النبوي المشهور 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6664


قوله : وفي النبوي المشهور .

أقول : توضيح الكلام في صحة الحديث وسقمه يقع في مقامين : الأول في سنده ، والثاني في دلالته .

أمّا الأول : فالكلام فيه من جهتين : الاُولى في حجيته عند العامة ، والثانية في حجيته عند الخاصة .

أمّا الكلام في الجهة الاُولى : فإنّ هذا النبوي لم يذكر في اُصول حديثهم إلاّ في قضية الشحوم المحرّمة على اليهود التي نقلت بطرق متعدّدة ، كلّها عن ابن عباس إلاّ في روايتين إحداهما عن جابر والثانية عن عمر ، وقد ذكر في ذيل بعض الروايات التي عن ابن عباس قوله (صلّى الله عليه وآله) : « إنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه »(2) مع إضافة لفظ (أكل) وعلى هذا فيكون غير النبوي المشهور .

ــــــــــــــ
(2) قال : « رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالساً عند الركن ، فرفع بصره إلى السماء فضحك وقال : لعن الله اليهود ـ ثلاثاً ـ إنّ الله حرّم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها إنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه » . راجع السنن الكبرى لأبي بكر أحمد ابن الحسين بن علي الشافعي البيهقي 6 : 13 ومسند أحمد 1 : 409 / 2222 ، 483 / 2673 ، والمستدرك 13 : 73 / أبواب ما يكتسب به ب6 ح8 ، وسنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني 3 : 280 / 3488 باب في ثمن الخمر والميتة .

ــ[34]ــ

نعم ورد في مسند أحمد باسناده عن ابن عباس في بعض روايات تلك القضية(1): « إنّ الله إذا حرّم على قوم شيئاً حرّم عليهم ثمنه » باسقاط لفظ (أكل) . إلاّ أنّ اُصول حديثهم كلها مطبقة على ذكره ، حتى ابن حنبل نفسه نقل ذلك في موضع آخر من كتابه عن ابن عباس كما أشرنا إلى مصدره في الحاشية ، نعم قد أورده الفقهاء من العامة(2) والخاصة(3) في كتبهم الاستدلالية كثيراً مع إسقاط كلمة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) « أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : لعن الله اليهود ، حرّم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها ، وإنّ الله إذا حرّم على قوم شيئاً حرّم عليهم ثمنه » راجع 1 : 530 / 2956 .

(2) راجع حياة الحيوان للدميري ] 1 : 373 ـ 374 مادّة الحمام [ ذيل الحكم قال : وأمّا بيع ذرق الحمام وسرجين البهائم المأكولة وغيرها فباطل ، وثمنه حرام ، هذا مذهبنا ، إلى أن قال : واحتجّ أصحابنا بحديث ابن عباس : « إنّ الله إذا حرّم على قوم شيئاً حرّم عليهم ثمنه » وهو حديث صحيح رواه أبو داود باسناد صحيح ، وهو عام إلاّ ما خرج بدليل كالحمار . أقول : المذكور في المصدر المتقدّم من سنن أبي داود السجستاني مشتمل على كلمة (أكل) فلاحظ
وشرح فتح القدير 6 : 44 استدلّ به على حرمة بيع الخمر ، وغيرهما من كتبهم الاستدلالية .

(3) راجع البحار 100 : 55 / 29 نسبه إلى خط الشيخ محمد بن علي الجبعي ، وفي الخلاف ـ  للشيخ الطوسي 3 : 185 / بيع السرجين ـ استدل به على حرمة بيع السرجين النجس والخلاف 6 : 92 استدل به على حرمة بيع الدهن المتنجّس . والمستند 14 : 65 استدل به على حرمة بيع الخمر ] لا يخفى أنّ الطبعة الأخيرة مشتملة على كلمة أكل [ ، والغنية ] 213 [أول البيع ، وغيرها من الكتب ، من غير اُصول الحديث . ثم إنّ هذه الروايات كلّها ضعيفة السند ، أمّا ما في كتب العامة فواضح ، وأمّا في كتب الخاصة فللإرسال .

ــ[35]ــ

(أكل) تأييداً لمرامهم .

