أدلة وضع المشتق لخصوص المتلبس - أدلة القول بالأعم 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4967


وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أ نّه على البساطة لا يتصور الجامع بين المتلبس والمنقضي والواجد والفاقد ، فالأمر كما أفاده لو كان مفهوم المشتق بعينه هو مفهوم المبدأ ، وكان الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ ـ أي اعتباره لا بشرط وبشرط لا ـ إذ حينئذ كان الركن الوطيد هو المبدأ ، فإذا زال زال العنوان الاشتقاقي لا محالة ، إلاّ أنّ هذا القول باطل ، فان مفهوم المشتق كما سيأتي بيانه ليس بسيطاً ، وعلى تقدير أ نّه كان بسيطاً فلا يكون عين مفهوم المبدأ ، بل هو مباين له ، هذا تمام الكلام في مقام الثبوت .

وأمّا الكلام في مقام الاثبات ، فلا ينبغي الشك في أنّ المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ فعلاً ، ويدل على ذلك اُمور :

الأوّل : أنّ المتبادر من المشتقات والمرتكز منها عند أذهان العرف والعقلاء خصوص المتلبس لا الأعم ، وهذا المعنى وجداني لكل أهل لغة بالقياس إلى لغته ، فهم يفهمون من المشتقات عند إطلاقاتها واستعمالاتها المتلبس بالمبدأ فعلاً، ولاتصدق عندهم إلاّ مع فعلية التلبس والاتصاف ، وصدقها على المنقضي عنه المبدأ وإن أمكن ، إلاّ أ نّه خلاف المتفاهم عرفاً ، فلا يصار إليه بلا قرينة . وهذا التبادر والارتكاز غير مختص بلغة دون اُخرى ، لما ذكرناه غير مرّة أنّ الهيئات في جميع اللغات وضعت لمعنى واحد على اختلافها باختلاف اللغات ، مثلاً هيئة ضارب في لغة العرب وضعت لعين المعنى الذي وضعت هيئة (زننده) في لغة الفرس له وهـكذا . ومن هنا يفهم من تبادر عنده من كلمة (زننده) خصوص المتلبس أنّ كلمة ضارب أيضاً كذلك .

ــ[288]ــ

نعم ، تختلف المواد باختلاف اللغات ، فيختص التبادر فيها بأهل كل لغة ، فلا يتبادر من لفظ العجمي للعربي شيء وبالعكس ، نظراً إلى اختصاص الوضع بأهله ، وهذا هو السر في رجوع أهل كل لغة في فهم معنى لغة اُخرى إلى أهلها وتبادره عنده ، فالعجمي يرجع في فهم اللغة العربية إلى العرب ، وهكذا بالعكس ، وهذا بخلاف الهيئات ، فانّها على اختلاف اللغات مشتركة في معنى واحد ، فالهيئات الاشتقاقية بشتّى أنواعها وأشكالها وضعت لمعنى واحد وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً .

ثمّ إنّ هذا التبادر لا يختص بالجمل التامة ، ليقال إنّ منشأه ظهور الحمل في التلبس الفعلي، بل إنّ حال هيئة المشتق حال هيئة المركبات التقييدية كالاضافة والتوصيف ، فكما أنّ المتبادر عند أهل العرف من تلك المركبات فعلية النسبة والقيد ، ولا تصدق خارجاً إلاّ مع فعلية الاتصاف ، فكذلك المتبادر عندهم من المشتقات ذلك . فهذا التبادر يكشف كشفاً قطعياً عن الوضع لخصوص المتلبس ، لأ نّه غير مستند إلى القرينة على الفرض ، ولا إلى كثرة الاستعمال ، ضرورة أنّ العرف حسب ارتكازهم يفهمون من المشتقات المتلبس من دون ملاحظة الكثرة وحصول الاُنس منها ، فالنتيجة : دعوى أنّ هذا التبادر مستند إلى كثرة الاستعمال دون الوضع دعوى جزافية .

