عدم الفرق في حكم المكاري بين من جدّ في سفره وغيره - المناط في تحقّق عنوان مَن عملُه السفر 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء العاشر:الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4008


ــ[158]ــ

وكذا لا فرق بين من جدّ في سفره بأن جعل المنزلين منزلاً واحداً وبين من لم يكن كذلك (1) ،

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعيد جدّاً ، إذ لا شاهد على شيء منهما ، بل الصحيح هو المعنى الذي بيّناه ، غير البعيد عن سياق الكلام حسبما عرفت فلاحظ .

   (1) قد وردت في المسألة روايات كثيرة ، ثلاث منها نقيّة السند وهي :

   صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال : «المكاري والجمال إذا جدّ بهما السير فليقصّروا» (1) .

   وصحيحة الفضل بن عبدالملك قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المكارين الذين يختلفون ، فقال : إذا جدّوا السير فليقصّروا» (2) .

   وصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال : «سألته عن المكارين الذين يختلفون إلى النيل هل عليهم إتمام الصلاة ؟ قال : إذا  كان مختلفهم فليصوموا وليتمّوا الصلاة ، إلاّ أنّ يجدّ بهم السير فليفطروا وليقصّروا» (3) .

   وظاهر هذه النصوص اختصاص التمام الثابت في من شغله السفر بمن لم يجدّ به السير، وإلاّ فحكمه القصر، فتكون منافية للنصوص المتقدّمة المتضمّنة لوجوب التمام على سبيل الإطلاق .

   وقد حملت على محامل عديدة كلّها بعيدة عن الصواب .

   منها :  ما عن العلاّمة (قدس سره) من الحمل على ما لو قصد المكاري إقامة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 490 /  أبواب صلاة المسافر ب 13 ح 1 .

(2) الوسائل 8 : 490 /  أبواب صلاة المسافر ب 13 ح 2 .

(3) الوسائل 8 : 491/ أبواب صلاة المسافر  ب13 ح5، مسائل علي بن جعفر: 115/ 46 .

ــ[159]ــ

عشرة أيام (1) ، نظراً إلى أ نّه بعد هذه الفترة المستوجبة للاعتياد على الراحة يصعب عليه المسير بعدئذ ، فطبعاً يجدّ به السير لو بدأ به ، ويكون عسراً وشاقّاً فلأجله يقصّر ، فيكون المراد السفرة الاُولى بعد العشرة ، لاختصاص الجدّ بها كما لا يخفى .

   وهذا كما ترى حمل بعيد عن ظاهر النصوص ، لا نعرف له وجهاً أبداً .

   ومنها :  ما عن الشهيد في الذكرى من الحمل تارة على ما لو أنشأ المكاري والجمال سفراً غير صنعتهما كالحجّ مثلاً بغير مكاراة أو ما شاكل ذلك ممّا لايكون في نطاق عمله فيجدّ في السير ، واُخرى على ما إذا  كانت المكاراة فيما دون المسافة ويكون جدّ السير بمعنى قصد المسافة (2) .

   ومنها :  ما عن الشهيد في الروض من الحمـل على المكاري أوّل اشتغاله بالمكاراة فيقصد المسافة قبل تحقّق الكثرة(3) ، ولأجله يجهد عليه السير ويتعب .

   ومنها :  ما عن الشيخ والكليني (قدس سرهما) (4) من حمل ذلك على ما إذا أسرع في السير فجعل المنزلين منزلاً فسار سيراً غير عادي ، ولأجله وقع في جدّ وجهد .

   واستشهد الشيخ (قدس سره) لذلك بأمرين :

   أحدهما : ما رواه في الكافي ، قال : وفي رواية اُخرى : «المكاري إذا جدّ به السير فليقصّر ، قال : ومعنى جدّ به السير جعل المنزلين منزلاً» (5) .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المختلف 2 : 531 المسألة 391 .

(2) الذكرى 4 : 317 .

(3) الروض : 390 السطر 22 .

(4) التهذيب 3 : 215 ذيل ح529 [ حيث حكى ذلك عن الكليني وارتضاه، وربما يستفاد من الكافي 3 : 437 ذيل ح 2 ] .

(5) الوسائل 8 : 491 /  أبواب صلاة المسافر ب 13 ح 4 ، الكافي 3 : 437  ذيل ح 2 .

ــ[160]ــ

   الثاني : مرفوعة عمران بن محمد عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : الجمال والمكاري إذا جدّ بهما السير فليقصّرا فيما بين المنزلين ويتما في المنزل» (1) .

   وفي كلا الأمرين ما لا يخفى .

   فانّ الأوّل اجتهاد من الكليني نفسه (2) ، فهو دراية لا رواية ، فلا شهادة فيه ولم يتّضح مستنده في هذا التفسير ، فانّ «الجدّ» لغة بمعنى الشدّة (3) ، وأحد مصاديقها في المقام جعل المنزلين منزلاً ، لا أ نّها تختصّ به ، وربما يكون جدّ السير من أجل الحر أو البرد ، أو كون الطريق وعراً أو مخوفاً ونحو ذلك .

