2 ـ نظرية الفلاسفة : إرادة الله ذاتية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 10875


ــ[374]ــ


(2)

نظريّة الفلاسفة

إرادته تعالى ذاتية ، ونقدها

المعروف والمشهور بين الفلاسـفة قديماً وحديثاً هو أنّ إرادته تعالى من الصفات العليا الذاتية كصفة العلم والقدرة والحياة ، ومال إلى ذلك جماعة من الاُصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية وشيخنا المحقق (قدس سرهما) .

قال في الكفاية (1) : إنّ إرادته التكوينية هو العلم بالنظام الكامل التام .

ولكن أورد عليه شيخنا المحقق(2) (قدس سره) بأنّ هذا التفسير غير صحيح. وقد أفاد في وجه ذلك بما إليك نصّه :

لا ريب في أنّ مفاهيم صفاته تعالى الذاتية متخالفة ، لا متوافقة مترادفة ، وإن كان مطابقها في الخارج واحداً بالذات من جميع الجهات ، مثلاً مفهوم العلم غير مفهوم الذات ، ومفهوم بقية الصفات ، وإن كان مطابق الجميع ذاته بذاته لا شيء آخر منضماً إلى ذاته ، فانّه تعالى صرف الوجود، وصرف القدرة، وصرف العلم، وصرف الحياة، وصرف الارادة، ولذا قالوا وجود كلّه، وقدرة كلّه، وعلم كلّه، وإرادة كلّه ، مع أنّ مفهوم الارادة مغاير لمفهوم العلم ومفهوم الذات وسائر الصـفات ، وليس مفهوم الارادة العلم بالنظام الأصلح الكامل التام كما فسّرها بذلك المحـقق صاحب الكفاية (قدس سره) ضرورة أنّ رجوع صفة

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 67 .
(2) نهاية الدراية 1 : 278 (مع اختلاف في الألفاظ) .

ــ[375]ــ

ذاتية إلى ذاته تعالى وتقدس وإلى صفة اُخرى كذلك إنّما هو في المصداق ، لا في المفهوم ، لما عرفت من أنّ مفهوم كل واحد منها غير مفهوم الآخر ، ومن هنا قال الأكابر من الفلاسفة : إنّ مفهوم الارادة هو الابتهاج والرضا أو ما يقاربهما معنىً ، لا العلم بالصلاح والنظام ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا ، والسرّ في التعبير عن الارادة فينا بالشوق المؤكد ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى ، هو أ نّا لمكان إمكاننا ناقصون في الفاعلية ، وفاعليتنا لكل شيء بالقوّة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى مقدّمات زائدة على ذواتنا من تصور الفعل ، والتصديق بفائدته ، والشوق الأكيد ، فيكون الجميع محرّكاً للقوّة الفاعلة المحركة للعضلات، وهذا بخلاف الواجب تعالى فانّه لتقدسه عن شوائب الامكان وجهات القوّة والنقصان ، فاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنّه صرف الوجود وصرف الخير مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج ، وذاته مرضي لذاته أتمّ الرضا ، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي ـ وهو الارادة الذاتية ـ ابتهاج في مرحلة الفعل ، فانّ من أحبّ شـيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبة الفعلية هي الارادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بحدوثها .

يحتوي ما أفاده (قدس سره) على عدّة نقاط :

الاُولى : أنّ مفهوم الارادة غير مفهوم العلم ، فانّ مفهوم الارادة الابتهاج والرضا ، ومفهوم العلم الانكشاف ، فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر ، وإن كان مطابقهما واحداً ، وهو ذاته تعالى .

الثانية : أنّ إرادته تعالى من الصـفات الذاتية العـليا كالعلم والقدرة وما شاكلهما ، وليست من الصفات الفعلية .

الثالثة : أنّ الارادة فينا عبارة عن الشوق الأكيد المحرّك للقوّة العاملة المحرّكة للعضلات نحو المراد ، وتحققها ووجودها في النفس يتوقف على مقدّمات

ــ[376]ــ

كالتصور والتصديق بالفائدة ونحوهما ، ومن الواضح أنّ الارادة بهذا المعنى لا تتصور في حقّه سبحانه وتعالى ، فانّ فاعليته تامّة ، لا نقصان فيها أبداً ، وأ نّه فاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، ولا تتوقف فاعليته على أيّة مقدّمة خارجة عن ذاته تعالى .

الرابعة : أنّ الابتهاج في مرحلة الفعل هو الارادة الفعلية المنبعث عن الابتهاج الذاتي الذي هو الارادة الذاتية ، والروايات الدالّة على حدوث الارادة إنّما يراد بها الارادة الفعلية التي هي من آثار إرادته الذاتية .

