التغيّر بأوصاف المتنجس ونقل كلام الشيخ الطوسي في المقام 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7720


    التغيّر بأوصاف المتنجِّس

   (1) وقع الخلاف في أن التغيّر هل يعتبر أن يكون بأحد أوصاف النجس ، أو أن التغيّر بأوصاف المتنجس أيضاً كاف في الانفعال ؟ .

   والظاهر أن صورة انتشار أجزاء النجس في المتنجس الذي يوجب انتشار تلك الأجزاء في الماء على تقدير ملاقاته إياه خارجة عن محل الكلام . والوجه في خروجها ظاهر ، لأن التغيّر فيها مستند إلى أوصاف النجس دون المتنجس ، كما إذا صببنا مقداراً من الدم في ماء وحللناه فيه ثم ألقينا ذلك الماء على ماء آخر ، فتغيّر الماء الثاني بعين الأجزاء الدموية المنتشرة في الماء الأول بالتحليل ، كما أن صورة خروج الماء عن الاطلاق بملاقاة المتنجس خارجة عن محل النزاع قطعاً . فالذي وقع فيه الكلام له صورتان :

   إحداهما : ما إذا تغيّر شيء بالنجاسة من غير أن تنتشر فيه أجزاء النجس ، ثم لاقى هذا المتغيّر بالنجس ماءً وغيّره بالوصف الحاصل فيه بالتغيّر ، كما إذا وقعت ميتة في الماء ولم تتفسخ فيه وتغيّر الماء بريحها ثم ألقينا ذلك الماء في ماء آخر كر وتغيّر بما في الماء من نتن الميتة من دون انتشار أجزاء الميتة في شيء من الماءين .

   وثانيتهما : ما إذا لاقت نجاسة شيئاً ونجّسته ، ثم لاقى المتنجس كراً من الماء فغيّره بأحد أوصاف نفسه دون أوصاف النجس ، كما هو الحال في العطور إذا لاقتها يد كافر

ــ[63]ــ

مثلاً ثم ألقيناها في حوض من الماء فإنّها تغيّر الماء بريحها لا محالة .

   ولنقدم الكلام في الصورة الثانية ، لأن التغيّر فيها إذا صار موجباً للانفعال فهو يوجب الانفعال في الصورة الاُولى بطريق أولى .

   فنقول : إنّه نسب القول بالنجاسة في صورة التغيّر بأوصاف المتنجس إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) واستدلّ عليه بالنبوي المعروف : «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه ، أو طعمه ، أو ريحه» (1) . فإن قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ ما غيّر يشمل النجس والمتنجس كليهما .

   وفيه : أن الحديث نبوي قد ورد بغير طرقنا ، كما صرح به صاحب المدارك (2) وأمضاه صاحب الحدائق (قدس سرهما) (3) فلا يعتد به ، وإنّما نقول بالنجاسة في مفروض الكلام لو قلنا بها من جهة الروايات الواردة من طرقنا ، كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ،  ...» بدعوى أنّ قوله (عليه السلام): «لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر» أيضاً شامل لكل من النجس والمتنجس .

   بل الصحيح عدم تمامية هذا الاستدلال أيضاً ، لاختصاص الرواية بالتغيّر بالنجس دون المتنجس، ويدل عليه استثناؤه (عليه السلام) في الصحيحة بقوله : «إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» . فإن هذا الاطلاق والاستعمال : «حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» إنّما يصح إذا كان التغيّر الحاصل بالطعم أو الريح تغيّراً بريح كريهة أو طعم خبيث ، إذ مع فرض طيب الطعم أو الريح لا  معنى لطيبه ثانياً . وكراهة الريح والطعم تختص بالتغيّر الحاصل بالنجاسات ، وأمّا المتنجسات فربّما يكون ريحها في أعلى مرتبة اللطافة والطيب ، كما في العطور المتنجسة أو طعمها كما في السكر والدبس المتنجسين ، ولا يصح في مثلهما أن يقال : ينزح حتى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المبسوط 1 : 5 .

(2) المدارك 1 : 28 .

(3) الحدائق 1 : 298 .

ــ[64]ــ

يذهب الريح ويطيب طعمه . وبالجملة فالمقدار المتيقن منها هو الحكم بالانفعال في التغيّر بالنجس ، فلا بدّ من الاقتصار عليه ، هذا كلّه في هذه الرواية . وأمّا سائر الروايات فهي بأجمعها كما عرفت واردة في التغيّر بأعيان النجاسات من الميتة والبول ونحوهما ، ولا يستفاد من شيء منها انفعال الماء بالتغيّر بالمتنجسات فراجع .

