه، فلا تنافي بينهما، بل مقتضى الجمع بينهما هو اختصاص الدليل الأول بغير موارد الدليل الثاني.

و اما إذا كان الدليل الحاكم ناظرا إلى عقد الحمل من المحكوم، فالوجه في‌

______________________________
(1) منية الطالب: 2- 214.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 517‌

تقدمه عليه هو الوجه في تقدم كل دليل على الأصول اللفظية و العملية، و توضيحه:

أن ثبوت الأحكام في موارد كونها ضررية أو حرجية انما هو بالإطلاق أو بأصالة العموم، و كل منهما أخذ في موضوعه الشك في المراد، فإذا ثبت بالدليل ان الحكم الضرري أو الحرجي غير مجعول في الشريعة، فهو بنفسه رافع للشك في المراد، و هذا هو السر في عدم ملاحظة النسبة بين دليلي الحاكم و المحكوم، و في تقدم كل قرينة على ظهور ذي القرينة و لو كان ذو القرينة أقوى ظهورا من قرينته، كما في قضية: رأيت أسدا يرمي، فان ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس و ان كان وضعيا إلاّ أنه يرفع اليد عنه بظهور (يرمي) في رمي النبل و لو كان بالإطلاق، لكون ما أتى به قرينة مبينة للمراد.

و مما ذكرناه يظهر أنه لو ورد دليل ظاهر في كونه واردا لبيان الحكم الواقعي ثم ورد دليل آخر دل على ان الحكم الأول كان لأجل التقية قدم الثاني، و لا يعامل معهما معاملة المتعارضين، و تمام الكلام في المقام موكول إلى محله.

التنبيه الخامس: ان لفظ الضرر الوارد في أدلة نفي الضرر موضوع للضرر الواقعي،

كما هو الحال في بقية الألفاظ الموضوعة للمعاني الواقعية، و مقتضى ذلك أن يكون الاعتبار في نفي الحكم بكونه ضرريا في الواقع، سواء علم المكلف به أم لم يعلم، و هذا مما لا إشكال فيه في الجملة. إلاّ أنه ربما يستشكل بذلك في موردين.

أحدهما: تقييد الفقهاء خياري العيب و الغبن بما إذا جهل المغبون غبنه، و أما مع العلم بهما فلا يحكم بالخيار، فيسأل حينئذ عن وجه التقييد، مع أن دليل نفي الضرر ناظر إلى الضرر الواقعي من دون فرق بين العلم و الجهل به.

ثانيهما: تسالم الفقهاء ظاهرا على صحة الطهارة المائية مع جهل المكلف بكونها ضررية، مع أن مقتضى دليل نفي الضرر عدم وجوبها على المكلف حينئذ‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 518‌

و انتقال وظيفته إلى الطهارة الترابية.

و التحقيق ان يقال: ان الإشكال في المورد الأول مبني على أن يكون دليل الخيار في موارد الغبن و العيب دليل نفي الضرر، و قد ذكرنا في محله انه لم يثبت الخيار في شي‌ء من موارده بدليل نفي الضرر، بل الدليل على ثبوت خيار الغبن ما أشرنا إليه فيما تقدم من بناء العقلاء في معاملتهم على حفظ مالية أموالهم مع التبدل في أشخاصها، و هذا شرط ضمني ارتكازي في كل معاملة غير مبنية على التسامح، و بتخلفه يثبت الخيار، لتخلف الشرط، و على هذا يكون علم المغبون بغبنه و اقدامه على المعاملة الغبنية إسقاطا منه للشرط المزبور، فلا إشكال. و أما خيار العيب فالدليل عليه ان كان تخلف الشرط الضمني، بتقريب: ان المعاملات العقلائية مبنية على أصالة السلامة في العوضين، فإذا ظهر العيب فيهما ثبت الخيار لتخلف الشرط، فالحال فيه يظهر مما تقدم. و أما إذا كان الدليل عليه الروايات الواردة فيه، فالوجه في تقييده بحال الجهل ظاهر بعد تقييده به في نفس تلك الروايات. و على كل حال لا إشكال في التقييد المزبور.

و أما الإشكال في المورد الثاني، فيدفعه أن ورود دليل نفي الضرر في مقام الامتنان قرينة قطعية على عدم شموله للمقام، فان نفي الحكم عن الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل، الملازم لفساد ما أتى به و للأمر بالتيمم، بل لإعادة العبادة المشروطة بالطهارة الواقعة معها مخالف للامتنان، فلا يشمله الدليل. و نظير ذلك قد تقدم من ان حديث الرفع الوارد في مقام الامتنان لا يرفع به صحة البيع المضطر إليه، لكونه خلاف الامتنان.

و قد ذكر المحقق النائيني ما حاصله «1»: ان الإشكال مبني على ما ذكره في‌

______________________________
(1) منية الطالب: 2- 215.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 519‌

الكفاية من ان معنى الحديث هو رفع الحكم عن الموضوعات الضررية. و أما على ما اخترناه من ان معناه نفي الحكم الضرري في عالم التشريع فالإشكال مندفع من أصله، لأن الضرر في موارد الجهل به لم ينشأ من الحكم الشرعي ليرفع بالدليل المزبور، و انما نشأ من جهل المكلف به خارجا، و من ثم لو لم يكن الحكم ثابتا في الواقع لوقع في الضرر أيضا.

