من وقائع الرضاع 

الكتاب : مجمع الرسـائل - رسـالة في الرضاع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 10808


ــ[165]ــ


من وقائع الرضاع
 

أروع حادثة عالجها الدكتور محمّد التيجاني السماوي

وانتهى فيها إلى نصرة الحقّ وحلّ العقدة

بما استند إليه من فتاوى الإمام الخوئي (قدّس سرّه)

في كلّ رضاع لم يبلغ حدّ النصاب الصحيح

 

ــ[166]ــ

بسم الله الرحمن الرحيم

يطالع القارئ الكريم كتاب (أحكام الرضاع في فقه الشيعة) وهو ممّا ألقاه الإمام الراحل من المحاضرات الفقهية ، والدراسات الاجتهادية ، والأبحاث العلميّة العُليا ، على صفوة من طلاّبه الذين أعدّهم للاجتهاد ، واختصّهم بالعلم والتحقيق وتوسّم فيهم الزعامة والمرجعيّة ، طرح عليهم أبحاث الرضاع بكلّ شقوقها ومسائلها ، بما فيه من نقاط الخلاف بين المذاهب الإسلامية كمّاً يرجع إلى عدد الرضعات ودفعاتها ، وكيفاً يعود إلى شروطها الخاصّة بها ، تلك التي تنشر الحرمة بين الرضيعين ويجعل المرضعة أُمّاً وإن علت ، وصاحب اللبن أباً وإن علا ، كما تُحقّق الاُخوّة بين الرضيعين وإخوانهما وأخواتهما .

والذي عنانا في هذا التذييل هو ضرورة أن نلحق بالكتاب ما استعرضه الاُستاذ التيجاني في كتابه (ثمّ اهتديت)(1) بما يتّصل بالمحاكم الشرعية ، والأحكام القضائية التي تلابس حياة المسلمين ، وتواجههم ، بوقائع معقّدة لا قِبَل لهم بها تورث بينهم الاختلاف ، وتضطرّهم إلى التخاصم في المحاكم الشرعية ، إبقاءً على الزوجية ، أو البينونة عنها ، بعد أن أصبحوا آباءً واُمّهات لعدد من الأولاد إناثاً وذكوراً ، واختلط بعضهم ببعض .

ولشدّ ما تهدّمت البِنية العائلية ، وتحطّمت الحياة الزوجية ، وتفسّخت العقود وانتهى الأمر إلى تخريج الأولاد على قاعدة (وطء الشبهة) ممّا أصاب العوائل الشريفة الوهن ، واللمز والتجريح ، غير أنّ كتاب (أحكام الرضاع في فقه الشيعة) في كلّ أبحاثه الفقهية ، ومناقشاته الاستدلالية ، واستعراض أقوال الفقهاء من مختلف المذاهب قد استقرّعلى ماهو الحقّ الصراح في المسألة، ومن الله التوفيق، وعلى الله التكلان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اهتدى بالإمام الخوئي (قدّس سرّه) كما أورد ذلك في كتابه هذا .

ــ[167]ــ

يقول الدكتور محمّد التيجاني

في كتاب « ثمّ اهتديت »  

هدى الحقّ

في إحدى قرى الجنوب التونسي وخلال حفل زفاف كانت النساء يتحدّثن عن فلانة زوجة فلان ، واستغربت العجوز الكبيرة التي كانت تجلس وسطهنّ وتسمع حديثهنّ أن تكون فلانة قد تزوّجت فلاناً ، ولمّا سألنها عن سبب استغرابها أخبرتهنّ بأنّها أرضعت الاثنين ، فهما أخوان من الرضاعة ، ونقل النسوة هذا النبأ العظيم إلى أزواجهنّ ، وتثبّت الرجال ، فشهد والد المرأة بأنّ ابنته أرضعتها تلك العجوز المعروفة لدى الجميع بأنّها مرضعة ، كما شهد والد الزوج بأنّ ابنه أرضعته نفس المرضعة ، وقامت قيامة العشيرتين ، وتقاتلوا بالعصي ، كلّ منهما تتّهم الاُخرى بأنّها سبب الكارثة التي سوف تجرّهم إلى سخط الله وعقابه ، وخصوصاً وأنّ هذا الزواج مرّ عليه عشرة أعوام ، وأنجبت المرأة خلالها ثلاثة أطفال ، وقد هربت عند سماعها الخبر إلى بيت أبيها ، وامتنعت عن الأكل والشراب ، وأرادت الانتحار لأنّها لم تتحمّل الصدمة ، وكيف أنّها تزوّجت من أخيها وولدت منه وهي لا تعلم ، وسقط عدد من الجرحى من العشيرتين ، وتدخّل أحد الشيوخ الكبار وأوقف المعارك ونصحهم بأن يطوفوا على العلماء ليستفتوهم في هذه القضية عسى أن يجدوا حلا .

