ظهور الصيغة في الوجوب 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4931


ــ[473]ــ

ذلك : أنّ الصيغة على هذا موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، ومن الطبيعي أنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد ويتعدّد بتعدّد المعاني ، ففي كل مورد تستعمل الصيغة في معنى يختلف عن استعمالها في معنى آخر في المورد الثاني ويغايره وهكذا ، فانّ المتكلم تارةً يقصد بها إبراز ما في نفسه من اعتبار المادة على ذمّة المخاطب . واُخرى إبراز ما في نفسه من التهديد . وثالثة إبراز ما في نفسه من السخرية أو التعجيز أو ما شاكل ذلك، فالصيغة على الأوّل مصداق للطلب والبعث الاعتباريين وعلى الثاني مصداق للتهديد كذلك ، وعلى الثالث مصداق للسـخرية ، وهكذا ، ومن الواضح أ نّها في كل مورد من تلك الموارد تبرز معنى يباين لما تبرز في المورد الثاني ويغايره .

ثمّ بعد أن كانت الصيغة تستعمل في معان متعددة كما عرفت ، فهل هي موضوعة بازائها على نحو الاشتراك اللفظي ، أو موضوعة لواحد منها ويكون استعمالها في غيره مجازاً ؟ وجهان ، الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ المتبادر من الصيغة عند إطلاقها هو إبراز اعتبار الفعل على ذمّة المكلف في الخارج ، وأمّا إرادة إبراز التهديد منها أو السخرية أو الاستهزاء أو نحو ذلك فتحتاج إلى نصب قرينة وبدونها لا دلالة لها على ذلك ، ومن الطبيعي أنّ ذلك علامة كونها موضوعةً بازاء المعنى الأوّل ، دون غيره من المعاني .

الجهة الثانية : لا ينبغي الشك في أنّ الأوامر الصادرة من الموالي ومنها أوامر الكتاب والسنّة على نحوين : أحدهما ما يراد منها اللزوم والحتم على نحو يمنع العبد عن مخالفتها . وثانيهما ما يراد منها البعـث المقرون بالترخيص على نحو يجوز مخالفتها وعدم مانع عنها، ويسمى الأوّل بالوجوب، والثاني بالندب. وعلى هذا فان قامت قرينة حالية أو كلامية على تعيين أحدهما لزم اتباعها ، وإن لم تقم قرينة على ذلك فهل الصيغة بنفسها ظاهرة في المعنى الأوّل بحيث تحتاج

ــ[474]ــ

إرادة المعنى الثاني منها إلى قرينة تدل عليها ، أو ظاهرة في المعنى الثاني وتحتاج إرادة المعنى الأوّل إلى قرينة ، أو في الجامع بينهما وتحـتاج إرادة كل منهما إلى قرينة ، أو فيهما على نحو الاشتراك اللفظي ؟ وجوه وأقوال :

قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) القول الأوّل بدعوى أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ومجاز في غيره ، واستدلّ على ذلك بأنّ المتبادر منها عرفاً عند إطلاقها وتجردها عن القرينة المقالية والحالية هي الوجوب ، ومن الطبيعي أنّ التبادر المستند إلى نفس اللفظ علامة الحقيقة ، فلو كانت حقيقة في الندب أو مشتركة لفظية أو معنوية لم يتبادر الوجوب منها .

ثمّ أيّد ذلك بقيام السيرة العقلائية على ذم الموالي عبيدهم عند مخالفتهم لامتثال أوامرهم ، وعدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالتها عليه بحال أو مقال .

ثمّ أورد على نفسه بكثرة استعمال الصيغة في الندب ، وهي مانعة عن ظهورها في الوجوب وتبادره منها، لوضـوح أ نّها لو لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا شبهة في أ نّها مانعة عن انفهام الوجوب منها ، فإذن لا يمكن حملها عليه عند إطلاقها مجرّدةً عن القرينة .

وأجاب عن ذلك أوّلاً : بأنّ اسـتعمالها في الندب لا يزيد على استعمالها في الوجوب ، لتكون كثرة الاستعمال فيه مانعة عن ظهورها في الوجوب .

وثانياً : أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي مع القرينة لا تمنع عن حمله على المعنى الحقيقي عند إطـلاقه مجرّداً عنها ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ كثرة استعمال الصيغة في الندب مع القرينة لا تمنع عن حملها على الوجوب إذا كانت

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 70 .

ــ[475]ــ

خاليةً عنها .

