أدلة إمكان الترتب 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4534


ــ[399]ــ
 

أدلّة إمكان الترتّب

الوجدان :
إنّ كل من رجع إلى وجدانه وشهد صفحة نفسه مع الاغماض عن أيّة شبهة ترد عليها، لا يرى مانعاً من تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب، فلو كان هذا محالاً كاجتماع الضدّين أو النقيضين وما شاكلهما لم يصدّق الوجدان ولا العقل إمكانه.

الدليل الإنّي :
لا إشكال في وقوع ترتب أحد الحكمين على عصيان الحكم الآخر في موارد الخطابات العرفية، وفي جملة من المسائل الفقهية، ومن الواضح جداً أنّ وقوع شيء أكبر برهان على إمكانه وأدلّ دليل عليه، وليس شيء أدل من ذلك، ضرورة أنّ المحال لايقع في الخارج، فلو كان هذا محالاً استحال وقوعه خارجاً، فمن وقوعه يكشف إمكانه وعدم استحالته بالضرورة.
أمّا في موارد الخطابات العرفية: فهو في غاية الكثرة، منها: ما هو المتعارف في الخارج من أنّ الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة، وعلى تقدير عصيانه يأمره بالجلوس في الدار مثلاً والكتابة فيها، أو بشيء آخر. فالأمر بالجلوس مترتب على عصيان الأمر بالذهاب. وكذلك المولى يأمر عبده بشيء وعلى تقدير عصيانه وعدم إتيانه به يأمره بأحد أضداده، وهكذا.
وعلى الجملة: فالأمر بالضدّين على نحو الترتب من الموالي العرفية بالاضافة

ــ[400]ــ

إلى عبيدهم، ومن الآباء بالاضافة إلى أبنائهم ممّا لا شبهة في وقوعه خارجاً، بل وقوع ذلك في أنظارهم من الواضحات الأوّلية، فلا يحتاج إلى إقامة برهان ومؤونة استدلال.
وأمّا في المسائل الفقهية: ففروع كثيرة لا يمكن للفقيه إنكار شيء منها، نذكر جملة منها في المقام:
الأوّل : ما إذا وجبت الاقامة على المسافر في بلد مخصوص، وعلى هذا فان قصد الاقامة في ذلك البلد وجب عليه الصوم لا محالة، إذا كان قصد الاقامة قبل الزوال ولم يأت بمفطر قبله، وأمّا إذا خالف ذلك وترك قصد الاقامة فيه فلا إشكال في وجوب الافطار وحرمة الصوم عليه. وهذا هو عين الترتب الذي نحن بصدد إثباته، إذ لا نعني به إلاّ أن يكون هناك خطابان فعليان متعلقان بالضدّين على نحو الترتب، بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيانه، وفيما نحن فيه كذلك، فان وجوب الافطار وحرمة الصوم مترتب على عصيان الأمر بقصد الاقامة الذي هو مضاد له ـ أي الافطار ـ ولا يمكن لأحد أن يلتزم في هذا الفرض بعدم جواز الافطار ووجوب الصوم عليه، فانّه في المعنى إنكار لضروري من الضروريات الفقهية.
الثاني : ترتب وجوب تقصير الصلاة على عصيان الأمر بقصد الاقامة وتركه في الخارج، ولا يفرق في ترتب وجوبه عليه بين أن يكون ترك قصد الاقامة قبل الزوال أو بعده، وبذلك تمتاز الصلاة عن الصوم كما عرفت.
الثالث : ما إذا حرمت الاقامة على المسافر في مكان مخصوص، فعندئذ كما أ نّه مكلف بترك الاقامة في هذا المكان وهدم موضوع وجوب الصوم، كذلك هو مكلف بالصوم على تقدير قصد الاقامة وعصيان الخطاب التحريمي، فالخطاب التحريمي المتعلق بقصد الاقامة خطاب مطلق وغير مشروط بشيء،

 
 

ــ[401]ــ

والوجوب المتعلق بالصوم وجوب مشروط بعصيان ذلك الخطاب، وعليه فلو عصى المكلف ذلك الخطاب وقصد الاقامة فيه فلا مناص من الالتزام بوجوب الصوم عليه. ومن الواضح جداً أنّ القول بوجوبه لا يمكن إلاّ بناءً على صحة الترتب، فلو لم نقل بترتب وجوب الصوم على عصيان الخطاب بترك الاقامة، فلازمه الالتزام بعدم وجوبه عليه، وهو خلاف الضرورة.
الرابع : ترتب وجوب إتمام الصلاة على عصيان حرمة قصد الاقامة، والكلام فيه يظهر ممّا تقدّم.
فالنتيجة: فعلية كلا الحكمين في هذه الفروعات وما شاكلها، غاية الأمر أنّ أحدهما مطلق والآخر مشروط بعصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه، إذن الالتزام بتلك الفروعات بعينه هو التزام بالترتب لا محالة.
نعم، فيما إذا حدث الأمر بشيء بعد سقوط الأمر بضدّه ـ كما في موارد الأمر بالقضاء ـ فهو خارج عن محلّ الكلام، فان محل الكلام فيما إذا كان كلا الحكمين فعلياً في زمان واحد، غاية ما في الباب كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً. وأمّا تعلّق الأمر بشيء بعد سقوط الأمر بضدّه بحيث لا يجتمعان في زمان واحد فلا كلام في صحته وجوازه، والأمر المتعلق بقضاء الصلاة ونحوها بالاضـافة إلى الأمر بأدائها من هذا القبيل، فلا يجتمعان في زمان واحد.
أو فقل: إنّ ما هو محل الكلام هو تقارن الأمرين زماناً، وتقدّم أحدهما على الآخر رتبة، ففرض تعلّق الخطاب بالمهم بعد سقوط الخطاب عن الأهم خارج عن مورد النزاع تماماً، فيكون نظير تعلّق الأمر بالطهارة الترابية بعد سقوط الأمر عن الطهارة المائية.

ــ[402]ــ

الدليل اللمي :
إنّ بيان إمكان الترتب وتعيين مورد البحث يتوقف على التكلم في جهات:
الجهة الاُولى : في بيان اُمور:
الأوّل : أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً غير قابل للدوام والبقاء، وذلك كانقاذ الغريق مثلاً أو الحريق أو ما يشبهه، ففي مثل ذلك لا يتوقف تعلّق التكليف بالمهم على القول بجواز الترتب وإمكانه، ضرورة أ نّه بعد عصيان المكلف الأمر بالأهم في الآن الأوّل القابل لايجاد الأهم فيه، وسقوط أمره في الآن الثاني بسقوط موضوعه، لا مانع من فعلية الأمر بالمهم على الفرض، إذ المفروض أنّ المانع منه هو فعلية الأمر بالأهم، وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من فعلية الأمر بالمهم أصلاً، فحينئذ يصحّ الاتيان بالمهم ولو بنينا على استحالة الترتب، لما عرفت من أنّ جواز تعلّق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات.
ومن ذلك يعلم أنّ هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام ومورد النزاع، فان ما هو مورد النزاع والكلام ـ بين الأعلام والمحققين ـ هو ما لا يمكن إثبات فعلية الأمر بالمهم إلاّ بناءً على القول بالترتب، ومع قطع النظر عنه يستحيل فعلية أمره والحكم بصحته.
نعم، في الآن الأوّل ـ وهو الآن القابل لتحقق الأهم فيه خارجاً ـ لا يمكن تعلّق الأمر بالمهم فعلاً، والحكم بصحته بناءً على القول باستحالة الترتب، وأمّا في الآن الثاني ـ وهو الآن الساقط فيه الأمر بالأهم ـ فلا مانع من تعلّق الأمر به ووقـوعه صحيحاً. وأمّا بناءً على إمكانه فالالتزام بترتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم إنّما يجدي في خصوص الآن الأوّل، دون بقية الآنات، إذ