فصاروا يتجوّلون في المدن الكبرى المجاورة يسألون علماءها عن حلّ لقضيّتهم ، وكلّما اتّصلوا بعالم وأطلعوه على الأمر أخبرهم بحرمة الزواج ، وضرورة تفريق الزوجين إلى الأبد وتحرير رقبة أو صيام شهرين ، إلى غير ذلك من الفتاوى .

ــ[168]ــ

ووصلوا إلى قفصة وسألوا علماءها فكان الجواب نفس الشيء ، لأنّ المالكية كلّهم يحرّمون الرضاعة ولو من قطرة واحدة ، اقتداءً بالإمام مالك الذي قاس الحليب على الخمر ، إذ أنّ « ما أسكر كثيره فقليله حرام » ، فتحرم الرضاعة ولو من قطرة واحدة من الحليب ، والذي وقع أنّ أحد الحاضرين اختلى بهم ودلّهم على بيتي قائلا لهم : اسألوا التيجاني في مثل هذه القضايا ، فإنّه يعرف كل المذاهب ، وقد رأيته يجادل هؤلاء العلماء عدّة مرّات فيبزّهم بالحجّة البالغة .

هذا ما نقله إليّ زوج المرأة حرفيّاً عندما أدخلته إلى المكتبة وحكى لي كلّ القضيّة بالتفصيل من أوّلها إلى آخرها ، وقال : ياسيّدي إنّ زوجتي تريد الانتحار وأولادي مهملين ، ونحن لا نعرف حلاًّ لهذه المشكلة ، وقد دلّونا عليك ، وقد استبشرت خيراً لمّا رأيت عندك هذه الكتب التي لم أشهد في حياتي مثلها ، فعسى أن يكون الحلّ عندك .

أحضرت له قهوة ، وفكّرت قليلا ثمّ سألته عن عدد الرضعات التي رضعها هو من المرأة ، فقال : لا أدري ، غير أنّ زوجتي رضعت منها مرّتين أو ثلاث ، وقد شهد أبوها بأنّه حملها مرّتين أو ثلاث مرّات لتلك العجوز المرضعة ، فقلت : إذا كان هذا صحيحاً فليس عليكما شيء، والزواج صحيح وحلال محلّل ، وارتمى المسكين عليّ يقبّل رأسي ويدي ويقول : بشّرك الله بالخير ، لقد فتحت أبواب السكينة أمامي ، ونهض مسرعاً ولم يكمل قهوته ، ولا استفسر منّي ، ولا طلب الدليل ، غير أنّه استأذن للخروج حتّى يسرع فيبشّر زوجته وأولاده وأهله وعشيرته .

لكنّه رجع في اليوم التالي ومعه سبعة رجال وقدمّهم إليّ قائلا : هذا والدي وهذا والد زوجتي ، والثالث هو عمدة القرية ، والرابع إمام الجمعة والجماعة والخامس هو المرشد الديني ، والسادس شيخ العشيرة ، والسابع هو مدير المدرسة وقد جاؤوا يستفسرون عن قضية الرضاعة ، وبماذا حلّلتها .

ــ[169]ــ

وأدخلت الجميع إلى المكتبة ، وكنت أتوقّع جدالهم ، وأحضرت لهم القهوة ورحّبت بهم ، قالوا : إنّما جئناك نناقشك عن تحليلك الرضاعة وقد حرّمها الله في القرآن ، وحرّمها رسوله بقوله : يحرم بالرضاعة ما يحرم بالنسب . وكذلك حرّمها الإمام مالك .

قلت : ياسادتي أنتم ما شاء الله ثمانية وأنا واحد ، فإذا تكلّمت مع الجميع فسوف لن اُقنعكم ، وتضيع المناقشة في الهامشيات ، وإنّما أقترح عليكم اختيار أحدكم حتّى أتناقش معه ، وأنتم تكونون حكماً بيني وبينه .