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاُولى : فهي تامّة من ناحية ، وهي أنّ مفهوم الارادة غير مفهوم العلم ، وخاطئة من ناحية اُخرى ، وهي أنّ مفهوم الارادة الابتهاج والرضا .

أمّا تماميتها من الناحية الاُولى ، فلما ذكرناه في بحث المشتق (1) من أنّ مفاهيم الصفات العليا الذاتية مختلفة ومتباينة، فانّ مفهوم العلم غير مفهوم القدرة وهكذا، ولا فرق في ذلك بين الواجب والممكن. نعم ، يفترق الواجب عن الممكن في نقطة اُخرى ، وهي أنّ مطابق هذه الصفات في الواجب واحد عيناً وذاتاً وجهةً، وفي الممكن متعدد كذلك .

وأمّا عدم تماميتها من الناحية الثانية ، فلأنّ من الواضح أنّ مفهوم الارادة ليس هو الابتهاج والرضا ، لا لغةً ولا عرفاً ، وإنّما ذلك اصـطلاح خاص من الفلاسفة ، حيث إنّهم فسّروا الارادة الأزلية بهذا التفسير . ولعل السبب فيه التزامهم بعدّة عوامل تالية :

الأوّل : أنّ إرادته تعالى عين ذاته خارجاً وعيناً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 333 .

ــ[377]ــ

الثاني : أ نّها ليست بمعنى الشوق الأكيد المحرّك للعضلات ، كما عرفت .

الثالث : أ نّها مغايرة للعلم والقدرة والحياة ، وما شاكلها من الصفات العليا بحسب المفهوم .

الرابع : أ نّه لم يوجد معنىً مناسب للارادة غير المعنى المذكور ، وبطبيعة الحال أنّ النتيجة على ضوء هذه العوامل هي ما عرفت .

ولكن هذا التفسير خاطئ جداً ، وذلك لأنّ الارادة لا تخلو من أن تكون بمعنى إعمال القدرة ، أو بمعنى الشوق الأكيد ، ولا ثالث لهما ، وحيث إنّ الارادة بالمعنى الثاني لا تعقل لذاته تعالى ، تتعين الارادة بالمعنى الأوّل له سبحانه وهو المشيئة وإعمال القدرة .

وأضف إلى ذلك : أنّ الرضا من الصفات الفعلية كسخطه تعالى ، وليس من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة ونحوهما ، وذلك لصحّة سلبه عن ذاته تعالى ، فلو كان من الصفات العليا لم يصحّ السلب أبداً .

على أ نّا لو فرضنا أنّ الرضا من الصفات الذاتية فما هو الدليل على أنّ إرادته أيضاً كذلك ، بعد ما عرفت من أنّ صفة الارادة غير صفة الرضا ، وكيف كان فما أفاده (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه بوجه .

وأمّا النقطة الثانية : ـ إرادته تعالى صفة ذاتيـة له ـ فهي خاطئة جداً ، والسبب في ذلك أوّلاً : ما تقدّم من أنّ الارادة بمعنى الشوق المؤكّد لا تعقل في ذاته تعالى، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : قد سبق أنّ تفسير الارادة بصفة الرضا والابتهاج تفسير خاطئ لا واقع له . ومن ناحية ثالثة : أ نّا لا نتصور لارادته تعالى معنىً غير إعمال القدرة والسلطنة .

وثانياً : قد دلّت الروايات الكثيرة على أنّ إرادته تعالى فعله ، كما نصّ به

ــ[378]ــ

قوله سبحانه : (إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )(1) وليس في شيء من هذه الروايات إيماء فضلاً عن الدلالة على أنّ له تعالى إرادة ذاتية أيضاً، بل فيها ما يدل على نفي كون إرادته سبحانه ذاتية ، كصحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «قلت : لم يزل الله مريداً ؟ قال : إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد» (2) ورواية الجعفري قال «قال الرضا (عليه السلام) : المشيئة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد» (3) فهاتان الروايتان تنصّان على نفي الارادة الذاتية عنه سبحانه .

ثمّ إنّ سلطنته تعالى حيث كانت تامّة من كافّة الجهات والنواحي ولا يتصور النقص فيها أبداً ، فبطبيعة الحال يتحقق الفعل في الخارج ويوجد بصرف إعمالها من دون توقفه على أيّة مقدّمة اُخرى خارجة عن ذاته تعالى كما هو مقتضى قوله سبحانه : (إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

وقد عبّر عن هذا المعنى في الروايات تارة بالمشيئة ، وتارة اُخرى بالاحداث والفعل .

