قاعدة الغرور 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثاني : البيع-2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5669


وأمّا فيما إذا كان السبب من قبيل المعدّات للفعل الصادر من المباشر لشعوره واختياره كما إذا شوّقه وحركّه إلى قتل أحد فقتله باختياره أو التمس منه شرب خمر فشربه بارادته ففي أمثال ذلك لا دليل على أخذ السبب بالقصاص ونحوه وإن كان عاصياً في مثل التحريك على فعل المحرّمات ، وهذا الكلام أعني أنّ السبب أقوى الخ ليس آية ولا رواية والمقدار الصحيح منه ما أشرنا إليه ، فلا يمكن الاستدلال بذلك في المقام ، لأنّ البائع من أحد معدّات أفعال المشتري لا أنه علّة تامّة لها .

نعم ، ربما يستدلّ في المقام بقاعدة الغرور وهي ما ورد في بعض الأخبار(1)من أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه ، وهي وإن كانت ضعيفة إلاّ أنّها منجبرة بعمل الأصحاب ، وإن استشكلنا في الانجبار بحسب الصغرى والكبرى في بحث الشهرة(2) إلاّ أنّها على تقدير تماميتها تكون المضمّنات ثلاثة : قاعدة اليد والاتلاف ، والغرور .

ولكن أشرنا إلى أنّ الرواية الواردة في قاعدة الغرور ضعيفة السند وقد عرفت في محلّه أنّ الرواية الضعيفة لا تنجبر بعمل الأصحاب فلا يمكن الاعتماد عليها في المقام . بل لو قلنا بالانجبار بعمل الأصحاب في الأخبار الضعاف أيضاً لا يمكننا الالتزام بصحّة الرواية في المقام ، لما فيه من الخصوصية المانعة عن الانجبار وهي أنّ القائلين برجوع المشتري على البائع بما اغترمه في مقابل المنافع غير المستوفاة إنّما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ستأتي مصادرها في الصفحة الآتية .

(2) راجع مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 235 .

ــ[87]ــ

استندوا إلى الأخبار الواردة في ذلك لا إلى تلك الرواية الدالّة على أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه ، فلم يتحقّق صغرى الانجبار بعمل الأصحاب ، هذا .

مضافاً إلى أنه يمكن أن يقال إنّ هذه القاعدة على إطلاقها ممّا لا يمكن الالتزام به ، وذلك لأنّ أحداً إذا شوّق آخر إلى شراء شيء بأنه ستترقّى قيمته وأنّ له مشترين كثيرين في البلد ، وبتشويقه ذلك اشتراه المشتري ثمّ انكشف أنه لا مشتري له في البلد أصلا وأنّ قيمته لم تترقّ بوجه ، فهل يفتي فقيه بضمان ذلك المشوّق للمشتري بدعوى أنه غرّه في المعاملة .

فالمتحصّل أنّ هذه القاعدة ممّا لا يمكن الاستدلال بها في المقام .

وأمّا الأخبار التي استدلّ بها القائلون برجوع المشتري على البائع بالغرامات  ، فهي ما ورد(1) في أنّ من زوّج امرأة عوراء أو بها أحد العيوب المجوّزة للفسخ من شخص آخر مع علمه بالحال يغرم مهرها ولا شيء على زوجها ، لأنّ المزوّج قد غرّه بذلك ، أو من زوّج أمة من شخص آخر وكان عالماً بالحال فعليه مهرها ولا شيء على زوجها ، وهكذا .

إلاّ أنّ هذه روايات خاصّة قد وردت في خصوص المزوّج العالم بالحال فلا يمكننا التعدّي منها إلى سائر الموارد أبداً ، بل لا نتعدّى منها إلى غير مهرها أيضاً كما إذا اغترم زوجها بكراء دار أو بصرف أموال كثيرة ، وإنّما نقتصر على خصوص المهر لأجل تلك الأخبار .

وقد يستدلّ على رجوع المغرور إلى الغارّ في جميع الموارد بما ورد في بعض هذه الأخبار من التعليل بقوله « كما غرّ الرجل وخدعه » في خبر اسماعيل بن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 21 : 211 / أبواب العيوب والتدليس ب2 ح1 ، 2 وغيرهما .