الثاني : صحّة سلب المشتق عمّن انقضى عنه المبدأ ، فيقال زيد ليس بعالم بل هو جاهل ، وهي أمارة أنّ المشتق مجاز فيه وإلاّ لم يصحّ السلب عنه .

وقد يورد عليه : أنّ المراد من صحّة السلب إن كان صحّة السلب مطلقاً فغير صحيح، ضرورة صحّة حمل المشتق على المنقضي عنه المبدأ بمعناه الجامع . وإن كان مقيداً فغير مفيد ، لأنّ علامة المجاز صحّة سلب المطلق دون المقيد .

ولا يخفى أنّ هذا صحيح فيما إذا تردد المفهوم العرفي للفظ بين السعة والضيق

ــ[289]ــ

ولم يعلم أ نّه موضوع للمعنى الموسّع أو المضيق كلفظ العمى مثلاً لو تردد مفهومه عرفاً ودار بين أن يكون مطلق عدم الابصار ولو من جهة أ نّه لا عين له كبعض أقسام الحيوانات ، وبين خصوص عدم الابصار مع وجود عين له ومع شأنية الابصار ، ولم يثبت أ نّه موضوع للثاني ، لم يمكن إثبات أ نّه وضع للمعنى الثاني بصحّة السلب .

وذلك لأ نّه إن اُريد بصحّة السلب صحّة سلب العمى عما لا عين له بالمعنى المطلق فهو غير صحيح، بداهة صحّة حمله عليه بهذا المعنى . وإن اُريد بها صحّة سلبه عنه بالمعنى الثاني ـ عدم الابصار مع شأنيته ـ فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أ نّه لايثبت أنّ العمى لم يوضع للأعم ، لأن سلب الأخص لا يلازم سلب الأعم، وقد ثبت في المنطق أنّ نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم ، فسلب الأوّل حيث إنّه أعم لا يستلزم سلب الثاني . إلاّ أنّ ذلك لا يتم في محل كلامنا ، وذلك لما تقدّم من أنّ المتبادر عرفاً من المشتق خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً ، وهو آية الحقيقة ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : إذا صحّ سلب المشتق بما له من المفهوم العرفي عن المنقضي عنه المبدأ ، فهو كاشف عن عدم وضعه للجامع ، وإلاّ لم يصح سلبه عن مصداقه وفرده في حين من الأحيان ، فإذا صحّ سلب المشتق بمفهومه العرفي عمّن انقضى عنه المبدأ ، ثبت أ نّه موضوع للمتلبس .

نعم ، مع قطع النظر عن التبادر لا يمكن إثبات أنّ المشتق موضوع للمتلبس بصحّة سلبه عن المنقضي كما عرفت .

الثالث : لا ريب في تضاد مبادئ المشتقات عرفاً بما لها من المعاني الثابتة في الأذهان المرتكزة في النفـوس ، كالقيام والقعود ، والحركة والسكون ، والسواد والبياض والعلم والجهل وما شاكلها ، ضرورة أنّ اثنين منها لا يجتمعان في الصدق في آن واحد ، وعليه فطبعاً تكون العناوين الاشتقاقية المنتزعة عن

ــ[290]ــ

اتصاف الذات بها متضادة، ومن هنا يرى العرف التضاد بين عنوان العالم والجاهل، والأسود والأبيض، والمتحرك والساكن ... وهكذا ، وهو بنفسـه يدل على أنّ المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم ، وإلاّ لم يكن بينها مضادة عرفاً بما لها من المعاني ، بل كان مخالفة ، وأمكن صدق عنوانين منها معاً على الذات في زمن واحد فيما إذا كان التلبّس بأحدهما فعلياً وبالأخير منقضياً ، فيجتمعان في الصدق في آن واحد ، فلا مضادة .

