كون الضرر في المعاملات نوعياً وفي العبادات شخصياً 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4449


بقي في المقام شيء وملخّصه : أنّ الفقهاء (قدّس الله أسرارهم) قد فرّقوا بين العبادات والمعاملات وذهبوا إلى أنّ الضرر في المعاملات نوعي ، وأنّ المعاملة إذا كانت بنوعها ضررية فيحكم عليها بعدم اللزوم وإن لم تكن ضررية بالاضافة إلى شخص المتعاملين ، وأمّا في العبادات فقالوا إنّ المدار على الضرر الشخصي دون النوعي ، ومن هنا قالوا بوجوب شراء الماء للوضوء بأضعاف قيمته بالاضافة إلى من لا يتضرر بذلك ، وأمّا من يتضرر بذلك فلا ويجب عليه التيمم حينئذ .

وبعبارة اُخرى كما أشار إليه شيخنا الأنصاري(1) إذا كان المدار على الضرر المالي في باب الوضوء فلا يجب شراء الماء للوضوء إذا كان بأضعاف قيمته بالاضافة إلى جميع الناس ، لأنّ دفع أضعاف قيمة الماء ضرر مالي على كل أحد حتى للأغنياء الذين لا يعتنون بأمثال تلك القيمة من المال إلاّ أنه نقص في المال لا محالة ، وأمّا إذا كان المدار على الضرر الحالي فحينئذ يفرق في وجوب الشراء بأضعاف قيمة الماء بين من يكون ذلك ضرراً بحاله وموجباً لنفاد قوته أو مسكنه فلا يجب عليه الشراء ، وبين من لا يكون ذلك مضرّاً بحاله وإن كان مضرّاً بماله لا محالة إلاّ أنه إذا دفعه إلى مالك الماء لما بقي وأفراد عائلته جياعاً ولا يمرض بالحرارة أو البرودة فيجب عليه الشراء ، إلاّ أنهم ذهبوا إلى الثاني وقالوا إنّ المدار على الضرر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 171 .

 
 

ــ[321]ــ

الحالي في الوضوء كما أنه شخصي في غيره من العبادات ، ومن هنا إذا فرضنا أنّ التوضؤ يوجب المرض لجميع من في البلد إلاّ رجلا واحداً فإنه لحرارة مزاجه لا يتضرر بالوضوء ولا يمرض ، فلا محالة نحكم عليه بالوجوب وإن كان الوضوء بحسب النوع ضررياً حسب الفرض ، وهذا بخلاف المعاملات فإنّ المدار عندهم على الضرر النوعي ، فإذا كانت المعاملة بنوعها ضررية فيحكمون فيها بعدم اللزوم وإن لم تكن كذلك بالاضافة إلى شخص المتعاملين ، هذا .

والذي ينبغي أن يقال : إنّ الضرر والحرج وغيرهما من موضوعات الأحكام مما لا إشكال في دوران الحكم مدار فعليتها كما هو مقتضى القضايا الحقيقية ، ولا يحتمل أن يكون الحكم فعلياً من دون أن يكون موضوعه أيضاً فعلياً ومتحققاً ، فإذا حكم الشارع بوجوب الصلاة عند الزوال وقال : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فلازمه أن يتوقف فعلية وجوب الصلاة في حق أحد على فعلية زوال الشمس في حقه ، ولا يمكن أن يقال بوجوب الصلاة في حقه فيما إذا لم يتحقق الزوال في حقه ، فلذا لا مجال للحكم بوجوب صلاة الظهر لأهل العراق قبل ثلاثة ساعات من الزوال من جهة فعلية الزوال لأهل الهند حينئذ ، إذ الزوال في الهند يتحقق قبل ثلاثة ساعات من الزوال في العراق .

وبالجملة : أنّ فعلية كل حكم في حق أحد يتوقف على فعلية موضوعه بالاضافة إلى ذلك الشخص كما هو مقتضى كون القضية حقيقية ، وعليه فالأحكام المترتّبة على الضرر أو الحرج إنما تصير فعلية فيما إذا صار الضرر فعلياً في حق ذلك الشخص ، وهذا من دون فرق بين العبادات والمعاملات .