وحاصل ما ذكرناه : أنّ اتّحاد القضية في جميع رواياتها ، وإطباق اُصول حديثهم على ذكر لفظ الأكل ، واتّصال السند فيما يشتمل عليه وفيما لا يشتمل عليه إلى ابن عباس ، وموافقة أحمد على ذكر لفظ أكل في مورد آخر ، كلّها شواهد صدق على اشتباه أحمد ، وأنّ النبوي مشتمل على كلمة أكل .

وأمّا الجهة الثانية : فالنبوي وإن اشتهرت روايته في ألسنة أصحابنا في كتبهم قديماً وحديثاً متضمّنة لكلمة (أكل) تارةً وبدونها اُخرى ، إلاّ أنّ كلّهم مشتركون في نقله مرسلا ، والعذر فيه أنهم أخذوه من كتب العامة ، لعدم وجوده في اُصولهم .

وحيث أثبتنا في الجهة الاُولى أنّ الصحيح عندهم هو ما اشتمل على كلمة (أكل) كان اللازم علينا ملاحظة ما ثبت عندهم . إذن فلم يبق لنا وثوق بكون النبوي المشهور رواية ، فكيف بانجبار ضعفه بعمل المشهور .

وأمّا المقام الثاني : فبعد ما عرفت أنّ الثابت عند العامة والخاصة اشتمال الرواية على كلمة (أكل) كان عمومه متروكاً عند الفريقين ، فإنّ كثيراً من الاُمور يحرم أكله ولا يحرم بيعه ، ومن هنا قال في جوهر النقي حاشية البيهقي(1) في ذيل الحديث المشتمل على كلمة (أكل) : قلت عموم هذا الحديث متروك اتّفاقاً ، بجواز بيع الآدمي والحمار والسنّور ونحوها .

تبيين : لو فرضنا ثبوت النبوي على النحو المعروف لم يجز العمل به أيضاً للإرسال وعدم انجباره بالشهرة وغيرها ، وذلك لأنّ تحريم الشيء الذي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سنن البيهقي مع الجوهر النقي 6 : 13 .

ــ[36]ــ

يستلزم تحريم ثمنه إمّا أن يراد به تحريم جميع منافع ذلك الشيء ، وإمّا تحريم منافعه الظاهرة  ، وإمّا تحريم منافعه النادرة ولو من بعض الجهات .

فعلى الاحتمالين الأولين فالمعنى وإن كان وجيهاً وموافقاً لمذهب الشيعة لقولهم بأنّ ما يحرم جميع منافعه أو منافعه الظاهرة يحرم بيعه ، إلاّ أنّ إثبات اعتمادهم في فتياهم بذلك على النبوي مشكل ، وذلك للوثوق بأنّ مستندهم في تلك الفتيا ليس هو النبوي ، بل هو ما سيأتي(1) في البيع من اعتبار المالية في العوضين لأنّ مالية الأشياء إنما هي باعتبار المنافع الموجودة فيها الموجبة لرغبة العقلاء وتنافسهم فيها ، فما يكون عديماً لجميع المنافع أو للمنافع الظاهرة لا تكون له مالية . إذن فليست هنا شهرة فتوائية مستندة إلى النبوي لتوجب انجباره ، لأنه بناءً على انجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب إنما يكون فيما انحصر الدليل لفتياهم بذلك الخبر الضعيف ، ولم يكن في البين ما يصلح لاستنادهم إليه .

وأمّا على الثالث : فالحرمة لا توجب فساد البيع عند المشهور ليحتمل انجبار النبوي بفتياهم .

فتحصّل : أنه لا يكون شيء من الروايات العامة التي ذكرها المصنف دليلا في المسائل الآتية ، بل لابدّ في كل مسألة من ملاحظة مداركها ، فإن كان فيها ما يدل على المنع اُخذ به ، وإلاّ فالعمومات الدالّة على صحة العقود كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(3) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاض)(4) محكّمة كما تقدّمت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ الجزء الثاني من هذا الكتاب : 24 .

(2) البقرة : 2 : 275 .

(3) المائدة 5 : 1 .

(4) النساء 4 : 29 .

ــ[37]ــ

الإشارة إلى ذلك في أول الكتاب .