و يرد عليه: ان الاعتبار في دليل نفي الضرر انما هو بكون الحكم في نفسه أو بامتثاله ضرريا، و لا ينظر في ذلك إلى الضرر المتحقق في الخارج و انه نشأ من أي سبب، و من الظاهر ان الطهارة المائية في المثال لو كانت واجبة في الشريعة لصدق أن الحكم الضرري مجعول فيها، و عليه فدليل نفي الضرر ينفي وجوبه لو لا ما ذكرناه من اختصاصه بموارد الامتنان.

ثم لا يخفى ان الحكم بصحة الطهارة المائية في فرض الجهل بالضرر يبتني على أحد أمرين.

الأول: ان لا يكون الإضرار بالنفس محرما ما لم يبلغ إلى إلقائها في التهلكة، و لم يكن مما علم مبغوضيته في الشريعة كقطع الأعضاء و نحوه.

الثاني: ان لا يكون النهي المتعلق بالعنوان التوليدي متعلقا بما يتولد منه، فالإضرار بالنفس و ان فرض حرمته مطلقا إلاّ ان حرمته بناء على ذلك لا تسري إلى الطهارة المائية التي يتولد منها عنوان الإضرار، فلا مانع من الحكم بصحتها و ان كان الإضرار المتولد منه حراما بالفعل.

و اما إذا لم نقل بشي‌ء من الأمرين فالطهارة المائية و ان لم يشملها دليل لا ضرر إلاّ ان حرمتها الواقعية مانعة عن اتصافها بالصحّة، و لا يكون الجهل بالحرمة موجبا للتقرب بما هو مبغوض واقعا، و من هنا ذكرنا في بحث اجتماع الأمر و النهي انه بناء على الامتناع و تقديم جانب الحرمة لا يحكم بصحة العبادة و لو في حال‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 520‌

الجهل.

إذا عرفت ذلك فنقول: أما الأمر الثاني، فقد ذكر غير مرة ان الصحيح فيه التفصيل، فان العنوان التوليدي ان كان مما ينطبق على نفس ما ينطبق عليه العنوان المتولد بنظر العرف، كعنوان الإيذاء و الهتك و نحوهما، فالحكم المتعلق بالعنوان التوليدي يتعلق بما يتولد منه لا محالة، لوحدة الوجود خارجا، فلا عبرة بتعدد العنوان حينئذ. و اما إذا كان العنوان التوليدي مغايرا في الوجود مع ما يتولد منه، كالإحراق المتولد من الإلقاء، حيث انهما موجودان بوجودين، ضرورة ان الملاقاة مغايرة مع الاحتراق خارجا، فإيجاد كل منهما غير إيجاد الآخر، فان الإيجاد و الوجود متحدان بالذات و مختلفان بالاعتبار، فلا يسري حرمة العنوان التوليدي إلى ما يتولد منه، و حيث ان الإضرار الّذي هو من العناوين التوليدية من قبيل القسم الأول فحرمته عبارة أخرى عن حرمة ما يتولد منه، فالحكم بالصحّة في مفروض المقام يدور مدار إثبات الأمر الأول.

و قد اختلف في ذلك الأنظار. و ذكر الشيخ رحمه اللّه في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر «1» أن الإضرار بالنفس كالإضرار بالغير محرم بالأدلة العقلية و السمعية.

و لكن التحقيق عدم ثبوت ذلك على إطلاقه، إذ العقل لا يرى محذورا في إضرار الإنسان بنفسه بصرف أمواله كيف ما شاء ما لم يبلغ إلى حد السرف و التبذير، و لا بإضرار نفسه بتحمل ما يضر بصحة بدنه فيما إذا ترتب عليه غرض عقلائي، كما في سفر التجارة أو الزيارة و نحوه، و لم يرد في الشرع ما يدل على تحريم الإضرار بالنفس مطلقا.

______________________________
(1) رسائل فقهية للشيخ الأنصاري: 116.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 521‌

و تحقيق الحال فيه يتوقف على النّظر في الروايات التي استدل بها على الحرمة، و هي على طوائف.

الأولى: أدلة نفي الضرر المتقدمة، بناء على إرادة النهي من النفي. و يرد على الاستدلال بها.

أولا: ما عرفت من انها ناظرة إلى نفي الأحكام الضررية و أجنبية عن حرمة الإضرار.

و ثانيا: انها على تقدير التنزل لا دلالة فيها إلاّ على حرمة الإضرار بالغير، كما هو ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسمرة «انك رجل مضار» و اما حرمة الإضرار بالنفس فلا يستفاد منها أصلا. على أن الإضرار بالنفس لا يقع في الخارج غالبا إلاّ بداعي عقلائي، فتحريمه و الحال هذه مناف للامتنان، و قد عرفت ان حديث نفي الضرر لا يشمل ما كان مخالفا له. بل يمكن أن يقال ان الضرر المترتب عليه منفعة عقلائية لا يكون مصداقا للضرر عرفا، فعدم حرمته لانتفاء موضوعها، مع قطع النّظر عن ورود الأدلة في مقام الامتنان.