وأعجبتهم الفكرة واستحسنوها ، وسلّموا أمرهم إلى المرشد الديني قائلين بأنّه أعلمهم وأقدرهم ، وبدأ السيّد يسألني كيف اُحلّل ما حرّم الله ورسوله والأئمّة .

قلت : أعوذ بالله أن أفعل ذلك ، ولكنّ الله حرّم الرضاعة بآية مجملة ، ولم يبيّن تفصيل ذلك ، وإنّما أوكل ذلك إلى رسوله فأوضح مقصود الآية بالكيف والكمّ .

قال : فإنّ الإمام مالك يحرّم الرضاعة من قطرة واحدة .

قلت : أعرف ذلك ، ولكنّ الإمام مالك ليس حجّة على المسلمين ، وإلاّ فما هو قولك بالأئمّة الآخرين ؟

أجاب : رضي الله عنهم وأرضاهم ، فكلّهم من رسول الله ملتمس .

قلت : فما هي إذن حجّتك عند الله في تقليدك الإمام مالك الذي يخالف رأيه نصّ الرسول (صلى الله عليه وآله) ؟

قال محتاراً : سبحان الله ، أنا لا أعلم بأنّ الإمام مالك إمام دار الهجرة يخالف النصوص النبوية .

وتحيّر الحاضرون من هذا القول ، واستغربوا منّي هذه الجرأة على الإمام مالك ، والتي لم يعهدوها من قبل في غيري ، واستدركت قائلا : هل كان الإمام مالك من الصحابة ؟ قال : لا ، قلت : هل كان من التابعين ؟ قال : لا ، وإنّما هو من تابعي

ــ[170]ــ

التابعين ، قلت : فأيّهما أقرب هو أم الإمام علي بن أبي طالب ؟ قال : الإمام علي أقرب ، فهو من الخلفاء الراشدين .

وتكلّم أحد الحاضرين قائلا : سيّدنا علي (كرّم الله وجهه) هو باب مدينة العلم ، فقلت : فلماذا تركتم باب مدينة العلم واتّبعتم رجلا ليس من الصحابة ولا من التابعين ، وإنّما ولد بعد الفتنة وبعد ما اُبيحت مدينة رسول الله لجيش يزيد ، وفعلوا فيها ما فعلوا ، وقتلوا خيار الصحابة ، وانتهكوا فيها المحارم ، وغيّروا سنّة الرسول ببدع ابتدعوها ؟ فكيف يطمئنّ الإنسان بعد ذلك إلى هؤلاء الأئمّة الذين رضيت عنهم السلطة الحاكمة لأنّهم أفتوها بما يلائم أهواءهم .

وتكلّم أحدهم وقال : سمعنا أنّك شيعي تعبد الإمام علياً ، فلكزه صاحبه الذي كان بجانبه لكزة أوجعته وقال له : اسكت ، أما تستحي أن تقول مثل هذا القول لرجل فاضل مثل هذا ، وقد عرفت العلماء وحتّى الآن لم تَر عيني مكتبة مثل هذه المكتبة ، وهذا الرجل يتكلّم عن معرفة ووثوق ممّا يقول .

أجبته قائلا : أنا شيعي ، هذا صحيح ، ولكنّ الشيعة لا يعبدون علياً ، وإنّما عوض أن يقلّدوا الإمام مالك(1) فهم يقلّدون الإمام علياً ، لأنّه باب مدينة العلم حسب شهادتكم .

قال المرشد الديني : وهل حلّل الإمام علي زواج الرضيعين ؟ قلت : لا ولكنّه يحرّم ذلك إذا بلغت الرضاعة خمس عشرة رضعة مشبعات ومتواليات ، أو ما أنبت لحماً وعظماً .

وتهلّل وجه والد الزوجة وقال : الحمد لله ، فابنتي لم ترضع إلاّ مرّتين أو ثلاث مرّات فقط ، وإنّ في قول الإمام علي هذا مخرجاً لنا من هذه الورطة ، ورحمة لنا من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [الظاهر أنّ الصحيح : مالكاً] .

ــ[171]ــ

الله بعد أن يئسنا .

فقال المرشد : أعطنا الدليل على هذا القول حتّى نقتنع ، فأعطيتهم كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي ، وقرأ هو بنفسه عليهم باب الرضاعة ، وفرحوا بذلك فرحاً عظيماً ، وخصوصاً الزوج الذي كان خائفاً أن لا يكون لديّ الدليل المقنع وطلبوا منّي إعارتهم الكتاب حتّى يحتجّوا به في قريتهم ، فسلّمته إليهم ، وخرجوا مودّعين داعين معتذرين .

