أدلّة القول بالتخيير في مفروض المسألة - دليل القائل بالتفصيل بين الصوم والصلاة 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء العاشر:الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5052


   وأمّا القول بالتخيير :  فمبني على أحد أمرين على سبيل منع الخلو :

   أحدهما :  دعوى تمامية الروايات المسـتدلّ بها على التمـام ومعارضتها مع أخبار عرفات ، والجمع بينها بالحمل على التخيير بعد سقوط الإطلاق من الطرفين كما مرّ .

   ولكنّه مبني على وجود رواية معتبرة دالّة على التمام في قاصد الرجوع لغير يومه ، وهي مفقودة كما عرفت . فأخبار عرفات لا معارض لها .

ــ[19]ــ

   ثانيهما :  أن يقال إنّ الأخبار الدالّة على ثبوت التقصير في المسافة التلفيقية وإن رجع لغير يومه ـ كأخبار عرفات وغيرها ـ معارضة بما دلّ من الأخبار الكثيرة على تحديد التقصير بثمانية فراسخ امتدادية لا أقل من ذلك ، فانّها ظاهرة في اختصاص لزوم التقصير بالثمانية الامتدادية وعدم ثبوته فيما دونها ، كما أنّ تلك ظاهرة في تعيّن التقصير لدى التلفيق ، فيرفع اليد عن هذا الظهور ، وتحمل نصوص التلفيق على التخيير وأنّ المراد بها جواز القصر لاتعينه، بقرينة نصوص الامتداد النافية للزوم القصر عمّا دون الثمانية . وبذلك يتمّ التخيير المنسوب إلى المشهور .

   وفيه أوّلاً :  أ نّه لا معارضة بين الطائفتين ليتصدّى للعلاج ، فانّ نصوص التلفيق حاكمة على أخبار الامتداد وشارحة للمراد من الثمانية وأ نّها أعمّ من التلفيقية، كما يكشف عنه بوضوح قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا أتى ذباباً قصّر، وذباب على بريد وإنّما فعل ذلك لأ نّه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ» (1) .

   فانّها دالّة على تحقّق الثمانية بالتلفيق ، وأنّ نصوصها وإن كانت ظاهرة في السّير الامتدادي إلاّ أنّ موضوع الحكم أعمّ منه ومن التلفيق ، ومعه فلا موجب لرفع اليد عن ظهور الوجوب في التعييني . إذ لا تعارض بين الحاكم والمحكوم ليحتاج إلى الجمع كما هو ظاهر جدّاً .

 وثانياً :  أنّ هذا الوجه لو تمّ لعمّ وكان سنداً لما نسب إلى الشيخ في التهذيب والاستبصار(2) والمبسوط(3) من الحكم بالتخيير حتّى لو رجع ليومه ، الذي قلنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 461 /  أبواب صلاة المسافر ب 2 ح 15 .

(2) تقدّم مصدرهما في ص 6 .

(3) المبسوط 1 : 141 .

ــ[20]ــ

سابقاً (1) أ نّه لا وجه له ، فيحكم بالتخيير في التلفيق مطلقاً رجع ليومه أو لا فيبقى التفصيل المنسـوب إلى المشهور من تعيّن التقصـير في من رجع ليومه والتخيير في غير يومه عارياً عن الشاهد ، فانّ هذه الأخبار مطلقة من حيث الرجوع ليومه أو غير يومه كما هو ظاهر ، فكيف يمكن التفكيك بينهما .

   وعلى الجملة : هذا التقرير إنّما يصحّ وجهاً لكلام الشيخ لا لمقالة المشهور من التفصيل المزبور كما هو واضح .

   وثالثاً :  أنّ الروايات الواردة في من رجع لغير يومه وعمدتها أخبار عرفات آبية عن الحمل على التخيير جدّاً ، فانّها كالصريح في تعيّن القصر ، وقد عرفت أ نّها غير معرض عنها عند الأصحاب ، بل اعتمدوا عليها وحملوها بزعمهم على التخيير ، مع إباء ألسنتها عن الحمل عليه كما عرفت ، فلا يكون من الجمع العرفي في شيء ، وهذه الأخبار كثيرة :

   منها :  صحيحة معاوية بن عمار : «أ نّه قال لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ أهل مكّة يتمّون الصلاة بعرفات ، فقال : ويلهم أو ويحهم ، وأيّ سفر أشدّ منه لا تتم» (2) فانّ التعبير بالويل أو الويح لا يستقيم مع التخيير .

   ودعوى أنّ الويل راجـع إلى التزامهم بالتمام لعلّـه خلاف صريح الرواية لظهورها في رجوعه إلى نفس العمل أي لا تعمل كعملهم ، لا إلى شيء آخر خارج عنه .

   ومنها :  صحيحة زرارة المشتملة على قصّة عثمان وأمره علياً (عليه السلام) أن يصلّي بالناس بمنى تماماً ، وامتناعه (عليه السلام) عن ذلك أشدّ الامتناع إلاّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 6 .

