دفع المال إلى الغير للصرف في جهة خاصّة - احتكار الطعام 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثاني : البيع-2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4228


الكلام فيما إذا دفع مالا إلى غيره ليصرفه في محلّه

إذا دفع إنسان مالا إلى غيره ليصرفه في محلّه ، فإن كان ذلك بعنوان ولاية


ــ[503]ــ

المدفوع إليه على المال كما في اعطاء الوجوهات إلى الإمام أو إلى نائبه وهو المجتهد أو إلى نائب نائبه كوكلاء المراجع للتقليد ، فلا ينبغي الإشكال في أنّه يجوز للمدفوع إليه التصرّف في المال لأنّه خرج عن تحت سلطنة المالك بالفرض ، ولذا لا يمكنه الرجوع وأخذ ما دفعه إلى الإمام (عليه السلام) أو نائبه ، فولاية التصرف في المال إلى المدفوع إليه وله أن يتصرف فيه أو يدفعه إلى غيره حسب الموازين المقرّرة عليه .

وأمّا إذا لم يكن إعطاء المال إليه بعنوان الولاية بل كان دفعه إلى الحاكم بعنوان الوكالة في صرفه إلى أهله كما إذا جهل الحاكم ولم يعرف أنّ المدفوع إليه حاكم شرعي فدفعه إليه وكالة من قبله في صرف الوجوهات في محلّها ، فهل يجوز للمدفوع إليه أن يتصرف فيها بنفسه لأنّه أيضاً من أحد المصاديق والأفراد التي يصرف المال إليهم ، أو أنّه لا يجوز التصرف فيها بأخذ مقدار منها لنفسه ؟

فإن كانت هناك قرينة على رضا المالك في صرف المدفوع إليه من المال أيضاً كما إذا صرّح بذلك أو كان كلامه ظاهراً في ذلك بوجه من الوجوه فلا إشكال في جواز أخذ مقدار منه لنفسه ، كما أنّه إذا كانت هناك قرينة على عدم رضا المالك بصرفه لنفسه كما إذا عيّن له مقداراً قبل دفع المال إليه ثمّ دفعه إليه وقال اصرفه في محلّه ولك كذا ، فلا كلام في عدم جواز تصرّف المدفوع إليه في المال .

وإذا فرضنا أنّ المالك عيّن أشخاصاً مختلفة المراتب في الحصّة من المال كما إذا قال اصرفه في العلماء للمبتدئين منهم كذا وللمتوسّطين كذا وللمنتهين كذا وللمجتهدين كذا ، أو أنّ للمجرّد منهم كذا وللمعيل والمتأهّل كذا ، وقد اعتقد المالك أنّ المدفوع إليه من المتوسطين ولكنّه كان من المجتهدين بحسب الواقع ، أو اعتقد أنّه مجتهد وكان من المبتدئين ، أو اعتقد أنّه مجرد وكان متأهّلا ، أو أنّ المالك عيّن أشخاصاً حسبهم مجتهدين وكانوا غير متّصفين بذلك بحسب الواقع .

فإن كان تعيين ذلك على نحو القضايا الحقيقية المعبّر عنها بالموضوعية في كلام

ــ[504]ــ

شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) بأن كان الحكم معلّقاً على العنوان فلا محالة يتبع في ذلك اعتقاد المدفوع إليه بحسب الواقع دون اعتقاد المالك ، إذ المفروض أنّ المال لابدّ وأن يصرف في عنوان المجتهد أو المحصّل ، وزيد الخارجي غير متّصف بعنوان الاجتهاد بحسب الواقع فلا يدفع إليه .

وإن كان على نحو القضايا الخارجية التي عبّر عنها شيخنا الأنصاري بالداعي بأن أراد المالك دفعه إلى زيد وعمرو وبداعي اعتقاد الاجتهاد فيهما ، فحينئذ لابدّ من اتّباع اعتقاد المالك وصرف المال فيهما وإن لم يكونا بتلك الصفة واقعاً ، إذ الداعي يتبع الاعتقاد لا الواقع ، وهذا كلّه واضح .