وبتعبير آخر : أنّ المشتق لو كان موضوعاً للأعم لم يلزم اجتماع الضدّين عند صدق عنوانين على الذات حقيقة ، بل يصح أن يقال عرفاً : هذا أسود وأبيض ، أو عالم وجاهل في آن واحد ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ هذا من اجتماع الضدّين حقيقة ، كما أنّ قولنا : هذا سواد وبياض ، أو علم وجهل ، كذلك .

نعم ، لو كان الصدق مختلفاً في الزمان، بأن كان صدق أحدهما في زمان وضدّه الآخر في زمان آخر ، أو لم يكن الإطلاق في كلا الحملين حقيقياً ، بل كان في أحدهما بالحقيقة ، وفي الآخر بالعناية فلا تضاد ، إذ المعتبر في تحقق التضاد أو التناقض في أي مورد كان وحـدة الزمان مع اعتبار بقية الوحدات ، ومع الاختلاف فيه أو في غيره من الوحدات ، أو لم يكن الإطلاق في كليهما على نحو الحقيقة ، ينتفي التضاد .
فالنتيجة : أنّ ارتكاز التضاد بين العناوين بما لها من المعاني قرينة عرفية على الوضع للمتلبس .

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه من الأدلة على الوضع لخصوص المتلبس لا يختص بهيئة دون اُخرى ، وبلغة دون ثانية ، بل يجري في الجميع ، ولا أثر لاختلاف المبادئ في ذلك ، كما أ نّه لا أثر لاختلاف الطوارئ والحالات ، وهذا واضح .

وعليه فما ذكره القوم من التفصيلات باعتبار اختلاف الطوارئ والحالات

ــ[291]ــ

تارة ، وباعتبار اختلاف المبادئ تارة اُخرى ، لا يرجع إلى معنىً محصل .

فقد تحصّل ممّا ذكرناه : أ نّه لا مناص من الالتزام بوضع المشتق لخصوص المتلبس .

وممّا يؤيد ما ذكـرناه من الإختصاص : أنّ الفـقهاء (رضوان الله عليهم) لم يلتزموا بترتيب الآثار في موارد الانقضاء ، ومن هنا لم يحكموا بوجوب الانفاق على الزوجة بعد انقضاء الزوجية عنها بطلاق أو نحوه ، وكذا بجواز النظر إليها .


أدلّة القول بالأعم

وقد استدلّ على القول بالأعم بأنّ استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر من استعماله في موارد التلبس ، فيقال : هذا قاتل زيد وذاك مضروب عمرو ... وهكذا . فلو كان المشتق موضوعاً للمتلبس لزمه أن تكون هذه الاستعمالات وما شاكلها استعمالات مجازية ، وهذه بعيدة في نفسها . مع أ نّها تنافي حكمة الوضع التي دعت إلى وضع الألفاظ لغرض التفهيم ، فانّ الاستعمال في موارد الانقضاء إذا كان أكثر ، فالحاجة تدعو إلى الوضع بازاء الجامع دون خصوص المتلبس .

ويردّه أوّلاً : أنّ ذلك مجرد استبعاد ، ولا مانع من أن يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي أكثر من استعماله في المعنى الحقيقي مع القرينة ، ولا محذور في ذلك أبداً ، كيف فان باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، ومن هنا تستعمل التشبيه والكناية والاستعارة والمبالغة التي هي من أقسام المجاز في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم ، والسر في كثرة الاستعمال في المعاني المجازية أنّ استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له حيث إنّه يجوز بأدنى مناسبة فلا محالة يتكثر بتكثر المناسبات على

ــ[292]ــ

حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها ، ومن ثمّ لا يكون لذلك ضابط كلّي ، فقد يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، وقد يكون بالعكس ، وقد يكون لمعنى واحد حقيقي معان متعددة مجازية ، بل ربّما تزداد المعاني المجازية بمرور الزمن .

