كيفية اشتغال ذمم متعدّدة بمال واحد 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثاني : البيع-2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4689


وقد تصدّى شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) للجواب عن هذا الإشكال وتعرّض قبل ذلك إلى بيان كيفية اشتغال ذمّة كل واحد من السابق واللاحق ببدل المال المضمون عليهما ، وأنّ المال الواحد كيف يصير في عهدة كل واحد من الضمناء بأن يطلب المالك بدله من كل واحد منهم مع أنه ليس إلاّ مالا واحداً ، فوجّه تقريب ذلك وتصويره على نحو الواجب الكفائي في الأحكام التكليفية ، وأنّ ذمّة كل واحد ممّن وضع يده على المال مشغولة بالبدل إلاّ أنه يسقط بأداء واحد منهم ، لأنه إذا تداركه ببدله فلا يصدق على الثاني عنوان البدل لا محالة ، وإن لم يؤدّوه أصلا فللمالك أن يطالب كل واحد منهم على نحو البدليّة يوم القيامة ، وبالجملة أنّ للمال

ــ[99]ــ

ضامنين أو أكثر وله مطالبة أي منهما شاء .

وقد نظّر (قدّس سرّه) ذلك بباب الضمان على مسلك الجمهور حيث إنّ الضمان عند الشيعة عبارة عن انتقال ما في ذمّة أحد إلى ذمّة الغير كما إذا ضمن أحد دَين شخص آخر فإنّ معناه أنّ ما في ذمّته قد انتقل في ذمّة الضامن واشتغلت ذمّة الضامن بالدَين فهو مأخوذ من ضمن . وأمّا على مسلك الجمهور(1) فهو قد اُخذ من الضمّ وفسّروا الضمان بضمّ ذمّة إلى ذمّة اُخرى ، فقبل الضمانة كانت الذمّة المشتغلة بالدَين واحدة وهي ذمّة المديون وبعد الضمان صارت الذمّة اثنتين إحداهما ذمّة المديون وثانيهما ذمّة الضامن ، فللمالك أن يطالب ماله من كل واحد منهما إذا شاء وهذا بخلاف مسلك الشيعة لأنّ الضامن حينئذ هو الذي قد اشتغلت ذمّته بمال المالك دون المديون . ومسلك الجمهور وإن كان مردوداً عندنا في مقام الاثبات إلاّ أنه بحسب مقام الثبوت ممّا لا محذور فيه ولا مانع عقلي من تعدّد الضامن بوجه والمقام نظير ذلك كما عرفت .

ومن هنا ربما يقال في مقام التشنيع على هذا التوجيه بما ذكروه في مقام التشنيع على المسلك المتداول عند الجمهور ، هذا إلاّ أنّك عرفت أنه لا محذور في الالتزام بذلك في المقام وإن لم يساعده دليل في باب الضمان ، بل قد التزم بذلك بعض فقهائنا في موارد ضمان الأعيان دون ما في الذمم ، ولذلك موارد :

منها : الضمانة على المبيع أو الثمن فيما إذا لم يطمئن البائع بالمشتري واحتمل أن يكون ثمنه سرقة فأخذ منه ضامناً على الثمن حتّى يتعهّد دركه فيما إذا ظهر أنه سرقة أو المشتري لم يطمئن بالبائع واحتمل السرقة في المبيع وأخذ منه الضامن على دركه فيما إذا كان سرقة في نفس الأمر والواقع ، فإذا ظهر أنّ المبيع أو الثمن سرقة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المغني لابن قدامة 5 : 70 ، 83 ، المجموع 14 : 24 ، المهذّب 2 : 307 .

ــ[100]ــ

فللمشتري أن يرجع إلى كل واحد من البائع والضامن بثمنه ، أمّا على البائع فلأنه باختياره أخذه فهو له ضامن ، وأمّا الضامن فلأجل الضمان والتعهّد الذي التزم به كما أنّ البائع يرجع إلى المشتري أو ضامنه بالمبيع فيما إذا ظهر أنّ الثمن مسروق .

ومنها : العارية المضمونة فإنه إذا اشترط المعير الضمان في العين العارية على تقدير تلفها ثمّ أخذ منه ضامناً على المال ، فإنه إذا تلف فله أن يرجع إلى كل واحد من المستعير والضامن ، أمّا المستعير فلأجل الاشتراط ، وأمّا الضامن فلأجل الضمانة هذا ، بل حكي عن ابن حمزة(1) أنه التزم بتعدّد الضمناء في الذمم أيضاً .

فالمتحصّل : أنه لا مانع من رجوع المالك إلى كل واحد من الضامنين على نحو الواجب الكفائي ، هذا .

وقد استشكل في ذلك شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) وذهب إلى أنّ تصوير الوجوب الكفائي إنّما يختص بالأحكام التكليفية ، إذ للشارع أن يجعل الحكم على كل واحد من المكلّفين لا على نحو الاطلاق بل على نحو التقييد بأن يقول يجب عليكم الجلوس في الموضع المعيّن سيّما إذا كان الموضع غير قابل لجلوس أشخاص متعدّدين مقيّداً بعدم جلوس الآخر فيه ، فيجب عليك إن لم يجلس فيه زيد ويجب على زيد إن لم يجلس فيه عمرو ، كما التزم بذلك في باب الترتّب وأنه لا مانع من أن يجعل الشارع حكماً واحداً على شيئين متضادّين بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مقيّداً أو يكون كلاهما مقيّدين .

وأمّا في الأحكام الوضعية فلا يتصوّر ذلك بوجه ، فإنّهم إن أرادوا في تصوير ذلك على نحو الوجوب الكفائي أنّ كل واحد واحد من الأشخاص ضامن للمال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسيلة : 281 .

