الرابع - الخامس 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4142


   الوجه الرابع : استصحاب عدم جعل الحرمة للحيوان الذي اتخذ منه هذا اللباس ، إذ لا ريب في أنّها حادث مسبوق بالعدم الثابت قبل الشرع فيستصحب ذاك العدم ، سواء أكانت الشبهة حكمية كالمتولّد من حيوانين محرّم الأكل ومحلّله ولم يشبه أحدهما كما هو واضح ، أم موضوعية كما لو تردّد الحيوان المتخذ منه اللباس بين الأرنب والشاة ، فانّ الحرمة قد ثبتت للأرنب ـ مثلاً ـ على سبيل القضية الحقيقية المنحلّة بعدد الأفراد الخارجية ، فلكلّ فرد حكم يخصّه ، إذن فالشك في التطبيق شك في تعلّق فرد من الحرمة بالنسبة إلى المشكوك زائداً على الأفراد المتيقّنة ، ومقتضى الأصل عدمه ، هذا .

   وقد أورد عليه المحقق النائيني (قدس سره) بوجوه :

ــ[246]ــ

   أحدها : أنّ عدم الحرمة الثابت قبل الشريعة يغاير في سنخه مع العدم الثابت بعدها ، فانّ الأوّل عدم محمولي من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث لا شرع ليحكم بها أو بعدمها ، ويكون التقابل بينه وبين جعل الحرمة من تقابل السلب والإيجاب .

   وأمّا الثاني فهو عدم نعتي ، أي متّصف بالانتساب إلى الشارع الأقدس ويكون التقابل بينه وبين جعلها من تقابل العدم والملكة(1) .

   وإن شئت فقل : العدم الثابت سابقاً هو عدم الحكم بالحرمة ، والذي نروم إثباته لاحقاً هو الحكم بعدم الحرمة . ومن البيّن أنّ إثبات الثاني بالاستصحاب الجاري في الأوّل من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، فانّ هذا نظير إثبات العمى باستصحاب عدم البصر الثابت قبل الخلقة ، حيث إنّ الثابت سابقاً عدم محمولي ، أي عدم الاتصاف بالرؤية ، فلا يثبت به العدم النعتي ، أي الاتصاف بعدم الرؤية ـ الذي هو معنى العمى ـ إلا على القول بحجيّة الاُصول المثبتة .

   وفيه : أن الشريعة عبارة عن مجموعة أحكام منسوبة لصاحبها ومجعولة لمشرّعها . فان قلنا بأنّ الشارع هو الله سبحانه فلا شبهة في انتساب العدم إليه فهو نعتي حتى قبل بعث الرسول وأمره بنشر الأحكام ، فكان اللحم المزبور جائز الأكل آنذاك ومتصفاً بأنّه لا حرمة له فيستصحب إلى ما بعد البعث .

   وإن قلنا بأنّه النبي (صلى الله عليه وآله) فكذلك ، بداهة أنّ الأحكام لم تجعل دفعة واحدة ، بل كان التشريع على سبيل التدريج ، وكانت تبلّغ شيئاً فشيئاً حسب المصالح الوقتية . إذن فلم تكن حرمة اللحم مجعولة في بدء الشريعة فكان العدم وقتئذ نعتياً بالضرورة فيستصحب .

   ثانيها : أنّا نقطع بجعل حكم لذلك الحيوان في الشريعة المقدسة إما الحرمة أو الإباحة . إذن فاستصحاب عدم الحرمة معارض باستصحاب عدم الإباحة(2) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ذكره في موارد منها ما في أجود التقريرات 2 : 190 .

(2) لم نعثر عليه .

ــ[247]ــ

   وفيه أولاً : ما عرفت آنفاً من أنّ الأحكام تدريجية الحصول ، فكانت الإباحة ثابتة في بادئ الأمر وقبل بيان التحريم كما يفصح عنه قوله تعالى : (قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً . .)الخ(1) فكان كل شيء محكوماً بالترخيص حتى يرد فيه النهي . إذن فالإباحة النعتية سابقة على التحريم فتستصحب من غير معارض له في ظرفه .