بطلان المعاملة على الأعمال المحرّمة

تمهيد : لا يخفى عليك أنّ محل كلامنا في المسائل الآتية إنما هو في الأعيان المحرّمة من الخمر والخنزير والميتة ونحوها ، وأمّا الأعمال المحرّمة كالزنا والنميمة والكذب والغيبة فيكفي في فساد المعاملة عليها الأدلّة الدالّة على تحريمها ، لأنّ مقتضى وجوب الوفاء بالعقود هو وجوب الوفاء بالعقد الواقع على الأعمال المحرّمة ومقتضى أدلّة تحريم تلك الأعمال هو وجوب صرف النفس عنها وإيقاف الحركة نحوها ، فاجتماعهما في مرحلة الامتثال من المستحيلات العقلية . وعلى أقل التقادير فإنّ أدلة صحة العقود ووجوب الوفاء بها مختصة بحكم العرف بما إذا كان العمل سائغاً في نفسه ، فلا وجه لرفع اليد بها عن دليل حرمة العمل في نفسه .

وبما ذكرنا يظهر أنّ الوجه في فساد المعاملة على الأعمال المحرّمة هو استحالة الجمع بين وجوب الوفاء بهذه المعاملة وبين حرمة هذه الأعمال ، أو الحكومة العرفية المذكورة .

وربما يظهر من كلام شيخنا الاُستاذ في حكم الاُجرة على الواجبات أنّ الوجه في ذلك هو عدم كون الأعمال المحرّمة من الأموال أو عدم إمكان تسليمها شرعاً ، حيث قال : الأول : أن يكون العمل الذي يأخذ الأجير أو العامل بازائه الاُجرة والجعل ملكاً له ، بأن لا يكون مسلوب الاختيار بايجاب أو تحريم شرعي عليه(1).

وبملاحظة ما تقدم يظهر لك ما فيه ، فإنّك قد عرفت أنّ صحة المعاملة عليها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 1 : 45 .

ــ[38]ــ

ووجوب الوفاء بها لا يجتمعان مع الحرمة النفسية ، سواء اعتبرنا المالية أو القدرة على التسليم في صحة العقد أم لم نعتبر شيئاً من ذلك .

تقسيم المكاسب إلى الثلاثة أو الخمسة

قوله : قد جرت عادة غير واحد على تقسيم المكاسب .

أقول : المكاسب جمع مكسب ، وهو مفعل من الكسب ، إمّا مصدر ميمي بمعنى الكسب أو التكسّب ، أو اسم مكان من الكسب .

قوله : ممّا ندب إليه الشرع . أقول : أي أمر به بالأمر الاستحبابي ، وقد أشار بذلك إلى الأخبار الواردة في استحباب الرعي(1) والزرع(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فعن العيون : محمد بن عطية ، قال : « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : إنّ الله (عزّوجلّ) أحبّ لأنبيائه من الأعمال الحرث والرعي لئلاّ يكرهوا شيئاً من قطر السماء » . راجع البحار 11 : 64 / 6 ، 100 : 65 / 8 . وعن العيون : عقبة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « ما بعث الله نبياً قطّ حتى يسترعيه الغنم ويعلمه بذلك رعية الناس » . راجع البحار 11 : 64 / 7 . وفي الحديث : « أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال : ما من نبي إلاّ وقد رعى الغنم ، قيل : وأنت يارسول الله ؟ قال : وأنا  » راجع البحار 61 : 117 .

(2) ففي الكافي عن محمد بن عطية قال : « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : إنّ الله (عزّوجلّ) اختار لأنبيائه الحرث والزرع كي لا يكرهوا شيئاً من قطر السماء » وهي مرسلة .

وفي الكافي والتهذيب عن سهل بن زياد رفعه ، قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) : إنّ الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع لئلاّ يكرهوا شيئاً من قطر السماء » وهي ضعيفة بسهل ومرفوعة .

وفي الكافي عن سيّابة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سأله رجل فقال له : جعلت فداك ، أسمع قوماً يقولون إنّ الزراعة مكروهة ، فقال له : ازرعوا واغرسوا ، فلا والله ما عمل الناس عملا أحبّ ولا أطيب منه ، والله ليزرعنّ الزرع وليغرسنّ النخل بعد خروج الدجّال  » وهي مجهولة بسيابة .

