أخبار انفعال ماء البئر 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7890


ــ[242]ــ

    أدلّة انفعال ماء البئر بالملاقاة

   فنقول : قد استدلوا على نجاسة ماء البئر بملاقاة النجاسة بأربع طوائف من الأخبار :

   الطائفة الاُولى : الروايات المتضافرة البالغة حدّ التواتر إجمالاً التي دلت على وجوب نزح المقدرات المختلفة باختلاف النجاسات الواقعة في البئر ، لأنها ظاهرة في أن الأمر بالنزح إرشاد إلى نجاسة البئر والنزح مقدمة لتطهيرها ، لا أن النزح واجب شرطي للوضوء والغسل والشرب من ماء البئر عند وقوع النجاسة عليه مع بقائه على الطهارة في نفسه . هذا على أن في الروايات قرائن دلتنا على أن النزح إنما وجب لازالة النجاسة عن البئر .

   فمنها : تفصيله (عليه السلام) في غير واحد من الروايات المذكورة بين تغيّر ماء البئر بالنجاسة فأوجب فيه النزح إلى أن يزول عنه تغيّره ، وبين عدم تغيّره فأمر فيه بنزح أربعين دلواً أو سبعة دلاء أو غير ذلك على حسب اختلاف النجاسات . وهذه قرينة قطعية على أن الغرض من إيجاب النزح إنما هو التطهير ، لأن البئر إذا تغيّرت بالنجاسة لا تطهر إلاّ بزواله كما تطهر في غير صورة التغيّر بنزح المقدرات .

   فمن تلك الأخبار موثقة سماعة ، قال : «سألته عن الفأرة تقع في البئر أو الطير ؟ قال : إن أدركته قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء» (1) . وما عن أبي خديجة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سئل عن الفأرة تقع في البئر قال : إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلواً ، وإذا انتفخت فيه أو نتنت نزح الماء كلّه» (2) .

   ومنها : أي من جملة القرائن ترخيصه (عليه السلام) في التوضؤ من البئر التي وقع فيها حيوان مذبوح ـ بعد نزح دلاء يسيرة منها ـ وهذا كما في صحيحة علي بن جعفر قال : «وسألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر ، هل يصلح أن يتوضأ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 186 / أبواب الماء المطلق ب 18 ح 1 .

(2) الوسائل 1 : 188 / أبواب الماء المطلق ب 19 ح 4 .

ــ[243]ــ

منها ؟ قال : ينزح منها دلاء يسيرة ثم يتوضأ منها ...» (1) لأن قوله (عليه السلام) ثم يتوضأ منها قرينة على أن نزح الدلاء المذكورة إنما كان مقدمة لتطهير البئر ومن هنا جاز التوضؤ منها بعده ولم يجز قبل نزحها .

   ومنها : ما اشتملت عليه بعض الأخبار من كلمة «يطهرها» كما في صحيحة علي ابن يقطين ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال : «سألته عن البئر تقع فيها الحمامة ، والدجاجة والفأرة أو الكلب ، أو الهرة ؟ فقال : يجزيك أن تنزح منها دلاء ، فإن ذلك يطهّرها إن شاء الله تعالى» (2) وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول ، أو دم ، أو يسقط فيها شيء من عذرة كالبعرة ونحوها ، ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها للصلاة ؟ فوقّع (عليه السلام) بخطه في كتابي : ينزح دلاء منها» (3) . فان قوله (عليه السلام) في الرواية الاُولى «يطهرها» صريح في نجاسة البئر بوقوع شيء من النجاسات المذكورة فيها وأن النزح يطهرها ، كما أن قول السائل في الرواية الثانية «ما الذي يطهرها» يكشف عن أن نجاسة البئر بملاقاة النجاسة كانت مفروغاً عنها عنده ، وقرره الإمام (عليه السلام) على اعتقاده حيث بيّن مطهّرها وهو نزح دلاء يسيرة ، ولم يردع عن اعتقاده ذلك .