وإنّما الكلام والإشكال فيما إذا لم تكن هناك قرينة على إرادة المدفوع إليه ولا على عدم إرادته ، فهل يجوز للمدفوع إليه أن يتصرف فيه أو لا ؟ فذهب بعضهم إلى حرمة التصرف في المال حينئذ لعمومات حرمة التصرف في مال الغير إلاّ باذنه وإذن المالك غير محرز ، وذهب آخرون إلى الجواز ولعلّه من جهة الروايات وإلاّ فلا وجه له مع أنّ الأصل في الأموال حرمة التصرف حيث يثبت الإذن .

ثمّ نقل شيخنا الأنصاري تفصيلين في المقام : أحدهما التفصيل بين ما إذا أمره بالصرف بصيغة ضعه فيهم فيجوز للمدفوع إليه أن يضعه في داره ويتصرف فيه وبين ما إذا كان بصيغة ادفعه إليهم فلا يجوز ، لأنّ الدافع غير المدفوع إليه . وثانيهما التفصيل بين علم المالك بفقر المدفوع إليه وجهله به ، وأنّه إذا كان جاهلا بفقره يجوز للمدفوع إليه التصرف في المال ، وأمّا إذا كان عالماً بفقره فلا لأنّه لو أراده أيضاً لصرّح به وعيّنه فإذا لم يعيّن المدفوع إليه فظاهره عدم الرضا بتصرّفه فيه ، هذا .

والظاهر أنّ هذين الوجهين ليسا تفصيلين في المقام بل هما لبيان ظهور الكلام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 4 : 358 .

ــ[505]ــ

في رضا المالك وعدمه ، وأنّه في أيّ مورد ظاهر في رضاه وفي أي مورد غير ظاهر فيه ، فعليه فيدخلان فيما إذا كانت هناك قرينة على أحد الأمرين في البين ، وكلامنا في المقام فيما إذا لم يكن هناك قرينة تدلّ على أحدهما وقد عرفت أنّ بعضهم ذهب إلى الحرمة وبعض آخر إلى الجواز ، وذكرنا أنّ الأصل أيضاً يقتضي حرمة التصرفات في مال الغير إلاّ بإذن مالكه ، ولذا ذكروا أنّ من وكّلته امرأة في أن يزوّجها من أحد لا يجوز أن يزوّجها من نفسه ، وكذا إذا وكّله في شراء شيء فأعطاه من عنده .

وكيف كان ، فقد وردت في المقام رواية دلّت على حرمة التصرّف أيضاً على وفق مقتضى الأصل ، وهذه الرواية صحيحة ابن الحجّاج التي نقلها العلاّمة مسندة  ، وربما تنقل على وجه الاضمار أيضاً إلاّ أنّه لا يضرّ بالرواية بعد ما علم سندها  ، كما ذكرناه في روايات الاستصحاب(1) وقلنا إنّ إضمارها لا يضرّ بصحّتها للعلم باسنادها حسبما نقلها السيّد بحر العلوم في فوائده(2) وأسندها إلى الباقر (عليه السلام) تارة وإلى الصادق (عليه السلام) اُخرى وإلى أحدهما ثالثاً ، وإنّما حصل الاضمار لأجل التقطيعات الطارئة على الأخبار ، وكيف كان فقال ابن الحجّاج «  سألته عن رجل أعطاه رجل مالا ليصرفه في محاويج أو في مساكين وهو محتاج أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه هو ؟ قال : لا يأخذ شيئاً حتّى يأذن له صاحبه »(3) ومقتضاها حرمة تصرف المدفوع إليه في المال في مفروض الكلام ، إلاّ أنّها معارضة بثلاثة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 (الموسوعة 48) : 15 .

(2) الفوائد الاُصولية : 110 / الفائدة 33 .

(3) الوسائل 17 : 277 / أبواب ما يكتسب به ب84 ح3 .

ــ[506]ــ

روايات(1) فيها صحاح وروى بعضها ابن الحجّاج أيضاً وقد دلّت هذه الروايات على الجواز . ودعوى أنّ الأخبار المجوّزة تتقدّم على المانعة لأنّها أكثر مندفعة بما ذكرناه في الاُصول من أنّ تعدّد الرواية غير موجب للترجيح .