ــ[403]ــ

لا تتوقف فعليّة أمره فيها على القول بجواز الترتب كما عرفت. نعم، إذا كان الواجب المهم أيضاً آنياً فحينئذ يدخل ذلك في محلّ الكلام، إذ فعلية الأمر بالمهم ـ عندئذ ـ والحكم بصحته تتوقف على القول بالترتب. وأمّا على القول بعدمه فلا يمكن إثبات الأمر به، أمّا في الآن الأوّل فلمزاحمته بالأهم، وأمّا في الآن الثاني فلانتفائه بانتفاء موضوعه.
فالنتيجة من ذلك : أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً ـ دون الواجب المهم ـ فحيث إنّ إثبات الأمر بالمهم بمكان من الوضوح مع قطع النظر عن صحة الترتب وعدم صحته، ولا يتوقف إثبات الأمر به على القول بجوازه، فهو خارج عن محلّ الكلام، فانّ ما كان محلاً للكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر به مع قطع النظر عنه.
الثاني : أنّ كلاً من الواجب الأهم والمهم إذا كان آنياً ـ بمعنى أن يكون في الآن الأوّل قابلاً للتحقق والوقوع في الخارج، ولكنّه في الآن الثاني يسقط بسقوط موضوعه ـ فهو داخل في محلّ الكلام ولا يمكن إثبات الأمر بالمهم فيه إلاّ على القول بصحة الترتب.
الثالث : أنّ الواجب الأهم والمهم إذا كان كلاهما تدريجياً كالصلاة والازالة مثلاً، عند ما تقع المزاحمة بينهما فلا إشكال في أ نّه داخل في محلّ الكلام، وعليه فان قلنا بأنّ الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو معصية الأمر بالأهم آناً ما، بمعنى أنّ معصية الأهم في الآن الأوّل كافية لفعلية الأمر بالمهم في جميع أزمنة امتثاله، فلا تتوقف فعليته في الآن الثاني على استمرار معصيته الأمر بالأهم إلى ذلك الآن، بل لو تبدلت معصيته بالاطاعة في الزمن الثاني كان الأمر بالمهم باقياً على فعليته لفرض تحقق شرطه، وهو معصية الأمر بالأهم في الآن الأوّل، فهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدّين لا محالة، ولعلّ هذا هو مورد نظر المنكرين

ــ[404]ــ

للترتب، كما يظهر ذلك من بعض موارد الكفاية (1).
لكن ذلك ليس مراد القائلين بالترتب أصلاً، فان محذور طلب الجمع بين الضدّين على هذا الوجه باق بحاله، وذلك لأنّ المفروض أنّ الأمر بالأهم في الآن الثاني باق على فعليته من جهة فعلية موضوعه، وهو قدرة المكلف على امتثاله، بأن يرفع اليد عن المهم ويمتثل الأمر بالأهم، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ الأمر بالمهم أيضاً فعلي في ذلك الآن، وليست فعليته مشروطة بعصيان الأمر بالأهم فيه، لفرض أنّ شرطها ـ وهو عصيانه في الآن الأوّل ـ قد تحقق في الخارج، ولم تتوقف فعليته في الآن الثاني والثالث وهكذا على استمرار عصيانه كذلك، فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنّ كلاً من الأمر بالأهم والأمر بالمهم فعلي في الآن الثاني وفي عرض الآخر. وعليه فيلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين.
وأمّا إذا قلنا بأنّ شرط فعلية الأمر بالمهم عصـيان الأمر بالأهم في جميع أزمنة امتثاله، بمعنى أنّ فعليته تدور مدار عصيانه حدوثاً وبقاءً، فلا يكفي عصيانه آناً ما لبقاء أمره إلى الجزء الأخير منه، ففعلية الأمر بالصلاة مثلاً عند مزاحمتها بالازالة مشروطة ببقاء عصيان أمر الإزالة واستمراره إلى آخر أزمنة امتثال الصلاة، وبانتفائه في أيّ وقت كان ينتفي الأمر بالصلاة، ضرورة أنّ بقاء أمر المهم منوط ببقاء موضوعه، والمفروض أنّ موضوعه هو عصيان الأمر بالأهم، ولا بدّ من فرض بقائه إلى آخر أزمنة امتثال المهم في تعلّق الأمر به فعلاً، فإنّ تعلّق الأمر به كذلك في أوّل أزمنة امتثاله منوط ببقاء عصيان الأمر بالأهم إلى الجزء الأخير من المهم، فان هذا نتيجة تقييد إطلاق الأمر بالمهم

ـــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ كفاية الاُصول: 134 وما بعدها.

ــ[405]ــ

بعصيان الأهم، وكون المهم واجباً ارتباطياً، وعلى هذا فليس هنا طلب للجمع بين الضدّين أصلاً كما سيأتي توضيحه.
وهذا بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الشرط المتأخر، وكذا إمكان تعلّق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه على نحو الواجب المعلّق كما حققناهما في محلهما لا إشكال فيه، إذ لا مانع حينئذ من أن يكون العصيان المتأخر شرطاً للوجوب المتقدم، بمعنى أنّ فعلية وجوب المهم في أوّل أزمنة امتثاله تكون مشروطة ببقاء عصيان الأهم إلى آخر زمان الاتيان بالمهم، وبانتفائه يستكشف عدم فعلية وجوب المهم من الأوّل، ومن هنا قلنا إنّه لا مناص من الالتزام بالشرط المتأخر في الواجبات التدريجية كالصلاة ونحوها، فان وجوب أوّل جزء منها مشروط ببقاء القدرة على الجزء الأخير منها في ظرفه، وإلاّ فلا يكون من الأوّل واجباً، وهذا ثمرة اشتراط وجوب تلك الواجبات بالقدرة في ظرف الامتثال من ناحية، وارتباطيتها من ناحية اُخرى.
وأمّا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من استحالة الشرط المتأخر وكذا الواجب المعلّق، فيشكل الأمر في المقام، ومن هنا قد تفصى عن هذه المشكلة بما أجاب به عن الاشكال في اشتراط القدرة في الواجبات التدريجية وقال: إنّ المقام داخل في تلك الكبرى ـ أي اشتراط التكليف بالقدرة ـ ومن إحدى صغرياتها، فان اشتراط التكليف بالمهم بعصيان تكليف الأهم إنّما هو لأجل أ نّه غير مقدور إلاّ في هذا الفرض، ولذا لا نحتاج في اشتراط تكليف المهم بعصيان تكليف الأهم إلى دليل خاص، فالدليل عليه هو حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة، فانّه يوجب اشتراط خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم، لكون المهم غير مقدور شرعاً ـ وهو في حكم غير

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1: 201، 328.

