أدلّة اعتصام الجاري القليل 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7272


    أدلّة اعتصام الجاري القليل

   أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد استدلّ المحقق الهمداني (قدس سره) على اعتصام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التذكرة 1 : 17 .

(2) المسالك 1 : 12 .

ــ[90]ــ

الجاري القليل بما ورد في عدّة من الأخبار من أ نّه لا بأس ببول الرجل في الجاري لأن ظاهرها السؤال عن حكم الماء الذي يبال فيه لا عن حكم البول في الماء وقد دلت على نفي البأس عنه ، وهذا بظاهره يقتضي عدم انفعال الجاري بالبول مطلقاً وإن كان قليلاً (1) .

   ويدفعه : أن هذه الأخبار أجنبية عن الدلالة على المدعى غير رواية واحدة منها وتوضيحه أن الروايات المذكورة على طائفتين :

   إحداهما : وهي الأكثر ناظرة إلى بيان حكم البول في الجاري من حيث حرمته وكراهته ، ولا نظر لها إلى بيان حكم الجاري من حيث الانفعال وعدمه ، لأن السائل فيها إنّما سأل عن البول في الجاري ، لا عن الماء بعد البول فيه ، فمن هذه الطائفة صحيحة الفضيل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ...» (2) ورواية ابن مصعب قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال: لا بأس به إذا كان الماء جارياً»(3) ونظيرهما غيرهما فراجع . فانّهما ناظرتان إلى بيان حكم البول في الجاري من حيث الحرمة والكراهة ولا نظر فيهما إلى طهارة الماء ونجاسته بالبول .

   اللّهمّ إلاّ أن يقال بدلالتهما على طهارة الجاري بالالتزام ، لأن بيان انفعال الجاري بوقوع البول فيه إنّما هو وظيفة الإمام (عليه السلام) وبيانه عليه ، فلو كان الجاري ينفعل بذلك لكان على الإمام (عليه السلام) أن يبين نجاسته ، وحيث إنّه سكت عن بيانها ، فيعلم منه عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس ، كما يدعى ذلك في الأخبار الدالّة على كفاية الغسل في الجاري مرّة (4) ويقال إن غسل النجس في الجاري لو كان سبباً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 7 السطر 35 .

(2) الوسائل 1 : 143 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 1 .

(3) الوسائل 1 : 143 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 2 .

(4) منها صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول ؟ قال : اغسله في المركن مرتين فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة» ، المروية في الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

ــ[91]ــ

لانفعاله لبيّنه (عليه السلام) لأ نّه من وظائف الإمام ، فمن عدم بيانه يظهر أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجس .

   ويدفعه : أن بيان حكم الماء من حيث نجاسته وطهارته وإن كان وظيفة الإمام (عليه السلام) إلاّ أ نّه ليس بصدد بيانهما في هذه الأخبار ، ولا في روايات كفاية الغسل مرة في الجاري ، ومع أ نّه (عليه السلام) ليس في مقام البيان كيف يسند إليه الحكم بطهارة الجاري .

   ومما يدلنا على ذلك أ نّه (عليه السلام) في تلك الأخبار قد أمر بغسل الثياب في المركن مرتين ولم يبيّن نجاسة الماء الموجود في المركن ، مع أ نّه ماء قليل ، ولا إشكال في انفعاله بالملاقاة ، فهل يصح الاستدلال على طهارة الماء الموجود في المركن بعدم بيانه (عليه السلام) نجاسة الماء .

   وثانيتهما : ما تضمّن السؤال عن حكم الماء الجاري الذي يبال فيه ، ولا بأس بدلالتها على عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس مطلقاً ولو كان قليلاً ، وهي موثقة سماعة قال : «سألته عن الماء الجاري يبال فيه ؟ قال : لا بأس به» (1) ودلالتها على طهارة الجاري القليل ظاهرة لاطلاقها .

   ودعوى : أن الجاري القليل في غاية الندرة وقليل الوجود وهو بحكم المعدوم والأخبار ناظرة إلى الجاري كثير الدوران والوجود ، وهو الجاري الكثير فلا تشمل الجاري القليل . مدفوعة : بأ نّها إنّما تتم في بعض الأمكنة ولا تتم في جميعها وقد شاهدنا الجاري القليل في بلادنا وغيرها كثيراً ، فالروايات تشمل لكل من الجاري الكثير والقليل .