(2) منية الطالب 2 : 181 .

 
 

ــ[101]ــ

مطلقاً ، فلازمه أن يكون المال الواحد مضموناً بضمانات متعدّدة وأن يكون في ذمّة أشخاص متعدّدين . وإن أرادوا أنّ هذا الشخص ضامن له إن لم يضمنه الشخص الثاني ، والثاني أيضاً ضامن إن لم يضمنه الشخص الأول ، فمرجعه إلى أنّهما فعلا ليسا بضامنين للمال . نعم لا مانع من تعدّد الضامن على نحو الترتّب بأن يكون الضامن الثاني ضامناً للضامن الأول والثالث للثاني والرابع للثالث وهكذا ، ونظير ذلك ما إذا ضمن أحد دَين شخص آخر فالضامن قد ضمن للمالك في الدَين ، والمديون ضمن ما يؤدّيه الضامن للمالك ، إذ بعد ما ضمنه الضامن لا يسقط ضمان المال عن المديون ، بل الضامن يضمن للمالك والمديون يضمن للضامن على تقدير أدائه للدَين  ، وهذا الضمان الطولي لا مانع من أن نلتزم به في المقام بأن يكون الأول ضامناً للمال والثاني ضامناً للضامن الأول والثالث للثاني وهكذا ، هذا ما أفاده (قدّس سرّه) في المقام .

ولكنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه لا بحسب المبنى ولا بحسب البناء .

أمّا فساد ما أفاده بحسب المبنى : فهو من أجل أنّ الوجوب الكفائي عنده (قدّس سرّه) ليس عبارة عن الوجوب المشروط بعدم امتثال الآخر ، بل هو سنخ من الوجوب يغاير الوجوب المشروط وتوضيح ذلك الاجمال : أنّ المولى تارةً يرى المصلحة في خصوص فعل معيّن ويقوم غرضه به على نحو التعيين ، فيتعلّق شوقه به تعييناً لأنه مقتضى كون الفعل ممّا يقوم به غرضه سيّما على المسلك المشهور من تبعية الأحكام للمصالح أوالمفاسد في متعلّقاتها، وهذا يعبّرعنه بالوجوب العيني وهوواضح.

واُخرى يرى المولى المصلحة في كل واحد من الفعلين على نحو يتساويان في إفادة الغرض ، وكل واحد من الفعلين يقوم بغرضه ويفي به ، وفي مثل ذلك لا وجه لتعلّق شوقه بأحد الفعلين على التعيين ، لأنه ترجّح بلا مرجّح وهو مستحيل ، فلابدّ من أن يتعلّق شوقه بأحدهما على نحو التخيير كما في مثل الكفّارات الثلاث ويعبّر

ــ[102]ــ

عنه بالوجوب التخييري .

ومنه يظهر الحال في تصوير الوجوب الكفائي وأنه إذ رأى المصلحة في فعل معيّن من غير خصوصية للفاعلين في تحصيل غرضه كما إذا كان المولى عطشاناً فأمر أحد غلمانه العشرة بسقيه ومجيئه بالماء بأن يقول فليجئ أحدكم بالماء ، فلا يمكن أن يتعلّق شوقه باتيان أحدهم على نحو التعيين ، إذ لا وجه للترجّح من غير مرجّح ، بل يتعلّق شوقه باتيان أحدهم على نحو التخيير ، فالفرق بين الكفائي والتخييري أنّ في الكفائي تلغى خصوصيات الفاعلين وفي التخييري تلغى خصوصيات الأفعال .

وكيف كان ، فليس الوجوب الكفائي عنده عبارة عن الوجوب المشروط بعدم امتثال الآخر حتّى يستشكل بذلك في تصويره في الضمان . وبناء على ما ذكرناه لا مانع من تصويره في المقام ، كما يمكن تصوير الوجوب التخييري فيه ، فإنه كما لا مانع من أن تتحقّق المصلحة في ضمان الشخص لأحد العينين كذلك لا مانع من أن تتحقّق في ضمان أحد الأشخاص لمال معيّن ، هذا كلّه بحسب المبنى .

وأمّا فساده بحسب البناء : فلأنّا لو أغمضنا عمّا أشرنا إليه آنفاً وبنينا على أنّ الوجوب الكفائي عبارة عن الوجوب المشروط بعدم إتيان الآخرين ، فلا مانع من تصوير مثله في الضمان في الأيادي المتعاقبة ، وذلك لأنّ الشرط حينئذ ليس عبارة عن عدم ضمان الآخرين حتّى يقال إنّ مرجع ذلك إلى أنه لا ضمان في شخص منهما فعلا ، لأنّا إذا قلنا بضمان هذا الشخص فذاك غير ضامن كما أنه إذا قلنا بضمان الثاني فالأول ليس بضامن ، بل الشرط إنّما هو عدم امتثال الآخر في التكاليف وعدم أداء الآخر ما في ذمّته في الضمان ، إذ لو علّقنا الوجوب في حقّ أحدهما على عدم الوجوب للآخر منهما ، فكما لا يعقل ذلك في الضمان لرجوعه إلى عدم ضمان شخص منهما فعلا ، كذلك لا يعقل ذلك في الواجبات والأحكام التكليفية لأنّ مرجعه إلى عدم الوجوب بشيء منهما فعلا ، لأنّا إذا حكمنا بوجوبه على هذا الشخص فالآخر

ــ[103]ــ

غير واجب عليه كما إذا حكمنا بوجوبه على ذاك الشخص فعلى الأول غير واجب ولا يمكن أن يكون الفعل واجباً عليهما معاً .