وذكر شيخنا الأنصاري أنّ الروايات الواردة في المقام ترخيصاً ومنعاً ليست من باب التعبّد بوجه ، إذ لا يحتمل أن يكون نهي الإمام في الرواية المانعة تعبّدياً ولو مع شمول العموم في الاجازة للمدفوع إليه وظهوره في جواز صرف المدفوع إليه منه ورضا المالك به إلاّ أنّه (عليه السلام) منعه عن التصرف فيه تعبّداً حتّى يأذن له المالك خصوصاً ، وكذا الأخبار المجوّزة إذ لا يحتمل أن يكون تجويزه (عليه السلام) التصرف فيه مع ظهور عدم رضا المالك به وشمول المنع له بحسب العموم إلاّ أنّه جوّزه تعبّداً حتّى يمنع عنه بالخصوص ، وذلك لبعد ترخيص الإمام مع منع المالك أو يمنعه (عليه السلام) مع ترخيص المالك ، هذا بل لا مورد للسؤال عن جواز التصرف مع نهي المالك أو عن عدمه مع ترخيصه ، فسؤال الراوي أيضاً قرينة على عدم ترخيص الإمام مع منع المالك تعبّداً أو منعه (عليه السلام) مع ترخيص المالك كذلك أي تعبّداً  ، وكيف كان فلا يحتمل التعبّد في شيء من روايات الترخيص والمنع ، وعليه فلابدّ من حمل المجوّزة على ما إذا كانت هناك قرينة على الجواز ورضا المالك ، وحمل المانعة على صورة ظهور عدم رضاه .

وعلى تقدير تسليم المعارضة بينهما فيتساقطان فلابدّ من المراجعة إلى ظهور الكلام وأنّه ظاهر في المنع أو الترخيص ، وعلى تقدير عدم استفادة شيء من الأمرين في الكلام فيرجع إلى عمومات حرمة التصرف في مال الغير إلاّ بإذنه ، هذه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 277 / أبواب ما يكتسب به ب84 ، والمجلّد 9 : 288 / أبواب المستحقّين للزكاة ب40 ح2 ، 3 .

ــ[507]ــ

خلاصة ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في المقام .

ولا يخفى عليك أنّ حمل الروايات المجوّزة على صورة ظهور الكلام في الترخيص وحمل المانعة على صورة ظهوره في المنع أو عدم ظهوره في الاذن غير صحيح ، لما عرفت من أنّ الحكم في هاتين الصورتين لا يحتاج إلى السؤال ولا حاجة إلى ترخيص الإمام مع إذن مالك المال ولا إلى منعه مع منع المالك عن التصرف فيه ، فلا وجه لما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في الجمع بينهما فالظاهر أنّ مورد السؤال والجواب في كلتا الطائفتين من الأخبار هو صورة عدم ظهور الكلام في شيء من الترخيص والمنع .

والوجه في سؤال السائل مع عدم إذن المالك هو أنّ الإذن من المالك لمّا تعلّق بعنوان كلّي كالفقراء أو المحتاجين وكان المدفوع إليه أيضاً من مصاديقه إلاّ أنّ المالك لم يصرّح به بخصوصه لجهله بحاله بحيث لو كان عالماً بفقره لصرّح باسمه فاستأذن منه (عليه السلام) في التصرف في المال مع عدم تصريح المالك بعنوانه وإن كان داخلا في عنواني الفقير والمحتاج لاحتمال الجواز في التصرف حينئذ ، فأجابه (عليه السلام) بالجواز في بعضها وبالمنع في بعضها الآخر ، فبما أنّهما متعارضان فلابدّ من العلاج فيهما .

وقد ذكروا في الجمع بينهما وجهين : أحدهما أنّ النهي عن التصرف في المال ظاهر في الحرمة والأخبار المجوّزة ناصّة في الجواز فيرفع اليد بتلك المجوّزة عن ظهور النهي في الحرمة فنحملها على الكراهة .