ــ[406]ــ

المقدور عقلاً ـ إلاّ عند تحقق هذا الشرط.
وحاصل ما أجاب به (قدس سره) أنّ الشرط هو القدرة على الجزء الأوّل من أجزاء الواجب التدريجي المتعقبة بالقدرة على بقية الأجزاء، فشرط وجوب الصلاة مثلاً إنّما هو القدرة على التكبيرة المتعقبة بالقدرة على بقية أجزائها.
ومن الواضح أنّ عنوان التعقب عنوان حاصل بالفعل، وبذلك يدفع محذور الالتزام بالشرط المتأخر، وعليه يكون شرط فعلية وجوب المهم عصيان الأهم في الآن الأوّل متعقباً بعصيانه في بقية الآنات، والمفروض أنّ عصيانه في آن أوّل امتثال المهم المتعقب بعصيانه في بقية أزمنة امتثال المهم موجود بالفعل، فيكون من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر، ومن المعلوم أنّ اشتراط المهم بعصيان الأهم ليس إلاّ من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثاله في غير هذه الصورة ـ عصيان الأهم ـ.
ولكن قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط (1) أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه بوجه، وذكرنا هناك أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر أصلاً، وأ نّه لا محصّل لجعل عنوان التعقب شرطاً لعدم الدليل عليه. وقد فصلنا الحديث عن ذلك هناك، فلا حاجة إلى الاعادة.
ومن ذلك يظهر أنّ الواجب المهم بعد حصول شرط وجوبه لا يصير مطلقاً، فانّه يبتني على أن يكون شرطه هو عصيان الأهم في الآن الأوّل فحسب كما عرفت، وأمّا على ما ذكرناه من أنّ شرطه هو عصيانه في جميع أزمنة امتثال المهم فلا وجه لتوهم أ نّه بعد تحقق شرطه يصير مطلقاً أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك أمران :

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 135.

ــ[407]ــ

الأوّل: أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً والمهم تدريجياً فهو خارج عن محلّ الكلام والبحث كما مرّ آنفاً.
الثاني: أنّ شرط فعلية الأمر بالمهم عصيان الأهم على نحو الاستمرار والدوام لا عصيانه آناً ما، لما عرفت من أ نّه لا يدفع محذور طلب الجمع بين الضدّين.
الجهة الثانية : أ نّه لا يفرق في القول بامكان الترتب وجوازه، والقول باستحالته وعدم جوازه، بين أن يكون زمان فعلية الخطاب متحداً مع زمان الامتثال والعصيان، وأن يكون سابقاً عليه ـ بناءً على ما هو الصحيح من إمكان الواجب المعلّق ـ وإن كان الغالب هو الأوّل، بل قد ذكرنا في محلّه أنّ الثاني وإن كان ممكناً، إلاّ أنّ وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل وقيام قرينة عليه، وإلاّ فهو خلاف الظهور العرفي، فان مقتضى ظهور الخطاب هو أنّ زمان فعليته متحد مع زمان الواجب ـ وهو زمان امتثاله وعصيانه ـ ولكنّ الغرض من ذلك الاشارة إلى أنّ القول بامكان الترتب لا يتوقف على القول بانكار الواجب المعلّق، فان ملاك استحالة الواجب المعلّق وإمكانه أجنبي عمّا هو ملاك استحالة الترتب وإمكانه، فكما يجري على القول باستحالة الواجب المعلّق، فكذلك يجري على القول بامكانه.
وتوضيح ذلك : أ نّه لا إشكال في تقدّم زمان الاعتبار والجعل على زمان المعتبر والمجعول غالباً، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ جعل الأحكام جميعاً على نحو القضايا الحقيقية، فلا يتوقف على وجود موضوعها في الخارج، فيصحّ الجعل والاعتبار، سواء أكان موضوعها موجوداً في الخارج أم لم يكن. وأمّا زمان المعتبر ـ وهو زمان فعلية تلك الأحكام بفعلية موضوعاتها في الخارج ـ فبناءً على استحالة الواجب المعلّق فهو دائماً متحد مع زمان الواجب الذي هو ظرف تحقق الامتثال والعصيان، وعلى هذا فزمان فعلية التكليف بالمهم وزمان امتثاله

ــ[408]ــ

وزمان عصيانه واحد، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ زمان فعلية التكليف بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد.
فالنتيجة على ضوء ذلك: أنّ زمان فعـلية التكليف بالمهم وزمـان فعلية التكليف بالأهم واحد، إذ زمان فعلية التكليف بالمهم متحد مع زمان عصيان الأهم، لفرض أنّ عصيانه شرط لفعليته وموضوع لها، فيستحيل أن يكون زمان فعليته متقدماً على زمان عصيانه أو متأخراً عنه، والمفروض أنّ زمان عصيانه متحد مع زمان فعلية خطابه، فينتج ذلك أنّ زمان فعلية خطاب المهم متحد مع زمان فعلية خطاب الأهم، لأنّ ما مع المقارن بالزمان مقارن أيضاً لا محالة كما سبق.
وعلى هذا الضوء تترتب ضرورة تقارن فعلية خطاب المهم مع خطاب الأهم واجتماعهما في زمان واحد. نعم، تتقدم فعلية الخطاب على عصيانه أو امتثاله رتبة، كتقدم عصيان الأهم على فعلية خطاب المهم. وأمّا خطاب الأهم فليس بمتقدم على خطاب المهم رتبة، كما أ نّه ليس بمتقدم زماناً، والوجه في ذلك واضح، فانّ تقدّم الأمر على عصيانه أو امتثاله بملاك أ نّه علة له، وتقدّم عصيان الأهم على فعلية الأمر بالمهم بملاك أ نّه شرط له، ولا ملاك لتقدم خطاب الأهم على خطاب المهم أصلاً، فما هو المعروف من أنّ الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم، ليس المراد منه التقدم والتأخر بحسب الرتبة كما توهم، بل المراد منه مجرد ترتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم.
ودعوى أنّ الأمر بالمهم متأخر عن عصيان الأمر بالأهم وهو متأخر عن الأمر به فيتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبتين، مدفوعة بما ذكرناه سابقاً من أنّ التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع منوط بملاك كامن في صميم ذات المتقدم أو المتأخر وليس أمراً خارجاً عن ذاته، ولذا يختص هذا التقدم أو

