إطلاق اللفظ على اللفظ 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5173


الأمر السادس

[ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو ... ]

ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أ نّه لا شبهة في صحّة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل : ضرب مثلاً فعل ماض ، أو صنفه كما إذا قيل : زيد في ضرب زيد فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول ، أو مثله كضرب في المثال فيما إذا قصد ، وقد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك وحسنه إنّما كان بالطبع لا بالوضع وإلاّ كانت المهملات موضوعة لذلك ، لصحّة الإطلاق كذلك فيها ، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى ، وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه كما إذا قيل : زيد لفظ واُريد منه شخص نفسه ، ففي صحّته بدون تأويل نظر (1).

توضيح ذلك : أنّ العلاقة الخارجية بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 14 .

ــ[106]ــ

إذا كانت مقتضية لارتباط اللفظ بالمعنى المجازي ولحسن الاستعمال بالطبع ، كانت العلاقة الذاتية بين اللفظ وما استعمل فيه ـ فانّه من سنخ اللفظ وفرده ـ مقتضية له لا محالة ، فانّ الذاتية أقوى بمراتب من العلاقة الخارجية الموجودة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، واستشهد على أنّ هذه الاستعمالات طبعية لا وضعية ، بصحة ذلك الإطلاق في الألفاظ المهملة أيضاً مع أ نّه لا وضع فيها أصلاً ، فهذا يكشف قطعياً عن أ نّه بالطبع لا بالوضع .

أقول : تحقيق الكلام في هذا المقام : هو أنّ ما أفاده (قدس سره) يبتني على أمرين :

الأوّل : إثبات أنّ الواضع شخص واحد أو جماعة معيّنون ، إذ لو كان كل مسـتعمل واضعاً لم يسـتبعد وجود الوضع في المهملات أيضاً ، فانّه كما تعهد باستعمال الألفاظ في معانيها ، كذلك قد تعهد بأ نّه متى ما أراد تفهيم نوع اللفظ أو صنفه أو مثله يبرزها به ، ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك الوضع والتعهد في الألفاظ المهملة أيضاً ، فانّه لا يوجب خروجها عن الاهمال إلى البيان ، وذلك لأنّ إهمالها باعتبار أ نّها لم توضع لافادة المعاني ، وهذا لا ينافي ثبوت الوضع فيها لافادة نفسها .

الثاني : إثبات أنّ هذه الإطلاقات من قبيل الاستعمال، فانّه إذا لم يكن كذلك لم يبق مجال للبحث عن أ نّه بالوضع أو بالطبع .

والصحيح هو أ نّها ليست من قبيل الاستعمال في شيء ، بيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة وهي : أنّ المعاني لمّا كانت بأنفسها ممّا لا يمكن إبرازها في الخارج وإحضارها في الأذهان من دون واسطة ، ضرورة أ نّه في جميع موارد الحاجة لا يمـكن إراءة شـخص معنى أو صـورته أو ما يشـبهه ، فان كل ذلك لا يفي بالمحسوسات فضلاً عن المعقولات والممتنعات ، فلا محالة نحتاج إلى واسطة بها

ــ[107]ــ

تبرز المعاني وتحضر في الأذهان ، وتلك الواسطة منحصرة بالألفاظ ، فانّ بها تبرز المعاني للتعهد بذكرها عند إرادة تفهيمها في موارد الحاجة ، وهذا بخلاف نفس الألفاظ ، فانّها بأنفسها قابلة لأن تحضر في الأذهان من دون أيّة واسطة خارجية ، فلا حاجة إلى إبرازها وإحضارها فيها إلى آلة بها تبرز وتحضر ، ضرورة أ نّها لو لم تحضر بنفسها في الذهن واحتيج في إحضارها فيه إلى آلة اُخرى ، فتلك الآلة إمّا أن تكون لفظاً أو غير لفظ .

أمّا غير اللفظ ، فقد عرفت أ نّه غير واف في إبراز المقصود في جميع موارد الحاجة ، وأمّا اللفظ ، فلأنا ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ ونقول إنّه إمّا أن يحضر في الذهن بنفسه أو لا يحضر ، وعلى الأوّل فلا فرق بين لفظ دون لفظ بالضرورة ، وعلى الثاني فان احتاج إلى لفظ آخر ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ وهـكذا فيذهب إلى غير النهاية ، وأمّا المعنى فهو يحضر فيه بتوسـط اللفظ ، فالحاضر أوّلاً في الذهن هو اللفظ وبتبعه يحضر المعنى، فكل سامع للفظ الصادر من المتكلم ينتقل إلى اللفظ أوّلاً وإلى المعنى ثانياً وبتبعه .

