إفتراق المتبايعين عن إكراه 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4938


الافتراق عن إكراه

لا إشكال في سقوط الخيار فيما إذا تفرّق المتبايعان عن إرادة واختيار مع


ــ[122]ــ

التمكّن من الفسخ ، كما أنه لا ينبغي الاشكال في سقوطه فيما إذا اُكره على التفرّق مع التمكّن من الفسخ ، لأنه مع التمكّن من الفسخ إذا تفرّق ولو على نحو الاكراه فقد أسقط الخيار بارادته واختياره ، وكذا الحال فيما إذا اُكره على عدم الفسخ إلاّ أنه كان متمكّناً من البقاء في المجلس وعدم التفرّق ، فإنّه إذا تفرّق فقد أسقط خياره باختياره وإرادته ، وهذه الصور الثلاث ممّا لا كلام فيها .

وأمّا إذا اُكره على كل من التفرّق وترك الفسخ ، فالمشهور أنه لا يوجب سقوط الخيار بل ادّعي عليه الاجماع ، والكلام في مدرك ذلك فنقول : الذي يستفاد من مجموع كلام شيخنا الأنصاري(1) في وجه عدم سقوط الخيار اُمور :

منها : الاجماع المنقول الذي اعتمد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) بقوله : فالأولى الاستدلال عليه مضافاً إلى الشهرة المحقّقة الجابرة للاجماع المحكي الخ .

ويدفعه : أنّ الاجماع المنقول ليس بحجّة في حدّ نفسه ، كما أنّ الشهرة الفتوائية لا دليل على اعتبارها ، وضمّ غير حجّة إلى مثله لا يفيد شيئاً ، فلا يمكن الاعتماد على أمثال ذلك من الضعاف .

ومنها : التبادر والانصراف ، حيث إنّ المتبادر من الأفعال كأكل وضرب وغيرهما أنّها صدرت بالارادة والاختيار ، وعليه فالمتبادر من قوله (عليه السلام) «  البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، وإذا افترقا وجب البيع »(2) أنّهما إذا افترقا بالارادة والاختيار وجب البيع ، لا فيما إذا افترقا بلا اختيار ، فيكون الخيار باقياً بحاله فيما إذا حصل التفرّق عن إكراه وبلا اختيار .

وأورد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) بأنّ هذا التبادر إنّما هو في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 69 .

(2) ورد مضمونه في الوسائل 18 : 5 / أبواب الخيار ب1 .

ــ[123]ــ

الاختيار في مقابل الاضطرار لا في الاختيار في مقابل الاكراه ، مثلا يمكن أن يقال إنّ المتبادر في مثل يقوم ويجلس أنّ الفاعل يقوم بنفسه واختياره ، وأمّا إذا كان قيامه اضطرارياً كما إذا أقامه غيره فلا يصدق عليه يقوم لانصرافه إلى القيام بنفسه لا القيام باقامة الغير إيّاه ، وأمّا إذا قام بنفسه وإرادته ولكن لا من جهة رضاه بل بداعي الخوف من قتل الجائر إيّاه حيث أوعده بالقتل على تقدير عدم القيام فلا وجه لدعوى انصراف قام عن مثله ، إذ المفروض أنه صدر بإرادته غاية الأمر لا بداعي الرضا أو الرغبة إليه بل بداعي الخوف والاكراه ، هذا .

ويمكن أن يقال : إنّ الأفعال لا يتبادر منها شيء من الاختيار في مقابل الاضطرار ولا الاختيار في مقابل الاكراه ، أمّا الثاني فلما أشرنا إليه آنفاً في تقريب كلام شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وأمّا الاختيار في مقابل الاضطرار فلأنّه أجنبي عن الأفعال بموادّها وهيئاتها ، أمّا بحسب المواد فلأنّ القيام مثلا إسم للهيئة الخاصّة من دون فرق بين حصولها بالاختيار وبين حصولها بالاضطرار ، وأمّا بحسب الهيئات فلأنّ هيئة قام تدلّ على أنّ الفاعل تلبّس بمادّة القيام من غير اختصاص بما إذا تلبّس بها باختياره . وبالجملة فلو كنّا نحن وهذه الرواية لقلنا بسقوط الخيار بمجرد الافتراق سواء كان بارادته واختياره أو باضطراره إليه أو اكراهه عليه هذا  .