وفيه : أنّ النهي وإن كان ظاهراً في الحرمة وغير نصّ فيها بخلاف الأخبار المجوّزة لنصوصيتها في الجواز كما في غير هذا المقام أيضاً إلاّ أنّ في المقام خصوصية تمنع عن رفع اليد عن الحرمة بالأخبار المجوّزة ، وهذه الخصوصية هي اشتمال المانعة على قوله « حتّى يأذن له صاحبه » لأنّه ظاهر الاشارة إلى التمسّك بحرمة التصرّف

ــ[508]ــ

في المال إلاّ بإذن مالكه ، فكأنّه يمنعه لتلك الكبرى المسلّمة فيحرم التصرف في المال حينئذ ، لأنّ الغاية المذكورة تجعله كالنصّ في الحرمة فلا يصحّ رفع اليد عنها بالأخبار المجوّزة حينئذ .

وثانيهما : حمل الرواية المانعة على ما إذا سمّى المالك أشخاصاً معيّنين فلا يجوز للدافع أن يتصرف فيه بوجه ، وحمل المجوّزة على ما إذا لم يسمّ أحداً وإنّما دفعه إليه ليعطيه إلى عنوان كلّي فيجوز للمدفوع إليه التصرف فيه ، والشاهد على هذا الجمع صحيحة ابن الحجّاج حيث فصّلت بين الصورتين ومنعت عند التسمية ورخّصت عند عدمها فهي شاهد جمع بين الطائفتين المانعة والمجوّزة ، هذا .

ويدفعه : أنّ الرواية المانعة قد اشتملت على لفظة محاويج أو مساكين وهما نكرتان لا تعيين فيهما في شيء ، فهي إنّما منعت مع عدم التسمية والتعيين فكيف تحمل على صورة التسمية وتعيين أشخاص .

وعليه فالصحيح حمل الرواية المانعة على الأموال الشخصية أي المملوكة لشخص المعطي والمجوّزة على غيرها من الأموال النوعية كالزكاة ، وتوضيح ذلك : أنّ المالك إذا دفع مقداراً من ماله الخاص إلى شخص وقال له أعطه للفقراء مثلا فلا يجوز للمدفوع إليه أن يتصرّف في ذلك بشيء لأنّ ظاهر اعطه وادفعه وغيرهما عدم شمول الترخيص له ولا يجوز التصرف في مال أحد إلاّ بإذنه ، وأمّا إذا كان المال من الأموال النوعية كالزكاة والخمس وغيرهما من الأموال التي ليست ملكاً للمالك بوجه ففي هذه الصورة لا مانع من أن يأخذ المدفوع إليه من ذلك المال والشاهد على هذا الجمع قوله في الروايات المجوّزة « الرجل يعطى الزكاة » وهي ليست من الأموال الشخصية وقوله « رجل أعطي مالا يفرّقه في من يحلّ له » وهو ظاهر في أنّ للمال المدفوع موارد ومصارف لابدّ من صرفه فيهما ، وليس هذا إلاّ الصدقات الواجبة من الزكاة والخمس ، وقوله في صحيحة ابن الحجّاج « يقسّمها ويضعها في

ــ[509]ــ

مواضعها » فيعلم منه أنّ للمال مواضع مقرّرة وهو لا ينطبق إلاّ على غير الأموال الشخصية ، وأمّا الرواية المانعة فلم تدلّ إلاّ على أنّه أعطى مالا ليصرفه في محاويج فلا اختصاص فيه بالصدقات والأموال النوعية فلابدّ من حملها على الأموال الشخصية وحمل المجوّزة على الأموال النوعية الخارجة عن سلطان المالك .

الكلام في الاحتكار

وللبحث فيها جهات : الجهة الاُولى وقع الخلاف في أنّ الاحتكار محرّم أو مكروه ، والمشهور بين الأصحاب هو الحرمة وذهب جمع إلى الكراهة إلاّ إذا طرأ عنوان ثانوي كما إذا أمره الحاكم بأن يعرض الطعام للبيع لرفع استيحاش الناس عن الغلاء فيكون تركه محرّماً من جهة مخالفة حكم الحاكم لا من جهة حرمته في نفسه  .

