تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحدوث والبقاء 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7610


الثاني : ما عن جماعة من المتأخرين منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) من أنّ سقوط اللفظ عن الحجية بالاضافة إلى مدلوله المطابقي لا يستلزم سقوطه عنها بالاضافة إلى مدلوله الالتزامي، إذ الضرورة تتقدر بقدرها، وهي تقتضي سقوط الدلالة المطابقية فحسب. إذن فلا موجب لرفع اليد عن الدلالة الالتزامية.
وبعبارة واضحة: أنّ الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية في مقام الثبوت والاثبات، إلاّ أ نّها ليست تابعة لها في الحجية، والوجه في ذلك: هو أنّ ظهور اللّفظ في معناه المطابقي غير ظهوره في معناه الالتزامي، وكل واحد من الظهـورين حجة في نفسه بمقتضى أدلة الحجية، ولا يجـوز رفع اليد عن حجية كل واحد منهما بلا موجب ومقتض، وعليه فإذا سقط ظهور اللفظ في معناه المطابقي عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى على خلافه، فلا وجه لرفع اليد عن ظهوره في معناه الالتزامي، لعدم المانع منه أصلاً.

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 26.

ــ[363]ــ

ونظير ذلك ما ذكرناه من أ نّه إذا ورد عام مجموعي كقولنا: أكرم عشرة من العلماء، ثمّ ورد دليل خاص كقولنا: لا تكرم أربعة منهم، فلا شبهة في تخصيص الدليل الأوّل بالثاني بالاضافة إلى هؤلاء الأربعـة، ورفع اليد عن ظهوره بالاضافة إلى وجوب إكرام المجموع، ولكنّه مع ذلك لا ترفع اليد عن وجوب إكرام الباقي، مع أنّ الدلالة التضمنية كالدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في مقام الثبوت والاثبات.
والسر فيه: أنّ ظهور اللفظ في معناه المطابقي كما يغاير ظهوره في معناه الالتزامي، كذلك يغاير ظهوره في معناه التضمني، وكل واحد من هذه الظواهر قد ثبت اعتبارها بمقتضى أدلة الحجية، وعندئذ فإذا سقط ظهور اللّفظ في معناه المطابقي عن الحجية من جهة وجود مانع يختص به، لا يلزم منه سقوط ظهوره عن الحجية بالاضافة إلى مدلوله الالتزامي أو التضمني، لعدم مانع بالقـياس إليه، إذن كان رفع اليد عنه عند سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بلا موجب، وهو غير جائز.
وعلى الجملة : بعد ما فرضنا أنّ كلاً من تلك الظواهر حجة في نفسه، فرفع اليد عن كل واحد منها منوط بقـيام حجة أقوى على خلافه، ولذلك كان الساقط في المثال المزبور خصوص الدلالة المطابقية من جهة قيام حجة أقوى على خلافها، دون الدلالة التضمنية.
وبعد ذلك نقول: بما أنّ الأمر في المقام قد تعلّق بفعل غير مقيد بحصة خاصة ـ وهي الحصة المقدورة ـ فهو كما يدل على وجوبه مطلقاً كذلك يدل على كونه ذا ملاك كذلك، بناءً على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين، غاية الأمر أنّ دلالته على وجوبه دلالة بالمطابقة، وعلى كونه ذا ملاك دلالة بالالتزام، وهذه الدلالة بناءً على مسلك العدلية لازمة لدلالة كل

ــ[364]ــ

دليل دلّ على وجوب شيء أو حرمته أو كراهة شيء أو استحبابه، وعليه فإذا تعلّق الأمر بفعل غير مقيد بالقدرة في مقام الاثبات كشف ذلك عن وجوبه بالدلالة المطابقية، وعن كونه ذا ملاك بالدلالة الالتزامية، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لحكم العقل باعتبار القدرة في فعلية التكليف، لم تسقط الدلالة الالتزامية عن الحجية.
أو فقل: إنّ اللاّزم وإن كان تابعاً للملزوم في مقام الثبوت والاثبات، إلاّ أ نّه ليس تابعاً له في مقام الحجية، والوجه فيه: هو أنّ الإخبار عن الملزوم ينحل إلى إخبارين، أحدهما: إخبار عن الملزوم، والآخر: إخبار عن اللاّزم، ودليل الاعتبار يدل على اعتبار كليهما معاً، وعندئذ إذا سقط الإخبار عن الملزوم عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى على خلافه فلا وجه لرفع اليد عن الإخبار عن اللاّزم، لعدم المانع له أصلاً. وفيما نحن فيه وإن كان كشف الأمر عن وجود ملاك في فعل تابعاً لكشفه عن وجوبه في مقام الاثبات والدلالة، إلاّ أ نّه ليس تابعاً له في مقام الحجية، فان حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار إنّما يصلح للتقييد بالقياس إلى الدلالة المطابقية فيوجب رفع اليد عنها دون الدلالة الالتزامية، ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقها أصلاً، إذ المفروض أنّ كل واحد من الظهورين حجة في نفسه، فرفع اليد عن أحدهما لمانع لا يوجب رفع اليد عن الآخر، فانّ رفع اليد عنه بلا مقتض وسبب.
ونتيجة ذلك عدة اُمور:
الأوّل: أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً لا بقاءً.
الثاني: أنّ الملاك قائم بالجامع بين الحصة المقدورة وغيرها، ولازم ذلك صحة الفرد المزاحم، فانّ الصغرى ـ وهي كونه تامّ الملاك ـ محرزة، والكبرى