وكيف كان ، فالشرط إنّما هو عدم امتثال الآخر للأمر في الوجوب الكفائي وفي الضمان الكفائي عبارة عن عدم أداء الآخر للبدل ، وعليه فكما يعقل تصوير الكفائي في الأحكام التكليفية كذلك يعقل تصويره في الضمان ، إذ لا مانع من أن يحكم بضمان هذا الشخص لو لم يؤدّ الثاني البدل ، ويحكم بضمان ذاك إن لم يؤدّه الأول منهما  ، فيكون ضماناً مشروطاً بعدم أداء الآخر ، وهو ممّا لا محذور فيه .

بل لو فرضنا أنّ شخصين تصرفا في مال الغير في زمان واحد من دون أن يسبق أحدهما الآخر في وضع يده عليه ، لا يمكن فيه الالتزام إلاّ بضمان أحدهما على نحو التخيير والوجوب الكفائي ، إذ الحكم بضمانهما معاً غير صحيح ، لأنّ المال الواحد لا معنى أن يكون له بدلان ، والحكم بعدم ضمانهما بوجه ممّا لا يمكن التفوّه به فيتعيّن أن نحكم بضمان أحدهما لا على نحو التعيين ، فهذا الشخص محكوم بالضمان مشروطاً بعدم أداء الثاني البدل كما أنه محكوم به إن لم يؤدّ بدله الضامن الأول .

فالمتحصّل من جميع ذلك : أنّ ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من تصوير الضمان الكفائي في الأيادي المتعاقبة هو الصحيح ، وأنّ مسلك العامّة في باب الضمان أمر ممكن وغاية ما هناك أنه لم يقم عليه دليل في باب الضمان ، بخلاف المقام فالالتزام به في المقام ممّا لا مانع منه ، وهذا بخلاف الالتزام به في باب الضمان لعدم الدليل عليه هناك ، بل الدليل قائم على عدمه في ذلك الباب .

نعم يظهر من بعض كتب العلاّمة (قدّس سرّه)(1) أنّ مسلك الجماعة أمر غير معقول ، إلاّ أنّك عرفت أنه أمر ممكن غاية الأمر أنّ الدليل لم يساعده في باب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع التذكرة 2 : 93 ، البحث الرابع / النظر الأوّل .

ــ[104]ــ

الضمان  . ويؤيّده ما ذكره العلاّمة(1) في بعض كتبه الأُخر من أنه ممّا لم يقم عليه دليل  ، ومسلكهم إنّما لا يعقل فيما لو أرادوا منه الحكم بضمانهما للمال على نحو الاستقلال بأن يكون كل واحد منهما ضامناً للمال في عرض ضمان الآخر له ، وذلك لأنّ المال الواحد لا معنى لأن يكون له بدلان ، وهذا بخلاف ما هو ظاهر كلامهم من أنّ أحدهما محكوم بالضمان لا على نحو التعيين وأنّ المالك له أن يرجع إلى أيّهما شاء هذا .

ثم إنه بعد ذلك يقع الكلام في وجه امتياز ذلك الكفائي في المقام عن بقية الأحكام الكفائية في سائر المقامات ، وأنّكم لماذا تلتزمون برجوع السابق إلى اللاحق فيما إذا رجع المالك إلى السابق ، وبعدم رجوع اللاحق إلى السابق فيما إذا رجع المالك إلى اللاحق وتلف المال عنده إلاّ فيما إذا غرّه السابق كما مرّ ، مع أنّ تلف المال بآفة سماوية لا وجه لكونه موجباً لضمان اللاحق دون السابق ، لأنّ الموجب للضمان إنّماهو الاتلاف لا التلف وأمّا اليد فهي مشتركة بينهما .

وقد اُجيب عن ذلك بوجوه : منها ما أفاده السيد في حاشيته(2) من أنّ التلف والاتلاف في حكم واحد فإذا سلّمنا الحكم بالضمان في صورة الاتلاف من جهة أنّ اللاحق كان متمكّناً من ردّ المال إلى المالك قبل إتلافه فهو بعدم ردّه إليه قد سبّب ثبوت الضمان على السابق ، فلابدّ من أن نحكم بالضمان في صورة التلف أيضاً لجريان ما ذكرناه فيها أيضاً حرفاً بحرف حيث إنه كان متمكّناً من ردّ المال إلى مالكه قبل تلفه وبما أنه لم يردّه إليه فقد صار بذلك سبباً لثبوت الضمان على السابق بعدم ردّه إلى مالكه سابقاً قبل تلفه بآفة سماوية ، هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ] لم نعثر عليه في مظانه [ .

(2) حاشية المكاسب (اليزدي) : 183 .

ــ[105]ــ

ولا يخفى أنّ ما أفاده في الاتلاف غير ثابت فضلا عن صورة التلف ، وذلك من جهة أنّ الاتلاف يوجب عدم بقاء الموضوع لردّ العين للمالك ، وأمّا الضمان فهو إنّما ثبت بقاعدة اليد دون الاتلاف بمعنى أنّ إتلافه وعدم دفعه المال إلى المالك إنّما أوجب عدم سقوط الضمان عن السابق ، لا أنه بذلك أوجب الضمان عليه لأنه إنّما ثبت بقاعدة اليد ، ولو سلّمنا ما أفاده في صورة الاتلاف فلا وجه له في صورة التلف أبداً ، لأنّ السابق واللاحق مشتركان في اليد وأنّ كل واحد منهما ضامن له بتلك القاعدة ، ولا مزية للاحق على السابق حتى يقال إنه بتلك المزية محكوم بالضمان ولا يرجع إلى السابق . أمّا تمكّنه من ردّ المال إلى مالكه قبل تلفه فهو أيضاً غير مختص باللاحق ، لأنّ السابق أيضاً كان متمكّناً من ردّه إلى مالكه قبل تلفه والمفروض أنّ المال لم يتلف بفعل اللاحق وإنّما تلف بآفة سماوية فلماذا يحكم بضمانه وعدم رجوعه إلى السابق ورجوع السابق إليه ، فهذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه ، هذا .