ثمّ أورد عليه شيخنا الأنصاري ثانياً : بأنّ التبادر لو تم للزم الالتزام بعدم سقوط الخيار فيما إذا كان متمكّناً من الفسخ واُكره على التفرّق فقط ، مع أنّهم التزموا بسقوط الخيار حينئذ ولم يقل أحد بعدم سقوطه بدعوى أنّ التفرّق صدر باكراه وهو لا يوجب سقوط الخيار . وهذا الاشكال متين كما هو ظاهر .

ومنها : التمسّك بحديث الرفع ، بدعوى أنّ مقتضى الحديث أنّ الفعل الصادر عن إكراه كلا فعل وأنه لا يترتّب عليه أثر ، وبما أنّ التفرّق صدر باكراه فهو كلا

ــ[124]ــ

تفرّق بمقتضى الحديث ، وعليه فلا محالة يبقى خياره بحاله .

وقد أورد عليه شيخنا الأنصاري : بأنّ لازم التمسك بالحديث أن يلتزم ببقاء الخيار حتى فيما إذا كان متمكّناً من الفسخ ، وبما أنّهم ذهبوا إلى سقوط الخيار عند تمكّنه من الفسخ فيستكشف منه أنّ الحديث ممّا لا يمكن التمسك به في المقام ، هذا .

ويمكن الجواب عن هذا الايراد بأنّ الحديث إنّما يرفع الحكم عن الأفعال الصادرة من المكلّفين فيما إذا صدرت عن الاكراه أو النسيان أو غيرهما من العناوين المذكورة في الحديث ، وكان لها أثر وحكم ، والحكم أعني اللزوم إنّما يترتّب في المقام على مجموع أمرين أحدهما : الافتراق وثانيهما : عدم الفسخ ، فالافتراق مع عدم الفسخ موضوع للحكم باللزوم ، فإذا تعلّق الاكراه بمجموع هذين الأمرين اللذين فرضناهما موضوعاً للحكم باللزوم فلا محالة يوجب رفع ذلك الحكم ، لأنّ الفعل الصادر عن إكراه كلا فعل .

وأمّا إذا تعلّق الاكراه بأحدهما لا بمجموعهما فلا يترتّب عليه أثر ، إذ لا أثر لجزء الموضوع ولا حكم له حتّى يرتفع بالحديث ، فالاكراه على الجزء ممّا لا أثر له وعليه فإذا انضمّ إليه جزؤه الآخر فلا محالة يترتّب عليهما الأثر ، لأنّ الاكراه المتعلّق بأحدهما كلا شيء وكأنّه لم يكن ، إذ لا يترتّب عليه أثر من جهة أنّ متعلّقه ليس محكوماً بحكم حتى يرفعه الحديث ، فإذا اُكره على التفرّق فلا يترتّب على هذا الاكراه أثر ، لأنّ التفرّق ليس موضوعاً لحكم حتى يرتفع حكمه بالحديث ، فإذا ضمّ إليه عدم الفسخ بالاختيار فلا محالة يترتّب عليهما الحكم باللزوم ، إذ المفروض أنّ اللزوم يترتّب على مجموع الافتراق وعدم الفسخ ، وهذا هو الوجه في عدم التزام الأصحاب بسقوط الخيار فيما إذا كان متمكّناً من الفسخ ـ كما يمكن أن يكون الوجه في عدم التزامهم بالسقوط عند التمكّن من الفسخ هو إجماع الأصحاب على عدم سقوط الخيار ـ .

ــ[125]ــ

وبالجملة : أنّ الوجه فيما ذهبوا إليه أنّ الاكراه لم يتعلّق بأمر محكوم بحكم لأنّ جزء الموضوع لا حكم له ، فلا يرد بذلك نقض على الأصحاب ولا يستكشف بذلك أنّ الحديث لا يجري في المقام ، وهذا لا يختص بالمقام بل يجري في جميع الموارد  ، فإذا اُكره أحد على قول بع وهو تكلّم به عن إكراه وضمّ إليه تاء المتكلّم بقصد الانشاء وقال بعت ، فلا يمكن أن يقال إنّ جزءه لمّا كان على وجه الاكراه فقد ارتفع حكمه فلا يترتّب على هذا الانشاء أثر ، وذلك لأنّ نصف كلمة بعت جزء لموضوع الانشاء والجزء لا حكم له حتى يرتفع بالاكراه ، وكيف كان فهذا الايراد لا يمكن الاعتماد عليه ولا يكون دليلا على عدم جريان الحديث في المقام .