ــ[409]ــ

التأخر بما فيه ملاكهما، فلا يسري منه إلى ما هو متحد معه في الرتبة فضلاً عن غيره، ولذا قلنا بتقدم العلة على المعلول، لوجود ملاك التقدم فيها. وأمّا عدمها فلا يتقدم عليه مع أ نّه في مرتبتها، وعلى هذا الضوء ففيما نحن فيه وإن كان الأمر بالأهم مقدّماً على عصيانه بملاك أ نّه علة له إلاّ أ نّه لا يوجب تقدمه على الأمر بالمهم، لانتفاء ملاكه.
أو فقل : إن تأخّر الأمر بالمهم عن عصيان الأمر بالأهم المتأخر عن نفس الأمر به، لا يوجب تأخره عن نفس الأمر بالأهم، وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية في أوّل بحث الضد فلاحظ (1). هذا بناءً على القول باستحالة الواجب المعلق.
وأمّا بناءً على إمكان الواجب المعلّق كما هو الصحيح، فلا مانع من أن يكون زمان الوجوب مقدّماً على زمان الواجب ـ الذي هو ظرف امتثاله وعصيانه ـ وقد حققنا ذلك في بحث الواجب المعلّق والمشروط بصورة مفصلة (2)، وقلنا هناك إنّه لا يلزم أيّ محذور من الالتزام بتعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه، كما أ نّه لا يلزم من الالتزام بالشرط المتأخر أصلاً.
ثمّ إنّه لا يفرق فيما ذكرناه من إمكان الترتب بين القول بامكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما، ولا يتوقف القول بامكان الترتب على القول باستحالتهما، بتخيل أ نّه لو قلنا بامكان الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر لكان لازم ذلك إمكان فعلية تكليف المهم قبل تحقق عصيان الأهم على نحو الشرط المتأخر أو الواجب المعلّق، وهذا غير معقول، لأنّ طلب الضدّين

ـــــــــــــــــــــ
(1) ص 304.
(2) في ص 135 و 174.

ــ[410]ــ

في آن واحد محال فلا يكون ممكناً، ولكنّه خيال فاسد.
والوجه في ذلك: هو أنّ ملاك استحالة الترتب ليس اجتماع الخطابين ـ أي خطاب الأهم وخطاب المهم ـ في زمان واحد، لأنّ اجتماعهما على كلا المذهبين في زمان واحد ومقارنتهما فيه ممّا لا بدّ منه، ضرورة أنّ حدوث التكليف بالمهم بعد سقوط التكليف بالأهم خلاف مفروض الخطاب الترتبي، وخارج عن محلّ الكلام، إذ لا إشكال في جواز ذلك وصحته، فان محل الكلام هو ما إذا كان الأمران متقارنين زماناً، ومع إثبات أنّ الجمع بين الأمرين في زمان واحد مع ترتب أحدهما على عصيان الآخر لا يرجع إلى طلب الجمع بين الضدّين، فلا مانع منه أصلاً، وهذا هو ملاك القول بامكان الترتب وصحته، كما أنّ ملاك القول بامتناعه واستحالته تخيّل أنّ الجمع بين الخطابين في زمان واحد يستلزم طلب الجمع بين الضدّين وهو محال.
وعلى هذا الأساس فكل من ملاك إمكان الترتب واستحالته أجنبي عن ملاك إمكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر واستحالتهما تماماً، إذ ملاك إمكان الترتب وامتناعه يدوران مدار النقطة المزبورة، وهي أنّ الجمع بين الطلبين في زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين الضدّين أم لا ؟ فالقائل باستحالة الترتب يدعي الأوّل، والقائل بامكانه يدعي الثاني، فتلك النقطة هي محط البحث والأنظار بين الأصحاب في المقام. وملاك إمكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر وملاك استحالتهما يدوران مدار ما ذكرناه من الأساس هناك فلا حاجة إلى الاعادة.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ القول بامكان الترتب لا يتوقف على القول باستحالة الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر. وعليه فلا فرق فيما ذكرناه من إمكان الترتب وأنّ الجمع بين الأمرين في زمان واحد لا يرجع إلى طلب الجمع

ــ[411]ــ

بين الضدّين، بين وجهة نظرنا في هاتين المسألتين ـ الواجب المعلّق والشرط المتأخر ـ وبين وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فيهما أصلاً.
فالغرض من هذه الجهة دفع ما توهم من ابتناء القول بامكان الترتب على القول باستحالة الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر.
الجهة الثالثة : لا إشكال في إطلاق الواجب بالاضافة إلى وجوده وعدمه ـ بمعنى تعلّق الطلب بالماهية المعراة عن الوجود والعدم ـ بداهة أنّ الطلب المتعلق بالفعل لا يعقل تقييد متعلقه بالوجود أو العدم، إذ على الأوّل يلزم طلب الحاصل وعلى الثاني الخلف، أو طلب الجمع بين النقيضين، وكذا الحال في الطلب المتعلق بالترك، فانّه لا يمكن تقييده بالترك المفروض تحققه، لاستلزامه طلب الحاصل ولا تقييده بالوجود، لأ نّه خلف أو طلب الجمع بين النقيضين.
فالنتيجة : أنّ تقييد متعلق الأمر بوجوده في الخارج أو بعدمه محال، فإذا استحال تقييده بالحصة المفروضة الوجود أو المفروضة العدم فلا محالة يكون متعلقه هو الجامع بينهما، ولازم ذلك هو ثبوت الأمر في حال وجوده وحال عدمه وفي حال عصيانه وامتثاله. وهذا واضح لا كلام فيه، وإنّما الكلام والاشكال في أنّ ثبوت الأمر في هذه الأحوال هل هو بالاطلاق أم لا ؟
فعلى مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ليس بالاطلاق، لما يراه (قدس سره) (1) من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر، وحيث إنّ التقييد في المقام محال كما عرفت فالاطلاق أيضاً محال، إذن لا إطلاق لمتعلق الأمر بالاضافة إلى تقديري وجوده وعدمه، لا بالاطلاق والتقييد اللحاظيين، ولا بنتيجة الاطلاق أو

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1: 156.

ــ[412]ــ

التقييد. أمّا الأوّل، فكما مرّ. وأمّا الثاني، فلأنّ استحالة التقييد والاطلاق في المقام ليست من ناحية استحالة لحاظيهما ليمكن التوصل إليهما بجعل آخر ويسمّى ذلك بنتيجة الاطلاق ونتيجة التقييد، بل من ناحية أنّ التقييد هنا مستلزم لتحصيل الحاصل أو طلب الجمع بين النقيضين، والاطلاق مستلزم للجمع بين كلا المحذورين المزبورين.
ومن الواضح البيّن أنّ كل هذه الاُمور محال في حد ذاته، لا من ناحية عدم إمكان الجعل بجعل واحد، وعدم إمكان اللحاظ بلحاظ فارد، ولكن مع هذا كان الحكم موجوداً في كلتا الحالتين ـ الوجود والعدم ـ، والوجه فيه: هو أ نّه لا موجب لسقوط التكليف بالأهم في المقام ما عدا العجز عن امتثاله، والمفروض أنّ المكلف غير عاجز عنه، ضرورة أنّ فعل الشيء لا يصير ممتنعاً حال تركه وكذا تركه حال فعله، إذ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا يوجب العجز وسلب القدرة عن الطرف الآخر بالبداهة. وعلى هذا فالأهم مقدور للمكلف حال تركه، كما أنّ تركه مقدور حال فعله، وكذا هو مقدور حال فعل المهم.
والأصل في جميع ذلك: هو أنّ ترجيح أحد الطرفين على الآخر أو ترجيح فعل المهم في المقام على فعل الأهم باختيار المكلف وإرادته، فلا يعقل أن يكون ذلك موجباً لامتناع الطرف الآخر، وإلاّ فلا يكون الشيء من الأوّل مقدوراً، وهذا خلف. ونتيجة ذلك: هي أنّ الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وحال الاتيـان بالمهم، وهذا معنى اجتماع الأمرين في زمان واحد، هذا على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وأمّا بناءً على وجهة نظرنا من أنّ التقابل بينهما ليس من تقابل العدم والملكة بل من تقابل التضاد، وأنّ استحالة أحدهما تستلزم ضرورة تحقق الآخر ووجوبه لا استحالته، فثبوته بالاطلاق، والوجه فيه: ما ذكرناه غير