ــ[88]ــ

جابر(1) وقوله (عليه السلام) في خبر رفاعة « وإنّما صار المهر عليه لأنّه دلّسها »(2)فيتعدّى من التعليلين إلى جميع موارد الغرور .

إلاّ أنّ الاستدلال بهما على المدّعى ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّ الرواية الاُولى ضعيفة السند بمحمّد بن سنان وهو ممّن ضعّفه بعض أهل الرجال وإن وثّقه بعضهم أيضاً إلاّ أنّ المُراجع إلى قضاياه يرى أنّ الحقّ مع النافين لوثاقته وأنّ توثيق من وثّقه لا يرجع إلى شيء ، وقد نقل عنه أنه أوصى بعدم نقل رواياته حين وفاته معلّلا بأنّها ممّا أخذه من أهل السوق لا من أهلها .

كما أنّ الثانية ضعيفة بسهل بن زياد لأنه أيضاً ممّن لم يوثّقوه في الرجال فلا يمكن الاستدلال بهما . وأمّا التعليل المذكور فيهما فهو إنّما يقتضي التعدّي منهما إلى كل من غرّ آخر في الزواج برجوعه إلى المزوّج في المهر لأنه المذكور في الروايتين لا إلى جميع موارد الغرور ولعلّه ظاهر .

وأمّا قيمة الولد في رواية إسماعيل بن جابر التي حكم (عليه السلام) بدفع المزوّج القيمة إلى موالي الوليدة فهو من أجل أنّ الوطء بما أنه وقع صحيحاً لأنه وطء شبهة يوجب إلحاق الولد بأبيه وهو من منافع الأمة قد ضيّعها المزوّج على موالي الأمة ، فلذا يؤخذ قيمته الولد منه .

فالمتحصّل : أنه لا يمكن الاستدلال بهذه الأخبار على قاعدة الغرور في جميع الموارد لما عرفت فلا وجه للاعادة ، هذا .

ثم إنّ رجوع المغرور إلى من غرّه في المعاملات ونحوها على تقدير الالتزام به إنّما هو فيما إذاكان البائع عالماً بالحال ، وأمّا إذا كان مشتبهاً أو معتقداً أنّ المال له فلا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 21 : 220 / أبواب العيوب والتدليس ب7 ح1 .

(2) الوسائل 21 : 212 / أبواب العيوب والتدليس ب2 ح2 .

ــ[89]ــ

تشمله القاعدة بوجه ، لما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى من أنّ الغرور والخديعة والتدليس إنّما تتحقّق مع علم الغارّ بالحال وإلاّ فلا يصدق الغرور ونظائره مع الجهل أبداً ، مع أنّ القائلين برجوع المغرور إلى الغارّ يلتزمون بذلك مطلقاً .

وعلى ما ذكرناه فلا وجه لما ذكره السيّد الطباطبائي في حاشيته(1) من أنّ المغرور يرجع إلى الغارّ مطلقاً . وبالجملة لا دليل على ثبوت تلك القاعدة في جميع الموارد بوجه .

وأمّا رواية جميل(2) فلا تعرّض فيها لقاعدة الغرور أبداً وإنّما دلّت على أنّ مالك الأمة يأخذ الجارية وأنّ المبتاع يدفع إليه قيمة الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي اُخذت منه ، وقد عرفت آنفاً أنّ الولد من منافع الأمة كغيرها من الحيوانات ، والمنافع تابعة للاُمّ في الملكية إلاّ أنّ البائع لمّا باعها من المشتري وأوجب ذلك صحة الوطء منه لأنه وطء شبهة وهو يلحق الولد بأبيه فقد ضيّع تلك المنفعة على مالك الأمة ، فلذا حكم (عليه السلام) برجوعه إلى البائع في المقام ، وهذا حكم ثبت في مورده ولا وجه للتعدّي منه إلى غيره ، وهذا خارج عن المنافع المستوفاة وغير المستوفاة بالدليل ، فلا وجه لما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(3) من أنّ الولد إمّا أن يعدّ من المنافع غير المستوفاة فهو عين محل الكلام  ، وإمّا أن يعدّ من المنافع المستوفاة فيدلّ على ثبوت الحكم في المنافع غير المستوفاة بطريق أولى ، وذلك لأنّ الولد سواء كان من المستوفاة أو من غيرها إنّما خرج بالنصّ ، وهذا لا يقتضي التعدّي منه إلى جميع المنافع المستوفاة أو غير

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 179 .

