مقتضى الأصل اللفظي في المقام \ وجوه استحالة تقييد الواجب بقصد الأمر 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4641

 

[ مقتضى الأصل اللفظي ]

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو أ نّه لا إطلاق في المقام حتّى يمكن التمسك به لاثبات كون الواجب توصلياً ، ولكن هذه الدعوى منهم ترتكز على أمرين :

الأوّل : دعوى استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم إمكانه .

الثاني : دعوى أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، فينبغي لنا التكلّم عندئذ في هاتين الدعويين :

أمّا الدعوى الاُولى : فقد ذكروا في وجه استحالة التقييد وجوهاً :

ــ[510]ــ

أحسنها : ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من أنّ كل قيد في القضايا الحقيقية إذا اُخذ مفروض الوجود في الخارج ـ سواء أكان اختيارياً أم كان غير اختياري ـ يستحيل تعلّق التكليف به ، والسبب في ذلك : أنّ القضايا الحقيقية ترجع إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له .

مثلاً قولنا: المستطيع يجب عليه الحج، قضيّة حقيقية ترجع إلى قضيّة شرطية، وهي قولنا : إذا وجد في الخارج شخص وصدق عليه أ نّه مستطيع وجب عليه الحج ، فيكون وجوب الحج مشروطاً بوجود الاستطاعة في الخارج ، فتدور فعليته مدار فعليتها ، لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه .

وعليه فلا يمكن أن يقع مثل هذا القيد مورداً للتكليف ، بداهة أنّ المشروط لا يقتضي وجود شرطه . ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك القيد اختيارياً أو غير اختياري . والأوّل : كالعقد والعهد والنذر والاستطاعة ، وما شاكل ذلك . فانّ مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) أو نحوه ، يرجع إلى أ نّه إذا فرض وجود عقد في الخارج يجب الوفاء به ، لا أ نّه يجب على المكلف إيجاد عقد في الخارج والوفاء به . والثاني : كالوقت والبلوغ والعقل ، حيث إنّها خارجة عن اختيار المكلف فلا تكون مقدورةً له ، ومن الطبيعي أنّ مثل هذه القيود إذا اُخذت في مقام الجعل فلا محالة اُخذت مفروضة الوجود في الخارج ، يعني أنّ المولى فرض وجودها أوّلاً ثمّ جعل الحكم عليها ، ومردّ ذلك إلى أ نّه متى تحقق وقت الزوال مثلاً فالصلاة واجبة ، ومتى تحقق البلوغ في مادة المكلف فالتكليف فعلي في حقّه ، وهكذا . وليس معنى إذا زالت الشمس فصلّ وجوب الصلاة ووجوب تحصيل الوقت ، حيث إنّه تكليف بغير مقدور ، بل معناه ما ذكرناه ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 160 وما بعدها .
(2) المائدة 5 : 1 .

ــ[511]ــ

فانّ ما هو مقدور للمكلف هو ذات الصلاة ، وإيقاعها في الوقت عند تحققه ، وأمّا تحصيل نفس الوقت فهو غير مقدور له فلا يعقل تعلّق التكليف به .

وقد تحصّل من ذلك : أنّ كل قيد إذا اُخذ في مقام الجعل مفروض الوجود فلا يعقل تعلّق التكليف به سواء أكان اختيارياً أم لم يكن ، غاية الأمر أنّ القيد إذا كان غير اختياري فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ، ولا يعقل أخذه في متعلق التكليف بغير ذلك .

ومقامنا من هذا القبيل ، فان قصد الأمر إذا اُخذ في متعلقه فلا محالة يكون الأمر موضوعاً للتكليف ومفروض الوجود في مقام الانشاء ، لما عرفت من أنّ كل قيد إذا اُخذ متعـلقاً لمتعلق التكليف فبطبيعة الحـال كان وجود التكليف مشروطاً بفرض وجوده فرضاً مطابقاً للواقع الموضوعي ، وحيث إنّ متعلق المتعلق فيما نحن فيه هو نفس الأمر ، فيكون وجوده مشروطاً بفرض وجود نفسه فرضاً مطابقاً للخارج ، فيلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه وهذا خلف ، ضرورة أنّ ما لا يوجد إلاّ بنفس إنشائه كيف يعقل أخذه مفروض الوجود في موضوع نفسه ، فانّ مرجعه إلى اتحاد الحكم والموضوع.

وإن شئت قلت : إنّ أخذ قصد الأمر في متعلقه يستلزم بطبيعة الحال أخذ الأمر مفروض الوجود، لكونه خارجاً عن الاختيار، وعليه فيلزم محذور الدور، وذلك لأنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه ، وحيث إنّ الموضوع على الفرض هو نفس الأمر وهو متعلق لمتعلقه ، فطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه ، وهو محال .

فالنتيجة : أنّ أخذ داعي الأمر في متعلقه كالصلاة مثلاً يستلزم اتحاد الحكم والموضوع في مقام الجعل ، وتوقف الشيء على نفسه في مقام الفعلية ، وكلاهما مستحيل .

