الاستدلال على الكلام النفسي بوجوه اُخر 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4679


وأمّا الثالث : فنفس اختلاف كلماتهم في تفسيره يعني مرّة بالطلب ، واُخرى بالخبر ، وثالثة بالأمر ، ورابعة بصيغة الأمر شاهد صدق على أ نّهم أيضاً لم يتصوّروا له معنى محصلاً ، إلاّ أن يقال إنّ ذلك منهم مجرد اختلاف في التعبير واللفظ والمقصود واحد ، ولكن ننقل الكلام إلى ذلك المقصود الواحد وقد عرفت أ نّه لا واقع موضوعي له أصلاً ، ولا يخرج عن حدّ الفرض والخيال .

وأمّا الرابع : فقد ظهر جوابه ممّا ذكرناه (1) بصورة مفصّلة من أ نّه ليس في الجمل الخبرية والانشائية شيء يصلح أن يكون كلاماً نفسياً .
وقد استدلّ على الكلام النفسي بعدّة وجوه اُخر :

الأوّل: أنّ الله تعالى قد وصف نفسـه بالتكلّم في الكـتاب الكريم بقوله (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً)(2) ومن المعلوم أنّ التكلم صفة له كالعلم والقدرة والحياة وما شاكلها ، هذا من ناحية .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 361 .
(2) النساء 4 : 164 .

ــ[364]ــ

ومن ناحية اُخرى : أنّ صفاته تعالى قديمة قائمة بذاته ، ولا يمكن أن تكون حادثة ، لاستحالة قيام الحادث بذاته تعالى كقيام الحال بالمحل ، والصفة بالموصوف . نعم ، يجوز قيام الحادث بها كقيام الفعل بالفاعل .

ومن ناحية ثالثة : أنّ الكلام اللفظي حيث إنّه مؤلف من حروف وأجزاء متدرجة متصرمة في الوجود لايعقل أن يكون قديماً ، وعليه فلا يمكن أن يكون المراد من الكلام في الآية الكريمة الكلام اللفظي ، ضرورة استحالة كون ذاته المقدسة محلاً للحادث .

ومن ناحية رابعة : أنّ الكلام النفسي حيث إنّه ليس من مقولة الألفاظ فلا يلزم من قيامه بذاته تعالى قيام الحادث بالقديم .

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي .

ولنأخذ بالنقد على هذا الدليل : إنّ صفاته تعالى على نوعين :

الأوّل : الصفات الذاتية كالعلم والقدرة والحياة وما يؤول إليها ، فان هذه الصفات عين ذاته تعالى في الخارج ، فلا اثنينية فيه ولا مغايرة ، وأنّ قيامها بها قيام عيني، وهو من أعلى مراتب القيام وأظهر مصاديقه، لا قيام صفة بموصوفها ، أو قيام الحال بمحلّـه . ومن هنا ورد في الروايات «إنّ الله تعالى وجود كلّه ، وعلم كلّه ، وقدرة كلّه ، وحياة كلّه» (1) وإلى هذا المعنى يرجع قول أمير المؤمنين

(عليه السلام) في نهج البلاغة: «كمال الإخلاص به نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أ نّها غير الموصوف»(2).

الثاني : الصفات الفعلية كالخلق والرزق والرحمة وما شاكلها ، فانّ هذه

ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 4 : 84 ح 16 ، 17 ، 19 (مع اختلاف) .
(2) نهج البلاغة : الخطبة الاُولى (مع اختلاف) .

ــ[365]ــ

الصفات ليست عين ذاته تعالى ، حيث إنّ قيامها بها ليس قياماً عينياً كالصفات الذاتية ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ قيام هذه الصفات بذاته تعالى ليس من قيام الحال بمحلّه، والوجه في ذلك : أنّ هذه الصفات لا تخلو من أن تكون حادثة ، أو تكون قديمة ، ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل لزم قيام الحادث بذاته تعالى وهو مستحيل ، وعلى الثاني لزم تعدد القدماء وقد برهن في محلّه استحالة ذلك .

فالنتيجة على ضوئهما أمران :

الأوّل : أنّ مبادئ هذه الصفات أفعاله تعالى الاختيارية .