وقد يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) في مقام الجواب أنّ الوجه في رجوع السابق إلى اللاحق دون العكس هو أنّ السابق إنّما ضمن العين بوضع يده عليها ، وأمّا الضامن اللاحق فهو إنّما يضمن العين التي ثبت لها البدل في ذمّة السابق فكأنّه ضامن لواحد من العين والبدل على سبيل البدلية ، فإذا رجع المالك إلى السابق فهو يرجع إلى اللاحق بأحد الأمرين ، لما عرفت من أنّ ذمّته مشتغلة بأحد الأمرين على سبيل البدلية ، وأمّا إذا رجع إلى اللاحق فهو لا يرجع إلى السابق ، لأنّ ذمّته إنّما اشتغلت بالبدل ما دام لم يؤدّ الثاني بدلها للمالك ، هذا .

ويرد على ذلك : أنّ الضامن إنّما يضمن بدل العين بعد تلفها ، والمفروض أنّ العين لم تتلف في يد الأول ولا في يد الثاني بعد فكيف يمكن أن يقال إنّ الأول ضمن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 508 .

ــ[106]ــ

العين والثاني ضمن العين التي ثبت لها البدل مع أنّها موجودة بنفسها ولم تتلف بعد فالضامن الثاني كالأول إنّما وضع يده على المال فكلاهما على حدّ سواء ، فما معنى أنّ الثاني بمجرد وضع يده يضمن العين وبدلها على سبيل البدلية ، هذا .

وقد أورد عليه السيد (قدّس سرّه) في حاشيته بايرادات سبعة ، وبعض تلك الاعتراضات وإن كان قابلا للجواب إلاّ أنّ ثلاثة منها غير قابلة الذبّ :

الأول من هذه الاعتراضات : أنّ الضامن الثاني على تقدير تسليم أنه ضامن لأحد الأمرين على سبيل البدلية فهو إنّما يضمنه للمالك لا للغير ، لأنّ البدل في ذمّة الضامن الأول ملك للمالك فبدله الثابت في ذمّة الثاني أيضاً يكون للمالك ، فلماذا يحكم بضمانه للضامن الأول بالبدل .

الثاني : أنّ الموجب للضمان ليس إلاّ قاعدة اليد أو الاتلاف ، والضامن الثاني إنّما وضع يده على المال لا على ما في ذمّة الضامن الأول ، لأنه غير قابل للاستيلاء المعبّر عنه باليد فلماذا يحكم بضمانه للعين وبدلها الثابت في ذمّة الضامن الأول .

الثالث : أنّا إذا فرضنا أنّ الضامن الثاني قد سلّم العين التي أخذها من الأول إلى ذلك الأول لاعتقاد أنه مالك للمال أو لغيره من الدواعي فتلفت العين في يد الضامن السابق فلا ينبغي الإشكال في أنّ المالك له أن يرجع إلى أيّهما شاء ، فإذا رجع إلى السابق فمقتضى ما ذكره الشيخ (قدّس سرّه) أنه يرجع إلى اللاحق في هذه الصورة أيضاً ، لأنه ضمن العين وبدلها على سبيل البدلية ، وهذا ينافي ما سلكه هو وغيره في المقام من أنّ السابق لا يرجع إلى اللاحق .

فإن قلت : إنّ السابق قد انقلب إلى اللاحق في المثال واللاحق صار سابقاً عليه .

قلت : لا معنى لضمان السابق الذي صار لاحقاً بعد الحكم بضمانه قبل ذلك بوضع يده على المال ، لأنّ الضامن لا يضمن ثانياً بوضع يده عليه ثانياً ، وهذه

ــ[107]ــ

الاشكالات الثلاثة الظاهر أنها ممّا لا مدفع له .

وقد أورد شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) على السيد : بأنّ هذه الاعتراضات السبعة مبتنية على ما فهمه من ظاهر كلام الشيخ (قدّس سرّه) من أنّ المراد بالبدل هو بدل العين الثابت في ذمّة الضامن ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، بل المراد من البدل في كلماته (قدّس سرّه) إنّما هو بدل ما يضمنه الضامن الأول ، وتوضيحه : أنه (قدّس سرّه) لمّا رأى أنّ المال لا يضمن بضمانين عرضيّين فلا يمكن أن يقال إنّ السابق واللاحق كلاهما ضامنان للمال في عرض واحد ، فجعل الضمان طولياً في المقام بأن يكون السابق ضامناً للمالك واللاحق ضامناً للضامن السابق نظير الضمانات الاختيارية كما إذا أمر مديون أحداً بالضمان ليضمن له عند الدائن فضمنه ذلك الشخص فقد سقط الضمان عن المديون وانتقل إلى الضامن ، إلاّ أنّ المديون يضمن للضامن ما دفعه إلى الدائن ، فإن دفعه إليه فيضمنه بمقداره وإلاّ فإن لم يدفع إليه شيئاً فلا وجه لضمان المديون له بشيء ، وفي المقام أيضاً إن دفع السابق ما ضمنه للمالك فيضمن اللاحق له ما دفعه إلى المالك ، وإن لم يؤدّ إليه شيئاً فلا وجه لضمانه كما هو واضح فالمراد بالبدل في كلامه (قدّس سرّه) بدل ما يضمنه السابق للمالك ولعلّه ظاهر ، هذا .