ــ[512]ــ

وقد خفي على بعض الأساطين (1) حيث قد أورد على شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بما حاصله : هو أنّ ما يؤخذ مفروض الوجود في مقام الجعل إنّما هو موضوعات التكاليف وقيودها ، لا قيود الواجب ، لوضوح أنّ قيود الواجب كالطهارة في الصلاة مثلاً واستقبال القبلة وما شاكلهما ، يجب تحصيلها على المكلف ، وذلك لأنّ الأمر المتعلق بالصلاة قد تعلّق بها مقيدةً بهذه القيود ، فكما يجب على المكلف تحصيل أجزائها يجب عليه تحصيل قيودها وشرائطها أيضاً .

وهذا بخلاف موضوعات التكاليف حيث إنّها قد اُخذت مفروضة الوجود في الخارج فلايجب على المكلف تحصيلها ولو كانت اختيارية كالاستطاعة بالاضافة إلى وجوب الحج وما شاكلها .

وبعد ذلك قال : إنّ قصد الأمر ليس من قيود الموضوع حتّى يؤخذ مفروض الوجود خارجاً ، بل هو قيد الواجـب وكان المكلف قادراً عليه ، فعندئذ حاله حال بقيّة قيود الواجب كالطهارة ونحوها فيجب تحصيله ولا معنى لأخذه مفروض الوجود .

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) أمّا ما أفاده من حيث الكبرى من أنّ قيود الواجب يجب تحصيلها دون قيود الموضوع ففي غاية الصحّة والمتانة، إلاّ أنّ المناقشة في كلامه إنّما هي في تطبيق تلك الكبرى على ما نحن فيه ، وذلك لأنّ المحقق النائيني (قدس سره) لم يدّع أنّ قصد الأمر من قيود الموضوع وأ نّه لابدّ من أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل حتّى يرد عليه الاشكال المزبور، بل إنّما يدّعي ذلك بالاضـافة إلى نفس الأمر المتعلق للقصد ، والمفروض أنّ الأمر خارج عن اختيار المكلف حيث إنّه فعل اختياري للمولى ، له أن يأمر

ـــــــــــــــــــــ
(1) مقالات الاُصول 1 : 237 .

ــ[513]ــ

بشيء ، وله أن لا يأمر ، وقد تقدّم أنّ ما هو خارج عن الاختيار لا يعقل أن يؤخذ قيداً للواجب ، لاسـتلزامه التكليف بغير المقـدور ، فلو اُخذ فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ، فإذن عاد المحذور المتقدم .

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الاشكال يقوم على أساس أن يكون قصد الأمر مأخوذاً مفروض الوجود ، ولكن عرفت أ نّه لا واقع موضوعي له .

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ لزوم أخذ القيد مفروض الوجود في القضيّة في مقام الانشاء إنّما يقوم على أساس أحد أمرين :

الأوّل : الظهور العرفي كما في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) فانّ المستفاد منه عرفاً هو لزوم الوفاء بالعقد على تقدير تحققه ووجوده في الخارج رغم كون العقد مقدوراً للمكلف . ومن هذا القبيل وجوب الوفاء بالنذر والشرط والعهد واليمين، ووجوب الانفاق على الزوجة، وما شاكل ذلك، حيث إنّ القيود المأخوذة في موضوعات هذه الأحكام رغم كونها اختيارية اُخذت مفروضة الوجود في مقام جعلها بمقتضى المتفاهم العرفي ، فانّ العرف يفهم أنّ النذر الذي هو موضوع لوجوب الوفاء قد اُخذ مفروض الوجود فلا يجب تحصيله، وهكذا الحال في غيره وهذا هو الغالب في القضايا الحقيقية .

الثاني : الحكم العقلي ، ومن الطبيعي أنّ العقل إنّما يحكم فيما إذا كان القيد خارجاً عن الاختيار ، حيث إنّ عدم أخذه مفروض الوجود يستلزم التكليف بالمحال كما في مثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(2) فان دخول الوقت حيث إنّه خارج عن قدرة المكلف واختياره ، لا مناص من

ـــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5 : 1 .
(2) الإسراء 17 : 78 .

ــ[514]ــ

أخذه مفروض الوجود في مقام الانشاء والخطاب ، وإلاّ لزم التكليف بغير المقدور ، وهو مستحيل .

فالنتيجة : أنّ أخذ القيد مفروض الوجود في مرحلة الجعل والانشاء إنّما يقوم على أساس أحد هذين الأمرين فلا ثالث لهما ، وأمّا في غير هذين الموردين فلا موجب لأخذه مفروض الوجود أصلاً ، ولا دليل على أنّ التكليف لا يكون فعلياً إلاّ بعد فرض وجوده في الخارج . ومن هنا قد التزمنا بفعلية الخطابات التحريمية قبل وجودات موضوعاتها بتمام القيود والشرائط فيما إذا كان المكلف قادراً على إيجادها . مثلاً التحريم الوارد على شرب الخمر فعلي وإن لم يوجد الخمر في الخارج إذا كان المكلف قادراً على إيجاده بايجاد مقدّماته، فلا تتوقف فعليته على وجود موضوعه .