الثانية: ما رواه الكليني في الكافي بالإسناد إلى طلحة بن زيد عن الصادق عليه السلام «الجار كالنفس غير مضار و لا آثم» «1».

و لا دلالة فيها على الحرمة الشرعية. بل المستفاد منها ان الجار بمنزلة النّفس، فكما ان الإنسان بطبعه لا يقدم على ضرر نفسه، و لا يظهر عيوبه، فليكن هكذا حاله مع جاره.

الثالثة: ما رواه الكليني بالإسناد إلى محمد ابن عبد اللّه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و بالإسناد إلى مفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام و الحديث طويل،

______________________________
(1) الكافي: 5- كتاب الجهاد، باب إعطاء الأمان، ح 5.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 522‌

قال عليه السلام فيه: «ان اللّه تعالى لم يحرم ذلك- الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير- على عباده و أحل لهم سواه رغبة منه فيما حرم عليهم، و لا زهدا فيما أحل لهم، و لكنه خلق الخلق و علم عزّ و جلّ ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحله لهم، و أباحه تفضلا منه عليهم به تبارك و تعالى لمصلحتهم، و علم ما يضرهم فنهاهم عنه، و حرمه عليهم.

إلى أن قال: اما الميتة فانه لا يد منها أحد إلاّ ضعف بدنه، و نحف جسمه، و ذهبت قوته» الحديث «1». و لا دلالة فيه على حرمة الإضرار بالنفس بمطلق الأكل و الشرب فضلا عن غيرهما، بل غاية ما يستفاد منه أن الحكمة في تحريم جملة من الأشياء كونها مضرة بنوعها، لا أن الإضرار بنفسه موضوع للتحريم. و الّذي يدل على ذلك أمور.

منها: أن الحكمة المذكورة في الرواية لتحريم الميتة ترتب الضرر على إدمانها، فلو كان هذا علة للتحريم لم يكن أكلها بغير إدمان محرما.

و منها: ما ورد في عدة روايات من ترتب الضرر على أكل جملة من الأشياء، كتناول الجبن في النهار، و إدمان أكل السمك، و أكل التفاح الحامض، و شرب الماء بعد الطعام إلى غير ذلك، مع أنه لا إشكال في جوازها شرعا.

و منها: أنه لو كان الضرر علة لتحريم جملة من المأكولات و المشروبات كانت الحرمة دائرة مدار ترتب الضرر، فإذا انتفى الضرر في مورد انتفت الحرمة، و لازم ذلك ان لا يحرم استعمال قليل من الأمور المذكورة في الرواية، فانها لا تزيد على السموم القاتلة في ان المضر منها كمية خاصة، مع أن ذلك خلاف الضرورة من الدين. على انا نقطع بعدم كون الميتة بجميع اقسامها مضرة للبدن، فلو كانت الحرمة دائرة مدار الضرر لزم الحكم بجواز ما لا يضر منها، كما إذا ذبح الحيوان إلى غير‌

______________________________
(1) الكافي: 6- كتاب الأطعمة، باب علل التحريم، ح 1.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 523‌

القبلة متعمدا، فهل يحتمل أن يكون أكل لحمه مضرا في فرض التعمد، و غير مضر في فرض عدمه، أو يحتمل أن يكون مضرا في حال التمكن، و لا يكون مضرا في حال العجز، كما إذا كان الحيوان مستعصيا، فيعلم من جميع ذلك ان الضرر ليس علة للتحريم، و انما هو حكمة ربما يتخلف عنها كما تتخلف هي عنه.

الرابعة: ما رواه في العيون عن محمد ابن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتبه إليه «و حرمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان و الآفة. إلى ان قال: و حرم اللّه الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان» «1».

الخامسة: ما في الخصال. قال أمير المؤمنين عليه السلام: «و لا تأكلوا الطحال فانه بيت الدم الفاسد» «2».

و يظهر الجواب عنها مما تقدم.

السادسة: ما في الوسائل في باب جملة من الأطعمة و الأشربة المباحة و المحرمة عن تحف العقول عن جعفر ابن محمد عليه السلام بعد تقسيم ما أخرجته الأرض إلى ثلاثة أصناف. قال: فكل شي‌ء من هذه الأشياء فيه غذاء للإنسان و منفعة و قوة فحلال أكله. و ما كان منها فيه المضرة فحرام أكله و في المستدرك في الباب المتقدم عن دعائم الإسلام عن الصادق مثله.

و الجواب عنها مضافا إلى ضعف سندها أن ظاهر الحديث تقسيم الحبوب و الثمار و البقول إلى قسمين، فما كان منها في طبعه و بحسب نوعه مضرا للبشر كالسموم و القوابض و المسهلات و نحوها فهو حرام على كل مكلف إلاّ في حال التداوي، و ما كان فيه قوة و منفعة لطبيعي الإنسان فهو حلال، و هذا أجنبي عما نحن فيه من كون شي‌ء واحد حراما عند الضرر و حلال في غيره.

______________________________
(1) وسائل الشيعة: 16- باب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة، ح 3.

(2) الخصال: 613.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 524‌

السابعة: ما رواه في المستدرك عن فقه الرضا عليه السلام «اعلم- يرحمك اللّه- ان اللّه تبارك و تعالى، لم يبح أكلا و لا شربا إلاّ لما فيه المنفعة و الصلاح، و لم يحرم إلاّ ما فيه الضرر و التلف و الفساد، فكل نافع مقو للجسم فيه قوة للبدن فحلال، و كل مضر يذهب بالقوة أو قاتل فحرام، مثل السموم و الميتة و الدم و لحم الخنزير» «1» الحديث.