وثانياً : أنّ استعمال المشتق في موارد الانقضاء وإن كان كثيراً ولا شبهة فيه ، إلاّ أ نّه لم يعلم أنّ هذه الاستعمالات بلحاظ حال الانقضاء ، بل الظاهر أ نّها كانت بلحاظ حال التلبس، ولا إشكال في أنّ هذه الاستعمالات على هذا حقيقة ، فانّها استعمالات في المتلبس واقعاً ، فاطلاق (ضارب عمرو) على زيد باعتبار زمان تلبسه به لا باعتبار اتصافه به فعلاً ... وهكذا . إذن فلا صغرى للكبرى المذكورة ، وهي أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي لا تلائم حكمة الوضع ، فانّه لا مجاز على هذا ليكون الاستعمال فيه أكثر .

والنتيجة : أنّ الاستعمالات التي جاءت في كلمات الفصحاء في موارد الانقضاء ليس شيء منها بلحاظ حال الانقضاء ، بل إنّ جميعها بلحاظ حال التلبّس فتكون حقيقة لا مجازاً .

ثمّ إنّ استعمال المشتق في المنقضي بلحاظ حال الانقضاء وإن كان محتملاً في القضايا الخارجية في الجملة ، إلاّ أ نّه في القضايا الحقيقية غير محتمل ، فانّ الاستعمال فيها دائماً في المتلبس دون المنقضي ، بل لا يعقل فيها حال الانقضاء ، وهذا كما في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مَائَةَ جَلْدَة )(1) وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )(2) فانّ المقصود منهما أنّ

ـــــــــــــــــــــ
(1) النور 24 : 2 .
(2) المائدة 5 : 38 .

ــ[293]ــ

كل شخص فرض متلبساً بالزنا أو السرقة فهو محكوم عليه بجلده أو بقطع يده ، فالمشتق في كلتا الآيتين استعمل في المتلبس ، وهو تمام الموضوع للحكم المذكور فيهما ، وقد ذكرناه غير مرّة أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لا بدّ من أخذه مفروض الوجود في الخارج ، ومن هنا ترجع كل قضية حقيقية إلى قضيّة شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، فالموضوع في الآيتين كل إنسان فرض متلبساً بالزنا أو السرقة في الخارج ، فعنوان الزاني أو السارق مستعمل في من تلبس بالمبدأ ، غاية ما في الباب أنّ زمان القطع والجلد متأخر في الخارج عن زمن التلبّس بأحد المبدأين المزبورين ، فانّهما يتوقفان على ثبوت التلبّس بأحدهما عند الحاكم بأحد الطرق المعتبرة كالبيّنة أو نحوها .

فقد تحصّل : أنّ الاستعمال في المنقضي في القضايا الحقيقية غير معقول ، بل يكون الاستعمال دائماً في المتلبس .

وعلى هذا الضوء يظهر فساد ما ذكره بعضهم من أنّ المشتق في الآيتين وما شاكلهما استعمل في من انقضى عنه المبدأ ، وفي ذلك دلالة على أنّ المشتق وضع للأعم ، كما أ نّه يظهر بذلك أ نّه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) في مقام الجواب عن هذا الاستدلال من أنّ الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبّس دون الانقضاء ، وذلك لما عرفت من أنّ حالة الانقضاء في أمثال المقام لاتتصوّر، ليكون الاستعمال بلحاظ حال التبس دونها، وهذا نظير قولك : الجنب أو الحائض يجب عليهما الغسل ، فانّ المراد بالجنب أو الحائض هو كل إنسان فرض متلبساً بالجنابة أو الحيض خارجاً فهو محكوم عليه بالغسل ، فعنوان الجنب أو الحائض قد استعمل في من تلبس بالمبدأ ولا يتصور فيه الانقضاء ، غاية الأمر أنّ الامتثال يقع متأخراً عن زمان الوجوب كما كان هو الحال في

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 50 .

ــ[294]ــ

الآيتين .

فالنتيجة قد أصبحت أ نّه لا وجه للاستدلال على الوضع للأعم بالآيتين المزبورتين .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net