فعلى ضوء ذلك نقول : قد ظهر أنّ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو نوعه أو صنفه أو مثله ليس من قبيل استعمال اللفظ في المعنى لا بالوضع النوعي ولا بالوضع الشخصي ، والوجه فيه هو أنّ الوضع مقدمة للاستعمال وإبراز المقاصد ولولاه لاختلت أنظمة الحياة كلّها من المادية والمعنوية ، فتنظيمها وتنسيقها بشتى ألوانها وأشكالها متوقف على الوضع ، فانّ المعاني النفسانية التي تتعلق بها الأغراض المادية أو المعنوية لايمكن إبرازها وإحضارها في الأذهان إلاّ بالجعل والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة تفهيم تلك المعاني ، ولذلك السبب فالوضع يصبح ضرورياً .

ومن هنا يتبيّن لك أنّ ما لا يحتاج إبرازه وإحضاره في الأذهان إلى واسطة

ــ[108]ــ

بل يمكن إحضاره فيها بنفسه عند تعلق الغرض به فلا حاجة إلى الوضع فيه أصلاً بل هو لغو وعبث .

وحيث إنّ اللفظ بنفسه قابل لأن يحضر في ذهن المخاطب بلا واسطة أيّ شيء فالوضع فيه لغو محض لا محالة، وهذا بيان إجمالي لجميع الأقسام المذكورة.

وإليك بيان تفصيلي بالقياس إلى كل واحد منها :

أقول : أمّا القسم الأوّل منها : وهو ما إذا اُطلق اللفظ واُريد به شخصه كما إذا قيل : زيد ثلاثي واُريد به شخص ذلك اللفظ ، فليس هو من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء ، وذلك لأن لازمه اتحاد الدال والمدلول ذاتاً وحقيقةً ، إذ شخص هذا اللفظ دال وهو بعينه مدلول ، وهذا غير معقول .

وقد أجاب عن ذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) بأنّ الدال والمدلول في المقام وإن كانا متحدين حقيقة إلاّ أ نّه يكفي تعددهما اعتباراً ، ولا يلزم أن يكون الدال والمدلول متعددين ذاتاً ، وبما أن هنا حيثيتين واقعيتين وهما حيثية صدور اللفظ عن لافظه وحيثية أنّ شخصه متعلق إرادته، فهو من الحيثية الاُولى دال ومن الحيثية الثانية مدلول فلا يتحد الدال والمدلول من جميع الجهات .

ويردّه : أنّ هذه الدلالـة ـ أي دلالة اللفظ على أ نّه مراد ومقصـود ـ وإن كانت موجودة هنا إلاّ أ نّها أجنبية عن دلالة اللفظ على المعنى رأساً ، بل هي دلالة عقلية سائرة في جميع الأفعال الاختيارية ، فان كل فعل صادر بالاختيار يدل على أ نّه مراد لا محالة ، بداهة لزوم سبق الارادة على الفعل الاختياري في تمام الموارد ، فهذه الدلالة من دلالة المعلول على علته وهي أجنبية عن دلالة الألفاظ على معانيها بالكلية.

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 14 .

ــ[109]ــ

ومن هنا قد أجاب شيخنا المحقق (قدس سره) عن الاشكال بجواب آخر وإليك نصّه : التحقيق أنّ المفهومين المتضائفين ليسا متقابلين مطلقاً بل التقابل في قسم خاص من التضائف ، وهو ما إذا كان بين المتضائفين تعاند وتناف في الوجود ، كالعلية والمعلولية والاُبوّة والبنوّة ممّا قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد ، لا في مثل العالمية والمعلومية والمحبية والمحبوبية ، فانّهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى ، والحاكي والمحكي والدال والمدلول كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني ، حيث لا برهان على امتناع حكاية الشيء عن نفسه كما قال (عليه السلام) : «يا من دلّ على ذاته بذاته» وقال (عليه السلام) : «أنت دللتني عليك»(1) .