والذي يمكن أن يقال في وجه عدم صحة التمسّك بالحديث في المقام : هو أنّ الحديث إنّما يمكن التمسّك به فيما إذا كان الافتراق موضوعاً للحكم باللزوم ، وحينئذ يمكن أن يقال إنّ الافتراق لمّا كان مورداً للاكراه فهو كلا افتراق فلا يترتّب عليه الحكم باللزوم ، وأمّا إذا لم يترتّب عليه حكم لأنّ اللزوم إنّما ترتّب على العقد من حين صدوره لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وإنّما أخرج الشارع حصّة خاصّة من الزمان عن هذا الحكم وحكم فيه بالجواز منّة وتسهيلا إلى أن يحصل الافتراق ، فحينئذ لا يترتّب على الاكراه المتعلّق بالافتراق أثر ، لأنّ الافتراق غاية للحكم بالجواز على نحو الاطلاق صدر عن الاختيار أو عن الاكراه ، وليس موضوعاً للحكم باللزوم حتى يقال إنّه لمّا كان متعلّقاً للاكراه فلم يترتّب عليه أثره لأنه كلا افتراق ، وذلك لما أشرنا إليه من أنّ الحكم باللزوم إنّما صدر من الابتداء وليس موضوعه الافتراق  .

وأمّا قوله (عليه السلام) « فإذا افترقا وجب البيع » فمعناه إذا افترقا يزول الحكم بالجواز ويكون العقد والبيع لازماً باللزوم من أوّل الأمر ، لا أنّ اللزوم يترتّب مع التفرّق ، فالتفرّق إنّما هو غاية للحكم بالجواز ، ولا مانع من أن تكون

ــ[126]ــ

الغاية للأحكام الترخيصية مطلق وجود الشيء صدر عن الاكراه أو عن الاختيار وهذا كما إذا أبحت التصرف في مالك لأحد إلى أن يجيئ شخص معيَّن بحيث إذا جاء ذلك الشخص ارتفع الحكم بالاباحة ، سواء كان مجيؤه باختياره أو بنسيانه وعدم إرادته ، وهو لا يقاس بالحكم الالزامي أعني لزوم البيع ، لأنّه مترتّب على العقد ولم يتعلّق به إكراه ، وإنّما تعلّق بالافتراق وهو ليس بموضوع للحكم باللزوم وسيجي مزيد توضيح لهذا المطلب بعد قليل ، هذا .

وقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) وجهين آخرين لعدم جريان الحديث في المقام :

أحدهما : أنّ الحديث كما دلّ على رفع ما استكرهوا عليه دلّ على رفع النسيان أيضاً ، ومقتضى التمسك به في المقام أن يلتزم بعدم سقوط الخيار فيما إذا تفرّقا نسياناً مع أنه ممّا لا يلتزم به الأصحاب ، فيستكشف من ذلك أنّ ذات الافتراق بما هو فعل لا بما هو صادر عن اختيار جعل من المسقطات ، وهذا النقض متين .

الوجه الثاني : أنّ الحديث إنّما يرفع متعلّقات الأحكام فيما إذا صدرت عن إكراه ولا يشمل موضوعاتها ، فإذا شرب الخمر عن إكراه فمقتضى الحديث أنه كلا شرب ، فلا يترتّب عليه آثار شرب الخمر لأنه متعلّق للحكم بالحرمة ، وأمّا إذا استكره على موضوع من موضوعات الأحكام فلا يشمله الحديث ، فإذا اُكره على إقامة عشرة أيّام في سفره فإنّه يجب عليه الاتمام وإن كانت الاقامة التي هي موضوع الحكم بوجوب التمام صادرة عن إكراه ، فلا يمكن أن يقال إنه يجب عليه القصر لأنّ الاقامة صدرت عن إكراه فهي كلا إقامة شرعاً ، وعليه ففي المقام لمّا كان الافتراق موضوعاً للحكم الشرعي مثلا فلا يكون الاكراه عليه مشمولا للحديث  ، هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 52 .