   هذا ويمكن أن يقال : لا دلالة على اعتصام الجاري في الطائفة الثانية أيضاً ، لأن السؤال في مثلها كما يمكن أن يكون عن الموضوع والمسند إليه ، كذلك يمكن أن يكون عن المحمول والمسند ، فكما يصح إرجاع «لا بأس به» إلى الماء الجاري الذي هو المسند إليه ، كذلك يمكن إرجاعه إلى البول المستفاد من جملة «يبال فيه» الذي هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 143 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 4 .

ــ[92]ــ

المسند وبذلك تصير الرواية مجملة ونظير هذا في الأخبار كثير  :

   منها : ما في صحـيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد ؟ قال : لا بأس» (1) . فإن قوله (عليه السلام) لا  بأس يرجع إلى الاغتسال لا إلى الرجل الذي هو المسند إليه .

   ومنها : ما ورد في صلاة النافلة : من أن الرجل يصلي النافلة قاعداً وليست به علّة في سفر أو حضر فقال : لا بأس به (2) فإنّه يرجع إلى صلاة النافلة حال الجلوس لا إلى الرجل كما هو ظاهر ، وكيف كان فيحتمل أن يكون الضمير في المقام أيضاً راجعاً إلى البول في الماء الجاري لا إلى الماء الجاري نفسه ، بل مغروسية كراهة البول في الماء في الأذهان تؤكد رجوع قوله «لا بأس به» إلى البول في الماء الجاري .

   واستدلّ على اعتصام الجاري القليل ثانياً بمرسلة الراوندي عن علي (عليه السلام) : «الماء الجاري لا ينجسه شيء» (3) ورواية الفقه الرضوي : «كل ماء جار لا ينجسه شيء» (4) وخبر دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم : «يتوضأ منه ويشرب منه وليس ينجسه شيء ...» (5) .

   ولا فرق بين الأوليين إلاّ في أن دلالة إحداهما بالعموم ، ودلالة الاُخرى بالاطلاق ، ولا إشكال في دلالة الروايات المذكورة على المدعى إلاّ أن مرسلة الراوندي ضعيفة بارسالها ، ورواية الدعائم أيضاً مما لا يصح الاعتماد عليه ، وهذا لا لأجل ضعف مصنفه وهو القاضي نعمان المصري فإنّه فاضل جليل القدر ، بل من جهة إرسال رواياته على ما قدمناه في بحث المكاسب مفصّلاً (6) وأمّا الفقه الرضوي فهو لم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 43 / أبواب آداب الحمّام ب 11 ح 1 .

(2) كما في رواية سهل بن اليسع المروية في الوسائل 5 : 492 / أبواب القيام ب 4 ح 2 .

(3) نوادر الراوندي : 39 (المستدرك 1 : 191 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 4) .

(4) فقه الرضا : 5 (المستدرك 1 : 192 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 6) .

(5) دعائم الإسلام : 111 (المستدرك 1 : 191 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 2) .

(6) مضمون رواية الدعائم وان ورد في كتاب الجعفريات : 1 أيضاً وكنّا نعتمد على ذلك الكتاب    في سالف الزمان إلاّ أ نّا رجعنا عنه أخيراً لأن في سند الكتاب موسى بن إسماعيل ولم يتعرضوا لوثاقته في الرجال فلا يمكن الاعتماد عليه .

ــ[93]ــ

يثبت حجيته بل لم تثبت أ نّه رواية ليدعى انجبارها بعمل المشهور على ما أشرنا إليه غير مرة .

   واستدلّ على اعتصام الماء الجاري ثالثاً ـ  والمستدل هو المحقق الهمداني (1)  ـ بما ورد في تطهير الثوب المتنجس بالبول من الأمر بغسله في المركن مرتين وفي الماء الجاري مرة واحدة (2) ، وقد استدلّ بها بوجهين :

   أحدهما : أن الجاري لو كان ينفعل بملاقاة النجس لبيّنه (عليه السلام) حيث إن بيان نجاسة الأشياء وطهارتها وظيفة الإمام ، وبما أ نّه في مقام البيان ، وقد سكت عن بيانه ، فنستفيد منه عدم انفعال الجاري بالملاقاة .