ولكن لا يمكن المساعدة عليه أيضاً ، وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ التقابل في قسم خاص من التضائف لا في مطلق المتضائفين وإن كان صحيحاً، إلاّ أ نّه أجنبي عن محل كلامنا هنا بالكلية ، فانّه في دلالة اللفظ على المعنى وهي قسم خاص من الدلالة التي لا يمكن أن تجتمع في شيء واحد ، لما بيّناه من أنّ حقيقة تلك الدلالة عبارة عن وجود اللفظ وحضوره في ذهن المخاطب أوّلاً وحضور المعنى ووجوده فيه بتبعه ثانياً ، فكل مخاطب بل كل سامع عند سماع اللفظ ينتقل إلى اللفظ أوّلاً وإلى المعنى ثانياً ، فحضور اللفظ علّة لحضور المعنى ، ومن البيّن الواضح أنّ ذلك لا يعقل في شيء واحد ، بداهة أنّ العلية تقتضي الاثنينية والتعدد فلا يعقل علية حضور الشيء في الذهن لحضور نفسه ، هذا بالقياس إلى المخاطب والسامع .

وأمّا بالقياس إلى المتكلم والمستعمل ، فحقيقة الاستعمال إمّا هي عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى فكأ نّه لم يلق إلى المخاطب إلاّ المعنى ولا ينظر إلاّ إليه كما

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 65 .

ــ[110]ــ

هو المشهور فيما بينهم ، أو عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى ومبرزاً له كما هو الصحيح . فعلى التقديرين لا يعقل استعمال الشيء في نفسه ، ضرورة استحالة فناء الشيء في نفسه وجعل الشيء علامة لنفسه ، فانّهما لا يعقلان إلاّ بين شيئين متغايرين في الوجود .

وقد تلخّص من ذلك : أنّ اتحاد الدال والمدلول في الدلالة اللفظية غير معقول .

ومن هنا يظهر أنّ قياس المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته قياس مع الفارق ، فان سنخ تلك الدلالة غير سنخ هذه الدلالة ، إذ أ نّها بمعنى ظهور ذاته بذاته وتجلّي ذاته لذاته ، بل ظهور جميع الكائنات بشتى ألوانها وأشكالها من الماديات والمجردات بذاته تعالى ، وهذا بخلاف الدلالة هنا فانّها بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء آخر .

فعلى ضوء ذلك يظهر أنّ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه لا يكون من قبيل الاستعمال في شيء ، فانّ المتكلم بقوله : زيد ثلاثي مثلاً لم يقصد إلاّ إحضار شخص ذلك اللفظ في ذهن المخاطب وهو بنفسه قابل للحضور فيه ومعه لا حاجة إلى الواسطة كما مرّ آنفاً (1) .

وقد يشكل على هذا بأنّ لازم ذلك تركب القضية الواقعية من جزأين ، فانّ القضيّة اللفظية تحكي بموضوعها ومحمولها ونسبتها عن القضيّة الواقعية ، وحيث قد فرض أ نّه لا موضوع في المقام للقضيّة الواقعية في قبال القضيّة اللفظية ، فليس هناك بحسب الفرض غير المحمول والنسبة، مع أنّ تحقق النسبة بدون الطرفين محال ، هذا .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 107 .

ــ[111]ــ

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) بما ملخصه مع أدنى توضيح : هو أنّ الاشكال المزبور مبتن على أن يكون الموضـوع في القضيّة الحقيقية يحتاج في وجوده وحضوره في الأذهان إلى واسطة كاللفظ بالإضافة إلى المعنى ، فانّه واسطة لوجوده وحضوره وليس نفسه بموضوع للقضيّة ، بل هو لفظ الموضوع وحاك عنه ، فموضوعية اللفظ لها إنّما هي باعتبار أ نّه الواسطة لإحضار ما هو موضوع فيها حقيقة ، نعم هو موضوع في القضيّة اللفظية .

وأمّا إذا فرض أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقية لا يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة ، بل كان حاله حال بقية الأفعال الخارجية والموجودات الفعلية ، فلا يلزم محذور تركب القضيّة من جزأين ، ومقامنا من هذا القبيل ، فانّ الموضوع في مثل قولنا : زيد ثلاثي ، إذا اُريد به شخصه ، شخص ذلك اللفظ الذي هو من الكيف المسـموع لا أ نّه لفظـه ، ومن البيّن الواضح أنّ اللفظ لا يحتاج في وجوده في الذهن إلى أيّة واسطة لامكان إيجاده على ما هو عليه وإثبات المحمـول له ، وعليه فالقضيّة مركبة من أجزاء ثلاثة : الموضـوع وهو ذات اللفظ وشخصه ، والمحمول وهو ثلاثي ، مع النسبة بينهما .