ــ[127]ــ

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدّس سرّه) في المقام ممّا لم يلتزم به في الاُصول بل عمّم الحديث للمتعلّقات والموضوعات ونعم ما صنع ، ولم يلتزم باختصاصه بالمتعلّقات وذلك لعموم الحديث ، ولذا ترى الفقهاء في جميع الأبواب الفقهية يتمسّكون بالحديث في رفع الأحكام عند الاكراه على موضوعاتها ، فهذه باب الكفّارات فإنّك إذا راجعتها ترى أنّ الفقهاء يلتزمون بارتفاع الكفّارة عند الاكراه على ما ثبتت له الكفّارة في الشريعة المقدّسة ، فإذا اُكره أحد على الأكل في نهار شهر رمضان فإنه موضوع للكفّارة ، إلاّ أنه لمّا كان مورداً للاكراه التزموا بعدمها في المثال  ، وهكذا الحال في غير باب الصوم من موارد الكفّارة .

وأمّا ما أورده (قدّس سرّه) نقضاً من أنه إذا اُكره على الاقامة يجب عليه الاتمام مع أنّها موضوع للحكم بوجوب التمام فهو منه (قدّس سرّه) عجيب ، وذلك لأنّ الحديث كما ذكرناه في محلّه إنّما يشمل الأفعال الصادرة عن المكلّفين فيما إذا ترتّب عليها أثر أو كانت متعلّقات للأحكام ، وأمّا إذا تعلّق الاكراه بشيء آخر غير الأفعال كما إذا اُكره على لمس يده المتنجّسة بشيء فلا يمكن أن يقال في مثله بعدم نجاسة الملاقي من جهة أنّ الملاقاة حصلت بالاكراه فهي كلا ملاقاة ، وذلك لأنّ النجاسة من آثار تلاصق شيئين أحدهما نجس ، وليست من الآثار المترتّبة على الفعل الصادر من المكلّفين .

والأمر في المقام كذلك ، لأنّ وجوب التمام من آثار العلم بالاقامة وليس من آثار الاقامة التي هي من الأفعال الصادرة عن المكلّفين فوجوب الاتمام إنّما يترتّب على العلم باقامة العشرة لا على نفسها ، إذ للعلم موضوعية في وجوب التمام ، فلذا يجب عليه الاتمام فيما إذا علم باقامة العشرة وإن لم يُقمها بعد ذلك ، ومن الواضح أنّ العلم بالاقامة ليس مورداً للاكراه وإنّما الاكراه تعلّق بالاقامة وبه علم المكلّف باقامته فترتّب عليه وجوب الاتمام ، فعدم صحة القول بوجوب القصر حينئذ من

ــ[128]ــ

جهة تمامية موضوع الحكم بالتمام لا من جهة أنّ الحديث لا يشمل الاكراه في موضوعات الأحكام .

وعليه فالصحيح في الجواب : ما ذكرناه آنفاً من أنّ الافتراق ليس موضوعاً للحكم باللزوم وإنّما هو قيد وغاية للجواز وتوضيحه : أنّ الحديث إنّما يرفع الحكم عند تعلّق الاكراه بمتعلّق ذلك الحكم أو موضوعه ، ويدلّ على أنّ إيجاد ذلك الموضوع أو المتعلّق بالاكراه أو النسيان كالعدم فلا يترتّب عليه أثره وحكمه ، وأمّا إذا تعلّق الاكراه بضدّ شيء أو نقيضه فلا يمكن إثبات ذلك الشيء بالحديث .