وفي الكافي عن يزيد بن هارون الواسطي قال : « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : الزارعون كنوز الأنام ، يزرعون طيباً أخرجه الله (عزّوجلّ) وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً وأقربهم منزلة ، يُدْعون المباركين » مجهولة بيزيد بن هارون . راجع الكافي 5 : 260 / باب فضل الزراعة ، والوسائل 19 : 32 / كتاب المزارعة والمساقاة ب3 ح3 ، 2 ، 1 ، 7 والوافي 17 : 129 / باب فضل الزراعة ، والتهذيب 6 : 384 / 1139 .

وفي التهذيب ] 6 : 384 / 1138 [ عن يزيد بن هارون الواسطي ، قال : « سألت جعفر بن محمد (عليه السلام) عن الفلاّحين ، فقال : هم الزارعون كنوز الله في أرضه ، وما في الأعمال شيء أحب إلى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبياً إلاّ زراعاً إلاّ إدريس (عليه السلام) فإنه كان خياطاً » . وهي مجهولة بيزيد بن هارون . راجع الوسائل 17 : 41 / أبواب مقدّمات التجارة ب10 ح3 ، والباب المتقدّم من الوافي .

ثم إنّ الأخبار في فضل الزرع والغرس كثيرة من الخاصّة ، كالروايات المذكورة وغيرها في الأبواب المزبورة وغيرها . ومن العامة ، وقد أخرجها البيهقي في السنن الكبرى 6 : 137 والبخاري في صحيحه 3 : 135 باب فضل الزرع .

ــ[39]ــ

قوله : فتأمّل . أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ وجوب الصناعات ليس بعنوان التكسّب ، بل لكون تركها يؤدّي إلى اختلال النظام كما سنبيّنه .

أقول ملخّص كلامه : أنّ الفقهاء (رضوان الله عليهم) كالمحقق في الشرائع(1)وغيره في كتبهم قسّموا المكاسب إلى محرّم كبيع الخمر ، ومكروه كبيع الأكفان ومباح كبيع الأشياء المباحة ، وأهملوا ذكر الواجب والمستحب بناءً على عدم وجودهما في المعاملات ، مع أنه يمكن التمثيل للمستحب بمثل الزرع والرعي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شرائع الإسلام 2 : 6 .

ــ[40]ــ

وللواجب بالصناعات الواجبة كفاية إذا وجد أكثر من واحد ممن يقوم بها ، أو عيناً إذا لم يوجد غير واحد .

وفيه : أنّ الأمثلة المذكورة لا تدل على شيء من مراده ، أمّا الزراعة فاستحبابها إنما هو من جهة إيكال الأمر إلى الله وانتظار الفرج منه كما في رواية العياشي(1).

وأمّا الرعاية فاستحبابها لما فيها من استكمال النفس وتحصيل الأخلاق الحسنة وتمرين الطبع على إدارة شؤون الرعية وإزالة الأوصاف الرذيلة من السبعية والبهيمية ، فإنّ من صرف برهة من الزمان في تربية الحيوان صار قابلا لإدارة الإنسان ، ومن هنا كان الأنبياء قبل بعثتهم رعاة للأغنام كما في رواية عقبة المتقدّمة  : « ما بعث الله نبياً قط حتى يسترعيه الغنم ويعلّمه بذلك رعية الناس » وفي النبوي المتقدّم « ما من نبي إلاّ وقد رعى الغنم ، قيل : وأنت يارسول الله ؟ قال : وأنا » . وعلى كل حال فالزراعة والرعي مستحبّان في أنفسهما بما أنهما فعلان صادران من المكلّف ، لا بعنوان التكسّب بهما كما هو محل الكلام ، فلا يصلحان مثلا لما نحن فيه .

وأمّا الصناعات بجميع أقسامها فهي من الاُمور المباحة ، ولا تتّصف بحسب أنفسها بالاستحباب فضلا عن الوجوب ، فلا يكون التكسّب بها إلاّ مباحاً ; نعم إنما يطرأ عليها الوجوب إذا كان تركها يوجب إخلالا بالنظام ، وحينئذ يكون التصدّي لها واجباً كفائياً أو عينياً ، وهذا غير كونها واجبة بعنوان التكسّب .

