المراد من حدّ الترخّص - القاعدة الأوّلية في الشرطيتين المتعارضتين 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء العاشر:الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4064


ــ[193]ــ

   والعمدة أنّ الرواية في حدّ نفسها ضعيفة من جهة الإرسال ، فهي مطروحة على كلّ حال . فلا ينبغي التأمّل في سقوط هذا القول ولزوم اعتبار حدّ الترخّص .

   إنّما الكلام في بيان هذا الحدّ وتحقيق مقداره . المعروف والمشهور بين القدماء بل قيل بين القدماء والمتأخِّـرين أ نّه عبارة عن أحد الأمرين : من عدم سماع الأذان أو خفاء الجـدران ، أي الاسـتتار عن البيوت بحيث لا يميّز بعـضها عن بعض وإن رأى شبحاً منها .

   ونسب إلى جماعة من المتأخِّرين اعتبار الأمرين معاً من الخفاء وعدم السماع .

   ونسب إلى الشيخ الصدوق في كتاب المقنع اعتبار خفاء الجدران فقط (1) . ونسب إلى الشيخ المفيد (2) وسلار (3) وجماعة اعتبار خفاء الأذان فقط . ففي المسألة وجوه وأقوال .

   والذي ينبغي أن يقال أوّلاً : إنّ عنوان خفاء الجدران لم يرد بهذا اللّفظ في شيء من الروايات ، وإنّما هو مذكور في كلمات الفقهاء (قدس سرهم) فالتعبير لهم . وأمّا المذكور في الروايات فهو التواري عن البيوت كما في صحيحة محمد ابن مسلم(4) أي تواري المسافر عن أهل البيوت بحيث لا يرونه .

   ومن المعلوم أنّ معرفة هذا الأمر متعذّر بالإضافة إلى المسافر ، إذ لا طريق له إلى إحراز أ نّهم يرونه أو لا يرونه ، ولأجل ذلك عبّر الفقهاء بلازم هذا الأمر وهو خفاء الجـدران ، حيث إنّ المسافر إذا نظر إلى جدران البيوت فلم يرها وخفيت عنه يظهر له بوضوح أنّ أهل البيـوت أيضاً لا يرونه ، وأ نّه متسـتر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المقنع : 125 .

(2) المقنعة : 350 .

(3) المراسم : 75 .

(4) الوسائل 8 : 470 /  أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 1 ، وستأتي في ص 205 .

ــ[194]ــ

ومتوار عنهم ، لما بينهما من الملازمة ، فجعلوا هذا معرّفاً لذلك . ولا بأس به .

   وعلى أي حال فيقع الكلام في أنّ هذين الأمرين أعني عدم سماع الأذان والتواري عن البيوت الذي معرّفه خفاء الجدران ـ كما عرفت ـ هل يعتبران معاً ، أو أحدهما مخيّراً ، أو معيّناً ؟

   قد وقع الخلاف في ذلك كما سمعت ، لأجل اختلاف الأخبار ، إذ هي بين ما اعتبر فيها التواري عن البيـوت كما في صحيحة ابن مسلم المتقدّمة ، وبين ما اعتبر فيها عدم سماع الأذان كما في صحـيحة ابن سنان ، قال : «سـألته عن التقصير ، قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» (1) ونحوها غيرها ممّا دلّت عليه مفهوماً ومنطوقاً ، أي من حيث القصر والتمام .

   وقد أدرجوا المقام في باب الشرطيتين المتعارضتين ، ولأجله مثلوا في الاُصول بذلك ، حيث إنّ مفهوم قوله : إذا لم تسمع الأذان فقصّر ، عدم التقصير مع سماع الأذان ، سواء أخفيت الجدران أم لا ، كما أنّ مفهوم قوله : إذا خفيت الجدران فقصّر ، عدم التقصير مع عدم الخفاء ، سواء أسمع الأذان أم لا ، فتقع المعارضة بينهما لا محالة ، أي بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر .

   فذكروا أنّ القاعدة هل تقتضي تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، أم أ نّها تقتضي تقييد منطوق كلّ منهما بمنطوق الآخر ، ليرجع المعنى إلى قولنا : إذا خفي الأذان وخفي الجدران فقصّر، الذي لازمه اعتبار كلا الأمرين في التقصير، لأجل رفع اليد عن إطلاق كلّ من المنطوقين .

   ونظير ذلك ما ورد في تذكية الحيوان تارة ما مضمونه أ نّه إذا تحرّكت الذبيحة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 472 /  أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 3 .

ــ[195]ــ

فكل ، واُخرى أ نّه إذا خرج الدم الكثير فكل(1) ، فطبعاً تقع المنافاة بين مفهوم كلّ منهما مع الآخر . فهل المعتبر كلا الأمرين ، أو أنّ المعتبر أحدهما فقط دون الآخر .

   وقد ذكرنا في الاُصـول(2) أ نّه لا تعارض بين المنطوقين أنفسهما بوجه ، إذ لا تنافي بين ثبوت التقصير لدى خفاء الأذان وبين ثبوته عند خفاء الجدران أيضاً ، وإنّما المعارضة نشأت من انعقاد المفهوم ودلالة القضـيّة الشرطية على العلّية المنحصرة ، حيث دلّت إحداهما على انحصار علّة الجزاء في هذا الشرط الذي لازمه انتفاؤه لدى انتفائه ، والمفروض أنّ الاُخرى أثبتت الجزاء لدى تحقّق الشرط الآخر ، فتتعارضان لا محالة .

   ففي الحقيقة لا معارضة بين نفس المنطوقين وإن اندفعت المعارضة بتقييد كلّ من المنطوقين بالآخر . إلاّ أ نّه لا مقتضي لذلك ، لما عرفت من عدم المعارضة بينهما . فرفع اليد عن إطلاق كلّ من المنطوقين بلا وجه .

   وعلى الجملة : فالمعارضة ليست إلاّ بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر، أي إطلاق المفهوم لا أصله كما لا يخفى . فنرفع اليد عن إطلاقه في كلّ منهما ونقيّده بمنطـوق الآخر ، فيكون مفهـوم قوله (عليه السلام) : إذا خفي الأذان فقصّر(3) بعد ارتكاب التقييد المزبور أ نّه إذا لم يخف الأذان لاتقصّر إلاّ إذا خفيت الجدران .

   ونتيجة ذلك اعتبار أحد الأمرين من خفاء الأذان أو خفاء الجدران في الحكم بالتقصير ، إذ التقييد المذكور لا يستدعي إلاّ التقييد بـ (أو) لا بالواو . فلا وجه لتقييد المنطوق بالمنطوق المسـتلزم للعطف بالواو كي ترجع النتيـجة إلى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 24 : 24 /  أبواب الذبائح ب 12 .

(2) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 105 .

(3) الوسائل 8 : 472 /  أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 3  (وقد نقل بالمضمون) .

ــ[196]ــ

اعتبار الأمرين معاً ، فانّ هذا بلا موجب كما عرفت .

   ولكن هذا أعني تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، وبيان أ نّه لا معارضة إلاّ بالإطلاق والتقييد إنّما يتّجه فيما إذا كانت القضيتان مسوقتين لبيان موضوع الحكم كما في مثال الذبيحة المتقدّم ، حيث اُنيطت الحلّية في أحد الدليلين باراقة الدم الكثير ، وفي الآخر بحركة الذبيحة كما ورد ذلك عن علي (عليه السلام) فجعل موضوع التذكية في أحدهما الإراقة وفي الآخر الحركة ، فتقع المعارضة حينئذ بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر ، فيجري الكلام المتقدّم من التقييد بـ  (أو) أو بالواو على النحو الذي عرفت .

   وأمّا إذا فرضنا أنّ المذكور في الشرطيتين لم يكن بنفسه موضوعاً للحكم وإنّما هو بيان ومعرّف لحدّ يكون هو الموضوع واقعاً كما هو الحال في المقام فلا يجري فيه ما ذكر .