و الجواب عنه مضافا إلى عدم ثبوت كونه رواية، فضلا عن صحته، يظهر مما تقدم.

فتحصل مما ذكر صحة ما ذهب إليه المشهور من الحكم بصحة الطهارة المائية إذا لم يكن المكلف عالما بضررها.

و حيث انتهى بنا الكلام إلى هذا المقام، فلا بأس بالتعرض لفروع مناسبة له.

الأول: إذا علم الضرر في الطهارة المائية، و أتى بها عالما عامدا، فهل يحكم بصحتها؟ و جهان مبنيان على ان حديث نفي الضرر ناظر إلى نفي الإلزام الضرري، أو انه ينفي كل تشريع ضرري و لو لم يكن إلزاما؟ فعلى الثاني لا ينبغي الشك في البطلان، فان الطهارة المزبورة لم تشرع في الشريعة. و أما على الأول فالظاهر هو الحكم بالصحّة، لأن الغسل مما لا إشكال في استحبابه النفسيّ، كما أن الوضوء كذلك على الأظهر، فالإلزام بهما حال الضرر و ان كان مرتفعا إلاّ أنه لا يقتضي بطلانهما بعد فرض استحبابهما، و عدم ارتفاع الاستحباب بدليل نفي الضرر. و بما أن الصحيح هو الوجه الثاني، فان حديث نفي الضرر وارد في مقام الامتنان و الإرفاق، و لا امتنان في رفع الاستحباب، إذ لا كلفة في وضعه، فالظاهر هو الحكم بصحة الطهارة المائية، لاستحبابها النفسيّ أو لغاية مستحبة، و يترتب عليها جواز الإتيان بالصلاة‌

______________________________
(1) مستدرك الوسائل: 16- باب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة، ح 5.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 525‌

الواجبة المشروطة بها أيضا.

نعم بناء على ما قيل من حرمة الإضرار بالنفس كانت الطهارة المائية في الفرض مبغوضة، فتكون فاسدة لا محالة. و من هنا فصل السيد رحمه اللّه في العروة بين الضرر و الحرج، فحكم بفساد الطهارة المائية مع العلم بالأول دون الثاني «1». و اما على ما ذكرنا فالحكم في بابي الضرر و الحرج سواء.

ثم ان المحقق النائيني «2» أشكل على جواز الطهارة المائية عند الحكم بصحة الطهارة الترابية كما في الفرض بما حاصله: ان الحكم بصحة الوضوء مثلا عند الحكم بصحة التيمم يستلزم تخيير المكلف بينهما، و هو يشبه الجمع بين النقيضين، و ذلك فان الأمر بالتيمم في الآية المباركة مشروط بعدم وجدان الماء، كما ان الأمر بالوضوء بقرينة المقابلة مشروط بالوجدان، فالحكم بصحة كل منهما في الفرض المزبور يستلزم كون المكلف واجدا للماء و فاقدا له، و هو محال.

و الجواب عنه أن ما علق على وجدان الماء و عدمه في الآية انما هو وجوب الوضوء و وجوب التيمم تعيينا، و ليس فيها دلالة على انحصار مشروعية التيمم بموارد فقدان الماء، فمن الجائز أن يكون واجد الماء في مورد قد شرع له التيمم إرفاقا، كما ثبت ذلك فيمن آوى إلى فراشه فذكر انه غير متوضئ، و المقام من هذا القبيل، فان الوضوء في موارد الحرج بل في موارد الضرر بناء على ما عرفت من عدم كون الإضرار بالنفس محرما مطلقا مما يقدر عليه المكلف تكوينا و تشريعا، فهو واجد للماء بالوجدان، غاية الأمر انه لم يلزم بالوضوء إرفاقا، و ذلك لا يستلزم الحكم ببطلانه إذا اختار لنفسه الضرر، أو إلقائها في الحرج بعد كونه مستحبا في نفسه،

______________________________
(1) العروة الوثقى (مع حاشية السيد الخوئي): 1- 337.

(2) منية الطالب: 2- 216- 217.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 526‌

و عدم حكومة دليل نفي الحرج أو الضرر للحكم الاستحبابي.

الثاني: لو اعتقد المكلف فقدان الماء أو كون استعماله ضرريا، فتيمم و صلّى، ثم انكشف له الخلاف، فهل يحكم بصحة ما أتى به؟ و جهان. و على تقدير الصحة، فهل تجب عليه الإعادة إذا كان انكشاف الخلاف في أثناء الوقت أولا؟ نسب المحقق النائيني قدّس سرّه الحكم بالصحّة و عدم وجوب الإعادة إلى المشهور «1» و ذكر في تقريبه، ان موضوع التيمم من لم يتمكن من استعمال الماء، و من اعتقد فقدانه فهو غير متمكن من استعماله، فالموضوع محرز وجدانا. و بذلك يظهر الحال في معتقد الضرر و لو كان اعتقاده مخالفا للواقع، فان من يعتقد عدم وجوب الوضوء غير متمكن من امتثاله خارجا.