الثاني : أ نّها تمتاز عن الصفات الذاتية في نقطة واحدة ، وهي أنّ الصفات الذاتية عين ذاته تعالى ، فيستحيل اتصاف ذاته بعدمها بأن لا يكون ذاته في مرتبة ذاته عالماً ولا قادراً ولا حيّاً ، وهذا بخلاف تلك الصفات ، حيث إنّها أفعاله تعالى الاختيارية فتنفك عن ذاته وتتصف ذاته بعدمها ، يعني يصح أن يقال : إنّه تعالى لم يكن خالقاً للأرض مثلاً ثمّ خلقها ، ولم يكن رازقاً لزيد مثلاً ثمّ رزقه ، وهكذا ، ومن ثمة تدخل عليها أدوات الشرط وما شاكلها ، ولم تدخل على الصفات العليا الذاتية .

وإن شئتم قلتم : إنّ القدرة تتعلق بالصفات الفعلية وجوداً وعدماً ، فانّ له تعالى أن يخلق شيئاً ، وله أن لا يخلق ، وله أن يرزق ، وله أن لا يرزق ، وهكذا ، ولم تتعلق بالصفات الذاتية أبداً .

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ التكلم من الصفات الفعلية دون الصفات الذاتية ، وذلك لوجود ملاك الصفات الفعلية فيه ، حيث يصح أن يقال : إنّه تعالى كلّم موسى (عليه السلام) ولم يكلّم غيره ، أو كلّم في الوقت الفلاني ، ولم

ــ[366]ــ

يكلّم في وقت آخر ، وهكذا . ولا يصح أن يقال : إنّه تعالى ليس عالماً بالشيء الفلاني ، أو في الوقت الفلاني ، فما ذكره الأشاعرة من أنّ التكلم صفة له تعالى ، وكل صفة له قديم ، نشأ من الخلط بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية .

الثاني : أنّ كل كلام صادر من المتكلم بارادته واختياره مسبوق بتصوره في اُفق النفس على الشكل الصادر منه ، ولا سيّما إذا كان للمتكلم عناية خاصّة به ، كما إذا كان في مقام إلقاء خطابة أو شعر أو نحو ذلك ، وهذا المرتب الموجود في اُفق النفس هو الكلام النفسي ، وقد دلّ عليه الكلام اللفظي ، وإلى ذلك أشار قول الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

ويردّه أوّلاً : أنّ هذه الدلالة ليست دلالة لفظية ، وإنّما هي دلالة عقلية كدلالة وجود المعلول على وجود علّته ، ومن هنا لا تختص بخصوص الألفاظ ، بل تعم كافّة الأفعال الاختيارية .

وبكلمة اُخرى : بعد ما ذكرنا في بحث الحروف (1) أنّ الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية ، ولا للموجودات الذهنية ، فلا يعقل أن تكون تلك الصورة معنىً لها ، لتكون دلالتها عليها دلالة وضعية ، بل هي من ناحية أنّ صدور الألفاظ عن لافظها حيث كان بالاختيار والارادة ، فبطبيعة الحال تدل على تصوّرها في اُفق النفس دلالة المعلول على علّته ، بقانون أنّ كل فعل صادر عن الانسان بالاختيار لا بدّ أن يكون مسبوقاً بالتصور والالتفات ، وإلاّ فلا يكون اختيارياً، وعلى هذا فكل فعل اختياري ينقسم إلى نوعين : الأوّل الفعل النفسي . الثاني : الفعل الخارجي . فلا يختص ذلك بالكلام فحسب ، ولا أظن أنّ

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 56 .

ــ[367]ــ

الأشاعرة يلتزمون بذلك .

وثانياً : أنّ تلك الصورة نوع من العلم، وقد عرفت أنّ الأشاعرة قد اعترفت بأنّ الكلام النفسي صفة اُخرى في مقابل صفة العلم (1) .

الثالث : لا ريب في أنّ الله تعالى متكلم ، وقد دلّت على ذلك عدّة من الآيات ، ولازم ذلك قيام المبدأ على ذاته قياماً وصفياً ، لا قيام الفعل بالفاعل ، وإلاّ لم يصح إطلاق المتكلم عليه ، ومن هنا لا يصح إطلاق النائم والقائم والمتحرك والساكن والذائق وما شاكل ذلك عليه تعالى ، مع أنّ مبادئ هذه الأوصاف قائمة بذاته قيام الفعل بالفاعل .