   وبيانه : أنّ الأخبار تشير إلى بيان حدّ خاصّ من الابتعاد يكون هو المبدأ للتقصير والإفطار ، فانّ مبدأ احتساب المسافة وإن كان هو البلد نفسه كما تقدّم ويتّصف المسافر بكونه مسافراً من لدن خروجه عن البلد ، حيث إنّه مسافر حينئذ حقيقة ، إذ السفر هو البروز والظهور عن البلد ، وهذا قد برز وخرج ، إلاّ أنّ فعلية الحكم المزبور منوطة ببلوغه مقداراً خاصاً من البعد ، وكأ نّه من أجل أنّ توابع البلد ملحق به ، فلا يقصّر إلاّ لدى الابتعاد عن البلد ونواحيه بحيث ينقطع عن البلد رأساً ، فحدّد له حدّ خاصّ من البعد .

   فالنصوص مسوقة لبيان كمّية البعد ، وجعل الخفاء أو عدم السماع علامـة وكاشفاً عن بلوغ تلك الكمّية، وإلاّ فسماع الأذان أو خفاء الجدران لا خصوصية ولا موضوعية لشيء منهما في الحكم ، إذ قد لا يكون للبلد مؤذّن ، أو يقع السفر في غير موقع الأذان كما هو الغالـب ، أو قد يقع السـفر في الليل فيتوارى عن

ــ[197]ــ

البيوت وتخفى الجدران بعد سير خطوات قليلة ، أو يكون المسـافر أعمى ، أو يوجد غيم غليظ يمنع عن الرؤية وغير ذلك من الفروض التي لا يتحقّق معها السماع ولا الخفاء ، ومع ذلك يثبت الإفطار والتقصير جزماً .

   فليس لهذين العنوانين بما هما كذلك مدخلية في الحكم قطعاً، بل هما معرّفان لبلوغ الموضع الخاصّ من البعد الذي هو الحدّ والموضوع الواقعي، أعني الابتعاد من البلد بمقدار لا يسمع الأذان أو تخفى الجـدران ، كما يظهر ذلك بوضوح من قوله في رواية إسحاق بن عمار : «أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجـوا منه» (1) ، حيث دلّ صريحاً على أنّ العـبرة ببلـوغ موضع لا يسمع الأذان ، أي بهذا المقدار من الابتعاد .

   نعم ، الرواية ضعيفة السند وإن عبّر عنها بالموثّقة في كلام جماعة ، لأنّ في سندها محمد بن علي الكوفي الملقّب بأبي سمينة، ولم يوثق، فلا تصلح إلاّ للتأييد .

   وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمل في أنّ الروايات في مقام بيان الحد . وعليه لايجري في مثله الكلام المتقدّم، أعني تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر لتكون العبرة بأحدهما ، إذ لا يمكن أن يكون للشيء حدّان إلاّ إذا فرضنا تطابقهما في الصدق بحيث لا ينفكّ أحدهما عن الآخر .

   ومن الضروري اختلافهما في المقام ، وحصول أحدهما وهو عدم سماع الأذان قبل خفاء الجدران دائماً ، فانّ شعاع البصر ومدى إبصاره أبعد بكثير من مدى الأمواج الصوتية ، ولذا ربما يرى الانسان في البيداء شخصاً من بعيد ويناديه بأعلى صوته فلا يسمع ، وهذا واضح لكلّ أحد .

   على أنّ الأذان لم يعهد وقوعه في آخر البلد ، بل يقع بطبيعة الحال في وسطه أو في المسـجد الواقع في وسط المحلّة الأخيرة . فنفس البلد يشـغل مقداراً من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 466 / أبواب صلاة المسافر ب3 ح11 [ ولايخفى أ نّه من كلام السائل ] .

ــ[198]ــ

البعد لا محالة ، ولو فرض وقوعه في مصر كما هو مورد الرواية المتقدّمة سيما إذا كان من البلدان الكبيرة فربما لا يصل الصوت إلى آخر البلد فضلاً عن خارجه أو أ نّه ينقطع لدى الابتعاد عنه قليلاً كمائة متر أو مائتين ، مع أنّ الجدران أو البيوت بعد ظاهرة لا تخفى إلاّ بعد طيّ مسافة بعيدة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net