ــ[413]ــ

مرّة من أنّ الاهمال في الواقع ومقام الثبوت غير معقول، فمتعلق الحكم في الواقع إمّا هو ملحوظ على وجه الاطلاق بالاضافة إلى جميع القيود حتّى القيود الثانوية ـ ومعنى الاطلاق عدم دخل شيء من تلك القيود فيه واقعاً، لا أنّ جميعها دخيلة فيه ـ وإمّا هو ملحوظ على وجه التقييد ولا ثالث لهما، وعليه فإذا استحال أحدهما وجب الآخر لانتفاء ثالث بينهما. وفي المقام بما أنّ تقييد متعلق الأمر بتقديري الفعل في الخارج أو الترك محال، فلا محالة كان إطلاقه بالاضافة إليه واجباً.
وعلى هذا يترتب أنّ الأمر المتعلق بالأهم مطلق بالاضافة إلى حالتي وجوده وعدمه، فعندئذ إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأهم وتركه في الخارج فلا محالة عند تركه يجتمع الأمران، أمّا الأمر بالأهم فمن جهة الاطلاق كما عرفت، وأمّا الأمر بالمهم فلتحقق شرطه ـ وهو ترك الأهم وعصيان أمره ـ ولكن مع ذلك فليس مقتضى الأمرين طلب الجمع بين الضدّين في زمن واحد، لأنّ أحدهما في طول الآخر لا في عرضه. وعليه فلا يمكن أن يقع متعلقهما على صفة المطلوبية ولو تمكن المكلف من إيجادهما في الخارج.
أو فقل: إنّ طلب الجمع بين فعلين في الخارج يتصور على صور أربع، وما نحن فيه ليس من شيء منها.
الاُولى : ما إذا كان هناك أمر واحد تعلّق بالجمع بين فعلين على نحو يرتبط كل منهما بالآخر ثبوتاً وسقوطاً، كما إذا تعلّق الأمر بالجمع بين الكتابة والجلوس مثلاً.
الثانية : ما إذا تعلّق أمران بفعلين على نحو يكون متعلق كل من الأمرين مقيداً بحال امتثال الأمر بالآخر، كما إذا أمر المولى بالصلاة المقارنة لامتثال الأمر بالصوم وبالعكس.

ــ[414]ــ

الثالثة : أن يكون متعلق أحد الخطابين مقيداً بحال امتثال الآخر دون العكس.
الرابعة : ما إذا تعلّق أمران بفعلين على وجه الاطلاق، بأن يكون كل منهما مطلقاً بالاضافة إلى حال امتثال الآخر والاتيان بمتعلقه، كما هو الحال في الأمر المتعلق بالصوم والصلاة، فانّ وجوب كل منهما مطلق بالاضافة إلى الاتيان بالآخر.
هذه هي الصور التي يكون المطلوب فيها الجمع، غاية الأمر أنّ الجمع في الصورة الاُولى بعنوانه متعلق للأمر والطلب. وأمّا في الصور الثلاثة الأخيرة فالجمع بعنوانه ليس متعلقاً للطلب، بل الأمر فيها يرجع إلى طلب واقع الجمع وحقيقته بالذات، كما في الصورتين الاُوليين، وبالعرض كما في الصورة الأخيرة، فانّ الجمع في تلك الصورة ـ أعني بها الصورة الأخيرة ـ ليس بمطلوب لا بعنوانه ولا بواقعه حقيقة، وإنّما هو مطلوب بالعرض، بمعنى أنّ عند تحقق امتثال أحدهما كان الاتيان بالآخر أيضاً مطلوباً، وهذا نتيجة إطلاق الخطابين.
وعلى كل حال فالقول بالترتب واجتماع الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم في زمان واحد لا يستلزم القول بطلب الجمع بينهما أصلاً. أمّا الجمع بمعنى تعلّق طلب واحد به كما في الصورة الاُولى فواضح. وأمّا الجمع بالمعنى الموجود في بقية الصور فأيضاً كذلك، لأنّ تعلّق طلبين بفعلين في زمان واحد إنّما يقتضيان الجمع بينهما فيما إذا كان امتثال كل منهما مقيداً بتحقق امتثال الآخر، أو كان امتثال أحدهما خاصة مقيداً بذلك دون الآخر، أو كان كل واحد منهما مطلقاً من هذه الجهة كما عرفت في الصور الثلاثة المتقدمة.
وأمّا إذا فرضنا أنّ أحد الأمرين مشروط بعدم الاتيان بمتعلق الآخر وعصيانه كما فيما نحن فيه، فيستحيل أن تكون نتيجة اجتماع الأمرين وفعليتهما

ــ[415]ــ

في زمن واحد طلب الجمع، بداهة أنّ فعلية الأمر بالمهم مشروط بعدم الاتيان بالأهم وفي ظرف تركه، وهذا في طرف النقيض مع طلب الجمع تماماً ومعانده رأساً، ومن هنا قلنا إنّه لا يمكن وقوع الفعلين معاً ـ الأهم والمهم ـ على صفة المطلوبية وإن فرضنا أنّ المكلف متمكن من الجمع بينهما في الخارج.
وسر ذلك: هو أنّ الأمر بالمهم إذا فرض اشتراطه بعصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه، فلا يمكن فعلية أمره بدون تحقق شرطه وهو ترك الأهم وفي ظرف وجوده، وإلاّ لزم أحد محذورين: إمّا اجتماع النقيضين، أو الخلف، وكلاهما مستحيل، وذلك لأنّ الأمر بالمهم تتوقف فعليته على فعلية موضوعه وهو ترك الأهم وعدم الاتيان به، وعليه فإذا فرض فعلية الأمر بالمهم في ظرف وجود الأهم، فعندئذ لا بدّ إمّا من فرض عدم الأهم عند وجوده فلزم اجتماع النقيضين، وإمّا من فرض أنّ عدم الأهم ليس بشرط، وهذا خلف.
ونتيجة ذلك: هي استحالة فعلية الأمر بالمهم في ظرف وجود الأهم وتحققه في الخارج، لاستلزامها أحد المحالين المزبورين.
وعلى هذا الضوء يسـتحيل استلزام فعلية الأمرين المترتب أحـدهما على عدم الاتيان بالآخر وعصيان أمره لطلب الجمع بين متعلقيهما.
وقد تحصّل من ذلك : أنّ المقام في طرف النقيض مع الصور المتقدمة، إذ فعلية الأمرين فيها تقتضي الجمع بين متعلقيهما كما عرفت، وفعلية الأمرين في المقام تقتضي التفريق بين متعلقيهما، وعدم امكان كون كليهما معاً مطلوباً.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ هذه الجهة وإن لم تكن كثيرة الدخل في إمكان القول بالترتب وجوازه، إلاّ أنّ الغرض من التعرض لها لدفع ما ربّما يتخيل أنّ الأمر بالأهم لو كان مطلقاً بالاضافة إلى حالتي عصيانه وامتثاله وفعله وتركه في الخارج لم يمكن القول بالترتب، إذ مقتضى إطلاقه هو أنّ أمره في حال عصيانه