إزالة شبهة : قد يقال إنّ وجوب الصناعات من جهة أداء تركها إلى اختلال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عن الحسين بن ظريف عن محمد عن أبي عبدالله (عليه السلام) « في قول الله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّل الْمُتَوَكِّلُونَ) قال : الزارعون » وهي مهملة بالحسين بن ظريف ، راجع الوسائل 17  : 42 / أبواب مقدّمات التجارة ب10 ح5 .

 
 

ــ[41]ــ

النظام يقتضي أن يكون التكسّب بها مجانياً ، ولكن هذا يفضي إلى الإخلال بالنظام أيضاً ، ومقتضى الجمع بين الأمرين أن يلتزم بوجوبها مع الاُجرة ، وعلى ذلك فتكون مثالا لما نحن فيه .

ولكن يرد عليه أوّلا : أنّ هذا ليس إلاّ التزاماً بوجوبها لأجل حفظ النظام وعليه فلا يكون التكسّب بعنوانه واجباً .

وثانياً : أنّ الواجب من الصناعات إنما هو الطبيعة المطلقة العارية عن لحاظ المجانية وغيرها ، وما يخلّ بالنظام إنما هو إيجاب العمل مجاناً ، لا ما هو الجامع بينه وبين غيره ، ولا ملازمة بين عدم وجوب الصناعات مجاناً وبين وجوب الجامع غير المقيّد بحصّة خاصة من الطبيعة ، ومن هنا نقول يجب الإقدام عليها عيناً أو كفاية من حيث هي صناعة يختلّ بتركها النظام ، سواء كانت عليها اُجرة أم لا .

والتحقيق : أنّ التقسيم إن كان باعتبار نفس التكسّب فلا محيص عن تثليث الأقسام كما تقدّم ، وإن كان بلحاظ فعل المكلّف والعناوين الثانوية الطارئة عليه فلا مانع من التخميس . ولا يخفى عليك أنّه إذا كان التقسيم بحسب فعل المكلّف لا يختص المثال بالصناعات ، بل يصح التمثيل بما وجب بالنذر أو اليمين أو العهد وبالكسب لقضاء الدين ، أو الإنفاق على العيال ، ونحو ذلك .

لا يقال : إذا ملك الكافر عبداً مسلماً وجب بيعه عليه ، ويكون بيعه هذا من قبيل الاكتساب بالواجب .

فإنه يقال : الواجب هنا في الحقيقة هو إزالة ملكية الكافر للمسلم ، وبيع العبد المسلم إنما وجب لذلك ، ويدلّنا على ذلك أنه لو زال ملكه بغير البيع كالعتق والهبة أو بالقهر كموت الكافر لا يجب البيع .

ــ[42]ــ

معنى حرمة الاكتساب تكليفاً

قوله : ومعنى حرمة الاكتساب .

أقول : الحرمة المتعلّقة بالمعاملة إمّا أن تكون وضعية وإمّا أن تكون تكليفية وبينهما عموم من وجه ، فالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة حرام تكليفاً ، والبيع الغرري حرام وضعاً ، وبيع الخمر حرام وضعاً وتكليفاً ، وكلام المصنّف هنا مسوق لبيان خصوص الحرمة التكليفية في البيع .

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ حرمة البيع تكليفاً تتصوّر على وجوه :

الأول : ما أفاده المحقّق الإيرواني في حاشيته(1)، وهو أنّ معنى حرمة الاكتساب هو إنشاء النقل والانتقال بقصد ترتّب أثر المعاملة ، أعني التسليم والتسلّم للمبيع والثمن ، فلو خلا عن هذا القصد لم يتّصف الانشاء الساذج بالحرمة .

وفيه : أنّ تقييد موضوع الحرمة بالتسليم والتسلّم إنما يتم في الجملة ، لا في جميع البيوع المحرّمة ، وتحقيقه : أنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات على ثلاثة أقسام :

الأول : أن يكون النهي عنها بلحاظ انطباق عنوان محرّم عليها كالنهي عن بيع السلاح لأعداء الدين عند حربهم مع المسلمين ، فإنّ النهي عنه إنما هو لانطباق عنوان تقوية الكفر عليه ، ويدل على ذلك جواز بيع السلاح منهم إذا لم يفض ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 21 .