   وحيث قلنا بعدم الانفعال في الصورة الثانية فلا بدّ من التكلّم في الصورة الاُولى أيضاً ، ليرى أن التغيّر فيها يوجب الانفعال أو لا يوجبه ، وهي ما إذا تغيّر الماء بملاقاة المتنجس ولكن لا بأوصاف نفسه بل بأوصاف النجس ، وقد أشار إليه في المتن بقوله : نعم لا يعتبر أن يكون ... والمعروف انّه يوجب الانفعال وقد استدلّ عليه بوجوه :

   أحدها : أن تغيّر الماء بالأعيان النجسة قليل ، ولا يوجد إلاّ نادراً ولا يصح حمل اطلاقات التغيّر على الفرد النادر ، فلا محيص من تعميمه إلى التغيّر بالمتنجسات أيضاً فيما إذا أوجبت تغيّر الماء بأوصاف النجس ، والوجه في ذلك : أنّ الميتة أو غيرها من النجاسات إذا وقعت في كر أو أكثر منه فهي إنّما تغيّر جوانبها الملاصقة لها في شيء من أوصافها الثلاثة أوّلاً ، ثم تغيّر حوالي ما يتصل بها وما جاورها ثانياً ، ثم تلك المجاورات تغيّر مجاوراتها الملاصقة وهكذا ... إلى أن ينتهي إلى آخر الماء ، فالميتة مثلاً تغيّر الماء بواسطة المجاورات المتنجسة لا بنفسها وبلا واسطة ، فلا محيص من تعميم التغيّر الموجب للانفعال إلى التغيّر بأوصاف النجس إذا حصل بملاقاة المتنجس .

   وهذا الوجه وإن ذكر في كلمات الأكثرين ولكنّه لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ سراية التغيّر إلى مجموع الماء وإن كانت بواسطة المتنجسات لا بعين النجاسة كما ذكر ، إلاّ أن الدليل لم يدلنا على نجاسة الماء المتغيّر بملاقاة المتنجس وإن كان التغيّر بأوصاف النجس ، فإن الدليل إنّما قام على انفعال الماء المتغيّر بملاقاة نفس النجس ، فلا بدّ من الاقتصار عليه .

   ثانيها : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدمة ، فإن إطلاق قوله (عليه السلام) فيها «لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ...» يشمل كل ما هو صالح للتنجيس ، ومن الظاهر أن المتنجس الحامل لأوصاف النجس كالماء المتغيِّر بأوصاف النجاسة صالح لأن يكون منجساً ، ومن هنا ينجس ملاقيه من الماء القليل واليد وغيرهما ، فإطلاق

ــ[65]ــ

الرواية يشمل النجس والمتنجس إذا لاقى ماء البئر وغيره بأحد أوصاف النجاسة وإنّما خرجنا من إطلاقها فيما إذا غيّره بأوصاف نفسه من أجل ما استفدناه من القرينة الداخلية كما مرّ ، وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه في المقام .

   ثالثها : وهو وجه عقلي حاصله : أن الماء المتنجس الحامل لأوصاف النجس إذا لاقى كراً وغيّره بأحد أوصاف النجس فهو لا يخلو عن أحد أوجه ثلاثة :

   فإمّا أن نقول ببقاء كل من الملاقي والملاقى على حكمهما ، فالماء المتنجس نجس والكر المتغيّر طاهر ، وهو مما نقطع ببطلانه فإن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين ، أو نقول بطهارة الجميع ، وهو أيضاً مقطوع الخلاف لما ثبت بغير واحد من الأدلّة الآتية في محلّها من أن الماء المتغيّر لا يطهر من دون زوال تغيّره ، والقول بطهارة الجميع في المقام قول بطهارة الماء المتغيّر وهو الذي لاقى كراً مع بقاء تغيره ، وهو خلاف ما ثبت بالأدلة التي أشرنا إليها آنفاً ، أو نقول بنجاسة الجميع وهو المطلوب .

   والجواب عن ذلك أن هذا الوجه ينحل إلى صور ثلاث :

   الاُولى : أن يكون الماء المتغيّر موجباً لتغيّر الكر بأحد أوصاف النجاسة مع استهلاكه في الكر لكثرته وقلّة المتغيّر .

   الثانية : الصورة مع استهلاك الكر في المتغيّر لكثرته بالإضافة إلى الكر ، كما هو الحال في ماء الأحواض الصغيرة في الحمّامات ، فإنّه إذا تغيّر بنجس ولاقاه الكر الواصل إليه بالأنابيب ، فلا محالة يوجب تغيّر الواصل واستهلاكه لقلته بالإضافة إلى ماء الحياض ، فإنّه يصل إليه تدريجاً لا دفعة .

   الثالثة : الصورة من دون أن يستهلك أحدهما في الآخر لتساويهما في المقدار. وهذه صور ثلاث :

   أمّا الصورة الاُولى : فنلتزم فيها بطهارة الجميع ولا منافاة في ذلك للأدلّة الدالّة على عدم طهارة المتغيّر إلاّ بارتفاع تغيّره ، وذلك لأ نّها إنّما تقتضي نجاسته مع بقاء التغيّر على تقدير بقاء موضوعه ، وهو الماء المتغيّر لا على تقدير الارتفاع وانعدام موضوعه بالاستهلاك في كر طاهر .