ــ[365]ــ

ـ وهي كفاية قصد الملاك في وقوع الشيء عبادة ـ ثابتة، فالنتيجة من ضم إحداهما إلى الاُخرى هي ذلك.
الثالث: اختصاص الوجوب بخصوص الحصة المقدورة من جهة حكم العقل باعتبار القدرة في متعلقه، أو من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك.
الرابع: أنّ الملاك تابع للارادة الانشائية المتعلقة بفعل، دون الارادة الجدية، فانّها قد تخالف الاُولى كما في المقام، فانّ الارادة الانشائية تعلقت بالجامع، والارادة الجدية تعلقت بحصة خاصة منه، وهي الحصة المقدورة.
والجواب عن ذلك نقضاً وحلاً، أمّا نقضاً فبعدّة من الموارد:
الأوّل : ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب مثلاً، ثمّ علمنا من الخارج بكذب البينة، أو عدم ملاقاة الثوب للبول، ولكن احتملنا نجاسته من جهة اُخرى، كملاقاته للدم مثلاً أو نحوه، فحينئذ هل يمكن الحكم بنجاسة الثوب من جهة البينة المذكورة، بدعوى أنّ الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول إخبار عن نجاسته بالدلالة الالتزامية، لأنّ نجاسته لازمة لملاقاته للبول، وبعد سقوط البينة عن الحجية بالاضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة مانع، لا موجب لسقوطها بالاضافة إلى الدلالة الالتزامية، لعدم المانع عنها أصلاً، ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتّى من يدعي بأنّ سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها، وهذا واضح جداً.
الثاني : ما إذا كانت الدار مثلاً تحت يد زيد، وادعاها عمرو وبكر، وأخبرت بينة على أ نّها لعمرو، واُخرى على أ نّها لبكر فتساقطت البينتان من جهة المعارضة بالاضافة إلى مدلولهما المطابقي، فلم يمكن الأخذ بهما ولا باحداهما، فهل يمكن عندئذ الأخذ بالبينتين في مدلولهما الالتزامي، وهو عدم كون الدار لزيد، بدعوى أنّ التعارض بينهما إنّما كان في مدلولهما المطابقي لا في مدلولهما

ــ[366]ــ

الالتزامي، وبعد سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي لم يكن موجب لرفع اليد عنهما في مدلولهما الالتزامي، وهو أنّ الدار ليست لزيد، فلا بدّ أن يعامل معها معاملة مجهول المالك، ولا نظن أن يلتزم به متفقه فضلاً عن الفقيه.
الثالث : ما إذا شهد واحد على أنّ الدار في المثال المزبور لعمرو، وشهد آخر على أ نّها لبكر، والمفروض أنّ شهادة كل واحد منهما ليست بحجة في مدلولها المطابقي، مع قطع النظر عن معارضة إحداهما مع الاُخرى، لتوقف حجية شهادة الواحد على ضمّ اليمين، ففي مثل هذا الفرض هل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي، وهو عدم كون هذه الدار لزيد، لكونهما متوافقين فيه، فلا حاجة إلى ضمّ اليمين في الحكم بأنّ الدار ليست لزيد، كلاّ.
الرابع : ما إذا قامت البينة على أنّ الدار التي في يد عمرو لزيد، ولكنّ زيداً قد أقرّ بأ نّها ليست له، فلا محالة تسقط البينة من جهة الاقرار، فانّه مقدّم عليها، وبعد سقوط البينة عن الحجية بالاضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة قيام الاقرار على خلافها، فهل يمكن الأخذ بها بالاضافة إلى الدلالة الالتزامية، والحكم بعدم كون الدار لعمرو، كلاّ.
وقد تلخص من ذلك : أ نّه لا يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية في شيء من تلك الموارد وما شاكلها بعد سقوط الدلالة المطابقية فيها.
وأمّا حلاً : فلأنّ الدلالة الالتزامية ترتكز على ركيزتين من ضم إحداهما إلى الاُخرى يتشكل القياس على نحو الشكل الأوّل: الاُولى: ثبوت الملزوم. الثانية: ثبوت الملازمة بينه وبين شيء. ومن ضمّ الصغرى إلى الكبرى تحصل النتيجة، وهي ثبوت اللاّزم. وأمّا إذا لم تثبت الصغرى أو الكبرى أو كلتاهما، فلا يمكن إثبات اللاّزم، وفي المقام بما أنّ المدلول الالتزامي لازم للمدلول المطابقي، فثبوته يتوقف على ثبوت الملازمة وثبوت المدلول المطابقي، فإذا لم يثبت