   وثانيهما : أن من شرائط التطهير بالماء القليل أن يكون الماء وارداً على النجس ولا يكفي ورد النجس على الماء لأ نّه ينفعل بملاقاة النجس ومع الانفعال لا يمكن أن يطهر به المتنجس بوجه ، وهذا كما إذا وضع أحد يده المتنجسة على ماء قليل فإنّه ينجس القليل لا محالة فلا يطهر به المتنجس بوجه ، وهذا ظاهر وقد استفدنا ذلك من الأخبار الآمرة بصب الماء على المتنجس مرّة أو مرّتين (3). وهذه الرواية قد فرضت ورود النجاسة على الجاري لقوله (عليه السلام) : «إغسله في المركن مرّتين فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة» . فلو لا إلحاقه (عليه السلام) الجاري مطلقاً إلى الكر الذي لا ينفعل بوقوع النجس عليه ، لم يكن وجه لحكمه (عليه السلام) بطهارة الثوب المتنجس بالبول فيما إذا غسلناه في الجاري ، بل اللاّزم أن يحكم حينئذ بانفعال الجاري القليل لوقوع النجس عليه ، فالرواية دلت بالدلالة المطابقية على عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس تنزيلاً له منزلة الكر في الاعتصام ، سواء أوقع الجاري على النجس أم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 8 السطر 11 .

(2) وهي صحيحة محمد بن مسلم المروية في الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

(3) كما في رواية أبي إسحاق النحوي المروية في الوسائل 3 : 395 / أبواب النجاسات ب 1 ح 3 ، ورواية الحلبي في الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 3 ح 2 .

ــ[94]ــ

وقع النجس عليه .

   أمّا الجواب عن أوّل الوجهين فبما تقدّم من أن بيان طهارة الأشياء ونجاستها وإن كان وظيفة الإمام ، إلاّ أن استفادة الطهارة من عدم حكمه (عليه السلام) بالنجاسة إنّما يتم فيما إذا كان (عليه السلام) في مقام البيان من تلك الناحية ، وليس الإمام في الرواية بصدد بيان أن الجاري لا ينفعل بالملاقاة ، وإنّما هو بصدد بيان أن المتنجس بالبول لا بدّ من أن يغسل في المركن مرتين وفي الجاري مرة واحدة ، ومع عدم كونه في مقام البيان كيف يمكن أن يتمسك باطلاق كلامه .

   وأمّا الجواب عن ثاني الوجهين فهو أن ما أفاده من اعتبار ورود الماء القليل على النجس في التطهير به أوّل الكلام ، وهي مسألة خلافية لا يمكن أن يستدل بها على شيء وسيأتي منّا في محلّه(1) عدم اعتبار ذلك في غير الغسلة التي يتعقبها طهارة المحل وفي غسل الثوب المتنجس بالبول في المركن لاطلاق صحيحة محمد بن مسلم فانتظره ، هذا أوّلاً .

   وثانياً : هب أ نّا اعتبرنا ورود الماء على النجس في التطهير به ، إلاّ أ نّه لا مانع من الالتزام بتخصيص ما دلّ على اعتبار ذلك باطلاق تلك الصحيحة ، فبها نخرج عمّا يقتضيه دليل اعتبار الورود في خصوص الجاري القليل ، فإن اعتباره على تقدير القول به لم يثبت بدليل لفظي مطلق حتى تقع بينهما المعارضة ، وسيتضح ذلك في محلّه زائداً على ذلك إن شاء الله .

   ثم إنّه ليس فيما ذكرناه أيّ تناف للالتزام بنجاسة الغسالة ، ولا مانع من أن نكتفي بورود النجس على الماء في التطهير به ونلتزم بنجاسة غسالته بعد غسله فلا تغفل .

   واستدلّ على اعتصام الجاري القليل رابعاً بصحيحة داود بن سرحان قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) ما تقول في ماء الحمّام ؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري»(2) وقد شبّه ماء الحمّام بالماء الجاري مطلقاً ، فيستفاد منها أن الجاري باطلاقه معتصم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قبل المسألة [ 308 ] .

(2) الوسائل 1 : 148 / أبواب الماء المطلق ب 7 ح 1 .

ــ[95]ــ

سواء أ كان قليلاً أم كان كثيراً .

   وقد يناقش في دلالتها بأن وجه الشبه فيها غير معلوم ، ولم يعلم أن الإمام (عليه السلام) شبّه ماء الحمّام بالجاري في أيّ شيء فالرواية مجملة .