وإن شئت قلت : إنّ هذه الهيئات وما شاكلها لا تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الفعل بالفاعل ، وإنّما تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الصفة بالموصوف ، هذا من جهة .

ومن جهة اُخرى : أنّ الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي هو تصحيح متكلميته تعالى في مقابل بقية صفاته ، فانّ الكلام اللفظي حيث إنّه حادث لا يعقل قيامه بذاته تعالى قيام الصفة بالموصوف ، لاستحالة كون ذاته تعالى محلاً للحوادث .

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي .

ولنأخذ بالمناقشة في هذا الدليل نقضاً وحلاً .

أمّا الأوّل : فلا ريب في أنّ الله تعالى متكلم بكلام لفظي ، وقد دلّت على ذلك عدّة من الآيات والروايات ، منها : قوله تعالى : (إِنَمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن

ـــــــــــــــــــــ
(1) مرّ في ص 358 .

ــ[368]ــ

يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )(1) فانّ قوله (كُن فَيَكُونُ ) كلامه تعالى ، ومن هنا لا نظن أنّ الأشاعرة ينكرون ذلك ، بل قد تقدّم (2) أ نّهم معترفون به . وعليه فما هو المبرّر لهم في إطلاق المتكلم بالكلام اللفظي عليه تعالى هو المبرّر لنا .

وأمّا الثاني : فلأنّ المتكلم ليس مشتقاً اصطلاحياً ، لفرض عدم المبدأ له ، بل هو نظير هيئة اللابن والتامر والمتقمص والمتنعل والبقّال وما شاكل ذلك ، فانّ المبدأ فيها من أسماء الأعيان والذوات وهو اللبن والتمر والقميص والنعل والبقل ، ولكن باعتبار اتخاذ الشخص هذه الاُمور حرفةً وشغلاً ولازماً له صارت مربوطة به ، ولأجل هذا الارتباط صحّ إطلاق هذه الهيئات عليه .

نعم ، إنّها مشتقات جعلية باعتبار جعلية مبادئها ومصادرها ، والسبب في ذلك : أنّ الكلم ليس مصدراً للمتكلم ، لفرض أنّ معناه الجرح لا الكلام ، و «كلّم» ليس فعلاً ثلاثياً مجرداً له ليزاد عليه حرف فيصبح مزيداً فيه . وعليه فبطبيعة الحال يكون التكلم مصدراً جعلياً ، والكلام اسم مصدر كذلك ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ المبدأ الجعلي للمتكلم في هذا الحال لا يخلو من أحد أمرين : إمّا التكلم أو الكلام ، ولا ثالث لهما .

أمّا على الأوّل : فلا يرد عليه النقض بعدم صدق النائم والقائم والمتحرك وما شابه ذلك عليه تعالى ، مع أ نّه موجد لمبادئها ، وذلك لأنّ التكلم من قبيل الأفعال دون الأوصاف ، والمبادئ في الهيئات المذكورة من قبيل الأوصاف دون الأفعال ، ولأجل الاختلاف في هذه النقطة تمتاز هيئة المتكلم عن هذه الهيئات ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) يس 36 : 82 .
(2) في ص 357 .

ــ[369]ــ

حيث إنّها لا تصدق إلاّ على من تقوم به مبادؤها قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل ، ومن ثمة لا تصدق عليه تعالى ، وهذا بخلاف هيئة المتكلم ، فانّها تصدق على من يقوم به التكلم قيام الفعل بالفاعل ، ولا يعتبر في صدقها الاتصاف والحلول ، ولذلك صحّ إطلاقها عليه تعالى من دون محذور .

وأمّا على الثاني : فالأمر أيضاً كذلك ، والوجه فيه : أنّ الكلام عبارة عن الكيف المسموع الحاصل من تموّج الهواء واصطكاكه ، ومن الطبيعي أنّ المتكيّف بالكلام والمتصف به إنّما هو الهواء دون غيره ، فلا يعقل قيامه بغيره قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل ، ولا فرق في ذلك بين ذاته تعالى وغيره .