ــ[367]ــ

المدلول المطابقي أو ثبت ولكن لم تثبت الملازمة، فلا يثبت المـدلول الالتزامي لا محالة، ولا يفرق في ذلك بين حدوثه وبقائه أصلاً.
وبعبارة اُخرى: أنّ ظهور الكلام في مدلوله الالتزامي وإن كان مغايراً لظهوره في مدلوله المطابقي، إلاّ أنّ ظهوره في ثبوت المدلول الالتزامي ليس على نحو الاطلاق، بل هو ظاهر في ثبوت حصة خاصة منه، وهي الحصة الملازمة للمدلول المطابقي، مثلاً الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول وإن كان إخباراً عن نجاسته أيضاً، إلاّ أ نّه ليس إخباراً عن نجاسته على الاطلاق بأيّ سبب كان، بل إخبار عن حصة خاصة من النجاسة، وهي الحصة الملازمة لملاقاة البول، بمعنى أ نّه إخبار عن نجاسته المسببة عن ملاقاته للبول في مقابل نجاسته المسببة لملاقاته للدم أو نحوه، فإذا قيل إنّ هذا الثوب نجس، يراد به أ نّه نجس بالنجاسة البولية، وعندئذ إذا ظهر كذب البينة في إخبارها بملاقاة الثوب للبول، فلا محالة يعلم بكذبها في إخبارها بنجاسة الثوب المسببة عن ملاقاته للبول. وأمّا نجاسته بسبب آخر وإن كانت محتملة، إلاّ أ نّها نجاسة اُخرى أجنبية عن مفاد البينة تماماً. وعليه فكيف يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية.
ومن ذلك يظهر : حال بقية الأمثلة وسائر الموارد، ومنها ما نحن فيه، فان ما دلّ على وجوب فعل غير مقيد بالقدرة وإن كان دالاًّ على كونه ذا ملاك ملزم كذلك، إلاّ أنّ دلالته على كونه ذا ملاك ليست على نحو الاطلاق، حتّى مع قطع النظر عن دلالته على وجوبه، بل هي بتبع دلالته على وجوب ذلك، فيكون دالاًّ على حصة خاصة من الملاك، وهي الحصة الملازمة لذلك الوجوب في مقام الاثبات والكشف، ولا يدل على قيام الملاك فيه على الاطلاق، وعليه فإذا سقطت دلالته على الوجوب من جهة مانع فلا تبقى دلالته على الملاك المسببة عن دلالته على الوجوب، إذن لا علم لنا بوجود الملاك فيه، فانّ العلم

ــ[368]ــ

بالملاك كان بتبع العلم بالوجوب، وإذا سقط الوجوب فقد سقط العلم بالوجوب لا محالة، فانّه مسبب عنه، ولا يعقل بقاء المسبب بلا سبب وعلة. ولا يفرق في ذلك بين سقوط الوجوب رأساً وبين سقوط إطلاقه.
وسرّه: ما عرفت من أنّ الإخبار عن وجوب شيء إخبار عن وجود حصة خاصة من الملاك فيه، وهي الحصة الملازمة لوجوبه، لا عن مطلق وجوده فيه. ولا يمكن أن يكون الإخبار عنه بصورة أوسع من الإخبار عن الوجوب، فانّه خلاف المفروض، إذ المفروض أ نّه لازم له في مقام الاثبات، فيدور العلم به سعة وضيقاً مدار سعة العلم بالوجوب وضيقه، وعلى ذلك فإذا قيّد الوجوب بحصة خاصة من الفعل وهي الحصة المقدورة مثلاً، فلا يكشف عن الملاك إلاّ في خصوص تلك الحصة، دون الأعم منها ومن غيرها، هذا واضح جداً.
لعلّ القائل بأنّ سقوط الدلالة المطابقية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية تخيل أنّ ثبوت المدلول الالتزامي بعد ثبوت المدلول المطابقي يكون على نحو السعة والاطلاق، ولازم ذلك هو أ نّه لا يسقط بسقوط المدلول المطابقي، إلاّ أنّ ذلك غفلة منه، فانّ المفروض أنّ من أخبر بثبوت المدلول المطابقي فقد أخبر بثبوت حصة خاصة منه وهي الحصة الملازمة له، لا بثبوته على الاطلاق.
هذا مضافاً إلى أنّ هذا الكلام، أي عدم سقوط الدلالة الالتزامية بسقوط الدلالة المطابقية في المقام، مبتن على أن يكون إحراز الملاك في فعل تابعاً للارادة الانشـائية المتعلقة به، دون الارادة الجدية، وفساد هذا بمكان من الوضوح، ضرورة أنّ ثبوت الملاك على مذهب العدلية إنّما هو في متعلق الارادة الجدية، فسعة الملاك في مقام الاثبات تدور مدار سعة الارادة الجدية ولا أثر للارادة الاستعمالية في ذلك أصلاً.
وعلى الجملة: فالوجوب إنّما يكشف عن الملاك كشف المعلول عن علته

ــ[369]ــ

بمقدار ما تعلّق به واقعاً، والمفروض أنّ ما تعلّق به الوجوب هنا هو خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها.
كما أ نّه لا وجه لقياس الدلالة الالتزامية بالدلالة التضمنية، لما ذكرناه في بحث العام والخاص من أنّ الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية، ولذا قلنا بعدم الفرق في جواز التمسك بالعام بين كونه استغراقياً أو مجموعياً، فلو قال المولى: أكرم هذه العشرة، وكان الوجوب وجوباً واحداً، ثمّ علمنا من الخارج بخروج واحد من هذه العشرة، وشككنا في خروج غيره فنرجع إلى العموم ونحكم بعدم الخروج.
والوجه في ذلك: أنّ الدلالة على وجوب إكرام هذا المجموع تنحل في الواقع إلى دلالات ضمنية باعتبار كل جزء منه، فإذا سقط بعض تلك الدلالات الضمنية فلا موجب لسقوط البقية. أو فقل: إنّ الحكم في العموم المجموعي وإن كان واحداً، إلاّ أنّ ذلك الحكم الواحد إنّما انقطع بالاضافة إلى جزء واحد، وخروج سائر الأجزاء يحتاج إلى دليل، وهذا بخلاف الدلالة الالتزامية فانّ المدلول الالتزامي بما أ نّه لازم للمدلول المطابقي فلا يعقل بقاؤه بعد سقوطه كما عرفت.
وأمّا بناء العقلاء وإن جرى في باب الظهورات على أنّ التعبد بالملزوم يقتضي التعبد باللاّزم، ولو مع عدم التفات المتكلم إلى الملازمة بينهما، وعدم قصده الحكاية عنه، إلاّ أ نّه من الواضح أنّ هذا البناء ـ أي البناء على ثبوت اللاّزم ـ إنّما هو في ظرف ثبوت الملزوم، وأمّا إذا سقط الملزوم من جهة مانع فلا بناء للعقلاء على ثبوت اللاّزم، بداهة أنّ بناءهم على التعبد بثبوته متفرع على التعبد بثبوت الملزوم، لا على نحو الاطلاق والسعة.
وإن شئت فقل: إنّه لا ريب في عدم سقوط بعض الدلالات الضمنية عن