(2) الوسائل 8 : 463 /  أبواب صلاة المسافر ب 3 ح 1 .

  
 

ــ[21]ــ

أن يصلّي قصراً كما صلّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى آخر القصّة (1) . فلو كان الحكم هو التخيير فما هو الوجه في هذا الامتناع والإصرار عليه .

   فتحصّل :  أنّ الأظهر ما عليه أكثر المتأخّرين ونسبه ابن أبي عقيل إلى آل الرسول من تعيّن القصر وإن لم يرجع ليومه ، وأنّ الثمانية فراسخ لا فرق فيها بين الامتداد والتلفيق مطلقاً .

   نعم ، تضمّـن الفقه الرضوي التصريح بالتفصيل المنسـوب إلى المشهور من تعيّن التقصير في الراجع ليومه ، والتخيير في غير يومه (2) . لكن عرفت مراراً أ نّه لم يثبت كونه رواية فضلاً عن اعتبارها ، ولعلّ الكتاب مجموعة فتاوى لفقيه مجهول . ولو سلّمنا كونه رواية معتبرة فلا مناص من طرحها ، لمعارضتها لأخبار عرفات التي هي روايات مستفيضة مشهورة قد دلّت على تعيّن التقصير كما عرفت .

   بقي الكلام في صحيحة عمران بن محمد ، قال «قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) : جعلت فداك إنّ لي ضيعة على خمسة عشر ميلاً خمسة فراسخ فربّما خرجت إليها فاُقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام ، فاُتمّ الصلاة أم اُقصّر ؟ فقال : قصّر في الطريق وأتمّ في الضيعة» (3) .

   أقول : هذه الرواية لا بدّ من ردّ علمها إلى أهله وإن كانت صحيحة ، فانّ ما تضمّنته من التفصيل بين الضيعة والطريق لم يظهر له وجه أبداً ، إذ الضيعة إن كانت وطناً له ولو شرعاً من أجل إقامته فيها ستّة أشهر ولذلك حكم (عليه السلام) فيها بالتمام، فلماذا يقصّر في الطريق بعد إن لم يكن حينئذ قاصداً للمسافة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 465 /  أبواب صلاة المسافر ب 3 ح 9 .

(2) فقه الرضا : 159 ، 161 .

(3) الوسائل 8 : 496 /  أبواب صلاة المسافر ب 14 ح 14 .

ــ[22]ــ

فانّه لا يستقيم إلاّ بناءً على ما نسب إلى الكليني (1) واختاره بعض المتأخّرين كما في الحدائق (2) من كفاية أربعة فراسخ من دون ضمّ الإياب ، ولكنه مناف للروايات الكثيرة المتضمّنة لتحديد المسافة بالثمانية ولو تلفيقية كما تقدّم ، فلا مناص من طرح الرواية حينئذ لمخالفتها مع الأخبار المتواترة. وإن لم تكن الضّيعة وطناً له فكان قاصداً للسفر الشرعي ولأجله يقصّر في الطريق فلماذا يتمّ في الضّيعة .

   اللّهمّ إلاّ أن يقال ـ كما قيل ـ بأ نّها محمولة على التقية ، حيث إنّ العامّة لا يكتفون بهذا الحد ـ أعني ثمانية فراسخ ـ في تحقّق المسافة كما تقدّم (3) ، وبما أ نّه لا موجب للتقية في الطريق بطبيعة الحال لعدم الابتلاء بالمخالف غالباً فلا مناص ثمّة من التقصير ، وأمّا في الضيعة فالمخالف موجود غالباً ، ولا أقل من وجود فلاّح ونحوه ، ومن ثمّ حكم (عليه السلام) بالتمام تقية ، وإلاّ فلم يظهر وجه لهذا التفكيك ، فانّه خلاف المقطوع به البتّة .

   نعم ، إذا فرضنا ثبوت التخيير المنسوب إلى المشهور أمكن العمل حينئذ بهذه الصحيحة ، بأن يقال : الحكم هو التخيير لمريد الرجوع لغير يومه ولكن القصر في الطريق أفضل ، كما أنّ الاتمام في الضيعة أفضل ، وإن كان مخيّراً بينهما في كلّ منهما . ولكن التخيير غير ثابت في نفسه كما تقدّم ، فلا مناص من طرحها ورد علمها إلى أهله ، أو حملها على التقية كما عرفت .

   بقي الكلام فيما نسب إلى الشيخ وابن البراج كما في الجواهر من التفصيل بين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 5 .

(2) الحدائق 11 : 316 .

(3) في ص 4 .