وتفصيل هذا الاجمال : أنّ الاكراه تارة يتعلّق بالبقاء في المجلس وعدم الافتراق ، وحينئذ يمكن أن يقال إنّ هذا البقاء في المجلس عن إكراه أو نسيان كالعدم فلا يترتّب على هذا البقاء جواز العقد والخيار بناءً على أنّ الحديث يشمل المباحات والأحكام الترخيصية أيضاً ، لأنّ البقاء في المجلس وعدم الافتراق موضوعان للحكم بالجواز والخيار ، وحيث إنّهما موردان للاكراه فهما كالعدم بحكم الحديث وهذا يوجب ارتفاع حكمه لا محالة ، إلاّ أنّ الصحيح عدم شمول الحديث للأحكام الترخيصية .

واُخرى يتعلّق الاكراه بالافتراق أي باعدام موضوع الخيار والجواز كما هو المفروض في المقام ، وحينئذ فلا يمكن أن يقال إنّ هذا الافتراق الذي هو إعدام لموضوع الحكم بالجواز لمّا صدر عن إكراه فهو كلا افتراق ، ولا يصح القول بأنّ المتعاملين لمّا أرادا الاجتماع الذي هو موضوع الحكم بالجواز والخيار وأكرههما مكره على ترك ذلك الاجتماع فتركاه بالاكراه فيكون هذا العدم أي عدم الاجتماع مرفوعاً وكالعدم وكأنّهما مجتمعان ، لأنّ عدم عدم الاجتماع عبارة اُخرى عن الاجتماع فيترتّب عليه أحكام الهيئة الاجتماعية من الجواز والخيار ، والوجه في عدم صحّة ذلك أنّ الحديث إنّما يرفع الأحكام عن موضوعاتها أو متعلّقاتها فيما إذا تعلّق

ــ[129]ــ

الاكراه بإيجاد الموضوعات أو المتعلّقات ويدلّ على أنّ هذا الوجود كالعدم ، فلا يترتّب عليه أثر ، وأمّا إذا اُكره أحد على عدم إيجاد موضوع أو متعلّق فلا يرفع الحديث هذا العدم حتى يدلّ على أنّ الموضوع ليس بمعدوم فيترتّب عليه حكمه  .

مثلا إذا أراد أحد بيع داره وأكرهه مكره على عدم بيعه فإنه لا معنى لدلالة الحديث على أنّ عدم البيع لمّا صدر عن الاكراه فهو كالعدم فالبيع كالموجود ويترتّب عليه النقل والانتقال من دون حاجة إلى إنشاء آخر ، أو إذا أراد أحد أن يجاهد في سبيل الله ويلبس الحرير لأنّ لبس الحرير في الجهاد جائز واُكره على عدم الجهاد فيقال إنّ عدم الجهاد كالعدم بحكم الحديث فكأنّه مشغول بالجهاد فيجوز له لبس الحرير أو أراد أن يصلّي جماعة للتخلّص عن الوسوسة في القراءة أو عدد الركعات فمنعه مكره فيقال إنّ ترك الجماعة كالعدم فكأنّه صلّى جماعة فتسقط عنه القراءة وحفظ عدد الركعات ، وهكذا .

وبالجملة : أنّ الحديث إنّما يرفع وجود الموضوع أو المتعلّق فيما إذا كان وجودهما عن إكراه ، وأمّا إذا كان عدم الموضوع أو المتعلّق من جهة الاكراه فلا يشمله الحديث حتى يوجب ترتّب حكم ذلك الموضوع أو المتعلّق بجعل العدم عدماً  ، والأمر في المقام كذلك لأنه إنّما اُكره على ترك الموضوع وإعدام موضوع الجواز ، وحينئذ فلا يمكن أن يقال إنّ هذا العدم كالعدم وكأنّ الموضوع موجود فيترتّب عليه أثره .

ودعوى أنّ الافتراق موضوع للحكم باللزوم ، قد تقدّم دفعها في هذا البحث وذكرنا تفصيل ذلك في القيود المأخوذة في المتعلّقات وقلنا إنّ الأحكام إنّما تترتّب على التقيّدات لا على القيود ، فقيد الافتراق لم يترتّب عليه حكم وإنّما الحكم أعني اللزوم إنّما ترتّب على تقيّد العقد والبيع بالافتراق ، إذ الأحكام لا تترتّب على القيود فلذا ذكرنا في محلّه أنّ القيد إذا كان خارجاً عن الاختيار فلا مانع من أخذه في

ــ[130]ــ

المتعلّق فيما إذا كان التقيّد به أمراً ممكناً ، فإنّ القبلة وإن كانت غير مقدورة للمكلّف إلاّ أنّ تقيّد الصلاة بكونها واقعة إلى القبلة ممكن فكان التكليف بالصلاة المقيّدة بها صحيحاً ، وفيما نحن فيه نفس الافتراق لم يترتّب عليه حكم وإنّما هو قيدٌ واللزوم إنّما ترتّب على العقد المقيَّد ، هذا .