وبمجرّد خروجهم من بيتي التقى بهم أحد المناوئين ، وحملهم إلى بعض علماء السوء ، فخوّفوهم وحذّروهم بأنّي عميل لإسرائيل ، وأنّ كتاب منهاج الصالحين الذي أعطيتهم إيّاه كلّه ضلالة ، وأنّ أهل العراق هم أهل الكفر والنفاق ، وأنّ الشيعة مجوس ، يبيحون نكاح الأخوات ، فلا غرابة إذن في إباحتي لهم نكاح الاُخت من الرضاعة ، إلى غير ذلك من التّهم والأراجيف ، وما زال بهم يحذّرهم حتّى ارتدّوا على أعقابهم ، وانقلبوا بعد اقتناعهم ، وأجبروا الزوج أن يقوم بقضية عدلية في الطلاق لدى المحكمة الابتدائية في قفصة ، وطلب منهم رئيس المحكمة أن يذهبوا للعاصمة ويتّصلوا بمفتي الجمهورية ليحلّ هذا الإشكال .

وسافر الزوج وبقي هناك شهراً كاملا حتّى تمكّن من مقابلته ، وقصّ عليه قصّته من أوّلها لآخرها ، وسأله مفتي الجمهورية عن العلماء الذين قالوا بحلّية الزواج وصحّته ، وأجاب الزوج بأنّه ليس هناك من قال بحلّيته غير شخص واحد هو التيجاني السماوي ، وسجّل المفتي اسمي ، وقال للزوج : ارجع أنت وسوف أبعث أنا برسالة إلى رئيس المحكمة في قفصة ، وبالفعل جاءت الرسالة من مفتي الجمهورية واطّلع عليها وكيل الزوج وأعلمه بأنّ مفتي الجمهورية حرّم ذلك الزواج .

هذا ما قصّه عليَّ زوج المرأة الذي بدا عليه الضعف والإرهاق من كثرة التعب ، وهو يعتذر إليّ لما سبّبه لي من إزعاج وحرج ، فشكرته على عواطفه متعجّباً

ــ[172]ــ

كيف يُبطل مفتي الجمهورية الزواج القائم في مثل هذه القضية ، وطلبت منه أن يأتيني برسالته التي بعثها إلى المحكمة حتّى أنشرها في الصحف التونسية ، واُبيّن أنّ مفتي الجمهورية يجهل المذاهب الإسلامية ، ولا يعرف اختلافهم الفقهي في مسألة الرضاعة .

وقال الزوج بأنّه لا يمكنه أن يطّلع على ملفّ قضيّته ، فضلا عن أن يأتيني برسالة منه ، وافترقنا .

وبعد بضعة أيّام جاءتني دعوة من رئيس المحكمة ، وهو يأمرني بإحضار الكتاب والأدلّة على عدم بطلان ذلك الزواج بين الرضيعين ، وذهبت محمّلا بعدّة مصادر انتقيتها مسبّقاً ، ووضعت في كلّ منها بطاقة في باب الرضاعة ليسهل تخريجه في لحظة واحدة ، وذهبت في اليوم والساعة المذكورة ، واستقبلني كاتب الرئيس وأدخلني إلى مكتب الرئيس ، وفوجئت برئيس المحكمة الابتدائية ورئيس محكمة الناحية ووكيل الجمهورية ومعهم ثلاثة أعضاء ، وكلّهم يرتدون لباسهم الخاص للقضاء ، وكأنّهم في جلسة رسمية ، ولاحظت أيضاً أنّ زوج المرأة يجلس في آخر القاعة قبالهم ، وسلّمت على الجميع ، فكانوا كلّهم ينظرون إليّ باشمئزاز واحتقار ولمّا جلست كلّمني الرئيس بلهجة خشنة قائلا : أنت هو التيجاني السماوي ؟

قلت : نعم .

قال : أنت الذي أفتيت بصحّة الزواج في هذه القضية ؟

قلت : لا ، لست أنا بمفتِ ، ولكنّ الأئمّة وعلماء المسلمين هم الذين أفتوا بحلّيته وصحّته .

قال : ومن أجل ذلك دعوناك ، وأنت الآن في قفص الاتّهام ، فإذا لم تثبت دعواك بالدليل فسوف نحكم بسجنك ، وسوف لن تخرج من هنا إلاّ إلى السجن .