و ما ذكره قدّس سرّه في توجيه ما نسب إلى المشهور متين جدا في معتقد عدم الماء، فان التمكن لا يدور مدار الواقع، بل يدور مدار الاعتقاد، و قد مرّ ان الإنسان ربما يموت عطشا و الماء في رحله، لاعتقاده عدمه. و اما معتقد الضرر فيما لم يكن ضرر في الواقع فالحكم بعدم تمكنه من استعمال الماء مبني على القول بحرمة الإضرار بالنفس مطلقا، فان المعتقد بالمنع الشرعي عاجز عن الامتثال بحكم العقل، إذ الممنوع شرعا كالمنع عقلا. و اما بناء على ما ذكرناه من جواز الإضرار بالنفس ما لم يبلغ إلى التهلكة و نحوها فالمكلف متمكن من استعمال الماء مع العلم بالضرر، فضلا عن الاعتقاد المجرد، غاية الأمر أنه مع العلم به قد حكم الشارع بجواز التيمم إرفاقا و امتنانا، فإذا انكشف عدم الضرر في الواقع ينكشف بطلان التيمم، و عدم ترخيص الشارع فيه من أول الأمر.

نعم يمكن أن يقال: ان الأدلة الدالة على جواز التيمم بمجرد خوف الضرر‌

______________________________
(1) منية الطالب: 2- 216.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 527‌

كافية في الحكم بالصحّة و ان لم يكن ضرر في الواقع، فانه إذا ثبت جواز التيمم مع الخوف ثبت جوازه مع الاعتقاد قطعا، فالحكم بالصحّة حينئذ من جهة كون الخوف أو اعتقاد الضرر تمام الموضوع لجواز التيمم. هذا كله فيما إذا انكشف الخلاف بعد خروج الوقت.

و أما لو انكشف في الأثناء، فالحكم بالصحّة و عدم وجوب الإعادة مبني على القول بالاجزاء. و لا ملازمة بين دوران التمكن مدار الاعتقاد و الحكم بعدم وجوب الإعادة عند تبدله في أثناء الوقت، كما هو الحال فيما إذا لم يكن الماء موجودا في أول الوقت ثم وجد في أثنائه.

الثالث: إذا كان عند المكلف مقدار من الماء، و وجب صرفه في غير الطهارة المائية، كحفظ النّفس المحترمة، لكنه عصى و استعمله فيها، فالظاهر هو الحكم بالبطلان، لعدم جريان الترتب في أمثال المقام مما هو مشروط بالقدرة شرعا. و قد مر توضيح ذلك في مبحث الترتب، فراجع.

الرابع: ذكر بعضهم ان قاعدة لا ضرر كما انها حاكمة على الأحكام الوجودية كذلك حاكمة على الأحكام العدمية، فكما ان حكم الشارع الضرري يرتفع بحديث لا ضرر، كذلك نفي الحكم إذا كان ضرريا يرتفع به، فيثبت نفس الحكم، و قد مثل لذلك بأمثلة.

منها: ما لو حبس أحد غيره عدوانا، فأبق عبده، فان حكم الشارع فيه بعدم ضمان الحابس العبد الآبق ضرري على المحبوس، فينتفي لحديث لا ضرر، فيحكم بالضمان.

و منها: ما لو امتنع الزوج عن نفقة زوجته لعذر أو عصيان، فالحكم بعدم جواز طلاقها بغير اذن الزوج و لو من الحاكم ضرري، فيحكم بجواز طلاقها للحاكم أو بإذنه.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 528‌

و أورد المحقق النائيني على ذلك بوجهين «1».

الأول: ان حديث نفي الضرر ناظر إلى الأحكام المجعولة في الشريعة، و عدم الحكم بشي‌ء و ان كان تحت قدرة الحاكم، إلاّ أنه ليس حكما مجعولا، فلا يشمله الحديث.

و فيه: ان عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم، و لا سيما مع ورود قوله عليه السلام «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» «2» فانه بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف، فيما لم يجعل فيه تكليف و على ذلك فلا مانع من شمول نفي الضرر للأحكام العدمية أيضا. و ان شئت قلت كما ان ثبوت بعض الأحكام من الإسلام، فينتفي عند كونه ضرريا، كذلك عدم الحكم في بعض الموارد يكون من الإسلام، فينتفي عند كونه ضرريا.

الثاني: انا قد ذكرنا ان دليل نفي الضرر ناظر إلى نفي الضرر في عالم التشريع، و لا دلالة فيه على تدارك الضرر الخارجي المتحقق من غير جهة الحكم الشرعي، فلو تضرر أحد بموت عبده أو بخراب داره و نحوه ذلك لم يجب على المسلمين تداركه من بيت المال أو الزكاة أو من أموالهم الشخصية من جهة نفي الضرر، و لو التزم بلزوم تدارك الضرر لزم تأسيس فقه جديد كما هو ظاهر، و عليه فلا يمكن التمسك بالحديث لإثبات الضمان في المسألة الأولى، و لا لإثبات جواز الطلاق بغير اذن الزوج في المسألة الثانية.