(2) الوسائل 21 : 205 / أبواب نكاح العبيد والاماء ب88 ح5 .

(3) المكاسب 3 : 494 ـ 495 .

ــ[90]ــ

المستوفاة .

وأمّا ما أفاده من أنّ توصيف قيمة الولد بقوله « التي اُخذت منه » فيه نوع إشعار لعلّية الحكم ، بمعنى أنّ الأخذ منه علّة لرجوعه إلى البائع ، والعلّة تعمّم الحكم إلى جميع موارد الأخذ ، فهو من غرائب الكلام ، لأنّا لو فرضنا أنّ التوصيف صريح في علّية الأخذ للحكم لما أمكن التعدّي منه إلى غيره فضلا عمّا إذا كان مشعراً بذلك والوجه في ذلك ما سنبيّن في بحث تعاقب الأيادي عن قريب إن شاء الله تعالى من أنّ رجوع كل ضامن إلى ضامن آخر إنّما هو فيما إذا أخذ المالك منه المال المضمون عليه ، وأمّا قبل أخذه فلا يمكنه الرجوع إلى الآخر أبداً ولو مع العلم بأنه سيأخذ قيمته منه ، وفي المقام أيضاً إنّما يجوز للمشتري الرجوع إلى البائع فيما إذا أخذ المالك من المشتري قيمة الولد ، وأمّا قبله فلا شيء حتّى يرجع به المشتري إلى البائع وهذا هو الوجه في توصيف الإمام (عليه السلام) القيمة بكونها ممّا اُخذت منه فلا يمكن منه التعدّي إلى جميع موارد الأخذ أبداً ، بل الأخذ في هذا المورد يوجب الحكم برجوع المشتري إلى البائع لا مطلقاً كما لا يخفى ، واستفادة العلّية من ذلك نظير استدلال الشافعية على عدم الزكاة في معلوفة الإبل بقوله (عليه السلام) « في الغنم السائمة زكاة »(1) فإنّ السوم ليس علّة للزكاة مطلقاً بل في خصوص الغنم كما لا يخفى فهو لا يدلّ على نفي الحكم عن غير موارد السوم مطلقاً ولعلّه ظاهر ، هذا .

مضافاً إلى أنّ في توصيف القيمة بكونها ممّا اُخذت من المشتري فائدة اُخرى وهي أنّ قيمة الولد تختلف باختلاف الأماكن والحالات والبلدان ، فإذا رجع المالك إلى المشتري بقيمة الولد فلا يجوز للمشتري أن يرجع على البائع بأعلى القيم المتبادلة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد مضمونه في الوسائل 9 : 118 / أبواب زكاة الأنعام ب7 ، المستدرك 7 : 63 / أبواب زكاة الأنعام ب6 ح1 .

ــ[91]ــ

للولد ، بل إنّما يرجع إليه بخصوص القيمة التي أخذها المالك من المشتري لا بقيمة اُخرى زائدة عليها كما لا يخفى ، هذا .

فالمتحصّل : أنّ الرواية حجّة في خصوص موردها فقط لتماميتها دلالة وسنداً  .

ولا يصغى إلى احتمال كون بعض الرواة(1) في سلسلة السند فطحياً ضعيفاً . نعم يمكن أن يقال : إنه كان فطحياً سابقاً ثم رجع إلى الحقّ ، فالرواية قوية السند بلا تأمّل ، هذا كلّه في رواية جميل .

وأمّا رواية زرارة(2) فهي ساكتة عن رجوع المشتري على البائع وليست في مقام البيان من هذه الجهة وإنّما دلّت على أنه يقبض ولده ويدفع إليه الجارية ويعوّضه عن قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها ، وعلى فرض إطلاقها من ناحية أخذ قيمة الولد فنقيّدها بالرواية المتقدّمة من هذه الجهة .