وبتعبير آخر : أنّ كون الشيء موضوعاً في القضيّة باعتبار أنّ المحمول ثابت له ، فقد يكون المحمول ثابتاً لما يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة كالمعنى كما هو الحال في القضايا المتعارفة ، وقد يكون ثابتاً لما لا يحتاج في وجوده إلى الواسطة كاللفظ ، ولمّا كان الموضوع في المقام شخص اللفظ من جهة أنّ المحمول ثابت له ، فانّه سنخ حكم محمول عليه دون المعنى فلا يلزم المحذور المزبور، فان لزومه هنا مبتن على أن لا يكون الموضوع هو نفس اللفظ ، وأمّا إذا فرض أ نّه

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 15 .

ــ[112]ــ

الموضوع في القضيّة والحكم ثابت له فلا محذور أصلاً .

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا اُطلق اللفظ واُريد منه نوعه كما إذا قيل : زيد لفظ أو ثلاثي ، واُريد به طبيعي ذلك اللفظ فليس من قبيل الاستعمال أيضاً ، بل هو من قبيل إحضار الطبيعي في ذهن المخاطب باراءة فرده ، فالمتكلم بذلك اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى أفراده ، فأوجد المتكلم في ذهن المخاطب أمرين ، أحدهما : شخص اللفظ الصادر منه . والثاني : طبيعي ذاك اللفظ الجامع بينه وبين غيره ، ولما لم يمكن إيجاده على ما هو عليه في الخارج إلاّ بايجاد فرده فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء ، فان وجوده عين وجود فرده في الخارج وإيجاده عين إيجاد فرده ، وعليه فلا يعقل أن يجعل وجود الفرد فانياً في وجوده أو مبرزاً له وعلامة عليه ، فان كل ذلك لا يعقل إلاّ بين وجودين خارجاً والمفروض أ نّه لا اثنينية في المقام ، فلا يمكن أن يكون وجود الفرد واسطة لاحضار الطبيعي في الأذهان، فانّ الواسطة تقتضي التعدد في الوجود ولا تعدد هنا فيه أصلاً .

وقد تلخص من ذلك : أنّ ملاك الاستعمال لا يكون موجوداً في أمثال المقام ، بل لا يعقل الاستعمال كما عرفت . فحال المقام حال ما إذا أشار أحد إلى حية فقال سامّة ، فانّه قد أوجد في ذهن المخاطب باشارته هذه أمرين أحدهما : شخص هذه الحية ، والثاني : الطبيعي الجامع بينها وبين غيرها ، فحكم على الطبيعي بسنخ حكم يسري إلى أفراده ، فمقامنا من هذا القبيل بعينه .

وعلى الجملة : حيث إنّ إيجاد الطبيعي على ما هو عليه في الخارج أو الذهن بلا وساطة شيء بمكان من الامكان فلا يحتاج تفهيمه إلى دال ومبرز له .

وأمّا القسم الثالث والرابع : وهما ما إذا اُطلق اللفظ واُريد منه صنفه أو مثله ، فقد يتوهم أ نّهما من قبيل الاستعمال ، بل لعل ذلك مشهور بينهم ولا سيما

ــ[113]ــ

في القسم الرابع .

وكيف كان ، فالصحيح هو أنّ حال هذين القسمين حال القسمين الأوّلين من دون فرق بينهما أصلاً ، وبيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة : وهي أ نّا قد ذكرنا فيما تقدّم (1) أنّ الحروف والأدوات موضوعة لتضييقات المفاهيم الاسمية وتقييدها بقيود خارجة عن حريم ذواتها ، فانّ الغرض قد يتعلق بتفهيم طبيعي المعنى الاسمي على إطلاقه وسعته ، وقد يتعلق بتفهيم حصّة خاصة منه ، وقد ذكرنا أنّ الدال على الحصّة ليس إلاّ الحروف أو ما يحذو حذوها .