أما المسألة الأولى: فتوضيح الحال فيها أن ترخيص الحابس في المثال حكم ضرري، فينتفي لا محالة، فيحكم بحرمته، و لكنه إذا عصى هذا التكليف فالمحبوس يقع في الضرر لا محالة، فإذا حكم الشارع فيه بالضمان فليس من جهة نفي الضرر، بل من‌

______________________________
(1) منية الطالب: 2- 220- 221.

(2) التوحيد: 413.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 529‌

جهة لزوم تدارك الضرر المفروض وجوده، و قد عرفت ان حديث لا ضرر لا يثبت ذلك.

و أما المسألة الثانية: ففي موردها أمور ثلاثة: امتناع الزوج من النفقة، و نفس الزوجية، و كون أمر الطلاق بيد الزوج. اما الأمر الأول، فلا إشكال في كونه ضرريا، و لم يرخص فيه الشارع. و اما نفس الزوجية، فليست بضررية، و إلاّ لزم الحكم بانفساخها. و اما الثالث فهو أيضا كذلك، غاية الأمر ان الحكم بجواز الطلاق يوجب تدارك الضرر الواقع الناشئ عن عدم الإنفاق، و قد عرفت ان مثل ذلك لا يشمله حديث نفي الضرر.

و ما ذكره قدّس سرّه متين جدا لا مناص عن الالتزام به. هذا مع انه يمكن أن يقال: ان التمسك بحديث نفي الضرر لإثبات الضمان في المسألة الأولى، و نفي سلطنة الزوج في المسألة الثانية معارض بالضرر المترتب على شموله، و هو ضمان الحابس و زوال سلطنة الزوج، و لا موجب لترجيح أحد الضررين على الآخر.

فان قلت: ان الحابس، بحبسه و الزوج بامتناعه عن الإنفاق، قد أقدما على الضرر، فلا يعارض به الضرر المتوجه إلى المحبوس أو الزوجة.

قلت: ان صدق الإقدام على الضرر فيهما متوقف على ثبوت الحكم بضمان الحابس و بزوال سلطنة الزوج، فكيف يمكن إثباتهما بالإقدام، و هل هذا إلاّ دور ظاهر.

هذا ما تقتضيه القاعدة. و لكنه وردت روايات خاصة، بألسنة مختلفة في خصوص المسألة الثانية، دلت على زوال سلطنة الزوج عند عدم إنفاقه على الزوجة و عدم منفق آخر، و لا بأس بالعمل بها في موردها. و اما ما ورد في بعض الروايات من انها ابتليت فلتصبر فهو وارد فيمن فقد زوجها، و أجنبي عما نحن فيه من عدم الإنفاق على الزوجة، فلا معارضة بينهما. نعم انها معارضة بما دل على ان الإطلاق‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 530‌

بيد من أخذ بالساق، لكنها أخص، فتقدم عليه، و نتيجة التقدم ان يجبر الزوج على الإنفاق مع التمكن، و إلاّ فيجبر على الطلاق، فان طلق و إلاّ فعله الحاكم حسبة، و المسألة محررة في محلها.

التنبيه السادس: في تعارض الضرر.

و مسائله ثلاث.

الأولى: ما لو دار أمر شخص واحد بين ضررين، بحيث لا بد له من الوقوع في أحدهما، و فروعه ثلاثة.

الأول: ما إذا دار أمره بين ضررين مباحين، و في مثله يجوز له اختيار أيهما شاء.

الثاني: ما إذا دار أمره بين ضرر يحرم ارتكابه كتلف النّفس و ما لا يحرم ارتكابه. و لا ينبغي الشك في لزوم اختيار المباح تحرزا عن الوقوع في المحرم.

الثالث: ما إذا دار أمره بين ضررين محرمين. و لا بد له حينئذ من اختيار أقلهما ضررا، و اجتناب ما يكون حرمته أهم و أقوى، كما هو الحال في مطلق موارد التزاحم.

المسألة الثانية: ما لو دار الأمر بين ضررين لشخصين مع قطع النّظر عن جعل أي حكم في الشريعة المقدسة، و لا مناص من تضرر أحدهما خارجا، كما إذا دخل رأس دابة شخص في قدر شخص آخر، و لم يمكن التخليص إلاّ بكسر القدر، أو ذبح الدابّة، و فروع هذه المسألة ثلاثة.

الأول: أن يكون ذلك بفعل أحد المالكين. و الحكم فيه وجوب إتلاف ماله، و تخليص مال الآخر مقدمة لرده إلى مالكه، و لا يجوز في مثله إتلافه و دفع مثله أو قيمته، فانه متى أمكن رد نفس العين وجب، و لا تصل النوبة إلى المثل أو القيمة.

الثاني: ما إذا كان ذلك بفعل الغير. و في مثله يتخير في إتلاف أي منهما، و يضمن مثله أو قيمته لصاحبه، إلاّ فيما إذا كان التصرف في أحدهما بخصوصه أكثر‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 531‌

عدوانا في نظر العرف، فيجب عليه إتلاف الآخر بخصوصه مع ضمانه لمالكه.