ولكن الصحيح إمكان الفرق بين مثل الافتراق وسائر القيود المأخوذة في الموضوعات والمتعلّقات ، بأنّ الافتراق بمنزلة الجزء الأخير من العلّة التامّة للّزوم بحيث يتوقّف تأثير البيع في اللزوم على انضمام الافتراق إليه ، فبوجوده يوجد اللزوم كما أنه ينعدم بانعدام الافتراق ، وفي مثله إذا اُكره على الافتراق فلا محالة يرتفع اللزوم لتوقّفه عليه بحسب الوجود والعدم ، والسرّ في ذلك أنه بعد ما أوجد البيع والعقد فلا يتمكّن من أن يمنع عن اللزوم فيما إذا انضمّ إليه الافتراق ، فليس تأثير المقيَّد في اللزوم أمراً اختيارياً له ، كما أنّ عدم تأثيره فيه عند ترك الافتراق خارج عن اختياره ، فمن هذه الجهة لا مانع من شمول الحديث للافتراق .

ولكن التحقيق أنّ الحديث لا يشمل مثل الافتراق من جهة اُخرى ، وهي أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الأحكام فيما إذا تعلّق الاكراه بموضوعاتها أو متعلّقاتها وكان ذلك الموضوع أو المتعلّق من الأفعال الصادرة عن المكلّفين ، بمعنى أنّها باعتبار جهة صدورها عن المكلّف بالقدرة والاختيار كانت موضوعاً أو متعلّقاً للحكم .

وبعبارة اُخرى : اُخذ فيها جهة المصدرية التي هي الصدور عن فاعلها ، نظير الافطار في شهر رمضان فإنّه موضوع للحكم بالكفّارة فيما إذا كان على وجه العمد والاختيار وقد اُخذ في الموضوع بما أنّه فعل صادر عن المكلّف مسبوقاً بالارادة والاختيار ، فإذا اُكره على الافطار في شهر رمضان فلا محالة شمله الحديث ويوجب رفع حكمه وهو الكفّارة ، هذا في الموضوعات .

وأمّا المتعلّقات فهي ممّا اُخذ فيه صدورها على وجه الارادة والاختيار دائماً

ــ[131]ــ

لوضوح اشتراط القدرة في متعلّقات الأحكام ، وأمّا إذا كان الموضوع من غير الأفعال المأخوذ فيها جهة الصدور على وجه الارادة والاختيار وإن كان ربما يصدر من المكلّفين باختيارهم إلاّ أنّ صدوره على وجه الاختيار ليس معتبراً في موضوعيته للحكم ، ففي مثله لا مجرى للحديث ، وهذا كما في باب النجاسات فإنّ موضوعها الملاقاة مع النجس ولم يؤخذ فيها عنوان صدورها عن المكلّف على وجه الاختيار ، بل الملاقاة بما هي هي سواء وقعت على وجه الاختيار أو على وجه الاكراه والاضطرار أو على وجه آخر موضوع للحكم بالنجاسة لقوله (عليه السلام) «  اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه »(1) وغيره من الروايات التي دلّت على وجوب الغسل بمجرد ملاقاة شيء مع النجس من دون أخذ صدورها على وجه الاختيار فيها ، وهذا ظاهر .