وعرفت وقتها أنّني بالفعل في قفص الاتّهام ، لا لأنّني أفتيت في هذه القضية

ــ[173]ــ

ولكن لأنّ بعض علماء السوء حدّث هؤلاء الحكّام بأنّني صاحب فتنة ، وأنّني أسبّ الصحابة ، وأبثّ التشيّع لآل البيت النبوي ، وقد قال له رئيس المحكمة : إذا أتيتني بشاهدين ضدّه فسوف اُلقيه في السجن .

أضف إلى ذلك فإنّ جماعة الإخوان المسلمين استغلّوا هذه الفتوى ، وروّجوا لدى الخاص والعام بأنّني اُبيح نكاح الأخوات ، وهو قول الشيعة على زعمهم !

كلّ ذلك عرفته من قبل وتيقّنته عندما هدّدني رئيس المحكمة بالسجن ، فلم يبق أمامي إلاّ التحدّي والدفاع عن نفسي بكلّ شجاعة .

فقلت للرئيس : هل لي أن أتكلّم بصراحة وبدون خوف ؟

قال : نعم تكلّم ، فأنت ليس لك محام ...

قلت : قبل كلّ شيء أنا لم اُنصّب نفسي للإفتاء ، ولكن هاهو زوج المرأة أمامكم فاسألوه فهو الذي جاءني إلى بيتي يطرق بابي ويسألني ، فكان واجباً عليّ أن اُجيبه بما أعلم ، وقد سألته بدوري عن عدد الرضعات ، ولمّا أعلمني بأنّ زوجته لم ترضع غير مرّتين أعطيته وقتها حكم الإسلام فيها ، فلست أنا من المجتهدين ولا من المشرّعين .

قال الرئيس : عجباً ، أنت الآن تدّعي أنّك تعرف الإسلام ونحن نجهله !

قلت : أستغفر الله ، أنا لم أقصد هذا ، ولكن كلّ الناس هنا يعرفون مذهب الإمام مالك ويتوقّفون عنده ، وأنا فتّشت في كلّ المذاهب ووجدت حلاًّ لهذه القضية .

قال الرئيس : أين وجدت الحل ؟

قلت : قبل كلّ شيء هل لي أن أسألكم سؤالا ياسيّدي الرئيس ؟

قال : اسأل كل ما تريد .

قلت : ما قولكم في المذاهب الإسلامية ؟

ــ[174]ــ

قال : كلّها صحيحة ، فكلّهم من رسول الله ملتمس ، وفي اختلافهم رحمة .

قلت : فارحموا إذن هذا المسكين ـ مشيراً إلى زوج المرأة ـ الذي قضى الآن أكثر من شهرين وهو مفارق لزوجه وولده ، بينما هناك من المذاهب الإسلامية من حلّ مشكلته .

فقال الرئيس مغضباً : هات الدليل وكفاك تهريجاً ، نحن سمحنا لك بالدفاع عن نفسك فأصبحت محامياً لغيرك .

فأخرجت له من حقيبتي كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي ، وقلت : هذا مذهب أهل البيت ، وفيه الدليل ، وقاطعني قائلا : دعنا من مذهب أهل البيت فنحن لا نعرفه ولا نؤمن به .

كنت متوقّعاً هذا ، ولذلك أحضرت معي بعد البحث والتنقيب عدّة مصادر لأهل السنّة والجماعة ، وكنت رتّبتها حسب علمي ، فوضعت البخاري في المرتبة الاُولى ، ثمّ صحيح مسلم ، وبعده كتاب الفتاوى لمحمود شلتوت ، وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ، وكتاب زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي وعدّة مصادر اُخرى من كتب أهل السنّة ، ولمّا رفض الرئيس أن ينظر في كتاب السيّد الخوئي سألته عن الكتب التي يثق بها ، قال : البخاري ومسلم ، وأخرجت صحيح البخاري وفتحته على الصفحة المعيّنة ، وقلت : تفضّل ياسيّدي اقرأ .

قال : اقرأ أنت ؟ وقرأت : حدّثنا فلان عن فلان عن عائشة اُمّ المؤمنين قالت : توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم يحرّم من الرضعات إلاّ خمسة فما فوق .