وأمّا رواية زريق(3) فهي أيضاً لا دلالة فيها على حكم رجوع المشتري إلى البائع وإنّما دلّت على حكم رجوع المالك إلى المشتري وحكم رجوع المشتري إلى المالك ، أمّا رجوع المالك إلى المشتري فهو بالنسبة إلى الأرض على ما كانت عليه من الغرس والزرع ونحوهما ، فإذا كانت فيها أشجار قد غرسها والمشتري قلعها فيجب عليه أن يردّ الأرض مع تلك الأشجار أو الزرع أو البناء وهكذا ، أو يدفع إليه قيمة تلك الأشياء ، أمّا الزرع أو البناء اللذان أوجدهما المشتري في تلك الأرض فبالنسبة إلى الزرع يمكنه أن يصبر إلى أوان الحصاد ، ولا يجوز للمالك أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ] وهو معاوية بن حكيم . راجع معجم رجال الحديث 19 ـ 222 / 12471 [ .

(2) الوسائل 21 : 204 / أبواب نكاح العبيد والاماء ب88 ح4 .

(3) الوسائل 17 : 340 / أبواب عقد البيع وشروطه ب3 ح1 .

ــ[92]ــ

يطالبه بتفريغ أرضه منه لأنه يوجب تلف الزرع لا محالة ، وأمّا البناء فللمشتري أن يهدمه ويأخذ أثاثه وأسبابه كما أنّ للمالك أن يأخذه منه بقيمته وكذلك في الزرع وقد ذكر (عليه السلام) أنّ كل تصرّف صدر من المشتري لاصلاح الأرض أو دفع النوائب عنه كما إذا بنى فيها سدّاً لدفع السيل ونحوه يرجع بها إلى المالك ، ولم يتعرّض فيها لحكم رجوع المشتري إلى البائع بوجه .

فالمتحصّل : أنّ قاعدة الغرور لم يدلّ عليها دليل ولا أساس لها بوجه لما تقدّم وعرفت ، وأمّا الروايات الخاصّة فهي إنّما وردت في موارد خاصّة كضمان المزوّج للمهر فيما إذا زوّج أمة بعنوان أنّها حرّة ، وكضمان المزوّج أيضاً لقيمة الولد ، وأمّا في غيرهما فلم يثبت رجوع المغرور إلى الغار أبداً وإن كانت القاعدة مشهورة بينهم بل ادّعي الاجماع عليها كما نقله شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وعليه فلا وجه لرجوع المشتري في المنافع غير المستوفاة على البائع بوجه ، وكذلك في المنافع المستوفاة بطريق أولى .

نعم يمكن أن يفصّل في المقام بين المنافع التي يضمنها البائع وبين المنافع التي لا يضمنها البائع ، وذلك لأنّ المنافع على قسمين : فقسم منها ما يضمنه البائع لا محالة كحيثية الدار للمسكونيّة فإنّ البائع بوضع يده على العين قد وضع يده على منافعها بالتبع وللمالك أن يرجع على البائع بالعين وبمنافعها لا محالة . وقسم منها ما لا يضمنه البائع بوجه ، وهذا كما إذا كان العين حيواناً فاستولد عند المشتري فولد شاة وهي منفعة يضمنها المشتري دون البائع لعدم تسلّطه عليها في زمان ، وكذا الخسارة التي يخسرها المشتري كضريبة الحكومة من الأرض فإنها ممّا لا يضمنه البائع لا محالة ففي القسم الأول إذا رجع المالك إلى المشتري فله أن يرجع إلى البائع بما اغترمه للمالك دون القسم الثاني ، وذلك لأنّ المالك كما سنبيّن في الأيادي المتعاقبة يمكنه الرجوع إلى كل واحد ممّن وقعت العين تحت يده ، وهو أيضاً يرجع إلى الثاني وهو

ــ[93]ــ

إلى الثالث إلى أن ينتهي إلى من تلفت عنده العين وهو لا يرجع إلى أحد ، وقد استشكل هناك بأنّ المال الواحد كيف يضمنه الأشخاص المتعدّون ، فإنّ الضمان بمعنى اشتغال الذمّة بالمال ، فمثل خمسة قرانات كيف يثبت في ذمّة أشخاص متعدّدة لأنّ معناه أنّ ذمّة هذا الشخص مشغولة بخمسة قرانات وذمّة الثاني أيضاً مشغولة بها مع أنّ المال ليس إلاّ خمسة قرانات ، ولكن صحّحناه في محلّه على نحو الواجب الكفائي بناء على جريانه في الأحكام الوضعية أيضاً ، فذمّة أحدهم إذا فرغت تفرغ ذمم الباقين أيضاً .