   وهذه المناقشة لا ترجع إلى محصّل لأنّ تشبيه ماء الحمّام بالجاري موجود في غيرها من الأخبار أيضاً ، والمستفاد منها أن التشبيه إنّما هو من حيث الاعتصام ، وذلك دفعاً لما ربّما يتوهّم من أن ماء الحمّام قليل في حدِّ نفسه فينفعل بالملاقاة لا محالة ومعه كيف يتطهّر به بمجرّد اتصاله بمادته بالاُنبوب أو بغيره ، فإنّ للحمّامات المتعارفة مادّة جعلية بمقدار الكر بل بأضعافه وتتصل بما في الأحواض الصغيرة بالأنابيب أو بغيرها ، وفي مثلها قد يتوهّم الانفعال نظراً إلى أنّ المادّة الجعلية أجنبية ومنفصلة عمّا في الحياض ، ومجرّد الاتصال بالاُنبوب لا يكفي عند العرف في الاعتصام لاختلاف سطحي الماءين فتصدّى (عليه السلام) لدفع ذلك بأن ماء الحمّام كالجاري بعينه ، فكما أ نّه عاصم لاتصاله بمادته كذلك ماء الحمّام غاية الأمر أن المادّة في أحدهما أصلية وفي الآخر جعلية .

   فالصحيح في الجواب أن يقال : إن نظرهم (عليهم السلام) في تلك الروايات إلى دفع توهّم الانفعال بتنزيل ماء الحمّام منزلة الماء الجاري ، ومن الظاهر أن المياه الجارية في أراضي العرب والحجاز منحصرة بالجاري الكثير ، ولا يوجد فيها جار قليل وإن كان يوجد في أراضي العجم كثيراً ، فالتنظير والتشبيه بلحاظ أن الجاري الكثير كما أ نّه معتصم لكثرته ، ويتقوّى بعضه ببعض ـ  لا بمادته فإنّها ليست بماء كما يأتي  ـ كذلك ماء الحمّام يتقوّى بعضه ببعض ، ولو لأجل مجرّد الاتصال باُنبوب أو بغيره ، فوزان هذه الرواية وزان ما ورد من : «أنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً»(1) بمعنى أ نّه يمنع عن عروض النجاسة عليه لكثرته في نفسه لا لأجل مادته . فإذن لا نظر في الرواية إلى اعتصام الجاري بالمادّة مطلقاً قليلاً كان أم كثيراً وتشبيه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «قلت أخبرني عن ماء الحمّام يغتسل منه الجنب ، والصبيّ ، واليهودي ، والنصراني ، والمجوسي ؟ فقال : إنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً» المروية في الوسائل 1 : 150 / أبواب الماء المطلق ب 7 ح 7 .

ــ[96]ــ

ماء الحمّام به من هذه الجهة .

   فإلى هنا لو كنّا نحن وهذه الأدلّة لحكمنا بانفعال الجاري القليل كما ذهب إليه العلاّمة واختاره الشهيد الثاني في بعض كتبه ، إلاّ أ نّا لا نسلك مسلكهما ، لا لأجل تلك الأدلّة المزيّفة ، بل لأجل ما أراحنا وأراح العالم كلّه ، وهو صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع حيث دلت على عدم انفعال ماء البئر معلّلاً بأن له مادّة ، ولو لا تلك الصحيحة لما كان مناص من الالتزام بما ذهب إليه المشهور من انفعال ماء البئر ولو كان ألف كر .

   والوجه في الاستدلال بها في المقام : أن من الظاهر الجلي أن إضافة الاعتصام إلى ماء وتعليله بأن له مادّة ، إنّما تصح فيما إذا كان قليلاً في نفسه ، فإنّه لو كان كثيراً فهو معتصم بنفسه لا محالة من غير حاجة إلى إسناد اعتصامه إلى شيء آخر وهو المادّة وبهذا دلّتنا الصحيحة على أن القليل إذا كان له مادّة فهو محكوم بالاعتصام ، فإذا فرضنا القليل متنجساً واتصل به المادّة فنحكم بطهارته وعصمته لا محالة . هذا إجمال الاستدلال بالصحيحة ، وإن شئت توضيحه فنقول إنّ الاستدلال بالصحيحة من جهتين :