والسرّ في ذلك : ما عرفت من أنّ الموجب لأخذ القيد مفروض الوجود إمّا الظهور العرفي ، أو الحكم العقلي ، وكلاهما منتف في أمثال المقام .
أمّا الأوّل ، فلأنّ العرف لا يفهم من مثل «لا تشرب الخمر» أنّ الخمر اُخذ مفروض الوجود في الخطاب بحيث تتوقف فعلية حرمة شربه على وجوده في الخارج فلا حرمة قبل وجوده ، بل المتفاهم العرفي من أمثال هذه القضايا هو فعلية حرمة الشرب مطلقاً وإن لم يكن الخمر موجوداً إذا كان المكلف قادراً على إيجاده بما له من المقدّمات ، وهذا بخلاف المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) كما عرفت .
وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض تمكن المكلف من إيجاده ، وفي مثله لا يحكم العقل بأخذه مفروض الوجود .

ـــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5 : 1 .

ــ[515]ــ

فالنتيجة : أنّ المناط في فعلية الخطابات التحريمية إنّما هو فعلية قدرة المكلف على متعـلقاتها إيجاداً وتركاً ولو بالقدرة على موضـوعاتها كذلك ، فمن كان متمكناً من شرب الخمر ولو بايجاده ، كانت حرمته فعلية في حقّه ، ومن كان متمكناً من تنجيس المسجد مثلاً ولو بايجاد النجاسة ، كانت حرمته كذلك فلا تتوقف على وجود موضوعه في الخارج ، ومن هنا لا ترجع تلك القضايا في أمثال هذه الموارد إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، حيث إنّ ترتب الأحكام فيها على موضوعاتها ليس كترتب الجزاء على الشرط .

وعلى ذلك تترتب ثمرة مهمّة في عدّة موارد وفروع وستأتي الاشارة إلى بعضها في ضمن البحوث الآتية (1) .

وبعد ذلك نقول : إنّ القيد فيما نحن فيه ـ وهو نفس الأمر ـ وإن كان خارجاً عن الاختيار ، إلاّ أنّ مجرد ذلك لا يوجب أخذه مفروض الوجود ، لما عرفت من الملاك الموجب لأخذ قيد كذلك إمّا الظهور العرفي أو الحكم العقلي ، وعندئذ فهل نرى أنّ الملاك لأخذه كذلك موجود هنا أم لا ؟

والتحقيق عدم وجوده ، أمّا الظهور العرفي فواضح ، حيث لا موضوع له فيما نحن فيه ، فانّ الكلام هنا إنّما هو في إمكان أخذ قصد الأمر في متعلقه بدون أخذه مفروض الوجود وعدم إمكانه ، ومن الطبيعي أ نّه لا صلة للعرف بهذه الناحية .

وأمّا الحكم العقلي فأيضاً كذلك، فلأنّ ملاكه هو أنّ القيد لو لم يؤخذ مفروض الوجود في مقام الانشاء لزم التكليف بما لا يطاق ، ومن المعلوم أ نّه لا يلزم من

ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 185 .

ــ[516]ــ

عدم أخذ الأمر مفروض الوجود ذلك ، والسبب فيه : أنّ الأمر الذي هو متعلق للداعي والقصد يتحقق بمجرد جعله وإنشائه ، ومن الطبيعي أنّ الأمر إذا تحقق ووجد أمكن للمكلف الاتيان بالمأمور به بقصد هذا الأمر وبداعيه ، ولا حاجة بعد ذلك إلى أخذه مفروض الوجود في مقام الانشاء .

وبكلمة واضحة : أنّ الأمر وإن كان خارجاً عن قدرة المكلف واختياره ، حيث إنّه فعل اختياري للمولى ، كما أ نّه لا يمكن للمكلف الاتيان بشيء بقصده بدون فرض تحققه ووجوده، إلاّ أنّ كل ذلك لايستدعي أخذه مفروض الوجود، والوجه في ذلك : هو أنّ المعـتبر في صحّة التكاليف إنّما هو قدرة المكلف على الاتيان بمتعلقاتها بكافّة الأجزاء والشرائط في مرحلة الامتثال ، وإن كان عاجزاً وغير قادر في مرحلة الجعل.

وعلى هذا الضوء فالمكلف وإن لم يكن قادراً على الاتيان بالصلاة مثلاً بداعي أمرها وبقصـده قبل إنشائه وجعله ، ولكنّه قادر على الاتيان بها كذلك بعد جعله وانشائه ، وقد عرفت كفاية ذلك وعدم المقتضي لاعتبار القدرة من حين الجعل، وعليه فلا مانع من تعلّق التكليف بالصلاة مع قصد أمرها ، لفرض تمكن المكلف من الاتيان بها كذلك في مقام الامتثال ، فإذن لا ملزم لأخذه مفروض الوجود ، فانّ الملزم لأخذه كذلك هو لزوم التكليف بالمحال وهو غير لازم في المقام .

ومن هنا يظهر أنّ الأمر يمتاز عن بقية القيود غير الاختيارية في نقطة ، وهي أ نّه يوجد بنفس الانشاء والجعل دون غيره ، ولأجله لا موجب لأخذه مفروض الوجود .