الثالث: ما إذا كان ذلك غير مستند إلى فعل شخص، بل كان بآفة سماوية. و قد نسب إلى المشهور لزوم اختيار أقل الضررين في مثله، و ان ضمان ذلك على مالك الآخر. و لا نعرف له مستندا غير ما قيل من أن نسبة جميع الناس إلى اللّه تعالى نسبة واحدة، فالكل بمنزلة عبد واحد، فالضرر المتوجه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد. و لا يخفى ما في هذه الدعوى من الوهن و السقوط، فان إلزام أحد الشخصين بتحمل الضرر بدفع قيمة مال الآخر أو مثله بلا ملزم، بل هو ترجيح بلا مرجح.

فالصحيح أن يقال: إذا تراضى المالكان بإتلاف أحد المالين بخصوصه و لو بتحملهما للضرر على نحو الشركة، فلا إشكال، و إلاّ فلا بد من رفع ذلك إلى الحاكم، و له إتلاف أيهما شاء حسبه، ثم يقسم الضرر بينهما بقاعدة العدل و الإنصاف الثابتة عند العقلاء. و يؤيدها ما ورد فيمن تلف عنده درهم مردد بين أن يكون ممن أودع عنده درهمين، و من أودع عنده درهما واحدا من الحكم بإعطاء درهم و نصف لصاحب الدرهمين، و نصف درهم لصاحب الدرهم الواحد، فانه لا يستقيم إلاّ على ما ذكرناه من قاعدة العدل و الإنصاف. هذا ما يقتضيه القاعدة.

و اما التمسك بحديث لا ضرر في المقام فلا وجه له أصلا، لما عرفت فيما تقدم أن الحديث لا ينفي إلاّ الحكم الناشئ منه الضرر، فلا يشمل ما نحن فيه الّذي فرض فيه تضرر أحد الشخصين مع قطع النّظر عن الحكم الشرعي.

ثم لا يخفى ان ما ذكرناه من الفروع انما هو فيما إذا لم يثبت أهمية أحد الضررين في نظر الشارع. و اما إذا ثبت فلا بد من اختيار الضرر الآخر في جميع الفروض، مثال ذلك ما إذا دخل رأس عبد محقون الدم في قدر شخص آخر، فانه لا ينبغي الشك في عدم جواز قتل العبد و لو كان ذلك بفعل مالك العبد، بل يتعين كسر‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 532‌

القدر و تخليص العبد، غاية الأمر يكون عليه الضمان. و إذا كان بفعل الغير كان الضمان عليه، و إذا كان بآفة سماوية كان الضرر مشتركا بينهما.

المسألة الثالثة: ما إذا تردد الضرر بين شخصين من جهة الحكم الشرعي، فلو فرضنا ان المالك يتضرر بعدم حفر البالوعة في داره، و ان جاره يتضرر بحفرها، فجواز الحفر شرعا حكم ينشأ منه الضرر بالإضافة إلى الجار، كما أن حرمته حكم ضرري على المالك، و من المعلوم أن أحد الحكمين مجعول في الشريعة المقدسة لا محالة، و الكلام انما هو في تعيينه.

و توضيح الحال في المقام أن تصرف المالك في ملكه الموجب لا ضرار الجار يتصور على وجوه.

الأول: أن يكون المتصرف بتصرفه قاصدا للإضرار من دون أن يكون فيه نفع، أو في تركه ضرر بالإضافة إليه.

الثاني: الصورة بعينها، و لكن الداعي إلى التصرف انما هو العبث و مجرد الشهوة النفسانيّة من دون أن يكون داعيه الإضرار.

الثالث: أن يكون في ترك التصرف فوت منفعة بالإضافة إليه.

الرابع: أن يكون في ترك التصرف ضررا عليه.

اما القسمان الأولان، فلا ينبغي الإشكال في حرمة التصرف فيهما، و لا سيما في القسم الأول، لكونه إضرارا بالجار، و المفروض انه ليس في الموردين ما يمكن أن يرتفع به حرمة الإضرار، بل الظاهر ثبوت الضمان في هذين القسمين أيضا، و الوجه فيه ظاهر.

و المناسب للبحث في المقام انما هو القسم الأخير، إلاّ أنه يتكلم عن حكم القسم الثالث أيضا استطرادا تبعا لشيخنا الأنصاري قدّس سرّه. و المشهور بين الأصحاب في هذين القسمين على ما نسب إليهم الشيخ رحمه اللّه هو جواز التصرف و عدم‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 533‌

الضمان «1». و قد استدل على ذلك بوجهين، يختص أحدهما بالقسم الأخير، و يشترك القسمان في الوجه الثاني.

أما الوجه الأول: فهو أن شمول دليل نفي الضرر لكل من جواز التصرف و حرمته غير معقول، و ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح، فلا يكون الحديث شاملا للمقام، فيرجع في جواز التصرف و عدم الضمان إلى أصالة البراءة.

و قد أجاب المحقق النائيني رحمه اللّه عن ذلك بما حاصله «2»: أن تضرر المالك انما نشأ من حرمة تصرفه في ملكه المسببة من تضرر الجار، فليس الضرران في عرض واحد، بل ضرر المالك ناشئ من شمول الحديث لنفي الضرر المتوجه إلى الجار، و الضرر الناشئ من نفي الضرر في الشريعة لا يكون مشمولا له بالضرورة، فما لم يكن الضرران عرضيين لم يكن مانع من شمول الحديث لنفي ضرر الجار دون ضرر المالك الّذي هو في طوله.