ــ[43]ــ

إلى تقويتهم على المسلمين ، ولهذا حرم نقل السلاح إليهم بغير البيع أيضاً كإجارته عليهم وهبته لهم وإعارته إيّاهم إذا لزم منه المحذور المذكور .

ومن هنا يتّضح أنّ بين عنوان بيع السلاح منهم وبين عنوان تقوية الكفر وإعانته عموماً من وجه ، إذ قد يباع السلاح منهم ولا يلزم منه تقويتهم ، كبيعه منهم حال الصلح مثلا ، أو حال حربهم مع الكفّار الآخرين ، أو مع المسلمين ولكن بشرط تأخير التسليم إلى ما بعد الحرب ، أو بدون الشرط المذكور ولكن يؤخّر التسليم قهراً عليهم ، فإنّ هذه الموارد لا يلزم من البيع فيها إعانة الكفر على الإسلام  . وقد تحصل تقوية الكفر على الإسلام بغير البيع كإجارة السلاح عليهم أو هبته منهم ، وقد يجتمعان .

إذن فتعلّق النهي بتقوية الكفر على الإسلام لا يستلزم حرمة بيع السلاح لأعداء الدين إلاّ في مادة الاجتماع ، نعم لو كان بين العنوانين تلازم خارجاً لتوجّه الالتزام بحرمة بيع السلاح منهم مطلقاً ، ولكنّك عرفت أنّ الأمر على خلافه .

والثاني : أن يتوجّه النهي إلى المعاملة من جهة تعلّقها بشيء مبغوض ، كالنهي عن بيع الخمر والخنزير والصليب والصنم وآلات القمار وغيرها من الآلات المحرّمة فإنّ النهي عن بيع تلك الاُمور إنما هو لمبغوضيتها ، لا بلحاظ عنوان طارئ على المعاملة كما في القسم الأول .

والثالث : أن يكون النهي عن المعاملة باعتبار ذاتها ، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ، والنهي عن بيع المصحف والمسلم من الكافر بناءً على حرمة بيعهما منه ، فإنّ النهي عن البيع في هذا القسم ليس بلحاظ العناوين الطارئة عليه ولا بلحاظ مبغوضية متعلّقه ، بل لأجل مبغوضية نفسه .

إذا عرفت ما تلونا عليك ظهر لك أنّ تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم والتسلّم المستلزم لتقيّد أدلة تحريمه إنما يتم في القسم الأول فقط ، دون الثاني والثالث

ــ[44]ــ

فلابدّ فيهما من الأخذ باطلاق أدلة التحريم ، لعدم ثبوت ما يصلح لتقييدها ، نعم لو كان دليلنا على التحريم هو عموم ما دل على حرمة الإعانة على الإثم أو الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدمته لجاز تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم والتسلّم ، فإنّ الإعانة على الإثم والمقدّمية إلى الحرام لا يتحقّقان إلاّ بالتسليم والتسلّم .

الوجه الثاني : أن يراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتّب إمضاء العرف والشرع عليه ، بحيث لا يكفي مجرّد صدوره من البائع خالياً عن ذلك القصد  .

وفيه : أنه لا وجه لتقييد موضوع حرمة البيع بذلك أيضاً ، لما مرّ من إطلاق أدلة تحريم البيع مع عدم وجود ما يصلح لتقييدها ، ومن هنا لو باع أحد شيئاً من الأعيان المحرّمة كالخمر مثلا مع علمه بكونه منهياً عنه فقد ارتكب فعلا محرّماً وإن كان غافلا عن قصد ترتّب إمضاء الشرع والعرف عليه ، فإنه لا دليل على دخالة قصد إمضائهما في حرمة بيع الخمر .

الوجه الثالث : ما أفاده العلاّمة الأنصاري وحاصل كلامه : أنّ المراد من حرمة البيع حرمة النقل والانتقال مقيّدة بقصد ترتّب الأثر المحرّم عليه ، كبيع الخمر للشرب ، وآلات القمار للعب ، والصليب والصنم للتعبّد بهما .