إلاّ أنه يقع الإشكال بعد ذلك في أنه لماذا يرجع من استفرغ ذمّته بأدائه إلى الثاني والثاني إلى الثالث وهكذا ، وقد أجبنا عن ذلك أيضاً بأنّ المال بعد أداء قيمته أو مثله ينتقل إلى ملك ذلك المؤدّي للسيرة العقلائية المرتكزة عندهم ، فإنه إذا أتلف فراش الغير تكون الأجزاء الصغار المتبقّية ملكاً للمتلف بعد أداء بدل الفراش ولأجله ذكرنا أنّ قاعدة الحيلولة ممّا لا أساس له ، بل المال ينتقل إلى الضامن بأداء قيمته ، وإن ذهب شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) إلى أنّ المالك له مطالبة المال أيضاً بعد أخذ قيمته ، وعلى ذلك فالضامن الأوّل الذي رجع إليه المالك إذا أدّى قيمته فينتقل إليه المال ويصير مالكاً له لا محالة ، وبما أنّ الثاني أيضاً ضمن هذا المال ووضع يده عليه فللمالك الفعلي أعني الضامن الأول أن يرجع إليه بقيمته ، وإذا أدّى الثاني قيمته للأوّل قد دخل المال في ملكه وهو أيضاً يرجع إلى المتصرّف الثالث وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى من تلفت عنده العين ، وبما أنّ العين غير موجودة تنتقل إلى ملك غيره بأخذ قيمتها فلا يمكنه الرجوع إلى الغير في ذلك ولعلّه ظاهر .

فإذا عرفت ذلك تعلم أنّ المالك إذا رجع على البائع بالعين ومنافعها فينتقل المال إلى البائع بأداء قيمته لا محالة ، وهل له أن يرجع على المشتري بعد ما دخل المال في ملكه كما في الأيادي المتعاقبة على ما عرفت أو لا ؟ الظاهر أنه لا يرجع على

ــ[94]ــ

المشتري أبداً ، والسرّ في ذلك أنّ من سلّط أحداً على مال كمن قدّم طعاماً للغير فأكله وتصرّف فيه ثم انكشف أنّ المال كان ملكه أي ملك هذا الذي سلّط الغير على المال ، فهل له أن يرجع إلى الآكل أو المتصرف فيه بالمال بدعوى أنّي زعمت أنه للغير فسلّطتك عليه ولم أكن اُسلّطك عليه إن كنت علمت أنه لي ، فقد انكشف أنه كان ملكاً لنفسي فلابدّ لك من أن تخرج عن عهدة ذلك المال ، الظاهر أنه غير ضامن للمال بلا نكير ، لأنه الذي سلّطه على ماله بعنوان أنه لي وقد ظهر أنه له أيضاً واقعاً فبأيّ وجه يمكنه المطالبة به ، وهذا مضافاً إلى أنه ممّا تسالم عليه الفقهاء أمر مرتكز في أذهان العقلاء من دون كلام ولا إشكال .

ولا يفرق في ذلك بين أن يكون المال للمسلّط من الابتداء وبين أن يكون ملكه بحسب البقاء كما إذا قدّم طعاماً للغير من ملك آخر ثمّ انتقل إليه بالارث أو الهبة أو البيع فادّعى أنه مالي وأنت ضامن له ، وفي كلا الحالين لا يمكنه الرجوع إلى من سلّطه عليه بنفسه .

وفي المقام قد سلّط البائع المشتري على المال ثم ملكه بأداء قيمته فكيف يمكنه الرجوع على المشتري بقيمته مع أنه هو الذي سلّطه عليه بعنوان أنه لي ، فلا يصحّ له أن يرجع إلى المشتري أبداً ، وأمّا إذا رجع المالك إلى المشتري بالعين ومنافعها فله أن يرجع على البائع بهما فيما إذا كانت المنفعة ممّا قد ضمنها البائع كما مرّ دون المنافع التي لم يضمنها ولعلّه ظاهر .

فالمتحصّل : أنّ الصحيح في المقام أن يفصّل بين المنافع التي يضمنها البائع وبين ما لا يضمنها .