ــ[416]ــ

باق، فإذا كان باقياً فلا محالة يدعو إلى إيجاد متعلقه في الخارج، والمفروض أنّ هذا الحال هو حال فعلية الأمر بالمهم، لفرض تحقق شرطها ـ وهو عصيان الأهم ـ إذن يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدّين، وهذا محال.
ولكن من بيان تلك الجهة قد ظهر فساد هذا الخيال، وذلك لأنّ محل الكلام في إمكان الترتب واستحالته فيما إذا كان الأمر بالأهم ثابتاً حال عصيانه وترك متعلقه، وإلاّ فليس من محل الكلام في شيء كما تقدّم، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ اجتماع أمرين متعلقين بالضدّين في زمن واحد شيء، وطلب الجمع بينهما شيء آخر، ولا ملازمة بين أحد الأمرين والآخر أصلاً.
نعم، لو كان تعلّق أمرين بهما في عرض واحد وعلى وجه الاطلاق، لكان ذلك مستلزماً لطلب الجمع بينهما لا محالة. ولكن أين هذا من تعلّق أمرين بهما على نحو الترتب، بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيان الأوّل وعدم الاتيان بمتعلقه، لأ نّك عرفت أنّ اجتماع الأمرين كذلك لا يستلزم طلب الجمع بين متعلقيهما بل هو في طرف النقيض معه وينافيه ويعانده، لا أ نّه يقتضيه كما مرّ.
وعلى الجملة : فالغرض من بيان هذه الجهة الاشارة إلى هذين الأمرين، أعني بهما دفع الخيال المزبور وأ نّه لا مجال له أصلاً. وامتياز المقام عن الصور المتقدمة، وأنّ فعلية الأمرين في تلك الصور تستلزم طلب الجمع لا في المقام كما عرفت.
الجهة الرابعة : وهي الجهة الرئيسية لأساس الترتب وتشييد كيانه: قد ذكرنا غير مرّة أنّ الخطابات الشرعية بشتّى أشكالها لاتتعرّض لحال موضوعاتها وضعاً ورفعاً، وإنّما هي تتعرض لحال متعلقاتها على تقدير وجود موضوعاتها، مثلاً خطاب الحج كما في الآية المباركة لا يكون متعرّضاً لحال الاستطاعة، ولا

ــ[417]ــ

يكون ناظراً إليها وجوداً وعدماً، وإنّما يكون متعرّضاً لحال الحج باقتضاء وجوده على تقدير وجود الاستطاعة وتحققها في الخارج بأسبابها المقتضية له، فلا نظر له إلى إيجادها، ولا إلى عدم إيجادها أصلاً، ولا إلى أ نّها موجودة أو غير موجودة. وكذا خطاب الصلاة وخطاب الزكاة وما شاكلهما، فانّ كلاً منها لا يكون متعرّضاً لحال موضوعه، لا وضعاً ولا رفعاً، ولا يكون مقتضياً لوجوده ولا لعدمه، وإنّما هو متعرض لحال متعلقه باقتضاء ايجاده في الخارج على تقدير وجود موضوعه.
والسرّ في ذلك: هو أنّ جعل الأحكام الشرعية إنّما هو على نحو القضايا الحقيقية، ومعنى القضية الحقيقية هو أنّ ثبوت المحمول فيها ووجوده على تقدير وجود الموضوع وثبوته، ونسبة المحمول فيها إلى الموضوع وضعاً ورفعاً نسبة لا اقتضائية، فلا يقتضي المحمول وجود موضوعه ولا يقتضي عدمه، فمتى تحقق الموضوع تحقق المحمول وإلاّ فلا.
ومن هنا قلنا إنّ القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، ومن الواضحات الأوّلية أنّ الجزاء لايقتضي وجود الشرط ولا عدمه، ولذلك لو كان أحد الدليلين ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر وضعاً أو رفعاً فلا ينافي ما هو مقتضى ذاك الدليل أبداً، لأ نّه بالاضافة إلى موضوعه لا اقتضاء، فلا يزاحم ما يقتضي وضعه أو رفعه، ولذا لا تنافي بين الدليل الحاكم والمحكوم والوارد والمورود.
وعلى ذلك الأساس نقول: إنّ عصيان الأمر بالأهم في محلّ الكلام وترك متعلقه، بما أ نّه مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم، فهو لا يكون متعرّضاً لحاله وضعاً ورفعاً، لما عرفت من أنّ الحكم يستحيل أن يستدعي وجود موضوعه أو عدمه، وإنّما هو يستدعي إيجاد متعلقه على تقدير وجود موضوعه في

ــ[418]ــ

الخارج، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الأمر بالأهم محفوظ في ظرف عصيانه، إمّا من جهة الاطلاق كما ذكرناه، أو من جهة أنّ الأمر يقتضي الاتيان بمتعلقه وإيجاده في الخارج، وهذا عبارة اُخرى عن اقتضاء هدم موضوع الأمر بالمهم ورفعه، وهو عصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي عدم التنافي بين هذين الأمرين أبداً.
أمّا بين ذاتيهما فواضح، ضرورة أ نّه لا تنافي بين ذات الأمر بالمهم مع قطع النظر عن اقتضائه، وذات الأمر بالأهم كذلك، وقد ذكرنا في غير مورد أ نّه لا تضاد ولا تماثل بين نفس الأحكام بما هي أحكام، إذ حقيقتها ليست إلاّ اعتبار المولى، ومن المعلوم أ نّه لا مضادة بين اعتبار واعتبار آخر، ولا مماثلة بينهما كما سيجيء ذلك بشكل واضح في الفرق بين مسألة التزاحم والتعارض.
وأمّا بينهما باعتبار اقتضائهما فالأمر أيضاً كذلك، لأنّ الأمر بالمهم إنّما يقتضي ايجاد متعلقه في الخارج على تقدير عصيان الأمر بالأهم من دون تعرض لحال عصيانه وضعاً أو رفعاً، وجوداً أو عدماً. والأمر بالأهم يقتضي هدم عصيانه الذي هو موضوع للأمر بالمهم، ومن الضروري أ نّه لا تنافي بين مقتضى ـ بالفتح ـ الأمرين كذلك، كيف فانّ ما كانت فعلية أصل اقتضائه ـ الأمر بالمهم ـ منوطة بعدم تأثير الآخر ـ الأمر بالأهم ـ وعدم العمل بمقتضاه، فيستحيل أن يزاحمه في تأثيره ويمنعه عنه، لأ نّه في ظرف تأثيره والعمل بمقتضاه ليس بفعلي ليكون مزاحماً له، وفي ظرف عدم العمل به وإن كان فعلياً إلاّ أ نّك قد عرفت أ نّه غير ناظر إلى حال موضوعه ـ العصيان ـ أصلاً ليزاحمه.
وإن شئت فقل : إنّ المقتضيين في محلّ الكلام ـ خطاب الأهم وخطاب المهم ـ إنّما يكونان متنافيين إذا كان اقتضاء كل واحد منهما لايجاد متعلقه على