فالنتيجة : هي أ نّه لايلزم من أخذ قصد الأمر في متعلقه شيء من المحذورين السابقين ، حيث إنّ كليهما يرتكز على نقطة واحدة وهي أخذ الأمر مفروض

ــ[517]ــ

الوجود في مقام الانشاء ، وبانتفاء تلك النقطة انتفى المحذوران .

الوجه الثاني : ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) أيضاً من أنّ قصد الأمر والامتثال لو كان مأخوذاً في متعلق نفسه لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو مستحيل ، وذلك لأنّ القصد المزبور متأخر رتبة عن إتيان تمام أجزاء المأمور به وقيوده ، حيث إنّ قصد الأمر إنّما يكون بهما ، وبما أ نّنا فرضنا من جملة تلك الأجزاء والقيود نفس ذلك القصد الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذاك الأمر ، فلا بدّ وأن يكون المكلف في مقام امتثاله قاصداً للامتثال قبل قصد امتثاله ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه .

وإن شئت قلت : إنّ معنى قصد الامتثال هو الاتيان بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه الذي تعلّق التكليف به كذلك بقصد امتثـال أمره ، فلو اُخذ قصد الامتثال متعلقاً للتكليف لزم تقدّمه على نفسه ، فانّه باعتبار أخذه في متعلق التكليف لا بدّ أن يكون في مرتبة سابقة وهي مرتبة الأجزاء ، وباعتبار أ نّه لا بدّ من الاتيان بتمام الأجزاء والشرائط بقصد الامتثال لا بدّ أن يكون في مرتبة متأخرة عنها ، وهذا معنى تقدّم الشيء على نفسه .

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نصّه : إنّ التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره كان ممّا يعتبر في الطاعة عقلاً ، لا ممّا اُخذ في نفس العبادة شرعاً ، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً ، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها . وتوهم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 162 .

ــ[518]ــ

الأمر وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي ، ضرورة إمكان تصور الأمر بها مقيدة والتمكن من إتيانها كذلك بعد تعلّق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر ، واضح الفساد ، ضرورة أ نّه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ، إلاّ أ نّه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها ، لعدم الأمر بها ، فانّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيدةً بداعي الأمر ، ولا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره .

إن قلت : نعم ، ولكن نفس الصلاة أيضاً صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة .

قلت : كلا، لأنّ ذات المقيد لاتكون مأموراً بها، فانّ الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلاً ، فانّه ليس إلاّ وجود واحد واجب بالوجوب النفسي كما ربّما يأتي في باب المقدّمة .

إن قلت : نعم ، لكنّه إذا اُخذ قصد الامتثـال شرطاً ، وأمّا إذا اُخذ شطراً فلا محالة نفس الفعل الذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصـد يكون متعلقاً للوجوب ، إذ المركب ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر ويكون تعلّقه بكلٍّ بعين تعلّقه بالكل ، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب ، ضرورة صحّة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه .

قلت : مع امتناع اعتباره كذلك ، فانّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري ، فانّ الفعل وإن كان بالارادة اختيارياً إلاّ أنّ إرادته حيث لا تكون بارادة اُخرى وإلاّ لتسلسلت ليست باختيارية كما لا يخفى ، إنّما يصحّ الاتيان بجزء الواجب بداعي وجـوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره (1) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 72 .

ــ[519]ــ

ملخّص ما أفاده (قدس سره) : أنّ قصد الأمر حيث إنّه يكون متفرعاً على الأمر ومتأخراً عنه رتبـةً فلا يعقل أخذه في متعلّقه ، لاسـتلزامه تقدّم الشيء على نفسه ، وذلك لأنّ أخذه في متعلّقه مع فرض كونه ناشئاً عن حكمه معناه تقدّمه على نفسه وهو مستحيل . فإذن لا يمكن أخذه فيه شرعاً ، بل لا بدّ أن يكون اعتباره في العبادات بحكم العقل .

الوجه الرابع : ما ذكره شيخنا المحقق (قدس سره) من أنّ لازم تقييد المأمور به بداعي الأمر هو محذور لزوم عدمه من وجوده ، وذلك لأنّ أخذ الاتيان بداعي الأمر في متعلّق الأمر يقتضي اختصاص ما عداه بالأمر ، لما سمعت من أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به ، وهو مساوق لعدم أخذه فيه ، إذ لا معنى لأخذه فيه إلاّ تعلّق الأمر بالمجموع من الصلاة والاتيان بداعي الأمر، فيلزم من أخذه فيه عدم أخذه فيه ، وما يلزم من وجوده عدمه محال (1) .