   والثاني : مضافاً إلى ضعف السند من أجل الرفع والإرسال وجهالة حميد بن محمد(4) قاصر الدلالة ، لعدم التعرّض لتفسـير الجدّ بجعل المـنزلين منزلاً ، بل غايته التفصيل بالتقصير فيما بين المنزلين والإتمام في نفس المنزل ، وهذا  كما ترى أجنبي عمّا نحن بصدده .

 وعلى الجملة : فهذه الوجوه كلّها بعيدة وخلاف الظاهر جدّاً ، ولعلّه لذلك عمل بظاهرها جماعة من المتأخّرين كصاحب المدارك(5) والحدائق(6) والمعالم (7)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 491 /  أبواب صلاة المسافر ب 13 ح 3 .

(2) كون التفسير من الكليني نفسه غير واضح وإن أوهمه عبارة الوسائل، بل ظاهر الكافي 3 : 437 ذيل ح 2 خلافه .

(3) المنجد : 80   مادّة جدّ .

(4) [ لم يرد حميد بن محمد في السند، فيحتمل إرادة عمران بن محمد ، وقد وثّقه الشيخ في رجاله : 360 / 5335 ، راجع معجم رجال الحديث 14 : 161 / 9069 ] .

(5) المدارك 4 : 456 .

(6) الحدائق 11 : 393 .

(7) منتقى الجمان 2 : 177 .

 
 

ــ[161]ــ

وغيرهم ، نظراً إلى صحّة أسانيدها ووضوح الدلالة فيها ، فلا وجه لطرحها أو صرفها عن ظهورها .

   وما المانع من الالتزام بالتخفيف في حقّ مثل هذا الشخص الذي يجدّ في سيره أي يسرع زائداً على المقدار المتعارف ويقع من أجله في كلفة ومشقّة ، فكأنّ الشارع راعى حال هذا المتكلّف ، حيث إنّ المكاري كان بمنزلة مَن بيتُه معه ولأجله يتم ، ولكن إذا صادف مثل هذه الكيفـية من السير يتسـامح في حقّه بالترخّص . فتكون هذه الروايات مخصّصة لأدلّة التماميّة المفروضة على المكاري هذا .

   ولكن الظاهر أ نّه لا سبيل للأخذ بهذه النصـوص رغم صحّة أسـانيدها لمهجوريتها عند الأصحاب، وعدم العامل بها إلى زمان صاحب المدارك والمعالم وبعدهما المحقّق الكاشاني(1) وصاحب الحدائق ، حتّى أنّ الكليني لم يعتن بها ولم يذكر شيئاً منها ، بل أشـار إليها بقوله :  وفي رواية أنّ  «المكاري إذا جدّ به السير ... » إلخ ، المشعر بالتمريض والتوقّف وأ نّها موهونة عنده ، وإلاّ كان عليه أن يذكرها ولا سيما مع صحّة أسانيدها . فيفهم من التعبير عدم اعتنائه بشأنها هذا .

   والمسألة كثيرة الدوران ومحلّ للابتلاء غالباً ، حتّى أنّ بعض أصحاب الأئمّة (عليه السلام) كان شغله ذلك كصفوان الجمال ، فلو كان القصر ثابتاً للمكاري المجدّ في السير لاشتهر وبان وشاع وذاع وكان من الواضحات ، كيف ولا قائل به إلى زمان صاحب المدارك كما عرفت .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مفاتيح الشرائع 1 : 24 .

ــ[162]ــ

والمدار على صدق اتخاذ السفر عملاً له عرفاً (1) ولو كان في سفرة واحدة لطولها وتكرّر ذلك منه من مكان غير بلده إلى مكان آخر ، فلا يعتبر تحقّق الكثرة بتعدّد السفر ثلاث مرّات أو مرّتين ، فمع الصدق في أثناء السفر الواحد أيضاً يلحق الحكم وهو وجوب الإتمام ، نعم إذا لم يتحقّق الصدق إلاّ بالتعدّد يعتبر ذلك .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   فيستكشف من هذه القرينة العامّة التي تكرّرت الإشارة إليها في مطاوي هذا الشرح وتمسّـكنا بها في كثير من المقامات عدم ثبوت القصر للمـكاري المزبور . إذن لا بدّ من ردّ علم هذه الروايات إلى أهله ، أو حملها على بعض المحامل المتقدّمة .

   ولا ينافي هذا ما هو المعلوم من مسلكنا من عدم سقوط الصحيح بالإعراض عن درجة الاعتبار ، لعدم اندراج المقام تحت هذه الكبرى ، بل مندرجة تحت تلك الكبرى المشار إليها آنفاً بعد كون المسألة عامّة البلوى وكثيرة الدوران حسبما عرفت .