   وثانياً : أنّه لا تعارض بين الأصلين المزبورين ، لعدم كون الإباحة موضوعاً لجواز الصلاة ، وإنّما الحرمة اُخذت موضوعاً لعدم الجواز وبتبعه يسند الجواز إلى الإباحة تجوزاً في الإسناد وتوسعاً في الإطلاق ، من غير أن يكون أصيلاً في الجعل كما يتضح ذلك بملاحظة الأدلّة ، وعليه يحمل قوله (عليه السلام) في ذيل موثقة ابن بكير : « . . لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره مما أحلّ الله أكله» حيث إنّه (عليه السلام) بعد أن حكم قبل ذلك بفساد الصلاة فيما حرم أكله فتفريعاً على ما سبق تقتضي طبيعة الحال إيقاع الصلاة في المحلّل حذراً عمّا يوجب الفساد وتجنباً عنه ، من غير أن تكون موضوعية للمحلل بما هو كذلك ، فلا شأن له عدا كونه وسيلة للاجتناب المزبور .

   وعليه فاستصحاب عدم الإباحة لا أثر له ، وإنّما الأثر الوحيد مترتب على استصحاب عدم الحرمة فيجري من دون معارض .

   ثالثها : أنّ للحكم مرحلتين : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول ، فإذا شك في الأوّل وكان موضوعاً للأثر جرى فيه الاستصحاب وجوداً أو عدماً ، كما أنّ الثاني لو كان له أثر وكانت له حالة سابقة كان مجرى للاستصحاب أيضاً . وأمّا الأثر المترتب على مرحلة المجعول ومقام الفعلية كاتصاف الحيوان الخارجي ـ في المقام ـ بعدم الحرمة على تقدير الذبح الشرعي فلا يجري فيه الاستصحاب لا بلحاظ هذه المرحلة لعدم الحالة السابقة ، ولا بلحاظ مرحلة الجعل لأنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنعام 6 : 145.

ــ[248]ــ

استصحاب عدم الجعل لإثبات العدم في مرحلة المجعول من الأصل المثبت الذي لا نقول به(1) .

   ويندفع : بأنّ تغاير مقام الجعل عن المجعول واختلاف سنخ الحكم بلحاظ المرحلتين وإن تكرر في كلمات شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في موارد عديدة من أبحاثه الشريفة ، وفرّع عليه عدم إثبات أحدهما بالاستصحاب الجاري في الآخر مصرّاً عليه ، إلا أنّه لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، فانّ الحكم الشرعي إنّما يجعل بجعل واحد مرة واحدة ، غاية الأمر أنّه مجعول للموضوع المقدر وجوده على سبيل القضية الحقيقية ، فاذالم يوجد موضوعه خارجاً بقي مقصوراً على مقام الإنشاء ، ويعبّر عنه حينئذ بمرحلة الجعل ، وإذا وجد عبّر بمرحلة المجعول ، وأصبح الحكم فعلياً بنفس الجعل الأول لا بجعل آخر . فالفعلية تابعة للجعل ، والقضية قبل تحقق الموضوع فرضية تقديرية ، وبعده فعلية تحقيقية ، لا أنّ هناك سنخين من الحكم يمتاز أحدهما عن الآخر في هويّته وحقيقته ليكون إثبات أحدهما بالأصل الجاري في الآخر من الأصل المثبت .

   ومن ثم يجري استصحاب عدم النسخ لدى الشك في زوال الجعل به ويحكم ببقائه وفعليته لدى تحقق موضوعه ، من غير أن تتطرق شبهة المثبتية مع أنّها لو تمت لعمّت ، لعدم الفرق في مناطها بين استصحاب الوجود أوالعدم كما لا يخفى . فكما أنّ استصحاب الجعل يثبت الحكم الفعلي فكذا استصحاب عدمه ينفيه بمناط واحد .