   وعلى الجملة أن هذه الأخبار بضميمة القرائن المتقدمة صريحة الدلالة على أن البئر تنفعل بملاقاة النجس ، وأن النزح لازالة النجاسة عنها .

   الطائفة الثانية : ما دلّ على منع الجنب من أن يقع في البئر ويفسد ماءها ، كما في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) المروية بطريقين قال : «إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به ، فتيمّم بالصعيد فان ربّ الماء ربّ الصعيد ، ولا تقع في البئر ، ولا تفسد على القوم ماءهم (4) وقد مرّ أن الإفساد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 193 / أبواب الماء المطلق ب 21 ح 1 .

(2) الوسائل 1 : 183 / أبواب الماء المطلق ب 17 ح 2 .

(3) الوسائل 1 : 176 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 21 .

(4) الوسائل 1 : 177 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 22 .

ــ[244]ــ

بمعنى التنجيس على ما بيّناه في شرح قوله (عليه السلام) «ماء البئر واسع لا يفسده شيء» في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ، فالرواية دلت على أن البئر تنفعل بوقوع الجنب فيها ، لنجاسة بدنه .

   الطائفة الثالثة : ما دلّ على لزوم التباعد بين البئر والبالوعة (1) بخمسة أذرع أو بسبعة على اختلاف الأراضي من كونها سهلة أو جبلاً ، واختلاف البئر والبالوعة من حيث كون البئر أعلى من البالوعة أو العكس ، ولا وجه لهذا الاعتبار إلاّ انفعال البئر بالملاقاة ، إذ لو كانت معتصمة لم يفرق في ذلك بين تقارب البالوعة منها وتباعدها عنها . على أن في بعضها تصريحاً بالانفعال إذا كان البعد بينهما أقل من الحد المعتبر .

   الطائفة الرابعة : ما دلّ بمفهومه على انفعال البئر إذا وقع فيها ما له نفس سائلة كصحيحة أبي بصير ، قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عما يقع في الآبار ، فقال : أمّا الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء إلى أن قال : وكل شيء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب ، والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس» (2) . ومفهومها أن الشيء الواقع في البئر إذا كان له دم ففيه بأس . وهذه جملة ما استدل به على عدم اعتصام ماء البئر .

   أمّا الطائفة الاُولى : فاُورد عليها تارة : بأن اختلاف الأخبار الواردة في النزح يشهد على أن النزح مستحب ، ومن هنا لم يهتموا (عليهم السلام) بتقديره على وجه دقيق ، وقد حدّد في بعض الأخبار (3) بمقدار معيّن في نجاسة ، وحدّد في بعض آخر بمقدار آخر في تلك النجاسة بعينها ، وبهذا تحمل الروايات المذكورة على الاستحباب هذا .

   ولا يخفى أن اختلاف الأخبار في بيان الضابطة والمقادير على ما ذكرناه غير مرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 197 / أبواب الماء المطلق ب 24 ح 1 ، 2 ، 3 .

(2) الوسائل 1 : 185 / أبواب الماء المطلق ب 17 ح 11 .

(3) كما في رواية ابن أبي عمير عن كردويه وصحيحة حريز عن زرارة فان الاُولى دلّت على وجـوب نزح ثلاثين دلواً والثانية على وجوب نزح عشرين دلواً في نجاسة واحدة كالـدم والخمر، ونظيرهما غيرهما. المرويّتين في الوسائل 1 : 179 / أبواب الماء المطلق ب 15 ح2،  3.

ــ[245]ــ

لا يكون قرينة على حملها على الاستحباب بوجه ، بل الصناعة العلمية تقتضي الأخذ بالأقل وحمله على الوجوب إذ لا معارض له في شيء ، ويحمل المقدار الأكثر على الاستحباب فهذا الجمع غير وجيه .