ونتيجة ذلك : أنّ إطلاق المتكلم عليه تعالى كاطلاقه على غيره باعتبار إيجاده الكلام ، بل الأمر كذلك في بعض المشتقات المصطلحة أيضاً ، كالقابض والباسط وما شاكلهما ، فانّ صدقه عليه تعالى بملاك أ نّه موجد للقبض والبسط ونحوهما ، لا بملاك قيامها به قيام وصف أو حلول .

وأمّا عدم صحّة إطلاق النائم والقائم والساكن وما شاكل ذلك عليه تعالى مع أ نّه موجد لمبادئها ، فيمكن تبريره بأحد وجهين :

الأوّل : أنّ ذلك ليس أمراً قياسياً ، بحيث إذا صحّ الاطلاق بهذا الاعتبار في مورد صحّ إطلاقه في غيره من الموارد أيضاً بذلك الاعتبار ، وليس لذلك ضابط كلّي ، بل هو تابع للاستعمال والاطلاق ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، فيصح في بعض الموارد دون بعض كما عرفت .

ودعوى أنّ هيئة الفاعل موضوعة لافادة قيام المبدأ بالذات قيام حلول خاطئة جداً ، وذلك لما ذكرناه في بحث المشتق (1) من أنّ الهيئة موضوعة

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 335 .

ــ[370]ــ

للدلالة على قيام المبدأ بالذات بنحو من أنحاء القيام، وأمّا خصوصية كون القيام بنحو الحلول أو الايجاد أو الوقوع أو غير ذلك ، فهي خارجة عن مفاد الهيئة .

وقد تحصّل من ذلك : أ نّه ليس لما ذكرناه ضابط كلّي ، بل يختلف باختلاف الموارد ، ومن هنا لا يصح إطلاق المشتق في بعض الموارد على من يقوم به المبدأ قيام حلول ، كاطلاق المتكلم على الهواء فانّه لا يصح ، وكذا إطلاق الضارب على من وقع عليه الضرب ، وهكذا . مع انّ قيام المبدأ فيها قيام الحال بالمحل .

الثاني : يمكن أن يكون منشأ ذلك اختلاف نوعي الفعل ، أعني المتعدي واللازم .

بيان ذلك : أنّ الفعل إذا كان متعدياً كفى في اتصاف فاعله به قيامه به قيام صدور وإيجاد ، وأمّا الزائد على هذا فغير معتبر فيه ، وذلك كالقابض والباسط والخالق والرازق والمتكلم والضارب وما شاكلها . وأمّا إذا كان لازماً فلا يكفي في اتصافه به صدوره منه ، بل لا بدّ في ذلك من قيام المبدأ به قيام الصفة بالموصوف ، والحال بالمحل ، وذلك كالعالم والنائم والقائم وما شاكله .

وعلى ضوء هذا الضابط يظهر وجه عدم صحّة إطلاق النائم والقائم عليه تعالى ، كما يظهر وجه صحّة إطلاق العالم والخالق والقابض والباسط والمتكلم وما شابه ذلك عليه (سبحانه وتعالى) ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : يظهر وجه عدم صحّة إطلاق المتكلم على الهواء، وإطلاق الضارب على من وقع عليه الضرب ، وهكذا .

الرابع : أنّ الكلام كما يصح إطلاقه على الكلام اللفظي الموجود في الخارج ، كذلك يصح إطلاقه على الكلام النفسي الموجود في الذهن ، من دون لحاظ عناية في البين ، ومن هنا يصح أن يقول القائل : إنّ في نفسي كلاماً لا اُريد أن اُبديه .

ــ[371]ــ

ويشهد على ذلك : قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )(1) وقوله تعالى : (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ )(2) ونحوهما ممّا يدلّنا على ذلك، وهذا الموجود المرتب في النفس هو الكلام النفسي ، ويدل عليه الكلام اللفظي .

وجوابه يظهر ممّا ذكرناه آنفاً : من أنّ هذا الموجود المرتب في النفس ليس من سنخ الكلام ليكون كلاماً نفسياً عند القائلين به ، بل هو صورة للكلام اللفظي ، ومن هنا قلنا إنّ ذلك لا يختص بالكلام ، بل يعم كافّة أنواع الأفعال الاختيارية .