   إحداهما : أن الصحيحة دلت على أن ما له مادّة ترتفع النجاسة الطارئة عليه بالتغيّر فيما إذا زال عنه تغيره ، فماء البئر يرفع النجاسة العارضة عليه ، لقوله (عليه السلام) : «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادّة» بلا فرق في ذلك بين كثرته وقلته ، لاطلاقها . وإذا ثبت بالصحيحة أن ماء البئر يرفع النجاسة الطارئة عليه ، فيستفاد منها أ نّه دافع للنجاسة أيضاً بالأولوية القطعية عرفاً ، من دون فرق في ذلك بين كثرته وقلته ، لأنّ ما يصلح للرفع فهو صالح للدفع أيضاً بالأولوية القطعية وبعد هذا كلّه نتعدى من مورد الصحيحة وهو ماء البئر إلى كل ما له مادّة كالجاري والعيون لعموم تعليلها .

   وثانيتهما : أ نّا قدّمنا أن ماء البئر إذا زال عن تغيّره ، يحكم بطهارته لاتصاله بالمادّة وعليه فلا يترتّب على الحكم بنجاسة ماء البئر عند ملاقاته النجس ثمرة ، فيصبح لغواً ظاهراً، فإنّه أي أثر للحكم بنجاسة ماء البئر في آن واحد عقلي وما فائدة ذلك الحكم

ــ[97]ــ

حيث إنّه حين الحكم بنجاسته يحكم بطهارته أيضاً لاتصاله بالمادّة ، وما هذا شأنه كيف يصدر عن الحكيم . وبهذه القرينة القطعية تدلّنا الصحيحة على اعتصام ماء البئر مطلقاً كثيراً كان أم قليلاً وبعد ذلك نتعدّى منها إلى كل ما له مادّة لعموم تعليلها كما مرّ ، هذا كلّه في المقام الأول .

   وأمّا الكلام في المقام الثاني : فملخصه أن ما يحتمل أن يكون معارضاً لأدلّة اعتصام الجاري ، هو مفهوم قوله (عليه السلام) : «الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شيء» (1) ، فإنّه دلّ بمفهومه على أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينفعل بالملاقاة مطلقاً سواء أ كان جارياً أم لم يكن ، وقوله (عليه السلام) : كر (2) في جواب السؤال عن الماء الذي لا ينجسه شيء من النجاسات ، لأ نّه صريح في أنّ غير الكر من المياه ينفعل بملاقاة البول وأمثاله من النجاسات ولو كان جارياً ، ولكن لا تعارض بينهما في الحقيقة وذلك لأن الوجهين المتقدمين في تقريب الاستدلال بالصحيحة يجعلان الصحيحة كالنص فتصير قرينة وبياناً بالإضافة إلى الروايتين المذكورتين ، حيث إنّهما حصرا علّة الاعتصام في الكر ، والصحيحة دلّت على عدم انحصارها فيه وبيّنت أن هناك علّة اُخرى للاعتصام ، وهي الاستمداد من المادّة . وبهذا تتقدم الصحيحة على الروايتين ، ولا يبقى بينهما معارضة بالعموم من وجه حتى يحكم بتساقطهما والرجوع إلى عموم الفوق كالنبويّات التي بيّنّا ضعف سندها ، أو إلى قاعدة الطهارة أو يحكم بعدم تساقطهما والرجوع إلى المرجحات السندية على تفصيل في ذلك موكول إلى محلّه .

   ثم لو تنزلنا وبنينا على أ نّهما متعارضان ، بأن قطعنا النظر عن ذيل الصحيحة واقتصرنا على صدرها وهو قوله (عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء» يمكننا الاستدلال أيضاً بصدرها على طهارة ماء البئر على وجه الإطلاق ، فإنّ النسبة بينه وبين ما دلّ على انفعال القليل عموم من وجه ، لأن أدلّة انفعال القليل تقتضي نجاسة القليل بالملاقاة جارياً كان أم غير جار ، وصدر الصحيحة يقتضي عدم نجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 2 ، 5 ، وغيرها .

(2) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الوسائل 1 : 159 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 7.

ــ[98]ــ

ماء البئر ونحوه مما له مادّة قليلاً كان أم كثيراً فيتعارضان في مادّة الاجتماع وهي ماء البئر القليل ، والترجيح أيضاً مع الصحيحة لما بيّنا في محلّه من أن تقديم أحد العامين من وجه على الآخر إذا استلزم إلغاء ما اعتبر من العنوان في الآخر كان ذلك مرجحاً للآخر ويجعله كالنص فيتقدم على معارضه (1) .