   واُخرى : بأن مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين هو حمل أخبار الطهارة على طبيعيها في مقابل النجاسة ، وحمل أخبار النجاسة على مرتبة ضعيفة منها لا تمنع عن شربه ولا عن الوضوء والغسل به ، ولا ترتفع بغير النزح ، ولا نحملها على مرتبة قوية من النجاسة كي تمنع عن استعمال الماء مطلقاً ، وتقع المعارضة بين الطائفتين .

   وفيه أولاً : أن الجمع على هذا الوجه ليس بجمع عرفي يفهمه أهل اللسان إذا عرضنا عليهم المتعارضين ولا يكادون يفهمون من الطهارة طبيعيها ولا من النجاسة مرتبة ضعيفة منها .

   وثانياً : أن الجمع بذلك جمع غير معقول ، لاستحالة اجتماع الطهارة مع النجاسة ولو بمرتبة ضعيفة منها لأنهما ضدّان واجتماعهما مستحيل ، وهل يجتمع البياض مع مرتبة ضعيفة من السواد .

   فالصحيح في المقام أن يقال : إن الطائفتين من أظهر أنحاء المتعارضين فان كل واحدة منهما تنفي ما تثبته الاُخرى فلا محيص فيهما من الترجيح بمرجحات باب المعارضة المقررة في بحث التعادل والترجيح فان قلنا بدلالة الآية المباركة (وأنزلنا من السّماء ماء طهوراً ) (1) وقوله تعالى : (ويُنزِّل عليكم من السّماء ماء ليطهِّركم به )(2) على طهارة جميع أقسام المياه فالترجيح مع الطائفة الدالّة على طهارة ماء البئر لأنها موافقة للكتاب والطائفة الاُخرى مخالفة له ، وموافقة الكتاب أوّل مرجح في باب المعارضة . وأمّا إذا لم نقل بذلك وناقشنا في دلالتهما على الطهارة بالمعنى المصطلح

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفرقان 25 : 48 .

(2) الأنفال 8 : 11 .

ــ[246]ــ

عليه كما قدّمناه سابقاً (1) فلا محالة تصل النوبة إلى المرجح الثاني وهو مخالفة العامة . وقد مرّ (2) أن المذاهب الأربعة مطبقة على انفعال ماء البئر بالملاقاة وكذا غيرها من المذاهب على ما وقفنا عليه من أقوالهم ، فالترجيح أيضاً مع ما دلّ على طهارة البئر لأنها مخالفة للعامة فلا مناص حينئذ من حمل أخبار النجاسة على التقية .

   هذا على أن في الأخبار المذكورة قرينة على أنهم (عليه السلام) لم يكونوا بصدد بيان الحكم الواقعي وإنما كانوا في مقام الاجمال والتقية ، وهذا كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع حيث سأل عما يطهّر البئر فأجاب (عليه السلام) بقوله : «ينزح دلاء منها» (3) ، فان الدلاء جمع يصدق على الثلاثة لا محالة . ولا قائل من الفريقين بمطهرية الدلاء الثلاثة للبئر والزائد عنها غير مبين في كلامه (عليه السلام) . فمن ذلك يظهر أنه (عليه السلام) لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي لأن الاجمال غير مناسب لمقام الإمامة ولمقام البيان ، بل ولا يناسب لمقام الافتاء أيضاً ، فان فقيهاً إذا سئل عن الغسل الذي يطهر به الثوب لم يناسبه أن يجيب بأن الثوب إذا غسل يطهر ، مع أنه يعتبر التعدّد في غسله ، فانّه مجمل وهو في مقام الافتاء وبصدد البيان .

   وكيف كان فهذه الأخبار محمولة على التقية . وبهذا يشكل الافتاء باستحباب النزح أيضاً ، إذ بعد ما سقطت أخبار وجوب النزح عن الاعتبار ، وحملناها على التقية لم يبق هناك شيء يدل على الاستحباب . وبعبارة اُخرى الأخبار الآمرة بالنزح ظاهرة في الارشاد إلى نجاسة البئر بالملاقاة ، وقد رفعنا اليد عن ظاهرها بما دلّ على طهارة البئر وعدم انفعالها بشيء ، وعليه فحمل تلك الأخبار على خلاف ظاهرها من الاستحباب أو الوجوب التعبديين مع بقاء البئر على طهارتها يتوقف على دليل . نعم ، لو كانت ظاهرة في وجوب النزح تعبّداً لحملناها على الاستحباب بعد رفع اليد عن ظواهرها بما دلّ على طهارة البئر ، وعدم وجوب النزح تعبّداً .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 9 .