ثم إنّه ظهر من ذلك أنه لا فرق فيما ذكرناه بين المنافع المستوفاة للمشتري وما لم يستوفها ، فإنه إذا حكمنا بعدم رجوعه على البائع في المنافع غير المستوفاة فلا يمكنه الرجوع في المستوفاة بطريق أولى ، لأنه قد حصّل في مقابلها شيئاً لا محالة

ــ[95]ــ

وليست كالمنافع التي لم يستوفها .

وبالجملة : أنّ الاستيفاء للمنافع ليس من أحد المضمّنات للبائع فلا تغفل ، بل ولا يجري في تغريم المشتري بازاء ما استوفاه من المنافع قاعدة لا ضرر بوجه ، إذ لا ضرر عليه حينئذ حيث إنه استفاد ما يسوى بخمسة قرانات واغترم خمسة قرانات فلا ضرر على المشتري ، ومن أجل ذلك استشكل في الرياض(1) في جريان القاعدة في المقام ، وهو كما أفاده في بعض الموارد لا مطلقاً كما لا يخفى .

فالمتحصّل : أنّ قاعدة الغرور ممّا لا أساس له ، وأنّ المشتري لا يرجع على البائع في شيء من الغرامات التي اغترمها للمالك في المنافع المستوفاة وغير المستوفاة  ، نعم لا بأس بالتفصيل المتقدّم وأنّ المشتري يرجع على البائع فيما يضمنه البائع من العين والمنافع دون ما لا يضمنه ، وأنّ البائع لا حقّ له أن يرجع على المشتري فيما يضمنه ، لأنه قد سلّط المشتري على المال والمنافع ومعه لا يكون المشتري ضامناً لما أتلفه بتسليط البائع إيّاه عليه وإن صار البائع مالكاً للتالف بدفع ما في ذمّته من الضمان .

بل الحال كذلك فيما إذا كان المتلف مالكاً للمال واقعاً ، وهذا كما إذا سرق المعطي شيئاً من أموال أحد ثمّ قدّمه له ليأكله فأكله المسلّط عليه جاهلا بالحال ثمّ انكشف أنه أكل مال نفسه ، فإنّ المعطي ضامن له ، والمتلف المغرور وإن كان مالكاً للمال إلاّ أنه لمّا كان جاهلا بالحال حدوثاً أو بقاءً كما فيما نحن فيه فإنّ البائع الفضولي قدّم مال الغير للمشتري الجاهل فتلفت منافعه تحت يده وغرم قيمتها للمالك فتكون المنافع ملكاً للمشتري بقاءً وبما أنّ البائع هو الذي سلّطه على ماله يكون ضامناً لقيمتها كما لو كانت المنافع ملكاً للمشتري من أوّل الأمر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رياض المسائل 14 : 47 .

ــ[96]ــ

وهل يُفرّق في ذلك بين علم المسلِّط وجهله ؟ الظاهر هو التفصيل بين التسليط المجّاني فيكون المسلِّط ضامناً في صورتي العلم والجهل وبين البيع ونحوه فلا يكون ضامناً إلاّ إذا سلّطه عليه عالماً بالحال مع كون المشتري جاهلا ، وهذا ثابت بحسب السيرة العقلائية فإذا قدّم طعاماً للغير ليأكله ثمّ تبيّن أنّ الطعام للآكل يكون المقدِّم ضامناً ولو كان جاهلا لاستناد الاتلاف إليه عرفاً ، وأمّا إذا باع مال الغير وتلف المبيع أو بعض منافعه ، فإن كان البائع عالماً بالحال وقد غرّ المشتري يكون التلف مستنداً إليه عرفاً فيكون ضامناً ، وأمّا إن كان البائع جاهلا كالمشتري فلا وجه لرجوع المشتري عليه بحسب الارتكاز العقلائي . هذا كلّه في المنافع المستوفاة وغير المستوفاة .

وأمّا ما يغرمه المشتري للمالك من قيمة العين التالفة عنده زائداً على الثمن المسمّى ، فحكمه حكم المنافع ويأتي فيه ما ذكرناه في المنافع .

وأمّا الأجزاء التالفة من المبيع فيظهر حكمها ممّا ذكرناه فإنّ المالك يسترجع ما بقي من عين ماله ، وأمّا الأجزاء التالفة فإن رجع بقيمتها على المشتري رجع المشتري على البائع في الزائد على ما يقابلها من الثمن المسمّى فيما إذا كان البائع غارّاً للمشتري .