و ما ذكره قدّس سرّه من كون الضررين طوليين و ان كان صحيحا، إلاّ أنه مع ذلك لا يمكن ترجيح أحدهما من جهة شمول الحديث لنفيه دون الآخر، و ذلك للعلم الإجمالي بجعل حكم ضرري في المقام من الإباحة أو التحريم لا محالة، و كون أحد الضررين في طول الآخر لا يقتضي كون المجعول هو الحرمة دون الإباحة. و توضيح ذلك: أنه قد عرفت فيما تقدم أن حديث لا ضرر قد ورد في مورد الامتنان على الأمة، فلا يشمل الموارد التي كان نفي الحكم فيها منافيا للامتنان، و عليه فالحكم بجواز تصرف المالك في ملكه الموجب لتضرر الجار لا يمكن رفعه بحديث نفي الضرر، لأنه خلاف الامتنان بالإضافة إلى المالك. كما ان الحكم بجواز التصرف مناف للامتنان بالإضافة إلى الجار، فلا يكون شي‌ء من الحكمين مشمولا لحديث نفي‌

______________________________
(1) فرائد الأصول: 2- 538- 539 (ط. جامعة المدرسين).

(2) منية الطالب: 2- 224- 225.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 534‌

الضرر، و عند ذلك يتمسك بأصالة البراءة لدفع احتمال الحرمة. و نظير المقام ما لو أكره شخص على إضرار غيره، فان الحكم بجواز الإضرار حينئذ حكم ضرري بالإضافة إلى الغير، كما ان الحكم بحرمته ضرري بالإضافة إلى المكره، و لا ترجيح لأحد الضررين على الآخر، فالقاعدة تقتضي جواز الإضرار ما لم يكن الإكراه إكراها على القتل و نحوه.

و اما الوجه الثاني: فملخصه ان منع المالك عن التصرف في ملكه فيما إذا ترتب على تركه ضرر عليه أو فوات منفعة عنه حكم حرجي، و دليل نفي الحرج يقتضي رفعه. و النسبة بينه و بين دليل نفي الضرر الدال على عدم جواز التصرف المزبور من جهة تضرر الجار و ان كان عموما من وجه، إلاّ أن الترجيح مع دليل نفي الحرج، اما لحكومته على دليل نفي الضرار، أو لتساقطهما، فيرجع إلى عموم دليل السلطنة، أو إلى أصالة البراءة.

و يرد على ذلك:

أولا: ان الحرج المنفي في الشريعة انما هو بمعنى المشقة التي لا تتحمل عادة، و من الظاهر ان ترك النّفع أو الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك على الإطلاق، فلا يصح التمسك لجواز التصرف المزبور بدليل نفي الحرج في جميع الموارد. نعم لو فسر الحرج بمطلق الكلفة، و لو كانت كلفة روحية، كان الحكم بعدم جواز انتفاع المالك بملكه فضلا عن ترتب الضرر على عدم تصرفه حكما حرجيا، لكنه ليس كذلك، و إلاّ لكانت جميع التكاليف حرجية، فانها منافية لحرية الإنسان و العمل بما تشتهيه نفسه.

و ثانيا: أنه لا وجه لحكومة دليل نفي الحرج على دليل نفي الضرر، بعد كونهما ناظرين إلى نفي الأحكام الواقعية في موارد الضرر و الحرج في مرتبة واحدة.

و ثالثا: انه على تقدير التساقط لا معنى للرجوع إلى دليل السلطنة، لعدم‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (دراسات)، ج-3، ص: 535‌

عموم أو إطلاق له بالإضافة إلى العناوين الثانوية، فهل يمكن ان يدعي أحد ان مقتضى سلطنة الإنسان على مديته جواز ذبح غنم الغير من دون اذنه مع قطع النّظر عن دليل حرمة التصرف في مال الغير من دون رضاه؟ كلا. فلو فرضنا عدم الدليل على حرمة التصرف المزبور لم يكن دليل السلطنة مثبتا للجواز. نعم لا مانع حينئذ من الرجوع إلى أصالة البراءة بعد تسليم تساقط الدليلين.

فتحصل مما ذكرناه ان الحق في المقام هو التفصيل بين القسمين الأخيرين، ففيما إذا كان ترك التصرف مستلزما لتضرر المالك جاز التصرف لما عرفت. و اما إذا كان ترك التصرف مستلزما لفوات النّفع فقط لم يجز التصرف، لأن نفي الضرر ينفي جوازه من دون معارض. نعم إذا كان ترك التصرف مستلزما للحرج أحيانا جاز التصرف أيضا، و قد ظهر وجهه مما تقدم. هذا كله من حيث الحكم التكليفي.

و اما الحكم الوضعي، فالظاهر ثبوت الضمان حتى فيما كان التصرف جائزا، لعدم الملازمة بين الجواز التكليفي و الوضعي، و ذلك لأن دليل سببية الإتلاف للضمان لا معارض له في المقام، و دعوى كونه ضرريا ينتفي بحديث نفي الضرر، مدفوعة بان الحكم بالضمان في جميع موارده حكم مبني على الضرر، لا يمكن رفعه بحديث نفي الضرر، فانه على خلاف الامتنان.

و الحمد للّه أولا و آخرا‌




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net