الوجه الخامس : ما ذكره (قدس سره) أيضاً وإليك نصّه : إنّ الأجزاء بالأسر ليس لها إلاّ أمر واحد ، ولا لأمر واحد إلاّ دعوة واحدة ، فلا يكون الأمر داعياً إلى الجزء إلاّ بعين دعوته إلى الكل ، وحيث إنّ جعل الأمر داعياً إلى الصلاة مأخوذ في متعلق الأمر في عرض الصلاة ، فجعل الأمر المتعلق بالمجموع داعياً إلى الصلاة بجعل الأمر بالمجموع داعياً إلى المجموع ، ليتحقق الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة إلى المجموع ، مع أنّ من المجموع الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة إلى المجموع ، فيلزم دعوة الأمر إلى جعل نفسه داعياً ضمناً إلى الصلاة ومحركية الأمر لمحركية نفسه إلى الصلاة عين عليته لعلية نفسه ، ولا فرق بين علية الشيء لنفسه وعليته لعليته (2) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 327 .
(2) نهاية الدراية 1 : 331 .

ــ[520]ــ

توضيحه : هو أنّ الأمر المتعلق بالمركب حيث إنّه واحد فبطبيعة الحـال كانت له دعوة واحدة ، فليست دعوته إلى الاتيان بكل جزء إلاّ في ضمن دعوته إلى الكل لا على نحو الاستقلال ، وعلى هذا فإذا افترضنا أنّ دعوة الأمر قد اُخذت في متعلق نفسـه ، يعني أنّ المتعلق مركب من أمـرين : الفعل الخارجي كالصلاة مثلاً ، ودعوة أمرها ، فلا محالة الأمر المتعلق بالمجموع يدعو إلى كل جزء في ضمن دعوته إلى المجموع ، مثلاً دعوته إلى الصلاة في ضمن دعوته إلى المجموع وكذا دعوته إلى الجزء الآخر ، وبما أنّ الجزء الأخر هو دعوة شخص ذلك الأمر فيلزم من ذلك دعوة الأمر إلى دعوة نفسه إلى الصلاة ضمناً ، أي في ضمن الدعوة إلى المجموع ، وهذا معنى داعوية الأمر لداعوية نفسه المساوقة لعلية الشيء لعلية نفسه .

ولكن تندفع تلك الوجوه بأجمعها ببيان نكتة واحدة ، وتفصيل ذلك قد تقدّم في صدر المبحث (1) أنّ الواجب على قسمين : تعبّدي وهو ما يعتبر فيه قصد القربة فلا يصح بدونه . وتوصلي وهو ما لا يعتبر فيه قصد القربة فيصح بدونه ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : يمكن تصوير الواجب التبعدي على أنحاء :

الأوّل : أن يكون تعبدياً بكافة أجزائه وشرائطه .

الثاني : أن يكون تعبدياً بأجزائه مع بعض شرائطه .

الثالث : أن يكون تعبدياً ببعض أجزائه دون بعضها الآخر .

أمّا النحو الأوّل ، فالظاهر أ نّه لا مصداق له خارجاً ولا يتعدى عن مرحلة التصور إلى الواقع الموضوعي .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 509 .

 
 

ــ[521]ــ

وأمّا النحو الثاني ، فهو واقع كثيراً في الخارج ، حيث إنّ أغلب العبادات الواقعة في الشريعة المقدّسة الاسلامية من هذا النحو ، منها الصلاة مثلاً ، فانّ أجزاءها بأجمعها أجزاء عبادية . وأمّا شرائطها فجملة كثيرة منها غير عبادية ، وذلك كطهارة البدن والثياب واستقبال القبلة وما شاكل ذلك ، فانّها رغم كونها شرائط للصلاة تكون توصلية وتسقط عن المكلف بدون قصد التقرب . نعم ، الطهارات الثلاث خاصّة تعبدية فلا تصح بدونه .

وأضف إلى ذلك : أنّ تقييد الصلاة بتلك القيود أيضاً لا يكون عبادياً ، فلو صلّى المكلف غافلاً عن طهارة ثوبه أو بدنه ثمّ انكشف كونه طاهراً صحّت صلاته مع أنّ المكلف غير قاصد للتقيد فضلاً عن قصد التقرب به ، فلو كان أمراً عبادياً لوقع فاسداً، لانتفاء القربة به ، بل الأمر في التقيد بالطهارات الثلاث أيضاً كذلك ، ومن هـنا لو صلّى غافـلاً عن الطهارة الحـدثية ثمّ بان أ نّه كان واجداً لها صحّت صلاته ، مع أ نّه غير قاصد لتقيدها بها فضلاً عن إتيانه بقصد القربة ، هذا ظاهر .

وأمّا النحو الثالث ، وهو ما يكون بعض أجزائه تعبدياً وبعضها الآخر توصلياً ، فهو أمر ممكن في نفسه ولا مانع منه ، إلاّ أ نّا لم نجد لذلك مصداقاً في الواجبات التعبدية الأوّلية كالصلاة والصوم وما شاكلهما ، حيث إنّها واجبات تعبدية بكافّة أجزائها .

ولكن يمكن فرض وجوده في الواجبات العرضية ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ واحداً مثلاً نذر بصيغة شرعية الصلاة مع إعطاء درهم لفقير على نحو العموم المجموعي بحيث يكون المجموع بما هو المجموع واجباً ، وكان كل منهما جزء الواجب ، فعندئذ بطبيعة الحال يكون مثل هذا الواجب مركباً من جزأين : أحدهما تعبدي وهو الصلاة . وثانيهما توصلي وهو إعطاء الدرهم . وكذلك يمكن

ــ[522]ــ

وجوب مثل هذا المركب بعهد أو يمين أو شرط في ضمن عقد أو نحو ذلك .