ثم لا إشكال في أنّ الضرر المالي ضرر بالاضافة إلى جميع الناس غنياً كان أم مفلساً ، لأنه بالأخرة نقص في المال والضرر عبارة عن النقص في المال أو في العرض أو في النفس ، وعليه فلابدّ في مثل شراء ماء الوضوء بأضعاف قيمته من الحكم بعدم

ــ[322]ــ

الوجوب بالاضافة إلى الجميع لأنه حكم ضرري على الجميع ، وإنما خرجنا عن ذلك في مسألة الوضوء وشراء الماء بأضعاف قيمته من جهة النص(1) الوارد في إلغاء الضرر المالي في باب شراء ماء الوضوء ، فيجب شراء الماء ولو بأضعاف قيمته ولو مع كونه مضرّاً بالمال لا محالة ، فوجود الضرر المالي كعدمه لأنه ساقط بحسب النص  ، وحينئذ فنبقى نحن وغير الضرر المالي من المضرّات فلابدّ من ملاحظة الأشخاص لنرى أنه هل تتضرّر بغير المال من سائر الجهات عند دفع أضعاف قيمة الماء كمن لو دفع أضعاف قيمة الماء لا تبقى له نفقته ويبقى عياله جياعاً أو لا يتمكن من تحصيل المكان فينام في البرّ فيمرض للحرارة أو البرودة ، أو أنه لا يتضرر بغير المال ، فعلى الأول نحكم بعدم وجوب الشراء وعلى الثاني نحكم بالوجوب ، وكيف كان فالضرر المالي ساقط عن الاعتبار في باب الوضوء والمدار على غيره من الاضرار ، فيكون ذلك النص مخصصاً لعموم قاعدة نفي الضرر .

وقد ذكر شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) أنه يمكن أن يلتزم بعدم الضرر المالي في العبادات من جهة تداركه بالأجر العظيم والمثوبة الكثيرة ، إذ لا إشكال في أنّ من دفع مالا وأخذ شيئاً في مقابله لا يعدّ ذلك من الضرر وإلاّ فتكون جميع المعاملات ضررية حيث تدفع فيها الأموال ويؤخذ ما يقابلها ، وعليه فمسألة شراء ماء الوضوء تخرج عن عموم قاعدة نفي الضرر بالتخصص دون التخصيص ، إذ لا ضرر حينئذ في دفع أضعاف قيمة الماء ، هذا .

ولا يخفى أنه لا يمكن المساعدة على ذلك من جهات :

الاُولى : أنّ لازم ذلك عدم الاعتناء بالضرر المالي في جميع أبواب العبادات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 389 / أبواب التيمم ب26 .

(2) المكاسب 5 : 171 .

ــ[323]ــ

والظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك ، فإذا فرضنا أنّ هناك سارقاً يسرق المال إذا اشتغل مالكه بالصلاة قياماً أو إلى القبلة ، فإنّ لازم هذا الكلام أن يحكم بوجوب الصلاة عليه قائماً ومستقبل القبلة ولا يعتنى بتضرّره وسرقة السارق ، لأنّ ما يعطيه الله من الأجر لصلاته يقابل الضرر الوارد عليه ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به .

الثانية : أنّا لو قلنا بعدم صدق الضرر عند تداركه بالأجر في مقابله ، فهو إنما يتوقف على إحراز تداركه بالأجر ومن أخبرنا بثبوت الأجر في موارد الضرر في العبادات ، إذ الضرر إنما ينفي الحكم وأمّا ثبوت الأجر على تحمّل الضرر فلا دليل عليه ، نعم لو كان في موارد الضرر أمر من قبل الشارع باتيان ما فيه الضرر كما في شراء الماء في الوضوء لأمكن استفادة الأجر من ذلك الأمر بما فيه الضرر ، وأمّا أن نلتزم بوجوب تحمّل الضرر في جميع موارد العبادات بدعوى أنّ فيه أجراً فهو يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه في غير مسألة شراء الماء .

الثالثة : أنّ المدّعى إن كان تقييد حديث لا ضرر بالضرر غير المتدارك فهو كما ذكرناه في محلّه بلا موجب ، إذ أيّ دليل دلّ على تقييد الضرر بذلك ، بل لابدّ من أن يؤخذ باطلاقه ويقال بشموله لجميع أنحاء الضرر وأقسامه . وإن كان المدّعى عدم صدق الضرر على الضرر المتدارك فهو لو سلّم ـ مع أنّا لا نسلّمه ـ إنما يتم فيما إذا كان التدارك من جنس الضرر ، وهذا كما إذا أتلف شخص مال غيره فحكم عليه الشارع بضمان مثله أو قيمته ، فحينئذ لا يصدق الضرر ، وأمّا تداركه بغير جنسه فهو لا يمنع عن صدق الضرر . وعليه فتدارك الضرر المالي في الوضوء أو في غيره من العبادات بالأجر والثواب الذي هو من غير جنس المال لا يمنع عن صدق الضرر عليه ، فدعوى عدم صدق الضرر على مثله أشبه شيء بالعرفان .

فالمتحصّل : أنه لا وجه لاخراج العبادات عن الضرر ، بل العبادات والمعاملات جميعها على حدّ سواء وعند تحقق الضرر فيهما بالاضافة إلى أحد فلا

ــ[324]ــ

محالة يرتفع الحكم بالاضافة إليه مالا كان الضرر أو غيره إلاّ في مسألة شراء الماء فإنها خارجة بالنص فيلاحظ فيها الضرر من غير ناحية المال .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net