ــ[23]ــ

الصوم والصلاة فلا يجوز الإفطار ، ويتخيّر في الصلاة بين القصر والتمام (1) . ونسب ذلك إلى المفيد ووالد الصدوق وسلار أيضاً ، ولكن النسـبة غير ثابتة ظاهراً كما في الجواهر . وكيف ما كان ، فهل يمكن الالتزام بهذا التفصيل ؟

   الظاهر أ نّه ممّا لا مناص من الالتزام به بناءً على القول بالتخيير ، فانّا لو بنينا على تعيّن القصر ـ كما هو الصحيح حسبما عرفت ـ فالملازمة حينئذ ثابتة بين القصر والإفطار ، وأ نّه كلّما قصّرت أفطرت ، وبالعكس ، وعليه لا مجال لهذا التفصيل أبداً .

   وأمّا لو بنينا على التخيير ـ كما عليه المشهور ـ فجواز التقصير حينئذ حكم إرفاقي ثبت بدليل خاص ، وإلاّ فهو خارج عن موضوع السفر الشرعي حقيقة كما لا يخفى ، ولم تثبت الملازمة بين جواز التقصـير وبين جواز الإفـطار ، وإنّما مورد الملازمة ما إذا كان التقصير واجباً تعييناً لا ما إذا كان جائزاً . كما أ نّه لم تثبت الملازمة بين جواز الإتمام وجواز الصيام ، ومن هنا يجوز الإتمام في مواطن التخيير ، ولم يثبت جواز الصيام ثمّة بالضرورة ، بل يتعين في حقّه الإفطار بعد كونه مسافراً حقيقة ، بمقتضى الإطلاق في قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ )(2) .

   وعلى الجملة : فجواز القصر لا يلازم جواز الإفطار ، كما أنّ جواز التمام لا يلازم جواز الصيام ، بل كلّ تابع لقيام الدليل عليه ، وقد ثبت التخيير المستلزم لجواز التقصير في المقام بدليل خارجي حسب الفرض، ولم يثبت الجواز بالإضافة إلى الإفطار ، فلا وجه للتعدي عن مورد الدليل ، وقد عرفت أنّ مركز الملازمة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 14 : 216 ، 17 : 140 ـ 141 ، النهاية للشيخ : 122 ، 161 .  [ لكن الموجود في الجواهر : ابن حمزة ، راجع الوسيلة : 108 ، وقد خصّ ـ ابن حمزة ـ التخيير بمن أراد الرجوع من الغد . راجع أيضاً المهذّب لابن البراج 1 : 106 ] .

(2) البقرة 2 : 184 .

ــ[24]ــ

إنّما هو وجوب التقصير لا جوازه .

   فهذا التفصيل بناءً على القول بالتخيير جيّد جدّاً ، بل لا مناص من الالتزام به ، لما عرفت من عدم اندراج المقام بناءً على هذا القول في موضوع المسافر كي يجوز في حقّه الإفطار ، ودليل جواز التقصير المبني على الإرفاق والتسهيل لايستلزمه ما لم يقم عليه دليل بالخصوص ، ولا دليل عليه في المقام كما عرفت .

   والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الصحيح من هذه الأقـوال ما اختاره المتأخّرون ، بل لعلّه المتسالم عليه بينهم من تعيّن التقصير في من قصد أربعة فراسخ وإن رجع لغير يومه ما لم يتخلّل أحد القواطع من قصد الإقامة ونحوه لحكومة أخبار الباب المطلقة من حيث الرجوع ليومه أو غير يومه على أخبار الامتداد ، ودلالتها على أنّ الثمانية المأخوذة موضوعاً لوجوب التقصير أعمّ من الامتداد والتلفيق ، فتحتّم التقـصير الثابت هناك ثابت هنا أيضاً . مضافاً إلى أخبار عرفات الصريحة في ذلك ، مع أنّ المفروض فيها المبيت . فالقول بالتخيير فضلاً عن التمام لا مجال له أصلاً .

   بقي شيء وهو أنّ موضوع البحث في المقام وما هو مورد للنقض والإبرام هو من كان قاصداً للرجوع ولكن لغير يومه ، فكان عازماً على العود دون عشرة أيام كما ذكره ابن أبي عقيل ناسباً له إلى آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) على ما تقدّم عند نقل كلامه .

   فموضوع البحث عند القائل بالتخيير كالصدوق وغيره بل المشهور كما مرّ (1) هو هذا ، كما أنّ القائل بالتمام يدّعيه في هذا الموضوع كالقائل بالتقصير ، فمحلّ الكلام بين الأعلام ومركز الأقوال من التمام أو التقصير أو التخيير هو هذا المورد .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 11 .

ــ[25]ــ

   كما أنّ مورد الروايات من أخبار عرفات وغـيرها ممّا ورد في من ذهب بريداً ورجع بريداً ، التي عرفت حكومتها على أخبار الثمانية الامتدادية ونحو ذلك من سائر الأخبار أيضاً كذلك ، أي ما لو كان قاصداً للرجوع ولو لغير يومه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net