فالنتيجة : أ نّه لا مانع من الالتزام بهذا القسم من الواجب التعبدي إذا ساعدنا الدليل عليه ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ الأمر المتعلق بالمركب من عدّة اُمور فبطبيعة الحال ينحل بحسب التحليل إلى الأمر بأجزائه وينبسط على المجموع ، فيكون كل جزء منه متعلقاً لأمر ضمني ومأموراً به بذلك الأمر الضمني ، مثلاً الأمر المتعلق بالصلاة ينحل بحسب الواقع إلى الأمر بكل جزء منها ويكون لكل منها حصّة منه المعبّر عنها بالأمر الضمني ، ومردّ ذلك إلى انحلال الأمر الاستقلالي إلى عدّة أوامر ضمنية حسب تعدد الأجزاء .

ولكن هذا الأمر الضمني الثابت للأجزاء لم يثبت لها على نحو الاطلاق ، مثلاً الأمر الضمني المتعلق بالتكبيرة لم يتعلق بها على نحو الاطلاق ، بل تعلّق بحصّة خاصّة منها وهي ما كانت ملحوقة بالقراءة، وكذا الأمر الضمني المتعلق بالقراءة فانّه إنّما تعلّق بحصّة خاصّة منها وهي ما كانت ملحوقة بالركوع ومسبوقة بالتكبيرة ، وكذلك الحال في الركوع والسجود ونحوهما .

وعلى ضوء ذلك يترتب أنّ المكلف لا يتمكن من الاتيان بالتكبيرة مثلاً بقصد أمرها بدون قصد الاتيان بالأجزاء الباقية ، كما لا يتمكن من الاتيان بركعة مثلاً بدون قصد الاتيان ببقية الركعات ، وإن شئت قلت : إنّ الأمر الضمني المتعلق بالأجزاء يتشعب من الأمر بالكل ، وليس أمراً مستقلاً في مقابله ، ولذا لا يعقل بقاؤه مع انتفائه . ومن المعلوم أنّ الأمر المتعلق بالكل يدعو المكلف إلى الاتيان بجميع الأجزاء ، لا إلى الاتيان بجزء منها مطلقاً ولو لم يأت بالأجـزاء الباقية ، هذا إذا كان الواجب مركباً من جزأين أو أزيد وكان كل جزء أجنبياً عن غيره وجوداً وفي عرض الآخر .

ــ[523]ــ

وأمّا إذا كان الواجب مركـباً من الفعل الخارجي وقصد أمره الضـمني ، كالتكبيرة مثلاً إذا افترضنا أنّ الشارع أمر بها مع قصد أمرها الضمني ، فلا إشكال في تحقق الواجب بكلا جزأيه وسقوط أمره إذا أتى المكلف به بقصـد أمره كذلك ، أمّا الفعل الخـارجي فواضح ، لفرض أنّ المكلف أتى به بقصـد الامتثال ، وأمّا قصد الأمر فأيضاً كذلك ، لأنّ تحققه وسقوط أمره لا يحتاج إلى قصد امتثاله ، لفرض أ نّه توصلي .

وبكلمة اُخرى : أنّ الواجب في مثل الفرض مركب من جزء خارجي وجزء ذهني وهو قصد الأمر ، وقد تقدّم أنّ الأمر المتعلق بالمركب ينحل إلى الأمر بكل جزء جزء منه ، وعليه فكل من الجزء الخارجي والجزء الذهني متعلق للأمر الضمني ، غايته أنّ الأمر الضمني المتعلق بالجزء الخارجي تعبدي فيحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله ، والأمر الضمني المتعلق بالجزء الذهني توصلي فلا يحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : قد سبق أ نّه لا محذور في أن يكون الواجب مركباً من جزء تعبدي وجزء توصلي .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أ نّه لا مانع من أن يكون مثل الصلاة أو ما شاكلها مركباً من هذه الأجزاء الخارجية مع قصد أمرها الضمني ، وعليه فبطبيعة الحال الأمر المتعلق بها ينحل إلى الأمر بتلك الأجزاء وبقصد أمرها كذلك ، فيكون كل منها متعلقاً لأمر ضمني ، فعندئذ إذا أتى المكلف بها بقصد أمرها الضمني فقد تحقق الواجب وسقط . وقد عرفت أنّ الأمر الضمني المتعلق بقصد الأمر توصلي فلا يتوقف سقوطه على الاتيان به بقصد امتثال أمره .

ومن هنا يفترق هذا الجزء وهو قصد الأمر عن غيره من الأجزاء الخارجية،

ــ[524]ــ

فانّ قصد الأمر الضمني في المقام محقق لتمامية المركب فلا حالة منتظرة له بعد ذلك ، وهذا بخلاف غيره من الأجزاء الخارجية فانّه لا يمكن الاتيان بجزء بقصد أمره إلاّ مع قصد الاتيان ببقية أجزاء المركب أيضاً بداعي امتثال أمره . مثلاً لا يمكن الاتيان بالتكبيرة بقصد أمرها إلاّ مع قصد الاتيان ببقية أجزاء الصلاة أيضاً بداعي امتثال أمرها ، وإلاّ لكان الاتيان بها كذلك تشريعاً محرّماً ، لفرض عدم الأمر بها إلاّ مرتبطة ببقية الأجزاء ثبوتاً وسقوطاً .