وفيه : أنّ تقييد ما دل على تحريم البيع بالقصد المذكور تقييد بلا موجب له ، إذ البيع كغيره من الأفعال إذا حكم الشارع بحرمته وجب التمسك باطلاق دليله حتى يثبت له المقيّد ، نعم لو كان الدليل على حرمة البيع هو ما تقدّمت الإشارة إليه من الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته أو عموم ما دلّ على تحريم الإعانة على الإثم لتم ما ذكره في الجملة ، لكن الكلام أعم من ذلك .

وأمّا ما في المتن من دعوى انصراف الأدلة إلى صورة قصد ترتّب الآثار المحرّمة فهي دعوى جزافية ، ونظيرها أن يدّعى انصراف أدلة تحريم الزنا مثلا إلى ذات البعل . والالتزام بمثل هذه الانصرافات يستدعي تأسيس فقه جديد ، نعم

ــ[45]ــ

لدخالة قصد ترتّب الأثر المحرّم أو المحلّل في حرمة البيع وحلّيته في مثل بيع الصليب والصنم وجه كما سيأتي في النوع الثاني مما يحرم التكسّب به(1).

لا يقال : إنه لا مناص عن تقييد حرمة البيع بقصد ترتّب الأثر المحرّم عليه فإنّ من الجائز قطعاً إعطاء الدرهم للخمّار وأخذ خمره للإهراق مثلا .

فإنه يقال : إنّ ذلك وإن كان جائزاً إلاّ أنه لا يرتبط بأصل المعاملة ، بل هو من أنحاء النهي عن المنكر وقطع مادّة الفساد .

والذي يقتضيه النظر الدقيق أنّ ما يكون موضوعاً لحلّية البيع بعينه يكون موضوعاً لحرمته ، بيان ذلك : أنّ البيع ليس عبارة عن الإنشاء الساذج ، سواء كان الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللفظ كما هو المعروف بين الاُصوليين أم كان بمعنى إظهار ما في النفس من الاعتبار كما هو المختار عندنا ، وإلاّ لزم تحقّق البيع بلفظ (بعت) خالياً عن القصد ، ولا أنّ البيع عبارة عن مجرّد الاعتبار النفساني من دون أن يكون له مظهر ، وإلاّ لزم صدق البائع على من اعتبر ملكية ماله لشخص آخر في مقابل الثمن وإن لم يظهرها بمظهر ، كما يلزم حصول ملكية ذلك المال للمشتري بذاك الاعتبار الساذج الخالي من المبرز ، بل حقيقة البيع عبارة عن المجموع المركّب من ذلك الاعتبار النفساني مع إظهاره بمبرز خارجي ، سواء تعلّق به الإمضاء من الشرع والعرف أم لم يتعلّق ، بل سواء كان في العالم شرع وعرف أم لم يكن . إذن فذلك المعنى هو الذي يكون موضوعاً لحرمة البيع ، وهو الذي يكون موضوعاً لحلّيته ، وهكذا الكلام في سائر المعاملات كما حقّقناه في الاُصول(2) وسيأتي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص236 .

(2) محاضرات في اُصول الفقه 1 ، 4 (موسوعة الإمام الخوئي 43 ، 46) : 219 وما بعدها
169 وما بعدها .

ــ[46]ــ

التعرّض له في أوّل البيع(1) إن شاء الله .

قوله : فهو متفرّع على فساد البيع .

أقول : بعد أن أثبتنا أنّ موضوع الحلّية والحرمة في المعاملات شيء واحد وأنّ ترتّب الأثر على المعاملة من النقل والانتقال أو غير ذلك خارج عن حقيقتها وبعد أن أوضحنا(2) عند التكلّم في الروايات العامة المتقدّمة أنّ الحرمة التكليفية لا تستلزم الحرمة الوضعية ظهر لك بطلان ما ذهب إليه المشهور من أنّ حرمة المعاملة تستلزم فسادها ، كما ظهر بطلان ما نسب إلى أبي حنيفة(3) من أنّ حرمة المعاملة تستلزم صحتها ، وأنه لابدّ في إثبات صحتها وفسادها من التماس دليل آخر غير ما دل على الحرمة التكليفية ، وقد أوضحناه في الاُصول(4)، وتترتّب على ذلك ثمرات مهمّة في المباحث الآتية .