وإن شئت فقل : إنّ الموجود الذهني ليس كالموجود الخارجي ، فانّه مطلقاً من أيّ مقولة كان لا ينطبق على أمر آخر وراء نفسـه ، وهذا بخلاف المفهوم الذهني فانّه بالقياس إلى الخارج عن اُفق الذهـن قابل لأن ينطبق على عدّة حصص ، ولكن الغرض يتعلق بتفهيم حصّة خاصة والدال عليه كما مرّ هو الحرف أو ما يشبهه .

وعلى ضوء ذلك فنقول : إنّ المتكلم كما إذا قصد تفهيم حصّة خاصة من المعنى يجعل مبرزه الحرف أو ما يقوم مقامه ، كذلك إذا قصد تفهيم حصّة خاصة من اللفظ يجعل مبرزه ذلك ، فالحرف كما يدل على تضييق المعنى وتخصيصه بخصوصية ما ، كذلك يدل على تضييق اللفظ وتقييده بقيود ما ، فانّ الغرض كما قد يتعلق بايجاد طبيعي اللفظ على ما هو عليه من الاطلاق والسعة يتعلق بتفهيم حصّة خاصة من ذلك الطبيعي كالصنف أو المثل ، فالمبرز لذلك ليس إلاّ الحرف أو ما يشبهه ، بداهة أ نّه لا فرق في إفادة الحروف التضييق بين الألفاظ والمعاني ، فكلمة (في) في قولنا : زيد في ضرب زيد فاعل ، تدل على تخصص

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 83 .

ــ[114]ــ

طبيعي لفظ زيد بخصوصية ما من الصنف أو المثل ، كما أ نّها في قولنا : الصلاة في المسجد حكمها كذا ، تدل على أنّ المراد من الصلاة ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد ، بل خصوص حصّة منها .

وعلى الجملة : فلا فرق بين قولنا : الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في الدار ، وقولنا : زيد في ضرب زيد فاعل ، فكلمة (في) كما تدل في المثال الأوّل على أنّ المراد من الصلاة ما يقع منه في المسجد ، كذلك تدل في المثال الثاني على أنّ المراد من لفظ زيد ليس هو الطبيعة المطلقة، بل حصّة خاصة منه من المثل أو الصنف .

ومن هنا يظهر لك ملاك القول بأنّ هذين القسمين ليسا من قبيل الاستعمال أيضاً، لما مرّ من إمكان إيجاد اللفظ بنفسه وإحضاره في ذهن المخاطب بلا وساطة شيء ، فإذا تعلّق الغرض بتقييده بخصوصية ما يجعل الدال عليه الحرف أو ما يحذو حذوه ، مثلاً لو قال أحد : زيد في ضرب زيد فاعل ، فقد أوجد طبيعي لفظ زيد وأحضره بنفسه في ذهن المخاطب ، وقد دلّ على تقييده بخصوصية ما من المثل أو الصنف بكلمة (في) فأين هنا استعمال لفظ في مثله أو صنفه .

فالنتيجة أنّ شيئاً من الاطلاقات المتقدمة ليس من قبيل الاستعمال ، بل هو من قبيل إيجاد ما يمكن إرادة شخصه مرّة ، ونوعه اُخرى ، وصنفه ثالثة ، ومثله رابعة .

ثمّ إنّه لا يخفى : أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في آخر كلامه في هذا المقام بقوله : وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك، ممّا كان الحكم في القضيّة لا يكاد يعم شخص اللفظ كما في مثل : ضرب فعل ماض ، غريب منه ، وذلك لأنّ الفعل الماضي أو غيره إنّما لا يقع مبتدأ إذا استعمل في معناه الموضوع له واُريد منه ذلك لا مطلقاً حتّى فيما إذا لم يستعمل فيه ولم يرد

ــ[115]ــ

معناه ، وحيث إنّ فيما نحن فيه لم يرد معناه ، بل اُريد به لفظه لا بما له من المعنى ، فلا مانع من وقوعه مبتدأ ولا يخرج بذلك عن كونه فعلاً ماضياً ، غاية ما في الباب أ نّه لم يستعمل في معناه ، وهذا لا يوجب خروجه عن ذلك ، وهذا نظير قولنا : ضرب وضع في لغة العرب للدلالة على وقوع الضرب في الماضي ، فهل يتوهم أحد أ نّه لا يشمل نفسه لأ نّه مبتدأ .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net