ولا يخفى عليك أنّ المقام لا يقاس بالضمان الاختياري كما في مسألة أمر المديون أحداً بالضمان ، فإنّ في مثلها لا مانع من الحكم بضمان المديون للضامن لأجل أمره إيّاه بالضمان ، وأمّا في المقام فلماذا نحكم بضمان اللاحق للسابق فهل أمره اللاحق بذلك أو أنّ هناك دليلا آخر حتّى نحكم بضمانه للأوّل ، نعم هو كالسابق ضامنان للمالك لأجل استيلائهما على مال الغير فأيّ فرق بينهما في رجوع أحدهما إلى الآخر دون العكس ، فما أفاده من الضمان الطولي وإن كان أمراً معقولا في حدّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 2 : 188 .

ــ[108]ــ

نفسه إلاّ أنه ممّا لم يقم عليه دليل في المقام ، هذا .

مضافاً إلى أنّ الضمان في المقام عرضي لما عرفت من أنّ المالك له أن يرجع إلى أيّهما شاء ، وهذا لا يمكن في الضمانين الطوليين كما لا يخفى ، لأنّ لازم ذلك أنّ المالك لا يحق له الرجوع على اللاحق ابتداءً ، فالظاهر أنّ ما فهمه السيد (قدّس سرّه) من ظاهر عبارة الشيخ (قدّس سرّه) هو الصحيح ، وعليه فيتوجّه عليه الاعتراضات الثلاثة مع ما أوردناه عليه أوّلا ، هذا .

وقد ذكر صاحب الجواهر (قدّس سرّه)(1) وجهاً آخر في المقام : وهو أنّ الخطابات المتوجّهة إلى الغاصب الأول والثاني أعني من تلف عنده المال ليست من سنخ واحد بل سنخان ، فالخطاب المتوجّه إلى الأول إنّما هو مجرد خطاب تكليفي بأداء بدل المال من دون أن تكون ذمّته مشغولة به أبداً ، وأمّا الخطاب المتوجّه إلى من تلف عنده المال وهو الغاصب الثاني مثلا فهو خطاب وضعي وذمّته مشتغلة بالعوض ، فإذا رجع المالك إلى الأول فهو يرجع إلى اللاحق لأنه بأداء البدل يكون مالكاً للتالف ، ولا مانع من فرض الملكية في التالف والمعدوم كما في الخيار فله أن يرجع إلى قيمته أو بغيرها من لوازم الملكية ، وأمّا إذا رجع المالك إلى اللاحق فهو لا يرجع إلى السابق إذ لا اشتغال في حقّه بشيء وإنّما كان الخطاب تكليفياً في حقّه وقد سقط بوصول المالك إلى حقّه ، هذا .

وقد أورد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) بايرادات يتوجّه بعضها إلى الجملة الاُولى من كلام صاحب الجواهر وهي دعوى أنّ الحكم مختلف بالاضافة إلى السابق واللاحق وأنه في الأول تكليفي وفي اللاحق وضعي ، وبعضها الآخر يتوجّه إلى الجملة الثانية من كلامه وهي أنّ السابق يملك التالف بأداء بدله .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 37 : 34 .

ــ[109]ــ

أمّا الايرادات المتوجّهة إلى الجملة الاُولى فهي ثلاثة : اثنان منها يرجع إلى مقام الاثبات وواحد منها يرجع إلى مقام الثبوت .

أمّا ما يرجع إلى مقام الثبوت فهو مبنيّ على ما أفاده في الاستصحاب من أنّ الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ، فالضمان حكم وضعي ينتزع عن إيجاب أداء البدل ، فما معنى أنّ الحكم في السابق تكليفي وفي اللاحق وضعي مع أنّهما متلازمان .

والجواب عن ذلك : ما ذكرناه في محلّه من أنّ التكليفي والوضعي سنخان من الحكم وأحدهما غير منتزع عن الآخر ، ويشهد لذلك أنه لا خلاف ظاهراً في أنّ وجوب نفقة الوالدين الفقيرين على الولد إذا كان غنياً إنّما هو مجرد حكم تكليفي ولا يضمنها لو نسيها أو عصى ولم يؤدّ نفقتهما ، وهذا بخلاف وجوب نفقة الزوجة فإنه حكم تكليفي . مضافاً إلى أنه يضمنها فيما لو نسي أو عصى ولم يؤدّها إليها ، فيضمن لها نفقة الاسبوع أو الشهر أو السنة ، وكيف كان فهما سنخان متغايران .

وأمّا ما يرجع منها إلى مقام الاثبات ، فأحدهما : أنّ مدرك الضمان ليس إلاّ قاعدة اليد في المقام ، كما أنّ الخطاب المتوجّه للسابق واللاحق منحصر بها ، وعليه فكيف يكون الخطاب الواحد وهو قاعدة اليد يعني على اليد ما أخذت تكليفياً بالاضافة إلى السابق ووضعياً بالاضافة إلى اللاحق ، بعد الاغماض والبناء على أنّهما سنخان متغايران . وثانيهما : أنّ الضامن السابق لو كان خطابه مجرّد حكم تكليفي لما أمكن إخراج دينه من تركته على تقدير موته ، ولما صحّ أن يصالحه المالك على ما في ذمّته مع أنّهما صحيحان ثابتان ، لجواز المصالحة على ما في ذمّته وإخراجه عن تركته على تقدير موته  ، فلنا دليل على عدم كون الخطاب تكليفياً في حقّه ، لا أنه مجرد عدم الدليل ، هذا .