والصحيح هو ما ذهب إليه المشهور وأنّ الاحتكار حرام ولم يجعل الله تعالى سلطنة للمالك في حبس ملكه من الطعام ، غاية الأمر أنّ الحرمة مشروطة بعدم باذل طعام غيره ، وذلك لصحيحه سالم الحنّاط(1) حيث سأله (عليه السلام) عن عمله فقال قلت حنّاط ربما قدمتُ على نفاق وربما قدمتُ على كساد ، وعند الكساد اشتريت الطعام وحبسته ، قال (عليه السلام) فما تقول العامّة والناس من جهتك وقِبلك ؟ قال قلت يقولون إنّ سالم يحتكر ، فسأله (عليه السلام) أنّه هل يبيعه أحد غيرك أم لا
فأجابه بأنّ البائع كثير والطعام من الكثرة بحدّ لا يكون ما أبيعه جزءاً من ألف جزء من الطعام الموجود في السوق ، قال لا بأس ، فمنها يظهر أنّ الحرمة مشروطة بصورة عدم الباذل ، وأمّا مع وجود الباذل فلا حرمة في الاحتكار كما يستفاد ذلك من نهي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 428 / أبواب آداب التجارة ب28 ح3 (نقل بالمضمون) .

ــ[510]ــ

النبي (صلّى الله عليه وآله) حكيم بن حزام(1) بقوله إيّاك أن تحتكر أي ابتعد عن الاحتكار  ، لأنّه كان يشتري جميع الطعام في المدينة .

وكذا يدلّ على ما ذكرناه صحيحة الحلبي(2) عن أبي عبدالله (عليه السلام) المنقولة في المكاسب وقد صرّح فيها بالتفصيل بين صورتي وجود الباذل وعدمه وكذا كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر على ما في نهج البلاغة(3)من أنّ من قارف أي ارتكب حكرة بعد نهيك فنكّل به وعاقب في غير إسراف ، إذ لو كان الاحتكار مكروهاً لم يكن وجه لمعاقبة مالك وعقابه المرتكبين للمكروه فمنه يظهر أنّه حرام والعقاب من غير إسراف في محلّه .

وأمّا صحيحة الحلبي(4) قال سألته عمّن يحتكر الطعام ويتربّص به إلى أن قال فإنّه يكره أن يحتكر ... الحديث ، فغاية ما هناك أنّ الكراهة غير ظاهرة في الحرمة لا أنّها ظاهرة في عدم الحرمة ليعارض بها الأخبار الدالّة على الحرمة ، وذلك لأنّ الكراهة المستعملة في لسانهم (عليهم السلام) بمعنى المبغوضية لا بمعنى المكروه المصطلح عليه بين الفقهاء الذي هو في مقابل الحرام ولعلّه ظاهر ، وعليه فتكون الأخبار المحرّمة قرينة على إرادة الحرمة من الكراهة في هذه الرواية أيضاً .

وأمّا ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) على وجه التأييد من رواية أبي مريم الأنصاري عن أبي جعفر (عليه السلام) « قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أيّما رجل اشترى طعاماً فحبسه أربعين صباحاً يريد به الغلاء للمسلمين ثمّ باعه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 428 / أبواب آداب التجارة ب28 ح3 (نقل بالمضمون) .

(2) المصدر السابق ح1 .

(3) الوسائل 17 : 427 / أبواب آداب التجارة ب27 ح13 .

(4) الوسائل 17 : 424 / أبواب آداب التجارة ب27 ح2 .

ــ[511]ــ

وتصدّق بثمنه لم يكن كفّارة لما صنع »(1) فالظاهر أنّه لا تأييد فيها بوجه ، لأنّ الظاهر أنّها رواية أخلاقية غير مربوطة بالكراهة أو الحرمة في الاحتكار ، لأنّ الطعام إذا لم يكن هناك باذل له فلا يفرّق في الحرمة بين الأربعين والثلاثين يوماً وإن كان له باذل فلا يفرّق في جواز حبسه بين الأربعين والسنين ، إذن الظاهر أنّ حبس الطعام بقصد الغلاء للمسلمين وازدياد قيمته يكشف عن خبث سريرة ذلك المحتكر لأنّ الاحتكار إنّما هو حبس الطعام ، لا لأجل أن تترقّى قيمته السوقية بل لأجل أنّ القيمة السوقية في وقت الشتاء مثلا أزيد من قيمته في الصيف فيشتريه لأن يبيعه في ذلك الوقت لا أن يشتريه ويجمعه من السوق حتّى تغلى قيمته فإنّه كاشف عن خباثته ، فلو رفع يده عن ذلك قبل الأربعين فيغفر الله له ذلك وإلاّ فهو معاقب بحسب الأخلاق ، هذا بحسب الدلالة في الرواية . وأمّا بحسب السند فهي ضعيفة  .