ــ[370]ــ

الحجية بسقوط بعضها الآخر عنها، مثلاً إذا أخبرت بينة على أنّ زيداً مديون من عمرو عشرة دراهم، ولكن عمراً قد اعترف بأ نّه ليس مديوناً بالعشرة، بل هو مديون بخمسة، فلا إشكال في حجية البينة بالاضافة إلى الخمسة. أو قامت بينة على نجاسة الإناءين، ولكن علمنا من الخارج بطهارة أحدهما من جهة إصابة المطر أو نحوه، فأيضاً لا إشكال في حجيتها بالاضافة إلى نجاسة الاناء الآخر.
وسر ذلك هو أ نّه لا ملازمة ولا تبعية بين المداليل الضمنية بعضها بالاضافة إلى بعضها الآخر، ضرورة أنّ أحدها ليس معلولاً للآخر ولا علة له ولا هما معلولان لعلة ثالثة في الواقع. وعلى هذا الضوء لا محالة لا تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ أدلة الحجية ليست قاصرة عن إثبات حجية البينة أو ما شاكلها بالاضافة إلى الباقي. فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هو أنّ سقوط بعض الدلالات الضمنية عن الحجية لا يوجب سقوط بعضها الآخر، لعدم الملازمة والتبعية بينها كما مرّ. نعم، الملازمة بينها في مقام الابراز، فانّ الجميع كما عرفت يبرز بمبرز واحد.
وهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين الدلالة التضمنية والدلالة الالتزامية. أو فقل: إنّ الدلالة الالتزامية في نقطة مقابلة للدلالة التضمنية من ناحية مقام الثبوت والحجية. أمّا من ناحية مقام الثبوت، فلأنّ المدلول الالتزامي لا يخلو في الواقع من أن يكون لازماً للمدلول المطابقي أو ملازماً له أو ملزوماً له، ولأجل ذلك تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر تبعاً. وأمّا من ناحية الحجية، فلما سبق من أنّ أدلة الحجية إنّما تدل على حجية الدلالة الالتزامية تبعاً لدلالتها على حجية الدلالة المطابقية.

ــ[371]ــ

الثالث : ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من أنّ الفرد المزاحم تامّ الملاك حتّى على القول بكونه منهياً عنه، والوجه في ذلك: هو أنّ النهي المانع عن التقرب بالعبادة هو الذي ينشأ من مفسدة في متعلقه وهو النهي النفسي. وأمّا النهي الغيري فبما أ نّه لا ينشأ من مفسدة في متعلقه لا يكشف عن عدم وجود الملاك في متعلقه، فبضم هذا إلى كبرى كفاية قصد الملاك في صحة العبادة كما تقدمت تستنتج صحة الفرد المزاحم.
ثمّ أورد (قدس سره) على نفسه بأنّ الحكم بصحة الفرد المزاحم من جهة الملاك لا يجتمع مع القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو اقتضاء نفس التكليف ذلك كما هو الصحيح، إذ على هذا يكون اعتبار القدرة فيه شرعياً ودخيلاً في ملاك الحكم فيرتفع الملاك بارتفاع القدرة لا محالة.
نعم، تمّ ذلك بناءً على أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز، إذ حينئذ يمكن أن يقال إنّ اطلاق متعلقه شرعاً كاشف عن كونه ذا ملاك مطلقاً حتّى في حال عدم القدرة عليه.
توضيح ذلك : أنّ القدرة مرّة تؤخذ في متعلق التكليف لفظاً واُخرى تؤخذ باقتضاء نفس التكليف ذلك، فعلى الأوّل لا فرق بين أن تكون دلالة اللفظ على اعتبار القدرة فيه بالمطابقة كما في آية الحج فانّها تدل على اعتبار القدرة فيه مطابقة، أو بالالتزام كما في آية الوضوء فانّها تدل على تقييد وجوب الوضوء بالتمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً التزاماً من جهة أخذ عدم وجدان الماء في موضوع وجوب التيمم مطابقة، والتفصيل قاطع للشركة لا محالة، فانّه على كلا التقديرين كان تقييد الواجب بالقدرة مستفاداً من الدليل اللفظي، ونتيجة

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 25.