(2) قد قدّمنا تفاصيل أقوال العامة في أوائل البحث ، فراجع ص 235 .

(3) الوسائل 1 : 176 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 21 .

ــ[247]ــ

   ونظير المقام الأخبار الواردة من طرقنا في أن القيء ، والرعاف(1) ومسّ الذّكر والفرج والقبلة (2) يوجب الوضوء كما هي كذلك عند العامّة (3) . فانّها ظاهرة في الإرشاد إلى ناقضية الاُمور المذكورة للوضوء ، فاذا رفعنا اليد عن ظواهرها بالأخبار الدالّة على حصر النواقض في ست (4) وليس منها تلك الاُمور ، وبنينا على أن الرعاف وأخواته لا تنقض الوضوء ، فلا يمكن حمل الأخبار المذكورة على استحباب الوضوء بعد الرعاف وأخواته ، فانّه إنما يمكن فيما إذا كانت الأخبار ظاهرة في وجوب الوضوء بتلك الاُمور ، وإذا لم نتمكن من العمل بظاهرها لأجل معارضها فلنحملها على الاستحباب ، وأمّا بعد تسليم أنها ظاهرة في الإرشاد إلى الناقضية فلا يبقى في البين ما  يدل على استحباب الوضوء إذا رفعنا اليد عنها بمعارضها ، وحيث إنه خلاف ظاهر الأخبار فلا يصار إليه إلاّ بدليل .

   وتوهّم أن أخبار الطهارة معرض عنها عند أصحابنا الأقدمين ، يندفع بما قدمناه في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في موثقة زرعة عن سماعة ، قال : «سألته عما ينقض الوضوء قال : الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه ، والقرقرة في البطن إلاّ شيئاً تصبر عليه ، والضحك في الصلاة والقيء . وموثقة أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «الرعاف والقيء والتخليل يسيل الدم إذا استكرهت شيئاً ينقض الوضوء» . وصحيحة الحسن بن علي بن بنت إلياس قال : «سمعته يقول : رأيت أبي صلوات الله عليه وقد رعف بعد ما توضأ دماً سائلاً فتوضأ» . المرويات في الوسائل 1 : 263 / أبواب نواقض الوضوء ب 6 ح 11 ، 12 ، وفي المصدر نفسه ص 267 ب 7 ح 13 .

(2) كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «إذا قبّل الرجل المرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء» . وفي الموثق عن عمار بن موسى ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «سئل عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره ؟ قال : نقض وضوءه ، وإن مسّ باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء ، وإن كان في الصلاة قطع الصلاة ويتوضأ ويعيد الصلاة وإن فتح إحليله أعاد الوضوء وأعاد الصلاة» . المرويتين في الوسائل 1 : 272 / أبواب نواقض الوضوء ب 9 ح 9 ، 10 .

(3) راجع المجلد 1 من الفقه على المذاهب الأربعة ص 81 ـ 85 .

(4) الوسائل 1 : 248 / أبواب نواقض الوضوء ب 2 ، 3 ، 4 .

ــ[248]ــ

الاستدلال على طهارة البئر من المناقشة فيه كبرى وصغرى ، فراجع (1) .