ثم إنه أورد على الجملة الاُولى أيضاً في آخر عبارته إيراداً رابعاً : وهو أنّ

ــ[110]ــ

لازم ما ذكره صاحب الجواهر (قدّس سرّه) عدم جواز رجوع السابق إلى الثاني فيما إذا كان المال تالفاً عند الثالث أو الرابع لأنه أيضاً مثله في عدم اشتغال ذمّته بشيء وخطابه تكليفي حسب الفرض ، بل لابدّ من أن يرجع إلى الضامن الأخير الذي تلف عنده المال ابتداء مع أنّهم جوّزوا رجوعه إلى الثاني والثاني إلى الثالث وهكذا .

وأمّا ما يرجع إلى الجملة الثانية : فهو أنّ للملكية أسباباً ولا تحصل بدونها أبداً  ، فإذا فرضنا العين تلفت وأدّى الضامن الأوّل بدلها فبأي سبب ملك العين التالفة حينئذ ، أفبالبيع أو الهبة أو بشيء آخر ، والمفروض انتفاؤها بأجمعها ، فلا وجه لانتقال المال إلى ملك من أدّى عوضه كما لا يخفى ، هذا .

ولا يخفى أنّ ما أورده على مقالة صاحب الجواهر متين ، إذ الخطاب في كل واحد من الضامن الأول واللاحق خطاب وضعي لوحدته كما ذكره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) إلاّ أنّه يمكن أن يقال إنّ المقدّمة الثانية ممّا أفاده صاحب الجواهر كافية في إثبات المرام من دون حاجة إلى المقدّمة الاُولى من كلامه ، وهذه المقدّمة هي ما ذكره أخيراً من أنّ اللاحق يملك العين التالفة بأداء عوضها وذلك بعد ما عرفت من أنّ تصوير الضمان على سبيل البدلية والوجوب الكفائي أمر ممكن معقول ، وعليه فيتمّ الكلام بالمقدّمة الثانية وأنّ المعطي للبدل يتملّك العين التالفة بالمعاملة القهرية عند العقلاء والشرع ، ويدلّ على ذلك أمران :

أحدهما : أنه إذا أتلف أحد مال الغير وكان لتالفه قيمة زهيدة أو كان متعلّقاً لحقّ ، والأول كما إذا ذبح فرس الغير على وجه شرعي فإنّ لحمه وجلده حينئذ ممّا له قيمة وإن كانت زهيدة لا محالة . والثاني ما إذا ذبحه على وجه جعله ميتة فإنّ الميتة يمكن أن ينتفع بها في كل ما لا يشترط فيه الطهارة ومتعلّقة لحقّ الاختصاص ، وفي أمثال ذلك لا يمكن للمالك أن يأخذ تالف العين وباقيها ويطالب المتلف بباقي قيمتها

ــ[111]ــ

لأنّ العرف يرون المال قد تلف وما بقى منه أمر آخر لا ربط له بالمالك كأجزاء السيارة المنكسرة مثلا ، وإذا أخذ قيمتها من المتلف أو مثلها فلا يمكنه أخذ ما بقي من العين أبداً ، لأنّ العرف يرون ذلك انتقالا قهرياً كالصلح ، فباقي العين ينتقل إلى من أدّى الضمان فيما إذا كانت له قيمة ، أو كان ذلك متعلّقاً لحقّ من الحقوق .

وثانيهما : أنّ المال فيما إذا كان في حكم التلف ولم يكن تالفاً حقيقة كما إذا ضاع في بر أو وقع في بحر أو سرقه سارق مجهول يتعذّر الوصول إليه عادةً ففي هذه الموارد هل يحكم بلحوق المال الموجود في البر أو البحر أو في يد السارق بالمباحات الأصلية بحيث يتملّكه السارق بحيازته ولا يجب عليه ردّه ، وهذا ممّا لا يمكن التفوّه به ، أو يحكم بأنه ملك لمالكه الأول مع أنه أخذ مثله أو قيمته من المتلف ، فلا محالة يحكم بانتقاله إلى ملك المتلف بدفع عوضه وبدله ، فالوجه في الانتقال والملكية هو المصالحة القهرية الواقعة بين مالك المال ومتلفه ، وكيف كان فينتقل المال إلى الضامن الذي أدّى بدله وحينئذ فيعود السؤال المتقدّم من أنّ السابق لماذا يرجع إلى اللاحق الذي تلف عنده المال في غير موارد الغرور دون العكس .

وبالجملة : أنّ المالك كما له أن يرجع إلى كل واحد من السابق أو اللاحق فكذلك المالك بأداء البدل لابدّ وأن يجوز له الرجوع إلى أي من السابق واللاحق فلماذا نحكم بعدم جواز رجوعه إلى السابق ونقول إنه يرجع إلى اللاحق فقط . مثلا إذا فرضنا الضامن ثلاثة أشخاص وقد رجع المالك الأصلي إلى الوسط فلماذا لا يرجع المتوسط إلى السابق ويرجع إلى اللاحق فقط مع أنه مالك للمال بأداء البدل فهو كالمالك الأصلي ينبغي أن يجوز له الرجوع إلى كل من شاء من السابق واللاحق  ؟

ــ[112]ــ

فقد ذكر السيد (رحمه الله) في حاشيته(1) في وجه ذلك : أنّ الوجه في رجوعه إلى اللاحق دون السابق هو أنّ اللاحق هو الذي صار سبباً لاستقرار الضمان على السابق ، إذ كان يمكنه ردّ العين قبل تلفها وبما أنه لم يردّها فتلفت استقرّ الضمان على ذمّة السابق أيضاً ، فلابدّ وأن يرجع السابق إلى اللاحق كما ذكر مثل ذلك في أصل المسألة ونقلناه عنه هناك .