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ توهم استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه يقوم على أساس أحد أمرين :

الأوّل : أخذ الأمر مفروض الوجود في مقام الجعل والانشاء ، ولكن قد تقدّم نقده بشكل موسّع .

الثاني : أن يكون المأخوذ في متعلقه قصد الأمر الاستقلالي ، بمعنى أن يكون الواجب مركباً من الفعل الخارجي وقصد الأمر كذلك ، وهذا غير معقول ، وذلك لأنّ الفعل الخارجي مع فرض كونه جزء الواجب لا يعقل له الأمر الاستقلالي ، ليكون الأمر متعلقاً به مع قصد ذاك الأمر له ، ضرورة أنّ الأمر المتعلق به في هذا الفرض لا يمكن إلاّ الأمر الضمني ، ففرض الأمر الاستقلالي له خلف ، يعني يلزم من فرض تركب الواجب عدمه . ولكن قد عرفت ممّا ذكرناه أ نّه لا واقع موضوعي لهذا التوهم أصلاً ، حيث إنّ المأخوذ في متعلقه على ما بينّاه هو قصد الأمر الضمني المتعلق به ، ولا مانع من أن يكون الواجب مركباً منهما ، غاية ما يمكن أن يقال إنّ لازم ذلك هو أن يكون أحد الأمرين الضمنيين متأخراً عن الآخر رتبة ، فانّ الأمر الضمني المتعلق بالفعل المزبور مقدّم رتبةً عن الأمر الضمني المتعلق بقصده ، وهذا لا محذور فيه أصلاً بعد القول بالانحلال .

ــ[525]ــ

وعلى ضوء هذا الأساس يظهر اندفاع جميع الوجوه المتقدمة :

أمّا الوجه الأوّل : فهو يبتني على أن يكون المأخوذ في متعلق الأمر هو قصد الأمر الاستقلالي ، وأمّا إذا كان المأخوذ فيه هو قصد الأمر الضمني كما هو الصحيح فلا يلزم المحذور المزبور ، وذلك لأنّ قصد الأمر الضمني في كل جزء إنّما هو متأخر عن هذا الجزء لا عن جميع الأجزاء والشرائط ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : قد تقدّم في مبحث الصحيح والأعم (1) أ نّه لا مانع من أن يكون الواجب مركباً من جزأين طوليين ، ومن لحاظهما شيئاً واحداً وجعلهما متعلقاً لأمر واحد ، وما نحن فيه من هذا القبيل . فالنتيجة أنّ هذا الوجه ساقط على ضوء ما قدّمناه .

وأمّا الوجه الثاني : فهو أيضاً يقوم على أساس أن يكون المأخوذ في متعلق الأمر كالصلاة مثلاً هو قصد الأمر النفسي الاستقلالي، فعندئذ لايتمكّن المكلف من الاتيان بها واجدة لتمام الأجزاء والشرائط منها قصد الأمر الاستقلالي إلاّ تشريعاً حيث لا أمر بها كذلك لفرض أ نّها جزء الواجب والأمر المتعلق بالجزء لا يعقل أن يكون أمراً استقلالياً وإلاّ لزم الخلف ، بل لا بدّ أن يكون أمراً ضمنياً . وأمّا إذا افترضنا أنّ المأخوذ فيه هو قصد الأمر الضمني فلا يلزم ذلك المحذور ، لتمكن المكلف وقتئذ من الاتيان بالصلاة مع قصد أمرها الضمني ، وبذلك يتحقق المركب بكلا جزأيه .

وبكلمة اُخرى : أنّ المكلف وإن لم يتمكن من الاتيان بها بداعي أمرها قبل إنشائه وفي ظرفه ، إلاّ أ نّه متمكن منه كذلك في ظرف الامتثال ، وقد أشرنا أنّ المعتبر في باب التكاليف إنّما هو القدرة على امتثالها في هذا الظرف دون ظرف

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 157 .

ــ[526]ــ

الانشاء ، فلو افترضنا أنّ المكلف غير متمكن في ظرف الانشاء ، ولكنّه متمكن في ظرف الامتثال صحّ تكليفه .

فالنتيجة : أنّ التشريع يقوم على أساس أن يكون المأخوذ في المتعلق هو داعوية الأمر النفسي الاستقلالي . وعدم القدرة يقوم على أساس أن يكون المعتبر هو القدرة على متعلقات الأحكام من حين الأمر ، وقد عرفت أ نّه لا واقع موضوعي لكلا الأمرين . فإذن لا يلزم من أخذه في المتعلق [ شيء ] من المحذورين المزبورين كما هو واضح .