   وأمّا الطائفة الثانية : وهي ما دلّ على منع الجنب من الوقوع في البئر ، فالجواب عنها أن صحيحة ابن أبي يعفور لم تفرض نجاسة بدن الجنب والغالب طهارته ، ولا سيما في الأعصار المتقدمة ، حيث كانوا يغتسلون بعد تطهير مواضع النجاسة من أبدانهم إذ لم يكن عندهم خزانة ولا كر آخر وانّما كانوا يغتسلون بالماء القليل ، ومعه لا محيص من تطهير مواضع النجاسة قبل الاغتسال حتى لا يتنجس به الماء ولا يبطل غسله ومع عدم نجاسة بدن الجنب لا وجه لانفعال البئر بوقوعه فيها ، إلاّ أن نلتزم بما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض أصحابه من نجاسة الماء المستعمل في غسل الجنابة ولو مع طهارة بدن الجنب (2) إلاّ أنه كما سنوقفك عليه في محلّه مما لا يمكن التفوه به ، فان اغتسال الجنب ليس من أحد المنجسات شرعاً .

   ثم لو سلمنا نجاسة بدن الجنب فلماذا لم يعلل (عليه السلام) منعه من الاغتسال في الآبار ببطلان الغسل حينئذ ، إذ لو كان بدن الجنب متنجساً فلا محالة يتنجس به الماء والغسل بالماء المتنجس باطل ، وإنما علله بقوله «ولا تفسد على القوم ماءهم» مع أن الغسل قد يتحقق في مورد لا قوم فيه ، أو نفرضه في بئر داره وهي ملكه ، وبهذا وذاك يظهر أن المراد بالافساد في الرواية ليس هو التنجيس ، بل المراد به أحد أمرين :

   أحدهما : أن الطباع البشرية تنزعج عن الماء الذي اغتسل فيه أحد ، وتتنفر عن شربه واستعماله في الأغذية ، ولا سيما بملاحظة أن البدن لا يخلو عن العرق والدسومة والوساخة ، وعليه فالمراد بالافساد إلغاء الماء عن قابلية الانتفاع به ، فغرضه (عليه السلام) نهي الجنب عن الوقوع في البئر كي لا يستلزم ذلك تنفر القوم وعدم رغبتهم في استعمال مائها وبقاء الماء بذلك بلا منفعة .

   وثانيهما : أن الآبار كالأحواض تشتمل على مقدار من الوحل والوساخة المجتمعة في قعرها ، فلو ورد عليها أحد لأوجب ذلك إثارة الوحل وبه يتلوث الماء ويسقط عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ص 237 .

(2) قدّمنا نقل أقوالهم في هذه المسألة في ص 125 ، فراجع .

ــ[249]ــ

الانتفاع به ، وهو معنى الافساد .

   وأمّا الطائفة الثالثة : ـ  وهي الأخبار الواردة في لزوم التباعد بين البئر والبالوعة  ـ فهي أيضاً على طائفتين : فمنها ما لا تعرّض فيه لنجاسة ماء البئر بعد كون البالوعة قريبة منها ، وإنما اشتمل على لزوم التباعد بينهما بمقدار ثلاثة أذرع أو أكثر . ومنها ما  اشتمل على نجاسة البئر أيضاً بتقاربها من البالوعة .

   أمّا الطائفة الاُولى : فهي لا تدل على نجاسة ماء البئر بالملاقاة وإنما اعتبر التباعد بينه وبين البالوعة تحفظاً على نظافة مائها وذلك بقرينية طائفتين من الأخبار إحداهما ما دلّ على عدم انفعال البئر بالملاقاة . وثانيتهما : ما دلّ على أن تقارب البالوعة من البئر لا يوجب كراهة الوضوء ولا الشرب من مائها ، وهي صحيحة محمد بن القاسم عن أبي الحسن (عليه السلام) «في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمس أذرع ، أقل أو أكثر ، يتوضأ منها ؟ قال : ليس يكره من قرب ولا بعد يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء» (1) فهاتان الطائفتان قرينتان على حمل هذه الطائفة من أخبار تباعد البئر والبالوعة على التنزه من الأقذار ، والتحفظ على النظافة التي ندب إليها في الشرع واهتم بها الشارع المقدس ، ولأجل هذا الاهتمام حكم بلزوم التباعد بينهما بمقدار ثلاثة أذرع أو سبعة حيث إن عروق الأرض متصلة والقذارة تسري من بعضها إلى بعض ، فالاستدلال بهذه الطائفة على انفعال البئر ساقط .