   (1) قد عرفت أنّ من عمله السفر محكوم بالتمام ، وإنّما الكلام في محقّق هذا العنوان وأ نّه هل ينوط بتكرّر السفر للعمل مرّتين أو ثلاث ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل يدور مدار الصدق العرفي ولو كان ذلك في سفرة واحدة ؟

   احتمل الشهيد الثاني التكرار إلى ثلاث سفرات ، فلا يتم قبلها كما لا يقصّر بعدها، مستدلاًّ عليه بانصراف النصوص إلى الغالب المتعارف وهو هذا المقدار(1) . وفيه : منع الانصراف المدّعى كما لا يخفى .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الروض : 389 السطر 18 .

ــ[163]ــ

   واختار العلاّمة في المختلف اعتبار السفرتين، لتوقّف صدق الاختلاف عليه(1) . وهو أيضاً غير واضح .

   واختار الماتن إناطة الأمر إلى الصدق العرفي ، وهو الصحيح .

   وتفصيل الكلام :  أنّ الروايات الواردة في المقام على طوائف ثلاث :

   الاُولى : ما علّق الحكم فيها على المكاري والجمال والملاح ونحـو ذلك من العناوين الخاصّة .

   الثانية : ما دلّت على ذلك بعناية كون السفر عملاً لهم .

   الثالثة : ما دلّت على عنوان الاختلاف، المقتضي لتكرار السفر على نحو يصدق معه الاختلاف والذهاب والإياب ، فلا تكفي الواحدة ، وهي صحيحة هشام عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان» (2) .

   وحينئذ نقول : لو كنّا نحن والطائفة الاُولى لحكمنا بالتمام متى تحقّقت ذوات العـناوين وإن لم يتصف المتلبّس بها بكونها عملاً له ، كمن كانت له سيارة يستعملها في حوائجه الشخصية فصادف أن شاهد في سفره كثرة الزوار مثلاً وغلاء الاُجرة فكارى سيارته في تلك السفرة ، فانّه يطلق عليه المكاري في هذه الحالة وإن لم يكن ذلك عملاً له ، وهكذا الحال في سائر العناوين من الملاح والجمال ونحوهما .

   إلاّ أنّ الطائفة الثانية خصّت هذه العناوين بمن كان السفر شغلاً وعملاً له .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المختلف 2 : 532 ذيل المسألة 391 .

(2) الوسائل 8 : 484 /  أبواب صلاة المسافر ب 11 ح 1 .

ــ[164]ــ

إذن فيدور الحكم مدار صدق هذا العـنوان الذي ربما يتّفق بسفرة واحدة خصوصاً إذا كانت طويلة ، بل قد يتّفق في أثناء السفر الواحد لا من الأوّل ، كما لو سافر وصادف أ نّه اشترى دواباً فكاري بها وبنى على الاشتغال بالمكاراة .

   وربما لا يصدق إلاّ لدى تعدّد السفرات كما هو الحال في سائر العناوين من الحرف والصناعات ، كما لو كانت له سيارة فكراها لا بقصد المزاولة للعمل بل لأجل غرض آخر ، ثمّ اتّفق بعد أيام كذلك ، ثمّ بعد أيام اُخرى كذلك ، فتكرّر منه العمل على حدٍّ صدق عليه المكاري عرفاً .

   وعلى الجملة : يدور الحكم بعد لحاظ التقييد المزبور على الصدق العرفي الذي قد يتوقّف على التكرّر ، وقد لا يتوقّف حسبما عرفت .

   إلاّ أنّ الطائفة الثالثة اعتبرت عنوان الاختلاف ، المتقوّم بالتكرّر مع البناء على الاستمرار على ذلك كما لا يخفى ، ومن ثمّ قد يتوهّم المعارضة بينها وبين الطائفة المتقدّمة .

   ولكنّ الصحيح عدم المعارضـة ، لابنتائها على أن يكون للوصف ـ أعني التقييد بالاختلاف ـ مفهوم ، والمحقّق في محلّه عدمه ، فلا يدلّ على أنّ غير هذا المورد غير محكوم بهذا الحكم ليتنافى مع ما سبق .

   نعم ، ذكرنا في الاُصول (1) أنّ له مفهوماً بمعنى آخر ، وهو الدلالة على عدم تعلّق الحكم بالطبيعي على إطلاقه وسريانه ، وإلاّ لأصبح التقييد بالوصف لغواً محضاً ، وأمّا أنّ الحكم خاصّ بهذا المورد ومنفي عمّا عداه كما هو معنى المفهوم اصطلاحاً فكلا . فغايته أنّ طبيعي المكاري غير محكوم بالتمام ، لا أ نّه خاصّ بمن يختلف ، ومن الجائز ثبوته لغير هذا الفرد كمن كان شغله السفر وإن لم يختلف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 133 وما بعدها .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net