أمّا الأوّل : كما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «المشيئة

محدثة»(4). وصحيحة عمر بن اُذينة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «خلق الله المشيئة بنفسها ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة» (5) ومن الطبيعي أنّ

ـــــــــــــــــــــ
(1) يس 36 : 82 .
(2) اُصول الكافي 1 : 109 ح 1 .
(3) بحار الأنوار 4 : 145 ح 18 .
(4) اُصول الكافي 1 : 110 ح 7 .
(5) بحار الأنوار 4 : 145 ح 20 .

ــ[379]ــ

المراد بالمشيئة هو إعمال القدرة والسلطنة ، حيث إنّها مخلوقة بنفسها ، لا بإعمال قدرة اُخرى ، وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له .

وأمّا الثاني : كما في صحيحة صفوان بن يحيى قال (عليه السلام) : «الارادة من الخلق الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى ، فارادته إحداثه لا غير ذلك ، لأ نّه لا يروي ولا يهمّ ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي صفات الخلق ، فارادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون، بلا لفظ، ولا نطق بلسان، ولا همة، ولا تفكر، ولا كيف لذلك، كما أ نّه لا كيف له»(1) فهذه الصحيحة تنص على أنّ إرادته تعالى هي أمره التكويني .

وأمّا النقطة الثالثة : فهي تامة، لوضوح أنّ إرادتنا هي الشوق المؤكّد الداعي إلى إعمال القدرة والسلطنة نحو إيجاد المراد ، وسنبيّن إن شاء الله تعالى أنّ ملاك كون الأفعال في إطار الاختيار هو صدورها بإعمال القدرة والمشيئة لا كونها مسبوقةً بالارادة ، بداهة أنّ الارادة بكافة مقدّماتها غير اختيارية فلا يعقل أن تكون ملاكاً لاختياريتها . على أ نّا نرى وجداناً وبشكل قاطع أنّ الارادة ليست علّة تامّة للأفعال ، وسيأتي توضيح هذه النقاط بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى .

وأمّا النقطة الرابعة : فيرد عليها أنّ الروايات قد دلّت على أنّ إرادته تعالى ليست كعلمه وقدرته ونحوهما من الصفات الذاتية العليا ، بل هي فعله وإعمال قدرته كما عرفت . وإن شئتم قلتم : لو كانت لله تعالى إرادتان : ذاتية وفعلية ، لأشارت الروايات بذلك لا محالة ، مع أ نّها تشير إلى خلاف ذلك .

ثمّ إنّ قوله (عليه السلام) في الصحيحة المتقدمة (2) «إنّ المريد لا يكون إلاّ

ـــــــــــــــــــــ
(1) اُصول الكافي 1 : 109 ح 3 .
(2) في الصفحة السابقة .

ــ[380]ــ

لمراد معه» إشارة إلى أنّ الارادة الإلهية لو كانت ذاتية لزم قدم العالم ، وهو باطل .

ويؤيّد هذا : رواية الجعفري عن الرضا (عليه السلام) «فمن زعم أنّ الله لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد» (1) فانّه صريح في أنّ إرادته ليست عين ذاته كالعلم والقدرة والحياة .

لحدّ الآن قد ظهر أمران :

الأوّل : أ نّه لا مقتضي لما التزم به الفلاسفة وجماعة من الاُصوليين منهم صاحب الكفاية وشيخنا المحقق (قدس سرهما) من كون إرادته تعالى صفة ذاتية له ، بل قد تقدّم عدم تعقل معنى محصّل لذلك .

الثاني : أنّ محاولتهم لحمل الروايات الواردة في هذا الموضوع على إرادته الفعلية دون الذاتية ، خاطئة ولا واقع موضوعي لها ، فانّها في مقام بيان انحصار إرادته تعالى بها .

ولشيخنا المحقق الاصفهاني (قدس سره) في المقام كلام (2) وحاصله : أنّ مشيئته تعالى على قسمين :

مشيئة ذاتية ، وهي عين ذاته المقدّسة ، كبقية صفاته الذاتية ، فهو تعالى صرف المشيئة ، وصرف القدرة ، وصرف العلم ، وصرف الوجود ، وهكذا ، فالمشيئة الواجبة عين الواجب تعالى .

ومشيئة فعلية ، وهي عين الوجود الاطلاقي المنبسط على الماهيات ، والمراد من المشيئة الواردة في الروايات من أ نّه تعالى خلق الأشياء بالمشيئة ، والمشيئة

ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 4 : 145 ح 18 .
(2) نهاية الدراية 1 : 287 في الهامش .