   وأمّا الطائفة الثانية : فهي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم ، وأبي بصير كلهم قالوا : «قلنا له : بئر يُتوضأ منها يجري البول قريباً منها أينجّسها ؟ قال : فقال : إن كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع ، أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شيء وإن كان أقل من ذلك نجّسها» (2) وهي كما ترى صريحة في نجاسة البئر بتقاربها من البالوعة فيما إذا لم يكن بينهما قدر ثلاث أذرع أو أربعة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 171 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 4 ، وص 200 ب  24 ح 7 .

(2) الوسائل 1 : 197 / أبواب الماء المطلق ب 24 ح 1 .

ــ[250]ــ

   ويدفعها : أن الرواية مخالفة لضرورة المذهب وللاجماع القطعي بين المسلمين لبداهة أن التقارب من البئر بما هو تقارب ليس من أحد المنجسات شرعاً فان المناط في التنجيس إنما هو سراية النجاسة إلى ملاقيها ، وعليه فان علمنا بالسراية في المقام فنحكم بنجاسة البئر لا محالة وإلاّ فلا موجب للحكم بنجاستها ، وهذا كما إذا وقعت النجاسة في البالوعة في زمان قريب بحيث لا تسري منها إلى البئر في تلك المدة اليسيرة .

   ودعوى أن الإمام (عليه السلام) بصدد بيان الضابط للعلم بسراية النجاسة على غالب الناس ، فان كون التباعد أقل من ثلاثة أذرع أو أربعة يوجب العلم بالسراية في الأغلب ، كما أن كونه أكثر منهما يوجب عدم حصول العلم بالسراية .

   مندفعة : أولاً : بأن تحديد حصول العلم بالسراية بذلك جزاف لأن العلم بالسراية قد يحصل في ثلاثة أذرع ، وقد يحصل العلم بعدم السراية في أقل منها ، فدعوى أن العلم بعدم السراية يحصل في الثلاثة ولا يحصل في أقل منها ولو بنصف ذراع مما لا  أساس له .

   وثانياً : أن حمل تحديده (عليه السلام) على ذلك ليس بأولى من حمله على ما  ذكرناه آنفاً من إرادة التحفظ على نظافة الماء ، لأنها مورد لاهتمام الشارع حتى لا  يستقذره الناس فيحمل التنجيس على القذارة العرفية دون الشرعية ، ومن هنا ورد الأمر بسكب الماء فيما إذا وقع فيه فأرة أو عقرب وهي صحيحة هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حياً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ منه ؟ قال : يسكب منه ثلاث مرات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ...» (1) . فان من الضروري الذي لم يختلف فيه اثنان في الآونة الأخيرة عدم نجاسة العقرب ، ولا سيما إذا خرج عن الماء حياً وكذلك الفأرة إذا خرجت حية ، فلا وجه لحكمه (عليه السلام) بالسكب ثلاث مرات إلاّ دفع الاستقذار عن السطح الظاهر من الماء ، فان الطباع البشرية مجبولة على التنفر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 188 / أبواب الماء المطلق ب 19 ح 5 .

ــ[251]ــ

عن السطح الظاهر من الماء عند وقوع شيء عليه كالذباب إذا وقع في الماء ولا يستقذرون جميعه على ما يدعون . وحيث إن الأمر كما سمعت والنظافة مورد لاهتمام الشارع ، فلا مانع من حمل الطائفة الثانية أيضاً من روايات تباعد البئر والبالوعة على التحفظ على نظافة الماء وعدم قذارته ، فلو أبيت إلاّ عن صراحة الرواية في نجاسة البئر فلا محيص من حملها على التقية ، لأنها موافقة للعامة إذ الرواية حينئذ نظير غيرها من الأخبار الدالّة على نجاسة البئر بالملاقاة وقد مرّ أنها محمولة على التقية .