وبهذا قلنا إنّ الاكراه على الملاقاة لا يوجب رفع النجاسة والحكم بوجوب غسلها ، لأنّها ليست من الأفعال الصادرة عن المكلّفين على وجه الاختيار وإن كانت ربما تحصل باختيارهم إلاّ أنّ الموضوع هو نفس الملاقاة بما هي ، ولولا ما ذكرناه في المقام لم يكن وجه لعدم شمول الحديث لباب النجاسات فيما إذا تعلّق الاكراه بالملاقاة ، ولذا كانت مسألة النجاسات من العويصات وذهب الأصحاب فيها إلى اليمين والشمال ، مثلا أجاب عنها شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) بأنّا علمنا علماً وجدانياً أنّ الملاقاة في النجاسات علّة تامّة مؤثّرة لا تختلف باختلاف الحالات من الاختيار والاضطرار ولأجله لا يجري فيها الحديث ، مع أنه يمكن أن يناقش فيه بمنع هذا العلم ، إذ لا منشأ له ولا دليل عليه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 405 / أبواب النجاسات ب8 ح2 .

(2) أجود التقريرات 3 : 307 .

ــ[132]ــ

وبالجملة : أنّ ما ذكرناه من اختصاص الحديث بموارد الاكراه على فعل صادر عن المكلّف على وجه الاختيار يرفع الاشكال في باب النجاسات ، ولذا لا ترى فقيهاً يتمسك بالحديث عند تعلّق الاكراه بالسفر أو الاقامة في رفع وجوب القصر أو الاتمام بدعوى أنّ السفر أو الاقامة مورد للاكراه ، وليس هذا إلاّ من جهة أنّ السفر لم يؤخذ في موضوع وجوب القصر بما أنّه فعل يصدر عن المكلّف على وجه الاختيار ، وإنّما اُخذ فيه بما هو هو سواء صدر عن الاختيار أو عن الاكراه وكذلك الاقامة حيث إنّ الاقامة بما هي موضوعة لوجوب التمام عند العلم بها لا بما أنّها صادرة عن المكلّف عن اختيار .

وإذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الافتراق المأخوذ في موضوع اللزوم إنّما اُخذ فيه بما هو هو لا بما أنه فعل اختياري يصدر عن المتعاملين ، ولذا ربما ينسب التفرّق إلى ما لا شعور له ولا اختيار فيقال تفرّق أجزاء الدار أو الكتاب ، وبما أنه ليس من الأفعال الصادرة على وجه الاختيار بمعنى أنه لم يؤخذ فيه بما هو صادر عن الارادة والاختيار وإن كان ربما يصدر على وجه الاختيار فلا يجري فيه الحديث . فالمتحصّل أنّه لا وجه لبقاء الخيار بعد الاكراه على التفرّق وترك الفسخ لأجل ما عرفت .

ثمّ لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على أنّ الافتراق بما هو فعل صادر عن المكلّف موضوع للحكم باللزوم فنقول : إنّ الحديث إنّما يرفع الأحكام فيما إذا كان في رفعها امتنان وإرفاق على نوع المكلّفين ، وأيّ إرفاق ومنّة في سلب سلطنة المالك عن المال بجعل الخيار للمشتري مثلا ، فإنّ الحكم بجواز رجوع المشتري في المعاملة ينافي سلطنة البائع على الثمن فإنه أكل للمال بلا تجارة عن تراض وتصرّف في سلطان المالك وليس في ذلك إرفاق وامتنان ، وحديث رفع الاكراه كحديث نفي الضرر إنّما

ــ[133]ــ

يجريان فيما لو كان في رفع الحكم بهما امتنان ، وسيأتي في بعض الخيارات الآتية(1) أنّ التمسك فيها بقاعدة نفي الضرر لاثبات الخيار غير تام لأنه على خلاف الامتنان هذا مضافاً إلى النقض بصورة الافتراق نسياناً الذي هو العمدة في الجواب  .

ومنها : ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) من أنّ المتبادر من قوله (عليه السلام) « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع » أنّ الافتراق المتّصل بالرضا يوجب سقوط الخيار ، وأمّا مجرد الافتراق فلا يترتّب عليه أثر ، وبما أنّ الافتراق غير متّصل بالرضا في المقام فلذا لا يترتّب عليه سقوط الخيار .