ــ[372]ــ

ذلك: أنّ القدرة دخيلة في ملاك الحكم واقعاً، ضرورة أ نّه لا معنى لأخذ قيد في متعلق الحكم في مقام الاثبات إذا لم يكن له دخل فيه في مقام الثبوت.
وعلى ذلك يبتني أ نّه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك، أو بالالتزام بالترتب في موارد الأمر بالتيمم، لعدم الملاك للوضوء أو الغسل في تلك الموارد ليمكن الحكم بصحته من جهة الملاك أو من جهة الالتزام بالترتب، وثبوت الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم، فإذا كان هذا هو الحال فيما إذا كانت القدرة مأخوذة في لسان الدليل بإحدى الدلالتين، كان الأمر كذلك فيما إذا كان اعتبار القدرة باقتضاء نفس التكليف ذلك، إذ من الواضح جداً أ نّه حينئذ يتعين المأمور به في الحصة المقدورة بمقتضى دلالة نفس الدليل، فالقدرة تكون دخيلة في ملاك الحكم فينتفي بانتفائها.
ثمّ قال (قدس سره): ولو سلّمنا فيما نحن فيه عدم القطع بالتقييد شرعاً الكاشف عن دخل القدرة في الملاك، إلاّ أ نّا نحتمل ذلك بالبداهة، ولا دافع لذلك الاحتمال من جهة أ نّها لو كانت دخيلة فيه واقعاً لجاز للمتكلم أن يكتفي في بيانه بنفس إيقاع الطلب على ما كان فيه الملاك، فيكون المقام داخلاً في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، ومعه لا ينعقد له ظهور في سعة الملاك.
ثمّ قال (قدس سره): ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا عدم صلاحيته لكونه قرينة على التقييد، إلاّ أنّ إطلاق المتعلق إنّما يكشف عن عدم دخل قيد في الملاك إذا لزم نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الاثبات مع دخل القيد فيه في مقام الثبوت، وأمّا إذا لم يلزم منه نقض الغرض فلا يكون الاطلاق في مقام الاثبات كاشفاً عن عدم دخل القيد فيه ثبوتاً، وعليه فبما أنّ ما يحتمل دخله في الملاك هو القدرة، ولا يتمكن المكلف من إيجاد غير المقدور في الخارج ليترتب عليه نقض الغرض على تقدير دخل القدرة في الملاك واقعاً، لا يمكن التمسك

ــ[373]ــ

بالاطلاق لدفع الاحتمال المزبور. ومن الواضح أنّ ذلك الاحتمال مانع عن الحكم بصحة الفرد المزاحم والتقرب به.
وأجاب (قدس سره) عن ذلك بما ملخّصه: أنّ القدرة إذا كانت مأخوذة في متعلق التكليف لفظاً ـ كما في آيتي الحج والوضوء ـ فالأمر كما ذكر ولا مناص عنه. وأمّا إذا لم تكن مأخوذة فيه لفظاً وكان متعلق التكليف غير مقيد بالقدرة في مرتبة سابقة على تعلّق التكليف به، بل كان اعتبار القدرة فيه في مرتبة تعلّق التكليف به وعروضه عليه، سواء أكان منشؤه حكم العقل بقبح تكليف العاجز، أو كان اقتضاء نفس التكليف ذلك، فلا مانع من التمسك باطلاق المتعلق لاثبات كونه واجداً للملاك، فانّ التقييد الناشئ من قبل حكم العقل أو من قبل اقتضاء نفس التكليف بما أ نّه في مرتبة متأخرة وهي مرتبة تعلّق التكليف به وعروضه، فلا يعقل أن يكون تقييداً في مرتبة سابقة وهي مرتبة اقتضاء المتعلق لعروض التكليف عليه التي هي عبارة اُخرى عن مرتبة وجدانه للملاك، لاستحالة أخذ ما هو متأخر رتبة فيما هو متقدم كذلك.
ومن هنا قلنا إنّ كل ما يتأتى من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلقه، وعليه فحيث إنّ المتعلق في مرتبة سابقة على تعلّق الطلب به مطلق، فاطلاقه في تلك المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك، وأ نّه قائم بمطلق وجوده وإلاّ لكان على المولى تقييده بها في تلك المرتبة، فمن الاطلاق في مقام الاثبات يكشف الاطلاق في مقام الثبوت.
ومن ذلك يظهر أنّ اقتضاء التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه يستحيل أن يكون بياناً ومقيداً لاطلاقه في مرتبة سابقة عليه، إذن فلا يدخل المقام تحت كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة ليدعى الاجمال.
وأمّا الاشكال الأخير: وهو انّ التمسك بالاطلاق لا يمكن لدفع احتمال دخل