وأمّا ما ذكره شيخنا الأنصاري(2) من أنّ في الرواية بعض بني فضّال وقد أمر العسكري (عليه السلام)(3) بالأخذ برواياتهم وطرح آرائهم بعد فسقهم ، فهو دليل على اعتبار رواياتهم في كتبهم ، والظاهر أنّ هذه الرواية أيضاً مأخوذة من كتبهم فتكون معتبرة ويستغنى بذلك عن ملاحظة من قبلهم في السند ، فبنو فضّال كمحمّد بن مسلم وزرارة وابن أبي عمير الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم  .

فيدفعه أمران : أحدهما أنّ الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء الجماعة بحيث يستغنى بهم عن ملاحظة من قبلهم في السند غير تامّ ، بل لا وجه له أصلا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 425 / أبواب آداب التجارة ب27 ح6 .

(2) المكاسب 4 : 366 .

(3) الوسائل 27 : 142 / أبواب صفات القاضي ب11 ح13 .

ــ[512]ــ

وتفصيل الكلام فيه موكول إلى محلّه . وثانيهما : أنّ توثيق الإمام لبني فضّال والأخذ برواياتهم ناظر إلى أنّ فسقهم بعد ذلك لا يمنع عن اعتبار رواياتهم ، فرواياتهم كروايات زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهم من الثقات ، وليس ناظراً إلى أنّ رواياتهم معتمدة ولو كان الراوي قبله كذّاباً فاسقاً .

وبالجملة أنّ الأمر بأخذ رواياتهم يدلّ على أنّ رواياتهم بعد صيرورتهم فسّاقاً كاعتبار رواياتهم عند كونهم عدولا ، فكما أنّ الراوي قبلهم عند كونهم عدولا لابدّ من ملاحظته فلا يؤخذ بروايته فيما إذا كان كذّاباً ، فكذلك بعد فسقهم إذ لا نحتمل أن يكون صيرورتهم فاسقين موجباً لحجّية رواياتهم ولو مع كذب الرواة المتقدّمين عليهم ، لأنّها لم تكن معتبرة عند كذب الرواة فيما إذا كانوا عادلين فكيف تكون معتبرة مع كذب الرواة بعد فسقهم ، فلا مدخلية لفسقهم بعد ذلك أبداً غاية الأمر أنّ توثيق العسكري (عليه السلام) روايات بني فضّال يجعلها كروايات محمّد بن مسلم أو زرارة ، ومن المعلوم أنّ رواياتهما إنّما تعتبر بملاحظة من تقدّمهما في السند فلا يؤخذ بها فيما إذا كان الراوي قبلهما غير موثّق ولا عادل كما إذا كان كذّاباً ، هذا وقد تعرّض لما أفاده في المقام في بحث الصلاة(1) ولعلّ موضعه باب الوقت على ما أذكره فعلا ، وقد عرفت حقيقة الحال وأنّه لا وجه لما أفاده في المقامين من أنّ أمر العسكري (عليه السلام) يغني عن ملاحظة من تقدّمهم في السند ، وأنّه ناظر إلى اعتبار رواياتهم لا إلى حجّيتها ولو مع فسق الرواة المتقدّمين عليهم فلا تغفل .

الجهة الثانية : في أنّ الاحتكار هل يختصّ بالحنطة أو الشعير أو يعمّ غيرهما من المأكولات التي يحتاج إليها الإنسان أو أنّ هناك تفصيلا ؟ موضوع الحكم في الروايات المتقدّمة هو الطعام وهو اسم لما يطعمه الإنسان ممّا به تعيّشه وقوامه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الصلاة 1 : 36 .