ــ[419]ــ

وجه الاطلاق وفي عرض الآخر، بأن يكون الغرض من كل منهما فعلية مقتضاه من دون ترتب في البين، إذ عندئذ يستحيل تأثيرهما معاً وفعلية مقتضاهما، لأ نّه طلب للجمع بين الضدّين والمتنافيين، واستحالة ذلك من الواضحات. وأمّا إذا كان اقتضاء أحدهما مترتباً على عدم اقتضاء الآخر ومنوطاً بعدم تحقق مقتضاه، فلا تنافي بين اقتضائهما أبداً بل بينهما كمال الملاءمة، فان اقتضاء خطاب المهم إنّما هو في ظرف عدم تحقق مقتضى ـ بالفتح ـ خطاب الأهم وعدم فعليته. وأمّا في ظرف تحققه وفعليته، فلا اقتضاء له لعدم تحقق شرطه. إذن كيف يكونان مقتضيين لأمرين متنافيين والجمع بين الضدّين.
ولنأخذ لتوضيح ذلك مثالاً: وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالازالة مثلاً، والصلاة في آخر الوقت بحيث لو اشتغل المكلف بالازالة لفاتته الصلاة، فعندئذ الأمر بالازالة إنّما ينافي الأمر بالصلاة، إذا كانت دعوته إلى إيجاد الازالة واقتضائه له على وجه الاطلاق، وفي عرض اقتضاء الأمر بالصلاة ودعوته، بأن يكون الغرض منه فعلية مقتضاه مطلقاً، لا على تقدير دون آخر، وعليه فيلزم طلب الجمع بين الضدّين لفرض اقتضاء كل منهما لايجاد مقتضاه في عرض اقتضاء الآخر له.
وأمّا إذا فرضنا أنّ اقتضاء الأمر بالازالة كان مترتباً على ترك الصلاة وعصيان أمرها، كما هو محلّ الكلام، فلا يعقل أن يكون مزاحماً لمقتضى الأمر بالصلاة، والسرّ في ذلك: هو أ نّه لا تنافي ولا تضاد بالذات بين نفس اقتضاء الأمر بالمهم واقتضاء الأمر بالأهم، مع قطع النظر عن التضاد والتنافي بين مقتضاهما وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج، فالتنافي بين اقتضائهما إنّما هو من جهة التنافي والتضاد بين مقتضاهما، وعلى هذا فلا يمكن تعلّق الطلبين بهما في عرض واحد وعلى وجه الاطلاق، لاستلزام ذلك طلب الجمع بين الضدّين، وهو تكليف بالمحال.

ــ[420]ــ

وأمّا إذا كان طلب أحدهما مترتباً على عدم الاتيان بالآخر وفي ظرف عدمه، فلا يلزم التكليف بالمحال، فانّ الازالة عند الاتيان بالصلاة وامتثال أمرها ليست بمطلوبة واقعاً ليلزم من ذلك طلب الجمع، وعند تركها فهي وإن كانت مطلوبة إلاّ أنّ مطلوبيتها لمّا كانت مقيدة بترك الصلاة في الخارج وعدم العمل بمقتضى أمرها في كل آن، فلا تنافي مطلوبية الصلاة، ولا يلزم من تعلّق الأمرين بهما عندئذ طلب الجمع، كيف وأنّ الأمر بالازالة حيث كان معلّقاً على تقدير عدم العمل بمقتضى أمر الصلاة من دون تعرّضه لحال هذا التقدير واقتضائه وضعه، لما عرفت من أنّ الحكم لا يقتضي وجود موضوعه، فلا يكون مانعاً عن فعلية مقتضى ـ بالفتح ـ الأمر بالصلاة الذي هو ناظر إلى ذلك التقدير، ويقتضي هدمه.
إذن لا مانع من اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لعدم التنافي بينهما، لا بالذات كما مرّ، ولا باعتبار اقتضائهما، لأنّ التنافي بينهما بهذا الاعتبار إنّما هو من جهة أنّ القدرة الواحدة لا تفي بهما معاً، ومن الواضح أ نّها إنّما لا تفي فيما إذا كان كلاهما مطلوباً في عرض واحد لا على النحو الترتب، بمعنى أنّ المهم مطلوب في ظرف ترك الأهم، إذ لا شبهة حينئذ في وفاء القدرة بهما على هذا النحو كما عرفت.
وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ فعلية تعلّق الأمرين بهما واجتماعهما في زمان واحد إنّما تستدعي طلب الجمع بينهما على أحد تقديرين لا ثالث لهما:
الأوّل: أن يكون الأمر بالمهم في عرض الأمر بالأهم وعلى وجه الاطلاق، فعندئذ لا محالة يلزم طلب الجمع بينهما.
الثاني: أن يكون الأمر بالمهم في فرض تقييده بترك الأهم ناظراً إلى حال تركه ومقتضياً لوضعه وتحققه في الخارج، فحينئذ يلزم طلب الجمع لفرض أنّ

 
 

ــ[421]ــ

الأمر بالأهم يقتضي هدمه ورفعه. ومن الواضح جداً أ نّا لا نعقل لزوم طلب الجمع بينهما فيما عدا هاتين الصورتين، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنّ مفروض كلامنا هاهنا ليس من قبيل الصورة الاُولى كما هو ظاهر، ولا من قبيل الصورة الثانية، لما عرفت من أنّ ترك الأهم بما أ نّه مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم، فيستحيل أن يقتضي وجوده، ففرض اقتضائه وجوده وتحققه، فرض عدم كونه مأخوذاً في موضوعه، وهذا خلف.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي عدم لزوم طلب الجمع في مفروض الكلام.
وأمّا التنافي بين الأمرين باعتبار مبدئهما: فهو أيضاً غير متحقق، بداهة أ نّه لا تنافي ولا تزاحم بين تحقق ملاك في الواجب المهم على تقدير ترك الواجب الأهم وعصيانه، وتحقق ملاك في الواجب الأهم على وجه الاطلاق، بل لا تنافي بين الملاكين فيما إذا كان ثبوته في المهم أيضاً على وجه الاطلاق مع قطع النظر عن تأثيرهما في جعل الحكم فعلاً.
ومن هنا يظهر أ نّه لا تنافي بين إرادة المهم على تقدير عدم امتثال الأهم، وإرادة الأهم على نحو الاطلاق.
والنكتة في جميع ذلك: هي أنّ التزاحم بين هذه الاُمور جميعاً إنّما نشأ من مبدأ واحد وهو عدم قدرة المكلف على الجمع بين الضدّين في مقام الامتثال. ومن المعلوم أنّ التنافي إنّما هو فيما إذا كان كل منهما مراداً للمولى ومطلوباً له في عرض الآخر، وأمّا إذا كانت مطلوبية أحدهما مقيدة بعدم الاتيان بالآخر، فلا تنافي بين طلبيهما في زمان واحد، ولا بين إرادتيهما، لتمكن المكلف عندئذ من الاتيان بالأهم والاتيان بالمهم على تقدير ترك الأهم عقلاً وشرعاً.
فالقائل باستحالة الترتب إنّما قال بها من جهة غفلته عن هذه النكتة،