ثمّ استشهد على ذلك بكثرة استعمال العام في الخاص حتّى قيل ما من عام إلاّ وقد خصّ ، ومع هذه الكثرة لا ينثلم ظهور العام في العموم إذا ورد في الكتاب والسنّة ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخاص .

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) .

أمّا ما ذكره من أنّ المتبادر من الصيغة عرفاً الوجوب ، فيمكن نقده بأ نّه إنّما يكون علامةً للحقيقة إذا كان مستنداً إلى حاق اللفظ ونفسه ، ضرورة أنّ مجرد انفهام المعنى من اللفظ لا يكون علامةً لكونه حقيقة فيه ، وفيما نحن فيه المتبادر لدى العرف من الصيغة وإن كان هو الوجوب إلاّ أ نّا لا نعلم استناده إلى حاق اللفظ ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة الاطلاق ومقدّمات الحكمة كما اختاره بعض الأعاظم(1) ، ويحتمل أن يكون ذلك من جهة حكم العقل كما اخترناه ، ومن الطبيعي أنّ التبادر مع هذا الاحتمال لا يكون دليلاً على الحقيقة .

ومن هنا يظهر الكلام فيما ذكره من التأييد بقيام السيرة العقلائية على الذم عند المخالفة ، فانّه وإن كان مسلّماً إلاّ أ نّه لا يدل على كون الوجوب مدلولاً وضعياً للصيغة ومتبادراً منها عرفاً ، بل لعلّه لحكم العقل بذلك ، أو للاطلاق ومقدّمات الحكمة .

وعلى الجملة : فقيام السيرة إنّما يدل على كون الوجوب مستفاداً منها ، وأمّا كون ذلك بالوضع أو بالاطلاق ، أو من ناحية حكم العقل فلا يدل على شيء منها .

وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ استعمال الصيغة في الندب أكثر من

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الأفكار 1 : 162 .

ــ[476]ــ

استعمالها في الوجوب فهو غير بعيد .

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كانت مع القرينة لا تمنع عن الحمل على الحقيقة إذا تجرد الكلام عنها ، وإن كان متيناً جداً بحسب الكبرى ، إلاّ أنّ استشهاده (قدس سره) على تلك الكبرى بالعام والخاص في غير محلّه ، وذلك لأنّ كثرة الاستعمال في المقام إذا افترضنا أ نّها مانعة عن الحمل على الحقيقة إلاّ أ نّها لا تمنع في العام والخاص ، وذلك لأنّ لصيغ العمـوم أوضـاعاً متعددة حسب تعدد تلك الصيغ ، وعليه فلا بدّ من ملاحظة كثرة الاسـتعمال في كل صيغة على حدة وبنفسها . ومن الطبيعي أنّ كثرة الاستعمال في الخاص في إحدى هذه الصيغ لاتمنع عن حمل الصيغة الاُخرى على العموم . مثلاً كثرة استعمال لفظة الكل في الخاص لا تمنع عن ظهور الجمع المحلى باللام في العموم ، وهكذا .

وبكلمة اُخرى : أنّ كثرة استعمال العام في الخاص تمتاز عن كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب بنقطة : وهي أنّ القضيّة الاُولى تنحل بانحلال صيغ العموم وأدواته، فيكون لكل صيغة منها وضع مستقل غير مربوط بوضع صيغة اُخرى منها . ولذلك لا بدّ من ملاحظة الكثرة في كل واحدة منها بنفسها مع قطع النظر عن الاُخرى ، وهي تمنع عن الحمل على الحقيقة فيها دون غيرها . وهذا بخلاف صيغة الأمر حيث إنّ لها وضعاً واحداً فبطبيعة الحال كثرة استعمالها في الندب تمنع عن حملها على الوجوب بناءً على الفرضية المتقدمة .

هذا ، مضـافاً إلى أنّ ذلك ينافي ما التزمه (قدس سره) في مبحث العمـوم والخصوص من أنّ التخصيص لا يوجب التجوّز في العام واستعماله في الخاص ، بل هو دائماً اسـتعمل في معـناه العام سواء أورد عليه التخصيص أم لا ، على

ــ[477]ــ

تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى (1) .

وذهب إلى القول الثاني بعض الأعاظم (قدس سره) (2) وأفاد : أنّ الصيغة وإن لم تدل على الوجوب بالوضع، ولكنّها تدل عليه بالاطلاق ومقدّمات الحكمة ، بيان ذلك : أنّ الارادة المتعلقة بفعل الغير تختلف شدّةً وضعفاً حسب اختلاف المصالح والأغراض الداعية إلى ذلك ، فمرّةً تكون الارادة شديدةً وأكيدةً بحيث لايريد المولى تخلّف إرادته عن المراد، ولايريد تخلّف العبد عن الاطاعة والامتثال.