وأمّا الأوصاف التالفة فقد فصّل شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) بين وصف الصحّة فألحقه بالأجزاء وبين غيره من الأوصاف فألحقها بالمنافع وحكم برجوع المشتري على البائع في كل ما يغرمه للمالك في مقابلها ، لأنّ ما عدا وصف الصحّة من الأوصاف لا يقابله شيء من الثمن المسمّى .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 504 .

ــ[97]ــ

وقد أوردعليه شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1)، بايراد ظاهر وهو أنّ الثمن كما لا يتقسّط على سائر الأوصاف كذلك لا يتقسّط على وصف الصحة ، وإنّما يقع الثمن بازاء نفس المال والأوصاف توجب زيادة قيمة العين ، ومن أجل ذلك إذا كانت العين معيبة ولم يعلم بها المشتري إلى آخر الأبد لا يجب على البائع دفع قيمة العيب والأرش وإنّما يجب عند المطالبة ، والأرش إنّما يثبت بدليل آخر عند المطالبة كما عرفت ، فالحقّ أنّ الأوصاف كلّها لا يمكن إلحاقها بالأجزاء كما لا يخفى .

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه سابقاً من أنّ المشتري يرجع على البائع في موارد الغرور بخلاف البائع فإنه لا يرجع على المشتري لأنه قد غرّه وأتلف المال عليه ، إنّما هو فيما إذا كانت الغرامة المتوجّهة إلى المشتري مستندة إلى إغراء البائع إيّاه وكذبه في دعوى المالكية ، وأمّا إذا كانت مستندة إلى أمر آخر وراء كذب البائع في دعواه بحيث لو كان البائع صادقاً في دعواه أيضاً كانت الغرامة متوجهة إلى المشتري كما إذا كانت المعاملة فاسدة من أجل أنّها ربوية أو لأمر آخر ، فلا يضمنه البائع في الغرامة بوجه ، لعدم استنادها إلى كذبه وتغريره بل إلى فساد المعاملة من ناحية اُخرى ، فلا يمكن للمشتري أن يرجع إلى البائع في الغرامة الزائدة عن الثمن بدعوى أنّك غررتني وكذبت في مقالتك ، فإنّ للبائع أن يقول : هب إنّي قد صدقت في مقالتي أفلست أنت ضامناً للغرامة لقاعدة على اليد الخ من أجل فساد المعاملة ، غاية الأمر أنّي لو كنت صادقاً في دعوى الملكية لكنت ضامناً بالنسبة إليّ وفعلا ضامن للمالك لكذبي في دعواي المالكية ، وهذا ظاهر .

هذا أحد الأمرين اللذين ذكرهما شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) في المقام .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 2 : 177 ـ 178 .

(2) المكاسب 3 : 504 .

ــ[98]ــ

الأمر الثاني : أنّ المالك إذا رجع إلى المشتري المغرور فيرجع المشتري إلى البائع الغارّ لأنه غرّه وأتلف عليه المال ، وأمّا إذا رجع إلى البائع فهو لا يرجع إلى المشتري ، لوضوح أنه أتلف المال فلماذا يرجع إلى المشتري المغرور ، هذا كلّه في موارد الغرور .

وأمّا في غير موارد الغرور كما إذا كان البائع جاهلا بالحال فللمالك أن يرجع على كل واحد ممّن وضع يده على ماله ، فإذا رجع إلى الضامن الأول فهو أيضاً يرجع إلى الثاني إلى أن ينتهي إلى من تلف المال عنده فإنه لا يرجع إلى الغير ، كما أنّ المالك إذا رجع إليه من الابتداء لم يكن له الرجوع إلى السابقين بوجه .

وقد استشكل في المقام بأنّ الموجب للضمان هو اليد أو الاتلاف ، والأول مشترك فيه بين السابق واللاحق ، والثاني لم يتحقّق من أحد منهما حسب الفرض وإلاّ لحكمنا بضمانه لا محالة ، وعليه فلماذا نحكم بضمان اللاحق من دون أن يرجع إلى أحد ، والمفروض أنّ تلف المال بنفسه أو بآفة سماوية لا يوجب الضمان بأن يكون دركه عليه ، فما الوجه في رجوع كل من السابق إلى لاحقه وعدم رجوع اللاحق الذي تلف المال عنده إلى الغير .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net