   والمقام من هذا القبيل لأ نّا إذا قدمنا الصحيحة على أدلّة انفعال الماء القليل فلا يلزم منه إلاّ تضييق دائرة أدلّة الانفعال ، وتقييدها بغير البئر ونحوه مما له مادّة وهو مما لا محذور فيه ، لأن التخصيص والتقييد أمران دارجان . وأمّا إذا عكسنا الأمر وقدّمنا أدلّة انفعال القليل على الصحيحة فهو يستلزم الحكم بنجاسة القليل حتى لو كان ماء بئر فينحصر طهارة البئر بما إذا كان كراً ، وهو معنى إلغاء عنوان ماء البئر عن الموضوعية ، فإن الكر هو الموجب للاعتصام كان في البئر أم في غيره فاعتصام البئر مستند إلى كونه كراً ، لا إلى أ نّه ماء بئر ، فيصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً ومما لا أثر له . وحيث إن حمل كلام الحكيم على اللغو غير ممكن ، فيكون هذا موجباً لصيرورة الصحيحة كالنص ، وبه تتقدّم على معارضاتها .

   ونظير هذا في الأخبار كثير منها : ما ورد من أن كل شيء يطير فلا بأس بخرئه وبوله(2)، وهو عام يشمل الطير المأكول لحمه وما لا يؤكل لحمه كاللقلق والخفافيش، بناء على أن لها نفساً سائلة ، وورد أيضاً أن البول والخرء من كل ما لا يؤكل لحمه محكومان بالنجاسة (3) ، وهو أيضاً عام يشمل الطير غير المأكول لحمه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 : 389 .

(2) كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه» المروية في الوسائل 3 : 412 / أبواب النجاسات ب 10 ح 1 .

(3) أمّا نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه فلصحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «إغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه» وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل 3  : 405 / أبواب النجاسات ب 8 ح 2 ، 3 وأمّا خرؤه فلأجل عدم الفرق بينه وبين بوله بحسب الارتكاز المتشرعي ، على أ نّه يمكن استفادة ذلك من عدّة روايات اُخر تأتي في محلّها إن شاء الله تعالى كما يأتي ما يدل على نجاسة الخرء في بعض الموارد الخاصة كالكلب والانسان فانتظره . راجع ص 373 .

ــ[99]ــ

وسواء كان بالفوران أو بنحو الرشح . ومثله كل نابع وإن كان واقفاً (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وغير الطير كالهرة ، والنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادّة اجتماعهما ، وهو الطير غير المأكول لحمه ، فإن قدّمنا الأول على الثاني فلا يلزم منه إلاّ تضيق الدليل الثاني وتخصيصه بغير الطير ولا محذور في التخصيص ، وأمّا إذا عكسنا الأمر ، وقدّمنا الثاني على الأول فيلزم منه تقييد الطير الذي لا بأس بخرئه وبوله بما يؤكل لحمه ، وأمّا ما لا يؤكل لحمه من الطير فهو محكوم بنجاسة كلا مدفوعيه ، وعليه يصبح عنوان الطير المأخوذ في لسان الدليل لغواً ، فإن الحكم وهو الطهارة مترتبة على عنوان ما  يؤكل لحمه طيراً كان أو غير طير فأية خصوصية للطير ، وكلام الحكيم يأبى عن اللّغو ، وهذا يصير قرينة على كون الأوّل كالنص وبه يتقدّم على الثاني ويخصِّصه بغير الطائر .

   ثم إنّك عرفت أن التعدي من البئر إلى كل ما له مادّة إنّما هو بتعليل الصحيحة ، إلاّ أنّ مقتضاه اختصاص الحكم بالاعتصام في الجاري بما إذا كان له مادّة على نحو الفوران أو على نحو الرشح ، وأمّا الجاري الذي ينشأ من الموارد الثلجية كما هو الأكثر في الأنهار على ما قيل فهو غير داخل في تعليل الرواية إذ لا مادّة له ، ولكنا لما قدّمناه من صدق عنوان الجاري على مثله فلا نرى مانعاً من ترتيب آثار الجاري عليه ككفاية الغسل فيه مرة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net