   فالضابط الكلي في جميع الطوائف المتقدمة المدعى دلالتها على نجاسة البئر ، أنها إن لم تكن صريحة في نجاسة البئر وكانت قابلة لضرب من التأويل ، فنحملها على تحصيل النظافة ودفع الاستقذار الطبعي عن الماء . وإذا كانت صريحة الدلالة على النجاسة أو كالصريح بحيث لم يمكن رفع اليد عن ظهورها فلا بدّ من حملها على التقية ، فأمر الأخبار المذكورة يدور بين التقية والتأويل ، وكل ذلك لتمامية الروايات الدالّة على طهارة البئر ، ولا محيص من الالتزام بذلك ما لم تتغيّر البئر بالنجاسة .

   وتوهّم أن طهارة البئر على خلاف إجماع المتقدمين من الأصحاب ، والالتزام بها خرق للاتفاق القطعي بينهم . يندفع : بأن إجماعهم على نجاسة البئر ليس إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام) لأن مستند حكمهم هو الروايات المتقدمة ومع وضوح المستند أو احتماله لا وقع للاجماع بوجه ولا بدّ من مراجعة ذلك المستند ، وقد أسمعناك بما لا مزيد عليه عدم دلالة شيء من الأخبار المتقدمة على المدعى لحملها على التقية أو على التحفظ على نظافة الماء .

   وأمّا الطائفة الرابعة : وهي صحيحة أبي بصير المتقدمة فقد يجاب عنها بأن البأس ليس بمعنى النجاسة ولا يدل عليها بوجه ، وإنما معناه أن وقوع ما له نفس سائلة ليس كوقوع ما لا نفس سائلة له ، بل فيه بأس وشيء ، وليكن هذا هو استحباب النزح في مثله ، فان وقوع ما لا نفس له لا يوجب استحباب النزح ولا شيئاً آخر . وفيه : أن الرواية بقرينة سائر الأخبار الدالّة على نجاسة البئر بوقوع الميتة فيها ظاهرة في أن ما  وقع في البئر إذا كان له نفس سائلة يوجب نجاستها .

ــ[252]ــ

   فالصحيح في الجواب أن يقال : إن الجمع بينهما وبين ما دلّ على عدم انفعال ماء البئر يقتضي حمل الرواية على ما إذا أ ثّر وقوع ما له نفس سائلة في تغيّر ماء البئر لأن ما دلّ على عدم انفعالها قد استثنى صورة التغيّر كما مرّ ، فالمعنى حينئذ أن ما وقع في البئر إذا لم يكن له نفس سائلة كميتة السمك ونحوها فلا يتنجس به البئر مطلقاً أوجب تغيّرها أم لم يوجبه . إذن التغيّر بغير النجس لا يقتضي النجاسة وهو ظاهر . وأمّا إذا وقع فيها ما له نفس سائلة فان أوجب تغيّرها فيحكم بنجاستها وإلاّ فهي باقية على طهارتها .

   ثم إن أبيت إلاّ عن أن ظاهر الرواية نجاسة البئر بوقوع ما له نفس سائلة مطلقاً تغيّر به ماء البئر أم لم يتغيّر وأن الجمع بالوجه المتقدم على خلاف ظاهرها فلا  محيص من حمل الرواية على التقية ، كما صنعناه في بعض الطوائف المتقدمة ، وبما ذكرناه يمكن الحكم باستحباب النزح شرعاً لأن النظافة أمر مرغوب فيه وقد ندب إليها في الشريعة المقدّسة .

   وعلى الجملة لا دلالة في شيء من الطوائف المتقدمة على انفعال البئر بالملاقاة ، فما ذهب إليه المتأخرون من اعتصامها مطلقاً هو الصحيح . هذا كلّه في المقام الأوّل ومنه يظهر الحال في المقام الثاني أيضاً كما يأتي تفصيله .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net