ــ[374]ــ

القدرة في الملاك، لعدم لزوم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها فيه واقعاً فيردّه:
أوّلاً : أنّ هذا لو تمّ فانّما يتم إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينية في الملاك، فان صدور غير المقدور حيث إنّه مستحيل فلا يلزم نقض الغرض من عدم البيان، وأمّا إذا كان الشك في اعتبار القدرة ولو كانت شرعية في متعلق الحكم كما هو المفروض، فيلزم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها في الملاك واقعاً، فانّ المكلف قادر تكويناً على أن يأتي بفرد الواجب الموسع عند مزاحمته للواجب المضيق، فمن عدم التقييد في مقام الاثبات يستكشف عدمه في مقام الثبوت، إذن لا مانع من التمسك بالاطلاق لاثبات أنّ الفرد المزاحم واجد للملاك.
وثانياً : أنّ نقض الغرض ليس من إحدى مقدمات التمسك بالاطلاق، فان من مقدماته أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ماله دخل في مراده، ومع هذا الفرض إذا لم ينصب قرينة على التقييد في مقام الاثبات يستكشف منه الاطلاق في مقام الثبوت لا محالة، وإلاّ لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان، ولا يفرق في ذلك بين أن يلزم من عدم البيان نقض الغرض أم لا، فلا يكون نقض الغرض من إحدى مقدمات الحكمة.
ونلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة خطوط:
الأوّل : أنّ متعلق التكليف إذا كان مقيداً بالقدرة لفظاً فالتقييد يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعاً، ضرورة أ نّه لا معنى لأخذ قيد في متعلق التكليف إثباتاً إذا لم يكن دخيلاً في ملاكه ثبوتاً.
الثاني : أ نّه على هذا لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو الترتب في موارد الأمر بالتيمم، لعدم الملاك له في تلك الموارد.

ــ[375]ــ

الثالث : أنّ التقييد الناشئ من قبل حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو باقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار، حيث إنّه كان في مرتبة متأخرة عن وجدان المتعلق للملاك، فلا يوجب تقييد المتعلق في مرتبة وجدانه الملاك، إذن من عدم تقييد المتعلق في تلك المرتبة إثباتاً يستكشف منه إطلاقه ثبوتاً، وعدم دخل القدرة في الملاك واقعاً.
الرابع : أنّ المتكلم لا يمكن أن يعتمد في تقييد متعلق حكمه بالقدرة باقتضاء نفس التكليف ذلك، أو حكم العقل باعتبارها فيه، فلا يكون المقام داخلاً في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة على الخلاف.
الخامس : أنّ لزوم نقض الغرض من عدم البيان ليس من إحدى المقدمات التي يتوقف التمسك بالاطلاق عليها.
ولنأخذ بدرس هذه الخطوط:
أمّا الخط الأوّل : فهو في غاية الصحة والمتانة.
وأمّا الخط الثاني : فالأمر وإن كان كما أفاده (قدس سره) بالاضـافة إلى الملاك، إذ أ نّه ينتفي بانتفاء القدرة على الفرض فلا يمكن تصحيح العبادة عندئذ بوجدانها الملاك، إلاّ أنّ الأمر ليس كما أفاده بالاضافة إلى الترتب، إذ لا مانع من الالتزام به في أمثال المقام، وسنتعرض فيما بعد إن شاء الله تعالى أ نّه لا فرق في صحة الترتب بين كون القدرة مأخوذة في متعلق التكليف شرعاً وكونها معتبرة فيه عقلاً، إذ كما يجري الترتب على الثاني كذلك يجري على الأوّل، فلو كانت وظيفة المكلف التيمم في مورد كما في موارد ضيق الوقت أو نحوه، ولكن خالف أمر التيمم وعصاه فتوضأ أو اغتسل، فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب، وسيأتي الكلام في ذلك بصورة مفصّلة.

ــ[376]ــ

وأمّا الخط الثالث : فان كان غرضـه (قدس سره) من إطـلاق المتعلق استكشاف مراد المتكلم من ظاهر كلامه، فلا شبهة في أ نّه يتوقف على أن يكون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة. ومن الواضح أنّ المتكلم ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه، بل هو في مقام بيان ما تعلّق به حكمه فحسب، بل الغالب في الموالي العرفية غفلتهم عن ذلك فضلاً عن كونهم في مقام البيان بالقياس إلى تلك الجهة، إذن لا يمكن التمسك بالاطلاق لاثبات كون الفرد المزاحم تامّ الملاك، لعدم تمامية مقدمات الحكمة.
ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ المولى في مقام البيان من هذه الجهة ـ أي ما يقوم به ملاك حكمه ـ فأيضاً لا يمكن التمسك باطلاق كلامه، وذلك لأنّ في الكلام إذا كان ما يصلح لكونه قرينة فلا ينعقد له ظهور، وفي المقام بما أنّ حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار صالح للقرينيّة فلا ينعقد للكلام ظهور في الاطلاق، لاحتمال أنّ المتكلم قد اعتمد في التقييد بذلك.
وعلى الجملة : فيحتمل أن يكون الملاك في الواقع قائماً بخصوص الحصة المقدورة لا بالجامع بينها وبين غيرها، وعدم تقييد المتكلم متعلق حكمه بها في مقام الاثبات، لاحتمال أ نّه قد اعتمد في بيان ذلك على اقتضاء نفس التكليف ذلك أو على الحكم العقلي المزبور.
وما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ اقتضاء الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه أو حكم العقل بذلك، يستحيل أن يكون بياناً ومقيداً لاطلاق متعلقه في مرتبة سابقة عليه، إذن لا معنى لدعوى الاجمال وأنّ المقام داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة على التقييد.
لا يمكن تصديقه بوجه، والوجه في ذلك: هو أنّ انقسام الفعل إلى مقدور