ــ[513]ــ

كالحنطة والشعير والاُرز وغيرها ، وهذا يختلف باختلاف الأماكن والبلدان ففي مثل بلادنا هذه ليس الشعير من الطعام ، إذ لا حاجة للناس إليه فليس الاحتكار فيه محرّماً ، نعم الحنطة والاُرز من الطعام في هذا البلد لأنّ قوامهم بهما فاحتكارهما محرّم  ، وفي بعض مدن ايران كمازندران ورشت الاُرز من الطعام لانحصار تعيّشهم فيه غالباً ، فالحنطة خارجة عن الطعام فلا مانع من احتكارها في المدن المذكورة وكيف كان فالمدار على صدق الطعام فلا حرمة في غيره كما في الزبيب وغيره من الفواكه كالأثمار والتتن فلا يكون احتكارها محرّماً .

ثمّ إنّ الظاهر من الطعام هو الطعام بوصف الطعامية لا بذاته وتجرّده ، وعليه فيدخل في الاحتكار مقارنات الطعام من الملح والسمن أو الزيت في بعض البلاد لأنّ الطعام بدون الملح غير قابل للأكل ، وكذا الطعام بدون السمن والزيت فاحتكارهما بمنزلة احتكار نفس الحنطة أو الاُرز لسقوطهما عن الأكل والتعيّش به ولأجل ذلك ورد الزيت في بعض الأخبار(1) المتقدّمة حيث عدّ احتكاره من الحرام  ، فمنه يعلم دخول الملح والسمن في الاحتكار بطريق أولى .

بل يمكن التعدّي إلى مقدّمات الطعام كالنفط الذي عليه يتوقّف الطبخ عادة فحبس النفط من الاحتكار الحرام ، وقد استفدنا ذلك كلّه من صحيحة الحلبي المتقدّمة(2) حيث أجاب فيها الإمام بأنّه يكره أن يحتكر ويترك الناس ليس لهم طعام ، فمنها يظهر أنّ المناط في الاحتكار جعل الناس ليس لهم طعام فيشمل ذلك احتكار الملح والنفط وغيرهما ممّا يتوقّف عليه قوام الطعام من المقارنات والمقدّمات .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 426 / أبواب آداب التجارة ب27 ح10 وغيره .

(2) في الصفحة510 .

ــ[514]ــ

وأمّا الروايات الحاصرة الواردة في المقام فبين حاصرة للاحتكار في أربعة الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، وبين حاصرة في خمسة باضافة الزيت وبين حاصرة في ستّة باضافة السمن ، ومفهومها عدم الحرمة في الاحتكار في غير الموارد الستّة ولو عدّ من الطعام كما في الاُرز وغيره ، إلاّ أنّها ضعيفة السند فلا يمكننا رفع اليد عن الاطلاق في الروايات الصحيحة الدالّة على حرمة الاحتكار في الطعام بتلك الأخبار الضعيفة التي لم يثبت اعتبارها ، فما هذا وصفه كيف يمكن أن يكون رافعاً للاطلاق في الأخبار الصحيحة .

الجهة الثالثة : روى السكوني(1) أنّ الحكرة في الخصب وعدم الغلاء أربعون يوماً وفي الغلاء ثلاثة أيّام ، فلا يجوز الاحتكار أزيد من الأربعين في الخصب وأزيد من الثلاثة عند الغلاء ، إلاّ أنّ الرواية ضعيفة فلا يمكن الاعتماد عليها إذ المدار على حاجة الناس وعدمها ، فمع الحاجة لا يجوز الاحتكار ولو في أقلّ من ثلاثة أيّام ، ومع عدم الحاجة لا مانع من الاحتكار ولو في أزيد من أربعين يوماً ولا مانع من حمل رواية السكوني على صورة مظنّة الحاجة بدعوى أنّ الحاجة في الخصب في أزيد من الثلاثة وفي الغلاء في أقلّ من أربعين يوماً كما حكي عن الشهيد وإن كان الحمل في حدّ نفسه بعيداً .

الجهة الرابعة : أنّ الاحتكار هل يختصّ بالشراء كما ورد في صحيحتين من الروايات المتقدّمة(2) حيث ورد في إحداهما « وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه  » الخ وفي الصحيحة الاُخرى « قال إنّما الحكرة أن تشتري طعاماً » الخ ، أو أنّ الاحتكار مطلق حبس الطعام ولا يختصّ بخصوص الاشتراء بل يعمّ ما إذا وهبه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 423 / أبواب آداب التجارة ب27 ح1 .

(2) في الصفحة 510 .