   وعليه فاذا شك في أنّ الحيوان الذي اتخذ منه هذا الباس هل جعلت له الحرمة أم لا استصحب العدم ، وترتب عليه جواز الصلاة فيه فعلاً .

   والمتحصّل من جميع ما تقدّم : أنّ التمسك بهذا الاستصحاب صحيح ولا إشكال فيه ، والنقود الواردة عليه كلّها مدفوعة بما عرفت .

   أجل ، يبتني ذلك على ما هو الأصح ـ كما سبق ـ من أنّ المانع هو عنوان ما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ذكره في موارد منها ما في اجود التقريرات 2 : 296 ، 409 .

ــ[249]ــ

حرّم الله أكله ، لا ذوات الحيوانات من الأسد والأرنب ونحوهما وكون العنوان المزبور مشيراً إليها ، وإلا فالأصل المزبور لا يترتب عليه عدم كون الحيوان من تلك الذوات إلا على القول بالاُصول المثبتة .

   نعم ، يمكن القول بأنّ هذا الأصل وإن لم ينفع إلا أنّ التشريع لما كان على سبيل التدريج ، من غير فرق بين الأحكام الاستقلالية النفسية وبين التبعية الضمنية كالشرطية والمانعية ، إذن فكان زمان في أول الشريعة ولم تجعل المانعية لذات هذا الحيوان المشكوك ، والآن كما كان ، فيستصحب عدم تقيد الصلاة بعدم وقوعها في اللباس المتخذ منه فينتج صحتها .

   ثم إنّه بناءً على تمامية هذا الاستصحاب ـ كما هو الصواب ـ فلا يفرق الحال فيه بين القول بمانعية الصلاة فيما لا يؤكل أو شرطية الوقوع في المأكول ، إذ كما يثبت بالاستصحاب عدم التحريم يثبت به الحلّ أيضاً فيحرز الشرط ببركة الأصل . فالتفصيل بينهما كما تقدم سابقاً لا وجه له .

   ثم لا يخفى أنّ هذا الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الحيوان المتخذ منه اللباس مردداً بين المأكول وغيره .

   وأمّا إذا تردد بين غير المأكول وبين غير الحيوان كالقطن فلا مجال حينئذ للأصل المزبور ، فانّ عدم الحرمة في غير الحيوان سالبة بانتفاء الموضوع ، بل المرجع أصل آخر حاكم عليه وهو أصالة عدم اتخاذه من الحيوان ، لا عدم حرمته كما لا يخفى .

   الوجه الخامس من الاُصول الموضوعية : التمسك باستصحاب عدم اتصاف المشكوك فيه بكونه جزءاً مما لا يؤكل ، الثابت قبل وجوده ، بتقريب : أنّ الموضوع للحكم ـ أعني المانعية ـ مؤلف من جزأين : كون الشيء لباساً أو محمولاً ونحوهما من أجزاء الحيوان ، واتصافه بكونه جزءاً مما لا يؤكل ، وقد كنّا سابقاً ـ قبل خلق الحيوان ـ على يقين بعدم وجود شيء من الجزأين ، وبعد

ــ[250]ــ

وجود الحيوان وخلقه قد علمنا بانقلاب عدم الجزء الأول إلى الوجود ، وأمّا الجزء الثاني ـ أعني الاتصاف المزبور ـ فلا علم لنا بالانقلاب ، فيحكم ببقاء العدم على ما كان عليه أزلاً .

   وقد اشتهر التعبير عن هذا الاستصحاب في كلماتهم باستصحاب العدم الأزلي ، باعتبار أنّ المستصحب هو العدم الثابت قبل وجود الموضوع غير المحدود بزمان معين ، فكأنّه كان ثابتاً من الأزل .

   وكيف كان ، فقد وقع الخلاف في حجية هذا الاستصحاب ، فاثبته صاحب الكفاية مطلقاً(1) وأنكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كذلك(2) واختار بعض الأعاظم التفصيل في المقام كما ستعرف .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net