ــ[66]ــ

   وأمّا الصورة الثانية : فنلتزم فيها بنجاسة الجميع ، ولا ينافيه ما دلّ على اعتصام الكر وحصر انفعاله بالتغيّر بملاقاة الأعيان النجسة ، والكر لم يلاق عين النجس في المقام ، وذلك لأن ما دلّ على اعتصام الكر إنّما يقتضي طهارته مع بقاء موضوعه وهو الكر الملاقي لغير العين النجسة لا مع انعدامه باستهلاكه في المتغيّر .

   وأمّا الصورة الثالثة : فيتعارض فيها ما دلّ على انفعال الكر المتغيّر بملاقاة العين النجسة ، واعتصامه في غير تلك الصورة ، مع ما دلّ على أن المتغيّر لا يطهر إلاّ بارتفاع تغيّره ، فإن مقتضى الأول طهارة الماء في مفروض الكلام ، لأ نّه لم يتغيّر بملاقاة عين النجس ، ومقتضى الثاني نجاسته لبقاء تغيّره على الفرض ، وبما أن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين فيدور الأمر بين أن نحكم عليه بالنجاسة لنجاسة المتنجس ، أو نحكم عليه بالطهارة لطهارة الكر ، وإذ لا ترجيح في البين فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة في الماء ، بلا فرق في ذلك بين القول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وعدمه ، إذ بناء على القول بجريانه أيضاً كان الاستصحابان متعارضين ، فيرجع بالنتيجة إلى قاعدة الطهارة .

   وبذلك يظهر أن الوجه الصحيح في الحكم بالنجاسة في المقام منحصر باطلاق صحيحة ابن بزيع .

   نعم ، إن هناك وجهاً رابعاً يمكن أن يستدل به على نجاسة الكر المتغيّر بأوصاف النجس بملاقاة المتنجس ، وهو الاستدلال بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع من ناحية اُخرى غير اطلاقها ، وحاصله : أنّ الإمام (عليه السلام) قد أمر فيها بنزح ماء البئر حتى يطيب طعمه وتذهب رائحته ، ومن الظاهر البيّن أن تقليل الماء المتغيّر بأخذ مقدار منه لا يوجب ارتفاع التغيّر عن الباقي من الرائحة أو الطعم ، وهو من البداهة بمكان لا يحتاج إلى زيادة التوضيح ، فالنزح لا يكون رافعاً لتغيّر الماء الباقي في البئر وعليه يتعيّن أن يكون الوجه في قوله (عليه السلام) «ينزح حتى ...» شيئاً آخر ، وهو أن البئر لما كانت ذات مادّة نابعة كان نزح المتغيّر منها وتقليله موجباً لأن ينبع الماء الصافي من مادتها ، ويزيد على المقدار الباقي من المتغيّر في البئر ، وباضافته تقل الرائحة والطعم من الباقي ، وكلما نزح منه مقدار أخذ مكانه الماء الصافي النابع من

ــ[67]ــ

نجس فصار أحمر أو أصفر لا ينجس ، إلاّ إذا صيره مضافاً . نعم ، لا يعتبر أن يكون بوقوع عين النجس فيه، بل لو وقع فيه متنجس حامل لأوصاف النجس فغيّره بوصف النجس تنجس أيضاً . وأن يكون التغيّر حسياً (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مادّتها حتى إذا كثر النابع بتقليل المتغيّر غلب على الباقي وأوجب استهلاكه في ضمنه وبذلك صحّ أن يقال ينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه .

   ومن هذا يظهر أن النابع من المادّة لا يحكم بطهارته عند ملاقاته للباقي من المتغيّر فيما إذا تغيّر بملاقاته ، وإنّما يطهر إذا غلب النابع على الباقي وأوجب زوال رائحته وتبدل طعمه لقوله (عليه السلام) «ينزح حتى يذهب ...» فقوله هذا يدلنا على ما  قدمناه من أن الماء النابع الملاقي للمتنجس المتغيّر غير محكوم بالطهارة ، لتغيّره بأوصاف النجس من الريح والطعم بملاقاة المتنجس الحامل لتلك الأوصاف ، وإنّما يطهر حتى يذهب ... فالرواية دلت على أن أي ماء لاقى متنجساً حاملاً لأوصاف النجس ، وتغيّر بها فهو محكوم بالانفعال للقطع بعدم خصوصية في ذلك لماء البئر .

   ثم لا يخفى أن مورد هذه الصحيحة من قبيل الصورة الثانية من الصور المتقدِّمة في الوجه العقلي ، وهي ما إذا لاقى متنجس حامل لأوصاف النجس ماءً وغيّره بأوصاف النجس مع استهلاك الماء في المتغيّر ، وقد ذكرنا انا نلتزم فيها بنجاسة الجميع من غير أن ينافي هذا الأدلّة الدالّة على اعتصام الكر إلاّ بالتغيّر بملاقاة عين النجس ، لأ نّه فرع بقاء موضوع الكر ، ولا يتم مع استهلاكه وانعدامه ، ويستفاد هذا من الصحيحة المتقدمة حيث دلت على أن النابع محكوم بالنجاسة لملاقاته المتغيّر الباقي في البئر واستهلاكه فيه إلاّ أن يكثر ويغلب عليه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net