وأخذ الرئيس منّي الكتاب وقرأ بنفسه ، وأعطاه وكيل الجمهورية بجانبه وقرأ هو الآخر ، وناوله لمن بعده ، في حين أخرجت صحيح مسلم وأطلعته على نفس الأحاديث ، ثمّ فتحت كتاب الفتاوى لشيخ الأزهر شلتوت وقد ذكر هو الآخر اختلافات الأئمّة في مسألة الرضاعة ، فمنهم من ذهب إلى القول بأنّ المحرّم ما بلغ

ــ[175]ــ

خمس عشرة رضعة ، ومنهم من قال بسبعة ، ومنهم من حرّم فوق الخمسة ، عدا مالك الذي خالف النصّ وحرّم قطرة واحدة ، ثمّ قال شلتوت : وأنا أميل إلى أوسط الآراء ، فأقول سبعة فما فوق .

وبعد ما اطّلع رئيس المحكمة على كل ذلك قال : يكفي ، ثمّ التفت إلى زوج المرأة وقال له : اذهب الآن واتني بوالد زوجتك ليشهد أمامي بأنّها رضعت مرّتين أو ثلاثة ، وسوف تأخذ زوجتك معك هذا اليوم ...

وطار المسكين فرحاً ، واعتذر وكيل الجمهورية وبقيّة الأعضاء الحاضرين للالتحاق بأعمالهم ، وأذن لهم الرئيس ، ولمّا خلا بنا المجلس التفت إليّ معتذراً وقال : سامحني يااُستاذ ، لقد غلّطوني فيك ، وقالوا فيك أشياءً غريبة ، وأنا الآن عرفت بأنّهم حاسدون ومغرضون ، يريدون بك شرّاً .

وطار قلبي فرحاً بهذا التحوّل السريع ، وقلت : الحمد لله الذي جعل نصري على يديك ياسيّدي الرئيس .

فقال : سمعت بأنّ عندك مكتبة عظيمة ، فهل يوجد فيها كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري ؟

قلت : نعم .

فقال : هل تعيرني إيّاه ، فقد مضى عامان وأنا أبحث عنه .

قلت : هو لك ياسيّدي متى أردت .

قال : هل عندك وقت يسمح لك بالمجيء إلى مكتبتي لنتحدّث وأستفيد منك .

قلت : أستغفر الله ، فأنا الذي أستفيد منك ، فأنت أكبر منّي سنّاً وقدراً وعندي أربعة أيّام راحة في الاُسبوع ، وأنا رهن إشارتك ، واتّفقنا على يوم السبت من كل أسبوع ، لأنّه ليس له جلسات للمحكمة في ذلك اليوم .

وبعدما طلب منّي أن أترك له كتاب البخاري ومسلم وكتاب الفتاوى لمحمود

ــ[176]ــ

شلتوت لكي يحرّر منهم النصّ قام بنفسه وأخرجني من مكتبته مودّعاً ، وخرجت فرحاً أحمد الله سبحانه على هذا النصر ، وقد دخلت خائفاً مهدّداً بالسجن وخرجت وقد انقلب رئيس المحكمة إلى صديق حميم ، يحترمني ويطلب منّي مجالسته ليستفيد منّي ، إنّها بركات طريق أهل البيت الذين لا يخيب من تمسّك بهم ، ويأمن من لجأ إليهم .

وتحدّث زوج المرأة في قريته ، وشاع الخبر في كلّ القرى المجاورة بعدما رجعت المرأة إلى بيت زوجها ، وانتهت القضية بحلّية الزواج ، فأصبح الناس يقولون بأنّي أعلم من الجميع ، وأعلم حتّى من مفتي الجمهورية .

وقد جاء زوج المرأة إلى البيت ومعه سيارة كبيرة ، ودعاني إلى القرية أنا وكل عائلتي ، وأعلمني بأنّ كلّ الأهالي ينتظرون قدومي ، وسيذبحون ثلاثة عجول لإقامة الفرح ، واعتذرت إليه بسبب انشغالي في قفصة ، وقلت له : سوف أزوركم مرّة اُخرى إن شاء الله .

وتحدّث رئيس المحكمة إلى أصدقائه ، واشتهرت القضيّة ، وردّ الله كيد الكائدين ، وجاء بعضهم معتذرين ، وقد فتح الله بصيرة البعض منهم ، فاستبصروا وأصبحوا من المخلصين ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين .

بنقل من كتاب « ثمّ اهتديت » للدكتور التيجاني من ص176 ـ 184




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net