ــ[377]ــ

وغيره انقسام أوّلي فلا يتوقف على وجود الأمر وتحققه في الخارج، وعلى هذا فلا يخلو الأمر من أن يكون متعلق التكليف خصوص الحصة المقدورة أو الجامع بينها وبين غير المقدورة، إذ الاهمال غير معقول في الواقع، وعليه فإذا فرضنا أنّ الثابت على ذمة المكلف خصوص الحصة المقدورة، فابراز ذلك في الخارج كما يمكن أن يكون بأخذ القدرة في متعلق التكليف لفظاً أو بقيام قرينة من الخارج على ذلك، يمكن أن يكون إبرازه باقتضاء نفس التكليف ذلك أو الحكم العقلي المزبور، بداهة أ نّا لا نرى أيّ مانع من إبرازه بأحدهما، ولا يلزم منه المحذور الذي توهم في المقام، فانّه لا شأن لاقتضاء نفس التكليف أو حكم العقل عندئذ إلاّ مجرد إبراز واظهار ما اعتبره المولى على ذمة المكلف، ومن الواضح جداً أ نّه لا محذور في أن يكون الابراز بمبرز متأخر عن المبرز ـ بالفتح ـ بل إنّ الأمر كذلك دائماً.
وبتعبير آخر : أ نّه بناءً على وجهة نظره (قدس سره) من أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار، لا مانع من أن يعتمد المتكلم في مقام بيان تقييد المأمور به بالقدرة على ذلك، بأن يجعل هذا بياناً لما اعتبره في ذمة المكلف وهو الحصة المقدورة وكاشفاً عنه، فإذا كان اقتضاء نفس التكليف أو حكم العقل صالحاً لأن يكون قرينة على التقييد يدخل المقام حينئذ في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة، فلا ينعقد له ظهور في الاطلاق.
على أنّ الكاشف عن الملاك في فعل، إنّما هو تعلّق إرادة المولى به واقعاً وجدّاً والمفروض في المقام أنّ الارادة الجدية متعلقة بالمقيد لا بالمطلق، إذن كيف يمكن القول باشتمال المطلق على الملاك كما تقدّم.
وأمّا بناءً على وجهة نظرنا من أنّ القدرة لم تعتبر في متعلق التكليف لا من

ــ[378]ــ

فجهة حكم العقل ولا من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك، فانّك قد عرفت أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي ذلك أصلاً، وأمّا العقل فهو لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة في موضوع حكمه وهو لزوم الامتثال ووجوبه، لا في موضوع حكم الشرع ومتعلقه، فلا مقتضي لاعتبار القدرة في متعلق الطلب أصلاً.
وعلى هذا الضوء فالصحيح هو الجواب الأوّل من أنّ المتكلم غالباً بل دائماً ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه حتّى يمكن التمسك بالاطلاق فيما إذا شكّ في فرد أ نّه واجد للملاك أم لا، ومع قطع النظر عن ذلك وفرض أنّ المتكلم في مقام البيان حتّى من هذه الجهة، فلا مانع من التمسك بالاطلاق، إذ قد عرفت أ نّه لا حكم للعقل ولا اقتضاء للتكليف لاعتبار القدرة في متعلقه ليكونا صالحين للبيان ومانعين عن ظهور اللفظ في الاطلاق.
وعلى كلّ حال فما أفاده (قدس سره) لا يرجع إلى معنى محصّل على وجهة مذهبه.
وأمّا إذا كان غرضه (قدس سره) من التمسك بالاطلاق كشف الملاك من باب كشف المعلول عن علته، سواء أكان المولى في مقام البيان من هذه الجهة أم لا، كما هو صريح كلامه (قدس سره) حيث قال: إنّ هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في مقام البيان وعدمه (1)، فيردّه: ما ذكرناه عند الجواب عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ تعلّق الحكم بشيء وإن كان كاشفاً عن وجود الملاك فيه، بناءً على مذهب العدلية من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين، إلاّ أنّ ذلك في ظرف تحققه ووجوده، وأمّا إذا سقط ذلك الحكم فلا يمكن استكشاف الملاك فيه على تفصيل تقدّم هناك فلا حاجة إلى الاعادة.

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 32.

ــ[379]ــ

ونزيدك هنا إلى ذلك: أنّ متعلق الحكم على مسلكه (قدس سره) خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها، وعليه فلا يعقل أن يكون الحكم كاشفاً عن وجود الملاك في الأعم منها، بداهة أنّ المعلول إنّما يكشف عن وجود علته بمقدار سعته دون الزائد، مثلاً الحرارة الناشئة من النار إنّما تكشف عنها خاصة، لا عن مطلق سببها، وقد تقدّم أنّ الكاشف عن وجود ملاك في فعل هو كونه متعلقاً لارادة المولى واقعاً وجدّاً، ولا اثر لتعلق الارادة الانشائية به أصلاً. إذن ما أفاده (قدس سره) من أنّ هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في مقام البيان، لا يرجع إلى معنىً صحيح، فان كشف الحكم عن الملاك بمقدار ما تعلّق به دون الزائد، وهذا واضح.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه: أ نّه لا يتم شيء من هذه الوجوه، وعليه فلا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بالملاك.
وأمّا الخط الرابع : فقد ظهر فساده ممّا ذكرناه، فانّه على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) صالح لأن يكون قرينة على التقييد، وعليه فيكون مانعاً عن التمسك بالاطلاق كما عرفت. نعم، على مسلكنا لا يكون مانعاً عنه، فلو كان المولى في مقام البيان من تلك الناحية فلا مانع من التمسك باطلاق كلامه لاثبات أنّ الفرد المشكوك فيه واجد للملاك.
وأمّا الخط الخامس : فالأمر كما أفاده (قدس سره) فان لزوم نقض الغرض لا دخل له في مقدمات الحكمـة، فانّها تتألف من ثلاث مقدمات لا رابع لها. إحداها: أن يرد الحكم على المقسم والجامـع، لا على حصة خاصـة منه. وثانيتها: أن يكون المتكلم في مقام البيان. وثالثتها: أن لا ينصب المتكلم قرينة على التقييد. فإذا تمّت هذه المقدمات جاز التمسك بالاطلاق، ولا يتوقف على شيء آخر زائداً عليها، فانّه لو كان مراد المتكلم في الواقع هو المقيد ومع ذلك