ولكنّك عرفت أنّ السبب لضمان كل من السابق واللاحق هو اليد والاستيلاء على المال ، فعدم ردّ اللاحق ليس موجباً لضمان السابق بل هو عدم إسقاط للضمان عن ذمّة السابق ، وهذا كيف يوجب ضمان اللاحق للمال مع أنّ التمكّن من الرد أمر مشترك بين السابق واللاحق كما هو ظاهر ، فهذا الوجه لا يرجع إلى شيء .

فالصحيح أن يقال : إنّ الوجه في ذلك هو ما عرفت من أنّ الضمان إنّما ثبت باليد ، وغاية ذلك الضمان أداء المال وهذه الغاية حاصلة بالاضافة إلى السابق دون اللاحق كما يظهر بملاحظة نظائر المسألة ، مثلا إذا كان الضامن المتوسط وارثاً للمالك الأصلي وبعد ما أخذ المال من السابق مات المالك الذي فرضناه مورّثاً للضامن المتوسط ، فلا يمكن له أن يرجع إلى السابق بالمال ، لأنّ المفروض أنه أدّاه إليه وهو أخذه منه ، غاية الأمر قبل أن يكون مالكاً بموت مورّثه ، إلاّ أنّ العقلاء يرون الأداء باقياً ومستمرّاً إلى زمان كونه مالكاً للمال بالارث .

وكيف كان ، فغاية الضمان هي أداء المال إلى المالك ولو كان ذلك قبل صيرورته مالكاً ، فإذا رجع المالك إلى اللاحق وأخذ منه البدل فاللاحق مالك للمال لكنّه تلقّاه من السابق فلا يمكنه الرجوع عليه لأنّ السابق قد أدّى المال وحصلت الغاية للضمان ، وهذا بخلاف ما لو كان السابق مالكاً للمال بالارث أو بأداء القيمة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 183 .

ــ[113]ــ

والبدل فإنه يرجع إلى اللاحق الذي أخذ منه المال قبل كونه أي السابق مالكاً للمال فالفرق بين السابق واللاحق هو أنّ السابق أعطى المال وأخذ منه اللاحق فضمنه بقاعدة اليد للسابق على تقدير كونه مالكاً للمال ، وأمّا السابق فلم يأخذ من اللاحق حتّى يحكم بضمانه للاحق فيما إذا صار اللاحق مالكاً للمال بالارث أو بأداء البدل وهذا هو السرّ في أنّ المالك بالبدل يرجع إلى اللاحق لأنه أخذ منه المال حسب الفرض ولا يرجع إلى السابق لأنه لم يأخذ من المالك بالبدل وهو الوسط مثلا شيئاً ليضمنه له ، وهكذا الحال في الضامن الثالث بالاضافة إلى الرابع إلى أن ينتهي الأمر إلى من تلف عنده المال فهو وإن تملّك المال بأداء البدل إلاّ أنه لا يرجع إلى شخص إذ لم يأخذ المال منه أحد ليرجع إليه ، وإنّما تلف المال عنده ، هذا تمام الكلام في الأيادي المتعدّدة المتعاقبة .

بقي الكلام في مسألة الابراء ، وأنّ المالك إذا أبرأ ذمّة واحد من الضامنين فحكمه ماذا ؟

والكلام في ذلك يقع في موردين : أحدهما في أنّ الابراء من المالك إبراء بالاضافة إلى خصوص هذا الضامن الذي أبرأ ذمّته ، أو أنّ إبراء ذمّة واحد منهم كرفع اليد عن المال وإبراء لذمم الضامنين على نحو الاطلاق .

وثانيهما : أنه إذا فرضنا أنّ الابراء يختص بخصوص من أبرأ المالك ذمّته ، فهل يصير ذلك الضامن كالمالك للمال بأداء البدل ويجوز له أن يرجع إلى اللاحق بالمال أو أنّ الابراء إسقاط لما في ذمّة ذلك الضامن ولا يصير مالكاً للمال بذلك ، فلا يجوز له أن يرجع إلى اللاحق بوجه .

أمّا المقام الأول : فالظاهر أنّ الابراء في حقّ واحد من الضامنين إبراء لذممهم على نحو الاطلاق ، لأنّ معنى الابراء ليس هو إسقاط اليد عن كونه موجباً للضمان في خصوص هذا المتصرّف في المال مثلا لأنه ليس مشرّعاً ولا يمكن ذلك في حقّ غير

ــ[114]ــ

الشارع ، بل إنّما معناه أنّي رفعت اليد عن مالي في ذمّة فلان نظير الاعراض في الأعيان الخارجية ، فإذا رفع اليد عن ماله فقد برأ ذمّة الجميع ، إذ لا يمكنه رفع اليد بالاضافة إلى بعضهم دون الآخرين لاستلزام عدم كونه ملكه سقوط المال عنهم بأجمعهم ، ولو فرضنا أنّ الابراء يختص بمن أبرأ المالك ذمّته فقط فيقع الكلام في :

المقام الثاني : في أنه هل يرجع إلى اللاحق بالمال كالمالك بأداء البدل أو لا فقد ظهر ممّا ذكرناه أنه لا يمكنه الرجوع إلى اللاحق بوجه ، لأنه لا يصير بالابراء مالكاً للمال كالمالك بدفع البدل ، إذ الابراء ليس إلاّ اسقاطاً لما في ذمّته من البدل وأمّا صيرورته مالكاً للمال فلا ، هذا .

ثم إنّ شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) تعرّض إلى مسألة اُجرة النقل فيما إذا نقل الغاصب ملك المالك إلى مكان آخر وأنه إذا رجع إليه فهل يجب على الغاصب بذل الاُجرة لنقل ملك المالك عن المكان الذي وضعه الغاصب في ذلك المكان أو لا ؟

الظاهر أنه لا إشكال في وجوب ذلك على الغاصب مقدّمة للردّ ، ودعوى أنّ ذلك ضرر على الغاصب فيرتفع وجوبه بالقاعدة ، مدفوعة بأنّ عدم بذله الاُجرة أيضاً ضرر على المالك فيتعارضان ، وقد عرفت في محلّه أنّ القاعدة لا تشمل أمثال المقام ، وهذا كلّه ممّا لا إشكال فيه .