ويدفعه : أنّ هذا الانصراف والتبادر لا منشأ له وهو تقييد بلا دليل ، بل مقتضى إطلاقه أنّ الافتراق يسقط الخيار سواء اتّصل بالرضا أم لم يتّصل به ، هذا مضافاً إلى أنّ هذا المدّعى لو تمّ في الاكراه على الافتراق يستلزم الالتزام بعدم سقوط الخيار أيضاً فيما إذا حصل الافتراق غفلةً أو نسياناً ونحوهما ، لأنّه في صورة الغفلة أو النسيان لم يكن راضياً بالافتراق ، وإنّما صدر منه نسياناً مع أنّهم التزموا بسقوط الخيار حينئذ حتى الشيخ (قدّس سرّه) وهذا يكشف عن أنّ الافتراق غير مقيّد بالاتصال بالرضا .

ومنها : صحيحة الفضيل : « فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما »(3) حيث إنّها صرّحت على أنّ الافتراق المسقط للخيار إنّما هو الافتراق المقرون بالرضا والاختيار وأمّا مجرد الافتراق من دون إرادة ولا رضا فلا يترتّب عليه أثر ، وبهذه الرواية استشهد شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) على أنّ الافتراق لابدّ من أن يتّصل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الصفحة 294 مبحث خيار الغبن .

(2) المكاسب 5 : 70 ـ 71 .

(3) الوسائل 18 : 6 / أبواب الخيار ب1 ح3 .

ــ[134]ــ

بالرضا ، وذلك لأنّ المراد بالرضا ليس هو الرضا بأصل المعاملة ، لأنّ المفروض أنّهما تعاملا عن رضاهما بالبيع ، فتعيّن أن يكون المراد بالرضا هو الرضا المتّصل بالافتراق للاجماع القطعي على عدم اعتبار رضا آخر في زمان آخر في المعاملة هذا .

وفيه : أنّ هذا الاستدلال لو تم لأوجب الالتزام بعدم سقوط الخيار فيما إذا حصل الافتراق نسياناً أو غفلة ، لعدم رضاه بالافتراق حينئذ مع أنّهم ذهبوا إلى سقوط الخيار بالافتراق غفلة أو نسياناً .

وأمّا الصحيحة فهي أيضاً لا دلالة لها على اعتبار الرضا متّصلا بالافتراق ومعناها (والله العالم) أنّ البيع إذا صدر برضاهما وحكم الشارع عليه باللزوم فلا وجه فيه للخيار بعد انقضاء زمان الحكم بالجواز فيه إرفاقاً ، لما مرّ من أنّ اللزوم إنّما يترتّب على البيع والعقد وإنّما خرج منه حصّة خاصّة من الزمان إرفاقاً ، فإذا انقضى هذا الزمان فلا وجه للخيار بعده بعد رضاهما بالمعاملة وإمضاء الشارع لها وحكمه باللزوم .

ومنها : ما يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) من أنّ الافتراق إنّما يسقط الخيار من أجل كشفه غالباً عن رضاهما بالعقد ، وهذا الكشف لا يتمّ عند الاجبار والاكراه على الافتراق .

ويدفعه : ما أشرنا إليه مراراً من أنّ هذا المدّعى على تقدير تماميته يوجب الالتزام بعدم سقوط الخيار عند الافتراق غفلة أو نسياناً ، لعدم كشفه عن الرضا حينئذ مع أنه ممّا لم يلتزم به أحد ، هذا .

مضافاً إلى ّنه لا دليل على أنّ الافتراق يسقط الخيار من أجل كشفه عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 71 .

ــ[135]ــ

الرضا ، بل الرواية ظاهرة في أنّ الافتراق غاية للحكم بالجواز صدر عن الاختيار أو عن الاكراه .

وحاصل الكلام : أنّا لم نفهم الفرق بين صورتي الاكراه والنسيان ، وأنّ الخيار لماذا يسقط عند الافتراق غفلة ونسياناً ولا يسقط عند الافتراق إكراهاً بعد شمول حديث الرفع لكليهما .

وأمّا ما في كلام شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) من أنّ الفارق بينهما النصّ فلم نقف على أيّ نصّ دلّ على عدم سقوط الخيار عند الاكراه وسقوطه عند النسيّان . وأمّا الصحيحة فقد عرفت عدم دلالتها على أزيد من سقوط الخيار بعد رضاهما بأصل المعاملة .
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 51 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net