ــ[380]ــ

لم ينصب قرينة عليه مع فرض كونه في مقام البيان، لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان، إذن لزوم نقض الغرض من عدم البيان أو عدم لزومه ممّا لا دخل له في التمسك بالاطلاق وعدم التمسك به أصلاً. هذا تمام الكلام في النقطة الثالثة.
وأمّا النقطة الرابعة : وهي أنّ النهي الغيري لايكون مانعاً عن صحة العبادة، فهي في غاية الصحة والمتانة، والوجه في ذلك: هو أنّ المانع عن التقرب بالعبادة وصحتها إنّما هو النهي النفسي، باعتبار أ نّه ينشأ عن مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه، ومن الواضح أنّ المبغوض لا يكون مقرّباً، وأمّا النهي الغيري فبما أ نّه ينشأ عن أمر خارج عن ذات متعلقه، وهو كون تركه في المقـام مقدمة لواجـب مضيق أو ملازماً له في الخارج، فلا يكون مانـعاً عن صحة العبادة والتقرب بها، لأنّ متعلقه باق على ما كان عليه من المحبوبية ولم تعرض عليه أيّة حزازة ومنقصة من قبل النهي المتعلق به.
فعلى ضوء ذلك لا مانع من صحة الاتيان بالفرد المزاحم والتقرب به بداعي الأمر المتعلق بالواجب الموسّع، فانّ الواجب هو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ والمنتهى وهو غير مزاحم بواجب آخر، وما هو مزاحم به غير واجب. إذن يصحّ الاتيان به بداعي أمره كما هو الحال على القول بعدم الاقتضاء.
ونتيجة ذلك: هي عدم ظهور الثمرة بين القولين في هذا المقام، أي فيما إذا كان التزاحم بين الاتيان بالواجب الموسّع ووجوب الواجب المضيّق.
ثمّ إنّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ النهي الغيري كالنهي النفسي مانع عن صحة العبادة والتقرب بها، فمع هذا يمكن تصحيحها بما سيجيء من إمكان الأمر بالضدّين على نحو الترتب.
ونتائج الأبحاث المتقدمة لحدّ الآن عدّة نقاط:
الاُولى : أنّ ما ذكره شيخنا البهائي (قدس سره) من اشتراط صحة العبادة

   

ــ[381]ــ

بتحقق الأمر بها فعلاً، لا يمكن المساعدة عليه بوجه كما عرفت.
الثانية : أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل في منشأ اعتبار القدرة بين حكم العقل بذلك من باب قبح تكليف العاجز، وبين اقتضاء نفس التكليف ذلك، فقد عرفت أ نّه لا يمكن تصديقه بوجه.
الثالثة : أ نّه بناءً على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو اقتضاء نفس التكليف ذلك، فقد عرفت أ نّه لا يقتضي أزيد من كون متعلقه مقدوراً في الجملة في مقابل ما لا يكون مقدوراً أصلاً.
الرابعة : قد سبق أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه، ولا العقل يحكم بذلك، وإنّما يحكم باعتبار القدرة في مقام الامتثال فحسب.
الخامسة : بطلان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من دعوى القطع باشتمال الفرد المزاحم على الملاك.
السادسة : بطلان ما هو المشهور من أنّ الدلالة الالتزامية لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية، فلا تسقط بسقوطها.
السابعة : أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التقييد الناشئ من قبل اقتضاء نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه، أو حكم العقل بذلك، بما أ نّه يكون في مرتبة لاحقة وهي مرتبة تعلّق التكليف به وعروضه عليه، فلا يعقل أن يكون مقيداً لاطلاق المتعلق في مرتبة سابقة وهي مرتبة اقتضائه للتكليف، فاسد صغرىً وكبرىً. أمّا الصغرى: فلأنّ التقييد غير ثابت، لما سبق من أنّ التكليف لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه، والعقل لا يحكم إلاّ باعتبارها في مقام الامتثال والاطاعة دون مقام التكليف. وأمّا الكبرى: فقد تقدّم أ نّه لا مانع من اعتماد المتكلم في تقييد المتعلق على اقتضاء نفس التكليف ذلك أو حكم العقل به.

ــ[382]ــ

الثامنة : أنّ الحاكم لا يكون في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه، وإنّما يكون في مقام بيان ما تعلّق به حكمه.
التاسعة : أنّ تعلّق الارادة الانشائية بشيء لا يكشف عن وجود الملاك فيه، وإنّما الكاشف عنه تعلّق الارادة الجدية به.
العاشرة : أنّ الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية كما سبق.
الحادية عشرة : أنّ النهي الغيري لا يكون مانعاً عن صحة العبادة والتقرب بها.
الثانية عشرة : أنّ الثمرة لا تتحقق بين القولين في مزاحمة الواجب الموسع بالواجب المضيق. هذا تمام كلامنا في المقام الأوّل.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net