وإنّما الكلام فيما إذا انحصر تحصيل المال ونقله في خصوص المالك كما إذا ألقاه الغاصب في بحر ونحوه واحتاج إخراجه إلى سباحة وغوص وانحصرت السباحة في مالك المال ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في أنه يستحق الاُجرة باخراجه ذلك ، لأنه كغيره في ذلك وعمله محترم يستحقّ الاُجرة في مقابله ، إلاّ أنّ الكلام فيما إذا لم يرض المالك إلاّ باُجرة غالية وزائدة عن اُجرة أمثاله ، فهل يجب على الغاصب إعطاء تلك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 511 .

ــ[115]ــ

الاُجرة التي يريدها مالك المال أو لا ؟

الظاهر أنه غير واجب على الغاصب ، إذ لا مانع من شمول قاعدة لا ضرر للمقام ، حيث إنّ دفع الغاصب للزائد من اُجرة المثل ضرر عليه . ودعوى أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال وأخسّها ، ممّا لا وجه له كما أشرنا إليه سابقاً ، هذا .

ثمّ إنّ المالك هل يمكنه منع الغير عن نقل ماله أو إخراجه ولا يجوز للغاصب أن يعطي الاُجرة لغير المالك ويأمره باخراج مال المالك فيما إذا لم يرض المالك بذلك وأراد أن يخرجه بنفسه لتمليك اُجرة الاخراج ، أو أنه لا يجوز للمالك ذلك أبداً ويجوز للغاصب أن يدفع الاُجرة إلى غير المالك ويأمره بالاخراج ؟

الظاهر أنّ المالك متمكّن من منع غيره عن التصرف في ماله بالنقل والاخراج فيكون تصرف الغير فيه حراماً لعموم « الناس مسلّطون على أموالهم  »(1) وعدم ورود تخصيص عليه في المقام فيخرجه المالك بنفسه ويتملّك الاُجرة ، نعم لو ادّعى الزيادة يجري فيه ما سبق من عدم وجوب دفع الزائد على الغاصب بوجه ، فهناك مسائل ثلاث :

الاُولى : أنّ المالك مثل غيره في أنه إذا نقل ماله بنفسه أو أخرجه عن البحر ونحوه يستحقّ الاُجرة لا محالة .

الثانية : أنّ المالك له أن يمنع غيره من التصرف في ماله بالاخراج والنقل ويتمكّن من أن يباشره بنفسه ويستحقّ به الاُجرة ؟

الثالثة : أنه لا يجوز للمالك مطالبة الزائد عن اُجرة المثل في صورة الانحصار وغيرها .

بقي الكلام في مسألة بدل الحيلولة وإنّما يتحقّق فيما إذا حيل بين المالك وملكه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عوالي اللآلي 3 : 208 ح49 ، بحار الأنوار 2 : 272 .

ــ[116]ــ

مدّة مع رجاء الوصول إليه دون ما إذا يأس عنه ، إلاّ أنّا أشرنا في محلّه إلى أنّ هذا البدل ممّا لا أساس له ، بل اللازم على الغاصب دفع قيمة العين إذا كانت تعدّ تالفة عند العرف ، أو هي مع قيمة منافعها فيما إذا كانت لها منافع في تلك المدّة ، وكذا يجب عليه دفع الاُجرة على مقدّمات الأداء فيما إذا كانت محتاجة إلى مؤونة كما عرفت فراجع .

استدراك

قد ذكرنا أنّ الضمان في المقام ضمان كفائي على نحو الواجب الكفائي ، ولكنّه لا يخفى أنّ الوجوب والطلب وإن تعلّق بالجامع بين الأفعال في الوجوب التخييري وبالجامع بين الأشخاص في الوجوب الكفائي ، إلاّ أنّ ما به يسقط الوجوب وبه يحصل الامتثال هو فرد من أفراد الواجب ووجود من وجوداته ، فهذا الفرد الشخصي والوجود الممتاز عن غيره مسقط للواجب ، لا أنّ اختياره يكشف عن أنّ الواجب في الواقع هو ذلك الوجود ، بل الواجب هو الجامع والفرد مسقط له ومحقّق للامتثال ، وآثار الاتيان بالواجب وثمراته ولوازمه كلّها تترتّب على هذا الفرد الذي به حصل الامتثال لا على الجامع أو سائر الأفراد لامتياز كلّ منها عن غيره كما لا يخفى . ففيما إذا أتى بالصوم في الواجب التخييري أو صلّى أحد على الميّت في الواجب الكفائي فيستحقّ ثواب الصوم ويترتّب عليه لوازمه ، كما أنّ المثوبة في صلاة الميّت مترتّبة على صلاة من صلّى على الميّت لا أنّ الأثر للجامع والمثوبة لجامع المكلّف أو يترتّب عليه ثواب الجامع بين الصوم والإطعام .

ففي المقام إذا أدّى أحد الضامنين بدل المال للمالك فقد حصل الامتثال وبه سقط الضمان ، ويترتّب آثار دفع البدل على من خرج عن عهدة الضمان الكفائي لا على الجامع بين الضامنين ، ومن آثاره انتقال المبدل إلى ملكه بدفع بدله للمالك وبعد

ــ[117]ــ

ما ملكه يرجع ببدله إلى اللاحق وهكذا ، هذا تمام الكلام في الأيادي المتعاقبة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net