ــ[515]ــ

أحد أو زرع هو بنفسه وحبسه ؟ الظاهر هو الثاني لعدم اختصاص الحكرة بالاشتراء ، وأمّا ما ورد في صحيحة سالم الحنّاط(1) من أنّ حكيم بن حزام كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه فمرّ عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له ياحكيم بن حزام إيّاك أن تحتكر ، فهو بيان لمورد من موارد الاحتكار فلا يوجب اختصاص الحكم به .

وأمّا ما في صحيحة الحلبي من قوله « إنّما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر طعام غيره فتحتكر فإن كان في المصر طعام غيره فلا بأس » فالمفهوم المستفاد من كلمة إنّما الحصرية هو أنّه لو كان في المصر طعام غيره فلا بأس كما صرّح به بعده لا أنّ مفهومها أنّه إن لم يشتر الطعام فلا بأس ولا احتكار حتّى يتوهّم أنّ الاحتكار يدور مدار الاشتراء فينتفي عند انتفائه ، فهي أيضاً بيان للمورد الغالبي في الاحتكار لأنّ الغالب في التجار هو الاشتراء دون الزرع أو الاتّهاب . فالمتحصّل أنّ الاحتكار لا يختصّ بالشراء .

الجهة الخامسة : أنّ الحاكم يجوز أن يجبر المحتكر على البيع ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بينهم ، نعم لا يمكنه التسعير على ماله بل يجبره على أن يبيع الطعام بأيّة قيمة أراد ما لم يبلغ إلى حدّ يوجب منع الناس عن الاشتراء لأنّه ممنوع لرجوعه إلى الاحتكار في السوق ، إذ الاحتكار ليس بمعنى إخفاء المال ووضعه في الدار بل المراد منع الناس عن الوصول إليه ولو مع مشاهدتهم إيّاه كما إذا أراد بيع ما يسوى بدرهمين بدينارين ، وقد حكي عن النبي (صلّى الله عليه وآله)(2) أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يسعّر للطعام وقال التسعير بيد الله تعالى بحسب الزيادة والنقصان أي بحسب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الصفحة 510 .

(2) الوسائل 17 : 430 / أبواب آداب التجارة ب30 ح1 .

ــ[516]ــ

زيادة الطعام ووفوره الموجب لنقصان قيمته أو نقصانه الموجب لزيادة قيمته ، وإنّما جوّز إجبار المحتكر على البيع كما أنّ للحاكم إجبار المالك على البيع في غير موارد الاحتكار إذا كانت في بيعه مصلحة للناس .

الجهة السادسة : أنّ الاحتكار بما هو وفي نفسه لا ينقسم إلاّ إلى الحرام والحلال لأنّه مع الحاجة حرام وبلا حاجة حلال ، وأمّا اتّصافه بسائر الأحكام من الاستحباب والوجوب والكراهة فالظاهر أنّه لأجل عنوان آخر طارئ على الاحتكار ، لما عرفت من أنّ الاحتكار في حدّ نفسه لا يتّصف بغير الحرمة والحلّية نعم يمكن أن يكون الاحتكار واجباً بعنوان حفظ النفوس المحترمة كما إذا توقّف حفظها على احتكار الطعام في الخصب حتّى لا يموتون في المجاعة جوعاً ، ويمكن أن يتّصف بالاستحباب كما إذا احتكر الطعام مع عدم الحاجة لأجل التوسعة على الزوّار حيث إنّ الطعام عند قدومهم يغلى وتترقّى قيمته وربما ينفد ، فلا مانع من باب التوسعة والإعانة للزوّار أن يتّصف بالاستحباب ، كما ربما يتحقّق عنوان يوجب كراهة الاحتكار ، إلاّ أنّ هذا كلّه من جهة العناوين الطارئة لا إنقسام الاحتكار إليها في نفسه ، هذا تمام الكلام في البيع وقد انتهى الأمر إلى آخر كتاب البيع يوم الأحد ثلاثة وعشرين خلت من شهر جمادى الاُولى من شهور سنة خمسة وسبعين وثلاثمائة بعد الألف في المدرسة الخليلية الكبرى في النجف على ساكنها السلام حامدين مصلّين والحمد لله ربّ العالمين .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net