القول بأنّ مقتضى الأصل اللفظي هو التعبدية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4442


ولكن ذهب جماعة إلى أنّ مقتضى الأصل اللفـظي عند الشك في تعبّدية واجب وتوصليته هو كونه تعبّدياً ، فالتوصلية تحتاج إلى دليل وبيان زائد واستدلّوا على ذلك بعدّة وجوه :

الأوّل : لا شبهة في أنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل أو الترك ، حيث إنّه فعل اختياري للمولى ، ومن الطبيعي أنّ الفعل الاختياري لا يصدر من الفاعل المختار إلاّ بداع من الدواعي ، والداعي من الأمر إنّما هو تحريك المكلف نحو الفعل المأمور به وبعثه إليه بايجاد الداعي في نفسه ليصدر الفعل منه خارجاً .

أو فقل : إنّ المكلف قبل ورود الأمر من المولى بشيء كان مخيّراً بين فعله وتركه فلا داعي له لا إلى هذا ولا إلى ذاك ، وإذا ورد الأمر من المولى به متوجهاً إليه صار داعياً له إلى فعله ، حيث إنّ الغرض منه ذلك أي كونه داعياً ، وعليه فإن أتى المكلف به بداعي أمره فقد حصل الغرض منه وسقط الأمر ، وإلاّ فلا . فإذا كان الأمر كذلك فبطبيعة الحال يستقل العقل بلزوم الاتيان بالمأمور به بداعي الأمر تحصيلاً للغرض ، وهذا معنى أنّ الأصل في كل واجب ثبت في الشريعة المقدّسة هو كونه تعبدياً إلاّ أن يقوم دليل من الخارج على توصليته .

ولنأخذ بالنقد عليه :

ــ[548]ــ

أمّا أوّلاً : فلأنّ الغرض من الأمر يستحيل أن يكون داعويته إلى إيجاد المأمور به في الخارج ومحركيته نحوه ، ضرورة أنّ ما هو غرض منه لا بدّ أن يكون مترتباً عليه دائماً في الخـارج ولا يتخلف عنه ، ومن الطبيعي أنّ وجود المأمور به في الخارج فضلاً عن كون الأمر داعياً إليه ربّما يكون وربّما لا يكون ، وعليه فكيف يمكن أن يقال : إنّ الغرض من الأمر إنّما هو جعل الداعي إلى المأمور به ، فإذن لا مناص من القول بكون الغرض من الأمر هو إمكان داعويته نحو الفعل المأمور به على تقدير وصوله إلى المكلف وعلمه به ، وهذا لا يتخلف عن طبيعي الأمر فلا معنى عندئذ لوجوب تحصيله على المكلف ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ هذا الغرض مشترك فيه بين الواجبات التعبدية والتوصلية فلا فرق بينهما من هذه الناحية، وأجنبي عن التعبدية بالمعنى المبحوث عنه في المقام .

وأمّا ثانياً : فلو سلّمنا أنّ غرض المولى من أمره ذلك ، إلاّ أ نّه لا يجب على العبد تحصيله ، ضرورة أنّ الواجب عليه بحكم العقل إنّما هو تحصيل غرضه المترتب على وجود المأمور به في الخارج دون غرضه المترتب على أمره على أ نّه طريق محض إلى ما هو الغرض من المأمور به فلا موضوعية له في مقابله أصلاً كي يجب تحصيله . وقد عرفت أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب الاتيان بالمأمور به خارجاً وإطاعة ما تعلّق به الأمر وتحصيل غرضه دون غيره . وعلى هذا حيث إنّ المأمور به مطلق وغير مقيّد بداعي القربة فلا يحكم العقل إلاّ بوجوب إتيانه كذلك .

وأضف إليه : أنّ هذا الغرض لايكون نقطة امتياز بين التعبديات والتوصليات ، لاشتراكهما فيه وعدم الفرق بينهما في ذلك أصلاً .

ــ[549]ــ

فالنتيجة : أنّ هذا الغرض أجنبي عن اعتبار قصد القربة في متعلق الأمر ، فإذن لا يبقى مجال للاستدلال بهذا الوجه على أصالة التعبدية .

والحاصل: أنّ هذا الوجه خاطئ بحسب الصغرى والكبرى فلاواقع موضوعي له .

الثاني : بعدّة من الروايات : منها قوله (عليه السلام) : «إنّما الأعمال بالنيّات»(1) وقوله (عليه السلام) : «لكل امرئ ما نوى» (2) ببيان أنّ كل عمل إذا خلا عن نيّة التقرب فلا عمل ولا أثر له إلاّ أن يقوم دليل من الخارج على وجود أثر له ، وعليه فمقتضى هذه الرواية هو أنّ كل عمل ورد الأمر به في الشريعة المقدّسة لزم الاتيـان به بنيّة التقرب إلاّ ما قام الدليل على عدم اعتباره ، وهذا معنى أصالة التعبدية في الواجبات .

ولنأخذ بالمناقشة عليه : وهي أنّ هذه الروايات لا تدل بوجه على اعتبار نيّة القربة في كل فعل من الأفعال الواجبة في الشريعة المقدّسة إلاّ ما قام الدليل على عدم اعتباره ، وذلك لأنّ مفادها هو أنّ الغاية القصوى من الأعمال الواجبة لا تترتب عليها إلاّ مع النيّات الحسنة لا بدونها ، فإذا أتى المكلف بعمل فان قصد به وجه الله تعالى تترتب عليه المثوبة ، وإن لم يقصد به وجه الله سبحانه بل قصد به أمراً دنيوياً ترتب عليه ذلك الأمر الدنيوي دون الثواب .