 
 

ــ[381]ــ

بنفسها ، هو المشيئة الفعلية التي هي عين الوجود المنبسط ، والوجود الاطلاقي ، والمراد من الأشياء هو الموجودات المحدودة الخاصّة ، فموجودية هذه الأشياء بالوجود المنبسط ، وموجودية الوجود المنبسط بنفسها ، لا بوجود آخر ، وهذا معنى قوله (عليه السلام) «خلق الله الأشياء بالمشيئة» أي بالوجود المنبسط الذي هو فعله الاطلاقي ، وخلق المشيئة بنفسها ، ضرورة أ نّه ليس للوجود المنبسط ما به الوجود .

ولا يخفى أ نّه (قدس سره) قد تبع في ذلك نظرية الفلاسفة القائلة بتوحيد الفعل ، وبطبيعة الحال أنّ هذه النظرية ترتكز على ضوء علّية ذاته الأزلية للأشياء ، وعلى هذا الضوء فلا محالة يكون الصادر الأوّل منه تعالى واحداً ذاتاً ووجوداً ، لاقتضاء قانون السنخية والتناسب بين العلّة والمعلول ذلك . وهذا الصادر الواحد هو الوجود الاطلاقيّ المعبّر عنه بالوجود المنبسط تارةً وبالمشيئة الفعلية تارة اُخرى ، وهو الموجود بنفسه لا بوجود آخر ، يعني أ نّه لا واسطة بينه وبين وجوده الأزلي ، فهو معلوله الأوّل ، والأشياء معلوله بواسطته ، وهذا المعنى هو مدلول صحيحة عمر بن اُذينة المتقدمة (1) .

ولنأخذ بالنقد عليه من وجهين :

الأوّل : أنّ القول بالوجود المنبسط في إطاره الفلسفي يرتكز على نقطة واحدة، وهي أنّ نسبة الأشياء بشتى أنواعها وأشكالها إلى ذاته تعالى نسبة المعلول إلى العلّة التامة ، ويترتب على هذا أمران : الأوّل : التجانس والتسانخ بين ذاته تعالى وبين معلوله . الثاني : التعاصر بينهما ، وعليه حيث إنّه لا تجانس بين موجودات عالم المادة بكافة أنواعها وبين ذاته تعالى ، فلا بدّ من الالتزام بالنظام الجملي السلسلي ، وهو عبارة عن ترتب مسببات على أسباب متسلسلة ، فالأسباب

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 378 .

ــ[382]ــ

والمسببات جميعاً منتهيتان في نظامهما الخاص وإطارهما المعيّن بحسب الطولية والعرضية معاً إلى مبدأ واحد، وهو الحق سبحانه ، وهو مبدأ الكل ، فالكل ينال منه ، وهو مسبّب الأسباب على الاطلاق . ونتيجة هذا أنّ الصادر الأوّل من الله تعالى لا بدّ أن يكون مسانخاً لذاته ومعاصراً معها ، وإلاّ استحال صدوره منه . ومن الطبيعي أنّ ذلك لا يكون إلاّ الوجود المنبسط في إطاره الخاص .

وغير خفي أ نّه لا شبهة في بطلان النقطة المذكورة وأ نّه لا واقع موضوعي لها أصلاً ، والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ سلطنته تعالى وإن كانت تامة من كافة الجهات ولا يتصور النقص فيها أبداً ، إلاّ أنّ مردّ هذا ليس إلى وجوب صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه ، كوجوب صدور المعلول عن العلة التامة ، بل مردّه إلى أنّ الأشياء بكافة أشكالها وأنواعها تحت قدرته وسلطنته التامة، وأ نّه تعالى متى شاء إيجاد شيء أوجده بلاتوقف على أيّة مقدّمة خارجة عن ذاته وإعمال قدرته حتّى يحتاج في إيجاده إلى تهيئة تلك المقدمة ، وهذا معنى السلطنة المطلقة التي لا يشذ شيء عن إطارها .

ومن البديهي أنّ وجوب وجوده تعالى ، ووجوب قدرته ، وأ نّه تعالى وجود كلّه ، ووجوب كلّه ، وقدرة كلّه لايستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج ، وذلك لأنّ الضرورة ترتكز على أن يكون إسناد الفعل إليه تعالى كاسناد المعلول إلى العلّة التامة ، لا إسناد الفعل إلى الفاعل المختار ، فلنا دعويان :

الاُولى : أنّ إسناد الفعل إليه ليس كاسناد المعلول إلى العلّة التامة .