واُخرى تكون ضعيفةً على نحو لا يمنع المولى العبد من التخلّف ، ولا يكون العبد ملزماً بالفعل ، بل له أن يشاء الفعل ، وله أن يشاء الترك .

فعلى الأوّل يطلب المولى الفعل على سبيل الحتم والالزام، ويعبّر عنه بالوجوب ، فيكون الوجوب في واقعه الموضوعي طابعاً مثالياً للارادة الشديدة الأكيدة ومرآةً لها ، فهي روح الوجوب وواقعه الموضوعي .

وعلى الثاني يطلب ذلك طلباً ضعيفاً على سبيل الندب وعدم الحتم ، ويعبّر عنه بالاستحباب ، فيكون الاستحباب مثالاً موضوعياً لتلك المرتبة من الارادة ، وهي روحه وواقعه الموضوعي .

وهذا الاختلاف في الارادة أمر وجداني ، حيث إنّنا نرى بالوجدان أنّ إرادة العطشان مثلاً باتيان الماء البارد أشد وآكد من إرادته باتيان الفاكهة مثلاً بعد الغذاء ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ شدّة الارادة ليست بأمر زائد على الارادة ، بل هي

ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الرابع من هذا الكتاب ص 317 .
(2) نهاية الأفكار 1 : 162 .

ــ[478]ــ

عين تلك المرتبة في الخارج ونفسها ، فما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز ، نظير السواد والبياض الشـديدين حيث إنّ ما به الاشـتراك فيهما عين ما به الامتياز .

ومن ناحية ثالثة : أنّ صفة الضعف في الارادة حدّ عدمي ، وعليه فبطبيعة الحال تكون تلك الصفة أمراً زائداً عليها ، وتحتاج في بيانها إلى مؤونة زائدة في مقام الاثبات .

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّ المولى إذا أمر بشيء وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على إرادة الجامع بين الارادة الشديدة والضعيفة ، فقضيّة الاطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة المرتبة الضيعفة هي حمل الأمر على بيان المرتبة الشديدة ، حيث قد عرفت أنّ بيانها لا يحتاج إلى مؤونة زائدة دون بيان المرتبة الضعيفة ، وبذلك نثبت إرادة الوجوب الذي هو طابع مثالي لتلك المرتبة من الارادة .

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ الوجوب ليس بمدلول وضعي للصـيغة ، وإنّما هو مستفاد من الاطلاق ومقدّمات الحكمة .

الثاني : أنّ مدلولها الوضعي إنّما هو الطلب الجامع فلا تدل بالدلالة الوضعية إلاّ عليه .

ولنأخذ بالمناقشة عليه من وجوه :

الأوّل : أنّ ما أفاده (قدس سره) من اخـتلاف الارادة باختلاف الأوامر وجوباً وندباً لا يتم في الأوامر الشرعية ، وإنّما يتم في الأوامر العرفية.

فلنا دعويان : الاُولى: عدم تمامية ما أفاده (قدس سره) في الأوامر الشرعية .

ــ[479]ــ

الثانية : تماميته في الأوامر العرفية .

أمّا الدعوى الاُولى : فلأنّ الارادة التكوينية التي هي عبارة عن الشوق النفساني المحرّك للانسـان نحو المراد إنّما يعقل تعلّقها بفعل الغير إذا كانت فيه مصلحة عائدة إلى ذات المريد أو إلى إحدى قواه ، ولا يعقل تعلّقها بما لا تعود مصلحته إليه ، بداهة أنّ الشوق النفساني إلى شيء بنفسه لا يعقل إلاّ عن فائدة عائدة إلى الفاعل، وذلك غير متحقق في الأحكام الشرعية ، فانّ مصالح متعلقاتها تعود إلى المكلفين دون الشارع . نظير أوامر الطبيب حيث إنّ مصالح متعلقاتها تعود إلى المرضى دونه .

ومن الطبيعي أنّ اختلاف أوامره إلزاماً وندباً لا ينشأ عن اختلاف إرادته شدّةً وضعفاً ، لما عرفت من عدم تعلّقها بما يعود نفعه إلى غيره دونه ، إلاّ أن يكون ملائماً لإحدى قواه ، فعندئذ يكون منشأً لحدوث الشوق في نفسه ، ولكنّه خلاف الفرض .