ولا يكون مفادها فساد العمل وعدم سقوط الأمر ، فلو جاء المكلف بدفن الميت مثلاً ، فان أراد به وجه الله تعالى اُثيب عليه ، وإلاّ فلا وإن سقط الأمر عنه بذلك وفرغت ذمّته .

ـــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) الوسائل 1 : 48 / أبواب مقدّمة العبادات ب 5 ح 10 .

ــ[550]ــ

وقد صرّح بذلك في بعض هذه الروايات كقوله (عليه السلام) : «إنّ المجاهد إن جاهد لله تعـالى فالعمل له تعالى ، وإن جاهـد لطلب المال والدنيا فله ما نوى» (1) . وإليه أشار أيضاً قوله تعالى (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ا لاْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)(2) .

والحاصل : أنّ الروايات ناظرة إلى أ نّه يصل لكل عامل من الأجر حسب ما نواه من الدنيوي أو الاُخروي .

وبكلمة اُخرى : الكلام تارةً يقع في ترتب الثواب على الواجب وعدم ترتبه عليه . واُخرى يقع في صحّته وفساده . وهذه الروايات ناظرة إلى المورد الأوّل ، وأنّ ترتب الثواب على الأعمال الواجبة منوط باتيانها لوجه الله تعالى ، بداهة أ نّه لو لم يأت بها بهذا الوجه فلا معنى لاستحقاقه الثواب . وليس لها نظر إلى المورد الثاني أصلاً ، وكلامنا في المقام إنّما هو في هذا المورد وأنّ قصد القربة هل هو معتبر في صحّة كل واجب إلاّ ما خرج بالدليل أم لا ، وتلك الروايات لا تدل على ذلك .

هذا ، مضافاً إلى أ نّها لو كانت ظاهرة في ذلك فلا بدّ من رفع اليد عن ظهورها وحملها على ما ذكرناه ، وذلك للزوم تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، حيث إنّ أكثر الواجبات في الشريعة الاسلامية واجبات توصلية لا يعتبر فيها قصد القربة ، فالواجبات التعبدية قليلة جداً بالاضافة إليها ، ومن الواضح أنّ تخصيص الأكثر مستهجن فلا يمكن ارتكابه .

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 1 : 48 / أبواب مقدّمة العبادات ب 5 ح 10 (نقل بالمضمون) .
(2) آل عمران 3 : 145 .

ــ[551]ــ

فالنتيجة : أنّ هذه الروايات ولو بضمائم خارجية ناظرة إلى أنّ الغاية القصوى من الواجبات الإلهية ـ وهو وصول الانسان إلى درجة راقيـة من الكمالات واستحقاقه لدخول الجنّة وحور العين وما شاكل ذلك ـ لا تترتب إلاّ باتيانها خالصةً لوجه الله تعالى ، وليست ناظرةً إلى اعتبارها في الصحّة وعدم استحقاق العقاب .

الثالث : بقوله سبحانه وتعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(1) ببيان أنّ الآية الكريمة واضحة الدلالة على حصر الأوامر الصادرة منه (سبحانه وتعالى) بالأوامر العبادية ، وتدل على لزوم الاتيان بمتعلقاتها عبادةً وخالصةً وهي نيّة القربة . أو فقل : إنّ الآية تدل على حصر الواجبات الإلهية بالعبادات ، وعليه فان قام دليل خاص على كون الواجب توصلياً فهو ، وإلاّ فالمتبع هو عموم الآية، وهذا معنى كون الأصل في الواجبات التعبدية، فالتوصّلية تحتاج إلى دليل .

وفيه : أنّ الاستدلال بظاهر هذه الآية الكريمة وإن كان أولى من الاستدلال بالروايات المتقدمة، إلاّ أ نّه لايمكن الالتزام بهذا الظاهر ، وذلك من ناحية وجود قرينة داخلية وخارجية .

أمّا القرينة الداخلية : فهي ورودها في سياق قوله تعالى (لَمْ يَكُنِ ا لَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ ا لْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ ا لْبَيِّنَةُ)(2) حيث يستفاد من هذا أنّ الله (عزّ وجلّ) في مقام حصر العبادة بعبادة الله تعالى ، وليس في

ـــــــــــــــــــــ
(1) البيّنة 98 : 5 .
(2) البيّنة 98 : 1 .

ــ[552]ــ

مقام حصر أنّ كل أمر ورد في الشريعة المقدّسة عبادي إلاّ فيما قام الدليل على الخلاف، فالآية في مقام تعيين المعبود وقصر العبادة عليه ردّاً على الكفار والمشركين الذين عبدوا الأصـنام والأوثان وغير ذلك حيث لا سلطان ولا بيّنة لهم على ذلك ، فلو طلب منهم البيّنة فقالوا : إنّا وجدنا آباءنا على ذلك ، لا في مقام بيان حال الأوامر وأ نّها عبادية . فالنتيجة أنّ الآية المباركة بقرينة صدرها في مقام حصر العبادة بعبادته تعالى لا بصدد حصر الواجبات بالواجبات العبادية . فحاصل معنى الآية هو أنّ الله تعالى إذا أمر بعبادة أمر بعبادة له لا لغيره ، وهذا المعنى أجنبي عن المدّعى .

وأمّا القرينة الخارجية: فهي لزوم تخصيص الأكثر، حيث إنّ أغلب الواجبات في الشريعة المقدّسة توصلية، والواجبات التعبدية قليلة جداً بالنسبة إليها ، وحيث إنّ تخصيص الأكثر مستهجن فهو قرينة على عدم إرادة ما هو ظاهرها .

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ مقتضى الأصل اللفظي في موارد الشك في التعبدية والتوصلية هو التوصلية ، فالتعبدية تحتاج إلى دليل خاص .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net