الثانية : أنّ إسناده إليه كاسناد الفعل إلى الفاعل المختار .

أمّا الدعوى الاُولى : فهي خاطئة عقلاً ونقلاً .

أمّا الأوّل : فلأنّ القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة والسلطنة عنه تعالى، فانّ مردّ هذا القول إلى أنّ الوجودات بكافة مراتبها الطولية والعرضية

ــ[383]ــ

موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتم ، وتتولد منه على سلسلتها الطولية تولد المعلول عن علّته التامة، فانّ المعلول من مراتب وجود العلّة النازلة ، وليس شيئاً أجنبياً عنه . مثلاً الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها ، وليست أجنبية عنها ، وهكذا .

وعلى هذا الضـوء فمعنى علّية ذاته تعالى للأشـياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها ، كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها ، ويستحيل انفكاكها عنها ، غاية الأمر أنّ النار علّة طبيعية غير شاعرة ، ومن الواضح أنّ الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية ، فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب ، وتكون من مراتب وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه ، فإذن ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامة . على أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفا شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية، لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علّته .

وأمّا الثاني : فقد تقدّم (1) ما يدل من الكتاب والسنّة على أنّ صدور الفعل منه تعالى بارادته ومشيئته .

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري ، وهو أن يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور ، وحيث إنّه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري ، لا يرجع إلى معنىً محصّل ، بداهة أنّ علم العلّة بالمعلول وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلية وتأثيرها ، فانّ العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب ، ومجرد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها ، وإلاّ لزم الخلف .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 378 .

ــ[384]ــ

فما قيل : من أنّ الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو أنّ الأوّل غير شاعر وملتفت إلى فعله دون الثاني ، فلأجل ذلك قالوا إنّ ما صدر من الأوّل غير اختياري وما صدر من الثاني اختياري لا واقع موضوعي له أصلاً ، لما عرفت من أنّ مجرد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلية بعد فرض أنّ نسبة الفعل إلى كليهما على حد نسبة المعلول إلى العلّة التامة .

وأمّا الدعوى الثانية : فقد ظهر وجهها ممّا عرفت من أنّ إسناد الفعل إليه تعالى إسناد إلى الفاعل المختار ، وقد تقدّم أنّ صدوره باعمال القدرة والسلطنة ، وبطبيعة الحال أنّ سلطنة الفاعل مهما تمّت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير ، وحيث إنّ سلطنة الباري (عزّ وجلّ) تامّة من كافّة الجهات والحيثيات ، ولا يتصور فيها النقص أبداً ، فهو سلطان مطلق ، وفاعل ما يشاء ، وهذا بخلاف سلطنة العبد ، حيث إنّها ناقصة بالذات فيستمدها في كل آن من الغير ، فهو من هذه الناحية مضطر فلا اختيار ولا سلطنة له ، وإن كان له اختيار وسلطنة من ناحية اُخرى ، وهي ناحية إعمال قدرته وسلطنته ، وأمّا سلطنته تعالى فهي تامّة وبالذات من كلتا الناحيتين .

لحدّ الآن قد تبيّن : أنّ القول بالوجود المنبسط باطاره الفلسفي الخاص وبواقعه الموضوعي يستلزم الجبر في فعله تعالى ، ونفي القدرة والسلطنة عنه ، أعاذنا الله من ذلك .

الوجه الثاني : أنّ ما أفاده (قدس سره) من المعنى للحديث المذكور خلاف الظاهر جداً، فانّ الظاهر منه بقرينة تعلّق الخلق بكل من المشيئة والأشياء تعدد المخلوق ، غاية الأمر أنّ أحدهما مخلوق له تعالى بنفسه وهو المشيئة ، والآخر مخلوق له بواسطتها .

وإن شئت قلت : إنّ تعدد الخلق بطبيعة الحال يستلزم تعدد المخلوق ،

ــ[385]ــ

والمفروض أ نّه لاتعدد على المعنى الذي ذكره (قدس سره) تبعاً لبعض الفلاسفة ، فانّ المخلوق على ضوء هذا المعنى هو الوجود المنبسط فحسب دون غيره من الأشياء ، لأنّ موجوديتها بنفس الوجود المنبسط لا بايجاد آخر . مع أنّ ظاهر الرواية بقرينة تعدد الخلق أنّ موجوديتها بايجاد آخر .

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يمكن الالتزم به ثبوتاً ولا إثباتاً .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net