وبكلمة واضحة : إن أرادوا به أن يكون لكل فعل فردان : فرد خارجي ، وفرد ذهني ومنه الكـلام ، فهو غير معقول، وذلك لأنّ قيام الأشياء بالنفس ـ قياماً علمياً ـ إنّما هو بصورها لا بواقعها الموضوعي، وإلاّ لتداخلت المقولات بعضها في بعض، وهو مستحيل. نعم، الكيفيات النفسانية كالعلم والارادة ونحوهما قائمة بها بأنفسها وبواقعها الموضوعي ، وإلاّ لذهبت إلى ما لا نهاية له . وعليه فلا يكون ما هو الموجود في النفس كلاماً حقيقةً ، بل هو صورة ووجود علمي له .

وإن أرادوا به صورة الكلام اللفظي فقد عرفت أ نّها من مقولة العلم ، وليست بكلام نفسي في شيء ، على أ نّك عرفت أنّ الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام اللفظي وتلك الصورة ليست مدلولة له ، كما تقدّم (3) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) الملك 67 : 13 .
(2) البقرة 2 : 284 .
(3) في ص 359 .

ــ[372]ــ

ومن هنا يظهر أنّ إطلاق الكلام على هذا المرتب الموجود في النفس مجاز ، إمّا بعلاقة الأول ، أو بعلاقة المشابهة في الصورة .

وأمّا الآيتان الكريمتان فلا تدلاّن بوجه على أنّ هذا الموجود في النفس كلام نفسي .

أمّا الآية الاُولى : فيحتمل أن يكون المراد فيها من القول السر هو القول الموجود في النفس ، فالآية تكون عندئذ في مقام بيان أنّ الله تعالى عالم به سواء أظهروه في الخارج أم لم يظهروه ، وإطلاق القول عليه يكون بالعناية . ويحتمل أن يكون المراد منه القول السرّي ، وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة . فإذن الآية أجنبية عن الدلالة على الكلام النفسي بالكلّية .

وأمّا الآية الثانية : فيحتمل أن يكون المراد ممّا في الأنفس صورة الكلام ، ويحتمل أن يكون المراد منه نيّة السوء ، وهذا الاحتمال هو الظاهر منها ، وكيف كان فلا صلة للآية بالكلام النفسي أصلاً .

نتائج البحث لحدّ الآن عدّة نقاط :

الاُولى : أنّ ما ذكر من المعاني المتعددة لمادة الأمر لا واقع موضوعي له ، وقد عرفت أ نّها موضوعة لمعنيين : إبراز الأمر الاعتبار النفساني في الخارج وحصّة خاصّة من الشيء ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الأهمّية في الجملة مأخوذة في معنى الأمر لا أصل له ، ومن هنا قلنا بصحّة توصيف الأمر بما لا أهمّـية له بدون عناية ، كما أ نّه لا أصل لجعل معناه واحداً ، لما ذكرناه من أنّ اختلافه في الجمع شاهد على تعدد معناه.

ومن ناحية ثالثة : أنّ ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أ نّه موضوع

ــ[373]ــ

للمعنى الجامع بينهما خاطئ جداً ، لما سـبق من أنّ الجامع الذاتي بينهما غير معقول .

الثانية : لا ثمرة للبحث عن أنّ معنى الأمر واحد أو متعدد .

الثالثة : لا يمكن أن يكون القول المخصوص ـ هيئة افعل ـ معنى الأمر ، لعدم إمكان الاشتقاق منه باعتبار هذا المعنى ، وما ذكره شيخنا المحقق (قدس سره) في تصحيح ذلك قد عرفت فساده .

الرابعة : أنّ العلوّ معتبر في معنى الأمر ، ولا يكفي الاستعلاء .

الخامسة : أنّ الوجوب ليس مفاد الأمر لا وضعاً ولا إطلاقاً ، بل هو بحكم العقل ، فينتزعه عند عدم نصب قرينة على الترخيص .

السادسة : أنّ الطلب مغاير للارادة مفهوماً وواقعاً ، حيث إنّ الطلب فعل اختياري للانسان، والارادة من الصفات النفسانية الخارجة عن الاختيار ، ومن ثمة ذكرنا أ نّه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من اتحاده مع الارادة مفهوماً وخارجاً .

السابعة : أ نّه لا واقع موضوعي للكلام النفسي أصلاً ، ولا يخرج عن مجرد الفرض والخيال .

الثامنة : أنّ ما ذكره الأشاعرة من الأدلة لاثبات الكلام النفسي قد عرفت فسادها جميعاً .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net