وأمّا الوجه الثالث : فلأ نّه أيضاً مبتن على أن يكون المأخوذ في المتعلق هو قصد الأمر النفسي الاستقلالي ، فعندئذ بطبيعة الحال يلزم من فرض وجوده عدمه ، وذلك لأنّ معنى أخذ داعوية الأمر بالصلاة في متعلقه هو أنّ الصلاة جزء الواجب ، فإذا كانت جزء الواجب فلا محالة الأمر المتعلق بها ضمني لا استقلالي، فإذن يلزم من وجوده عدمه وهو محال ، ولكن قد عرفت أنّ المأخوذ فيه إنّما هو قصد الأمر الضمني ، وعليه فلا موضوع لهذا الوجه كما هو واضح .

وأمّا الوجه الرابع : فلأ نّه يقوم على أساس أن يكون ما اُخذ داعويته في متعلق الأمر كالصلاة مثلاً عين ما يدعو إليه ، فعندئذ بطبيعة الحال يلزم داعوية الأمر لداعوية نفسه .

ولكن قد ظهر من ضوء ما حققناه أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ المأخوذ في المتعلق إنّما هو داعوية الأمر الضمني ، وما يدعو إلى داعويته إنّما هو أمر ضمني آخر ، ومن الطبيعي أ نّه لا مانع من أن يكون أحد أمرين متعلقاً لأمر آخر ويدعو إلى داعويته ، بداهة أ نّه لا يلزم من ذلك داعوية الأمر لداعوية نفسه ، بيان ذلك: أنّ الأمر المتعلق بالصلاة مثلاً مع داعوية أمرها الضمني بطبيعة الحال ينحل ذلك الأمر إلى أمرين ضمنيين : أحدهما متعلق بذات الصلاة. والآخر متعلق

ــ[527]ــ

بداعوية هذا الأمر ، يعني الأمر المتعلق بذات الصلاة ، ولا محذور في أن يكون الأمر الضمني يدعو إلى داعوية الأمر الضمني الآخر، كما أ نّه لا مانع من أن يكون الأمر النفسي الاستقلالي يدعو إلى داعوية الأمر النفسي الآخر كذلك . نعم ، لو كان المأخوذ فيه الأمر النفسي الاستقلالي لزم داعوية الأمر لداعوية نفسه .

قد انتهينا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة : وهي أ نّه لا محذور في أخذ داعوية الأمر الضمني في متعلق الأمر النفسي الاستقلالي .

لا من ناحية التشريع لابتنائه على عدم الأمر بذات الفعل الخارجي كالصلاة مثلاً ، ولكن قد عرفت خلافه وأنّ الأمر الاستقلالي بها وإن كان منتفياً إلاّ أنّ الأمر الضمني موجود .

ولا من ناحية عدم القدرة لابتنائه على اعتبار القدرة على متعلقات التكاليف من حين الأمر وقد عرفت نقده . ولا من ناحية الخلف ، لابتنائه على أن يكون المأخوذ فيه داعوية الأمر الاستقلالي ولكن قد سبق خلافه .

ولا من ناحية داعوية الأمر لداعوية نفسه ، لابتنائه على أن يكون الأمر المتعلق بالصلاة مع داعوية أمرها عين ذلك الأمر ، ولكن قد مرّ خلافه وأنّ الأمر المتعلق بالمجموع حيث إنّه ينحل إلى أمرين ضمنيين فلا مانع من أن يكون أحد الأمرين متعلقاً للآخر ، ولا يلزم من ذلك المحذور المذكور .

وإن شئت قلت : إنّ هذا المركب يمتاز عن بقية المركبات في نقطتين :

الاُولى : أنّ الاتيان بجزء في بقية المركبات لا يمكن بداعي أمره الضمني إلاّ في ضمن الاتيان بالمجموع وإلاّ لكان تشريعاً محرّماً . وأمّا الاتيان به في هذا المركب بقصد أمره الضمني فلا مانع منه ، بل هو موجب لسقوط الأمر عنه ، لفرض أنّ المركب تحقق به بكلا جزأيه ، ولا يتوقف تحقق جزئه الآخر ـ وهو قصد الأمر ـ على قصد امتثال أمره ، لما عرفت من أنّ الأمر المتعلق به توصلي

ــ[528]ــ

ولا معنى لكونه تعبدياً .

الثانية : أنّ الأوامر الضمنية في بقية المركبات أوامر عرضية فلا يكون شيء منها في طول الآخر ، وأمّا في هذا المركب فهي أوامر طولية ، فانّ الأمر الضمني المتعلق بذات الصلاة مثلاً في مرتبة متقدمة بالاضافة إلى الأمر الضمني المتعلق به ، وهو في طوله وفي مرتبة متأخرة عنه ، ولذا جعله داعياً إلى الصلاة .

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه : أ نّه لا مانع من أخذ قصد الأمر في متعلقه في مقام الثبوت . وأمّا في مقام الاثبات فان كان هنا دليل يدلّنا على أخذه فيه فهو وإلاّ فمقتضى الاطلاق عدم أخذه وكون الواجب توصلياً .

فالنتيجة في نهاية الشوط : عدم تمامية الدعوى الاُولى وهي استحالة تقييد الواجب بقصد أمره .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net