قوله : أمّا لو قصد الأثر المحلّل .

أقول : قد بيّنا أنّ البيع المحرّم لا يخرج بقصد الأثر المحلّل عن الحرمة المتعلّقة به بعنوان البيع ، وأنّ قصد الأثر المحرّم لا يكون مأخوذاً في موضوع تحريم البيع ، فلا مجال لدعوى أنه لو قصد الأثر المحلّل فلا دليل على تحريم المعاملة ، نعم لو قصد حلّيته شرعاً مع كونه محرّماً لتوجّه عليه التحريم من جهة التشريع أيضاً ، كما أنّ الأمر كذلك في سائر المحرّمات المعلومة إذا أتى بها بعنوان الإباحة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجزء الثاني من هذا الكتاب : 53 .

(2) اُشير إلى ذلك في ص11 ، 27 ، 33 ، 36 .

(3) شرح تنقيح الفصول : 173 .

(4) محاضرات في اُصول الفقه 4 (موسوعة الإمام الخوئي 46) : 166 وما بعدها .

ــ[47]ــ

معنى حرمة الاكتساب وضعاً

لا يخفى عليك أنّ معنى الحرمة الوضعية في العقود عبارة عن فساد المعاملة وبطلانها بحيث لا يترتّب عليها أثر من الآثار ، وأنّ الفاسد والباطل عندنا وعند غير الحنفية بمعنى واحد ، وهو ما اختلّ في تلك المعاملة شيء من الشروط التي اعتبرها الشارع ركناً لها ، بحيث يلزم من انتفائها انتفاء المشروط في نظر الشارع .

وأمّا عند الحنفية فإنّ الباطل والفاسد في البيع مختلفان ، فلكل واحد منهما معنى يغاير معنى الآخر ، فالباطل هو ما اختلّ ركنه أو محلّه ، وركن العقد هو بالإيجاب والقبول كما تقدّم ، فإذا اختلّ ذلك الركن كأن صدر من مجنون أو صبي لا يعقل كان البيع باطلا غير منعقد ، وكذلك إذا اختلّ المحل وهو المبيع ، كأن كان ميتة أو دماً أو خنزيراً ، فإنّ البيع يكون باطلا .

وأمّا الفاسد فهو ما اختلّ فيه غير الركن والمحل ، كما إذا وقع خلل في الثمن بأن كان خمراً ، فإذا اشترى سلعة يصح بيعها وجعل ثمنها خمراً انعقد البيع فاسداً ، ينفذ بقبض المبيع ، ولكن على المشتري أن يدفع قيمته غير الخمر ، وكذلك إذا وقع الخلل فيه من جهة كونه غير مقدور التسليم ، كما إذا باع شيئاً مغصوباً منه ولا يقدر على تسليمه ، أو وقع الخلل فيه من جهة اشتراط شرط لا يقتضيه العقد كما سيأتي ، فإنّ البيع في كل هذه الأحوال يكون فاسداً لا باطلا .

ويعبّرون عن الباطل بما لم يكن مشروعاً بأصله ووصفه ، ويريدون بأصله ركنه ومحلّه كما عرفت ... ويريدون بوصفه ما كان خارجاً عن الركن والمحل ... وحكم البيع الفاسد أنه يفيد الملك بالقبض ، بخلاف البيع الباطل فإنّه لا يفيد الملك أصلا(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2 : 201 .

ــ[48]ــ

وقال ابن الهمام الحنفي في شرح فتح القدير : وأيضاً فإنه مأخوذ في مفهومه ـ  الفاسد ـ أو لازم له أنه مشروع بأصله لا وصفه ، وفي الباطل غير مشروع بأصله فبينهما تباين ، فإنّ المشروع بأصله وغير المشروع بأصله متباينان فكيف يتصادقان(1).

إلاّ أنّ أمثال تلك الأقاويل لا تبتني على أساس صحيح من العقل والشرع والعرف واللغة .

جواز المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه
ــــــــــــــ

(1) شرح فتح القدير 6 : 42 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net