وأضف إلى ذلك : أنّ الارادة بمعنى الشوق النفساني لا تعقل في ذاته (سبحانه وتعالى) والارادة بمعنى المشيئة لا تعقل أن تتعلق بفعل الغير وإن افترض أنّ نفعه يعود إليه .

وبكلمة اُخرى : أنّ ملاك شدّة الارادة وضعفها تزايد المصلحة في الفعل وعدم تزايدها ، وحيث إنّ تلك المصلحة بشتّى مراتبها من القويّة والضعيفة تعود إلى العباد دون المولى لاستغنائه عنها تمام الاستغناء ، فلا يعقل أن تكون منشأً لحدوث الارادة في نفس المولى فضلاً عن أن يكون اختلافها منشأً لاختلافها شدّةً وضعفاً .

على أنّ اختلاف تلك المصلحة العائدة إلى العباد لا يعقل أن يكون سبباً لاختلاف إرادة المولى كذلك ، نظير إرادة الطبيب حيث إنّها لا تعقل أن تختلف

ــ[480]ــ

شدّةً وضعفاً باختلاف المصلحة التي تعود إلى المريض فتأمل . وعلى هذا الضوء فلا يكون إطلاق الصيغة بمعونة مقدّمات الحكمة قرينة على إرادة الوجوب .

وأمّا الدعوى الثانية : فحيث إنّ مصالح متعلقات الأوامر العرفية تعود إلى المولى دون العبيد ، فبطبيعة الحال تكون سبباً لحدوث الارادة في نفسه ، وبما أنّ تلك المصالح تختلف شدّةً وضعفاً، فلا محالة تكون منشأً لاختلاف إرادته كذلك .

فالنتيجة : أنّ ما أفاده هذا القائل لو تمّ فانّما يتم في الأوامر العرفية دون الأوامر الشرعية .

الثاني : لو تنّزلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مردّ اختلاف الوجوب والندب إلى اختلاف الارادة شدّة وضعفاً، إلاّ أنّ دعوى كون الارادة الشديدة لا تزيد على الارادة بشيء، فهي إرادة صرفة، دون الارادة الضعيفة فانّها لمكان ضعفها زائدة على الارادة وهي صفة ضعفها، فانّها حدّ عدمي، خاطئة جداً، وذلك لأنّ الارادة بشتّى ألوانها وأشكالها محدودة بحد ، من دون فرق في ذلك بين الارادة الشديدة والضعيفة ، كيف فانّهما مرتبتان متضادتان من الارادة ، وعليه فبطبيعة الحال يكون لكل منهما حد خاص .

وإن شئت فقل : إنّ الارادة التي هي واقع الوجوب، روحه من الاُمور الممكنة، ومن البديهي أنّ كل ممكن محدود بحد خاص ، غاية الأمر يزيد الوجوب على الندب بشدّة الارادة .

وعلى هذا الضوء فكما لا يمكن التمسك باطلاق الصيغة لاثبات الندب ، فكذلك لا يمكن التمسك باطلاقها لاثبات الوجوب ، بل لابدّ من التوقف ، لفرض احتياج كل منهما إلى بيان زائد .

الثالث : لو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ الارادة الشديدة غير محدودة بحد بخلاف الارادة الضعيفة ، إلاّ أ نّه مع ذلك لا يمكن التمسك باطلاق الصيغة

 
 

ــ[481]ــ

والحمل على الوجوب ، والسبب في ذلك : أنّ بساطة الارادة الشديدة وتركب الارادة الضعيفة إنّما هما بالنظر الدقي العقلي ، وليسـتا من المتفاهم العرفي ، ومن الطبيعي أنّ الاطلاق إنّما يعيّن ما هو المتفاهم عرفاً دون غيره، وحيث إنّ بساطة تلك المرتبة وعدم وجود حد لها ، وتركب هذه المرتبة ووجود حد لها ، أمران خارجان عن الفهم العرفي ، فلا يمكن حمل الاطلاق على بيان المرتبة الاُولى دون الثانية . ونظير ذلك ما إذا أطلق المتكلم كلمة الوجود ولم يبيّن ما يدل على إرادة سائر الموجودات ، فهل يمكن حمل إطلاق كلامه على إرادة واجب الوجود، نظراً إلى عدم تحديده بحد ، وتحديد غيره من الموجودات به ؟ كلاّ ، والسرّ فيه ما عرفت من أنّ المعنى المذكور خارج عن المتفاهم العرفي .

والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ تفسير صيغة الأمر مرّةً بالطلب ومرّةً اُخرى بالبعث والتحريك ومرّةً ثالثةً بالارادة، لايرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل، ضرورة أنّ هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير واللفظ، وليس لها واقع موضوعي أصلاً، والسبب في ذلك: ما حققناه في بحث الانشاء من أ نّه عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أ نّا قد ذكرنا في بحث الوضع (1) أنّ حقيقته عبارة عن تعهد الواضع والتزامه النفسـاني بأ نّه متى ما أراد معـنىً خاصاً يبرزه بلفظ مخصوص .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي ضرورة وضع صيغة الأمر أو ما شـاكلها للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسـاني في الخارج ، لا للطلب
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 48 .

ــ[482]ــ

والتصدي ، ولا للبعث والتحريك ، ولا للارادة .

نعم ، إنّ صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك ، لا أ نّهما معناها ، كما أ نّها مصداق للطلب والتصدي، وأمّا الارادة فلا يعقل أن تكون معناها ، وذلك لاستحالة تعلّق الارادة بمعنى الاختيار وإعمال القدرة بفعل الغير ، وكذا الارادة بمعنى الشوق النفساني المحرّك للانسان نحو المراد فيما لا تعود مصلحته إليه ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أ نّا قد ذكرنا في محلّه (1) أ نّه لا معنى للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية ، ولا نعقل لها معنىً محصّلاً ما عدا الأمر الصادر من المولى .

فالنتيجة على ضوئهما : هي أ نّه لا معنى لتفسير الأمر بالارادة ، ومن جميع ذلك يظهر أنّ تفسير النهي بالكراهة أيضاً خاطئ .

وبكلمة اُخرى : أ نّنا إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً ، فلا نعقل فيه ما عدا شيئين :

الأوّل : اعتبار الشارع ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة أو غيرها .

الثاني : إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني لا للبعث والتحريك ، ولا للطلب .

نعم ، قد عرفت أنّ الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصد إلى الفعل ، حيث إنّ البعث والطلب قد يكونان خارجيين ، وقد يكونان اعتباريين ، فصيغة
ـــــــــــــــــــــ
(1) سيأتي في ص 541 .

ــ[483]ــ

الأمر أو ما شابهها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي ، ضرورة أ نّها تصدٍّ في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه ، لا تكويناً وخارجاً ، كما هو ظاهر .

ونتيجة ما ذكرناه : أمران : الأوّل أنّ صيغة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني ، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف ، ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك . الثاني أ نّها مصداق للطلب والبعث لا أ نّهما معناها .

ومن ذلك يظهر : أنّ الصيغة كما لا تدل على الطلب والبعث ، كذلك لا تدل على الحتم والوجوب . نعم ، يحكم العقل بالوجوب بمقتضى قانون العبودية والمولوية فيما إذا لم ينصب قرينةً على الترخيص . أو فقل : إنّ الصيغة كما عرفت موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري في الخارج ، ولا تدل على ما عدا ذلك ، إلاّ أنّ العقل يحكم بأنّ وظيفة العبودية والمولوية تقتضي لزوم المبادرة والقيام على العبد نحو امتثال ما أمره به المولى واعتبره على ذمّته ، وعدم الأمن من العقوبة لدى المخالفة إلاّ إذا أقام المولى قرينةً على الترخيص وجواز الترك ، وعندئذ لا مانع من تركه ، حيث إنّه مع وجود هذه القرينة مأمون من العقاب ، وينتزع العقل من ذلك الندب ، كما ينتزع في الصورة الاُولى الوجوب .

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الحاكم بالوجوب إنّما هو العقل دون الصيغة ، لا وضعاً ولا اطلاقاً ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أ نّه لا فرق بينه وبين الندب في مقام الاثبات إلاّ في الترخيص في الترك وعدمه . نعم ، فرق بينهما في مقام الثبوت والواقع على أساس نظريّة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها .

ومن ناحية ثالثة : أ نّه لا بأس بتفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار

ــ[484]ــ

دلالته على ثبوت الفعل على ذمّة المكلف ، بل هو معناه لغةً وعرفاً ، غاية الأمر الثبوت مرّةً تكويني خارجي ، ومرّةً اُخرى ثبوت تشريعي ، فصيغة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على الثبوت التشريعي وإبرازه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net