ــ[422]ــ

وتخيله أنّ فعلية طلب المهم وفعلية طلب الأهم في زمان واحد تستلزمان طلب الجمع بينهما، إذ المفروض أنّ كل واحد منهما في هذا الزمان يقتضي إيجاد متعلقه في الخارج، وهذا معنى طلب الجمع، ولكنّه غفل عن أنّ مجرد فعلية اقتضائهما لذلك لا يستلزم طلب الجمع، وإنّما يستلزم ذلك فيما إذا كان اقتضاء كل منهما على وجه الاطلاق وفي عرض الآخر، وأمّا إذا كان اقتضاء طلب المهم مقيداً بترك الأهم من دون اقتضائه لتركه، فلا يستلزم طلب الجمع بل مقتضاهما التفريق في مقام الامتثال كما عرفت.
وخلاصة ما ذكرناه في المقام: بعد تحليل مسألة الترتب تحليلاً علمياً عميقاً، هو أنّ المانع من طلب الضدّين معاً ليس إلاّ عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال، ومن الواضح أنّ ذلك المانع إنّما هو فيما إذا كان طلبهما في عرض واحد وعلى وجه الاطلاق. وأمّا إذا كان طلب أحدهما مقيّداً بترك الآخر من دون تعرضه لحال تركه أصلاً ـ كما هو المفروض ـ فلا مانع عندئذ أصلاً، لفرض أنّ المكلف قادر على الاتيان بالأهم، وعلى الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم، والجمع بينهما غير مطلوب على الفرض، إذن لا مانع من تعلّق الطلبين بهما على هذا النحو والتقدير، ولا يلزم منه طلب المحال. والغفلة عن هذه النقطة الأساسية أوجبت تخيل أنّ تعلّق الأمرين بالضدّين في زمان واحد مستحيل ولو كان على نحو الترتب.
أو فقل : إنّ منشأ استحالة طلب الجمع بين الضدّين هو أنّ القدرة الواحدة لا تفي للجمع بينهما في زمان واحد، وأمّا إذا كان طلب أحدهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر، فالقدرة الواحدة تفي بهما، ضرورة أ نّه مع إعمال القدرة في فعل الأهم وصرفها في امتثاله، لا أمر بالمهم أصلاً، لعدم تحقق شرطه، وأمّا مع عدم إعمالها فيه فلا مانع من إعمالها في فعل المهم، ولا مانع عندئذ من فعلية أمره مع

ــ[423]ــ

فعلية الأمر بالأهم، ولا يلزم من فعلية كلا الأمرين في زمان واحد طلب المحال وغير المقدور أصلاً.
ونظير ما ذكرناه من الترتب موجود في الاُمور التكوينية أيضاً، وهو ما إذا كان هناك مقتضيان أحدهما يقتضي تحريك جسم عن مكان، والآخر يقتضي بياضه على تقدير حصوله في ذلك المكان، من دون نظر له إلى حال هذا التقدير واقتضائه حصوله فيه أصلاً، أو كما إذا كان مقتض يقتضي وجود رمّانة مثلاً في يد أحد، ولكنّه على تقدير وقوعه من يده في الخارج كان مقتض آخر يقتضي وجودها في يد شخص آخر، فالمقتضي لأخذه موجود ـ على تقدير سقوطه من يد الأوّل ـ دون أن يكون فيه اقتضاء لسقوطه، ونحو ذلك، فكما لا تعقل المزاحمة بين المقتضيين التكوينيين في هذين المثالين وما شاكلهما، فكذلك لاتعقل المزاحمة بين المقتضيين التشريعيين في محلّ البحث.
والسرّ في ذلك ليس إلاّ ما ذكرناه من النقطة الأساسية. هذا تمام الكلام في الدليل اللمي.
نتائج الجهات المتقدمة:
نتيجة الجهة الاُولى هي: أنّ عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه في الآن الأوّل، غير كاف لفعلية الأمر بالمهم على الاطلاق، وإلى آخر أزمنة امتثاله، بل فعليته مشروطة في كل آن وزمن بعصيانه في ذلك الآن والزمن، فلو كان عصيانه في الآن الأوّل كافياً لفعلية أمره مطلقاً، لزم محذور طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث وهكذا، كما سبق.
ونتيجة الجهة الثانية هي: أنّ القول بالترتب لا يتوقف عى القول باستحالة الواجب المعلّق والشرط المتأخر، فانّ ملاك إمكان الترتب واستحالته غير ملاك إمكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر واستحالتهما، هذا من ناحية.

ــ[424]ــ

ومن ناحية اُخرى: أنّ زمان فعلية الأمر بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد، كما أنّ زمان فعليته وزمان فعلية الأمر بالمهم واحد، وليس الأمر بالأهم ساقطاً في زمان فعلية الأمر بالمهم، بأن حدث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم، فان ذلك خارج عن محلّ الكلام في المقام، ولا اشكال في جوازه. وما هو محلّ الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعلياً كما تقدّم.
ونتيجة الجهة الثالثة هي: أنّ انحـفاظ الأمر بالأهم في زمان الأمر بالمهم ـ وهو زمان عصيان الأمر بالأهم ـ بالاطلاق على وجهة نظرنا، ومن جهة اقتضاء الأمر لهدم هذا التقدير على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وعلى كل منهما لا يلزم من انحفاظه في ذلك الزمان طلب الجمع بين الضدّين، فانّ ملاك طلب الجمع إنّما هو إطلاق الخطابين وكون كل منهما في عرض الآخر، لا ترتب أحدهما على عصيان الآخر، فانّه يناقض طلب الجمع وينافيه، كما تقدّم بشكل واضح.
ونتيجة الجهة الرابعة هي: أنّ خطاب المهم ـ بما أ نّه مشروط بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه ـ لا نظر له إلى عصيانه رفعاً ووضعاً، لما عرفت من أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه أو عدمه، وخطاب الأهم بما أ نّه محفوظ في هذا الحال فهو يقتضي هدم عصيانه ورفعه، باعتبار اقتضائه إيجاد متعلقه في الخارج، ومن الواضح أنّ الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب الجمع، بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع، ولذا لو تمكن المكلف من الاتيان بهما في الخارج فلا يقعان على صفة المطلوبية، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الأهم دون المهم، والمفروض أنّ المكلف قادر على الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم، فإذا كان قادراً فلا مانع من تعلّق التكليف به على هذا التقدير، فانّ المانع عن طلب الجمع هو عدم القدرة، وحيث لم يكن المطلوب هو الجمع فلا مانع أصلاً.

ــ[425]ــ

وعلى ضوء هذه النتائج تترتب نتيجة حتمية، وهي إمكان الترتب، وأ نّه لا مناص من الالتزام به، بل نقول: إنّ من انضمام تلك النتائج بعضها مع بعضها الآخر وملاحظة المجموع بصورة موضوعية يستنتج أنّ مسألة إمكان الترتب من الواضحات الأوّلية، وأ نّها غير قابلة للانكار، بحيث إنّ تصوّرها ـ بعد ملاحظة ما ذكرناه ـ يلازم تصديقها كما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من إمكان تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب وعدم لزوم طلب الجمع بينهما فيما إذا كان خطاب المهم مشروطاً بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه، إنّما هو من جهة أنّ هذا التقييد هادم لموضوع طلب الجمع ومناقض له، لا من جهة أنّ العصيان أمر اختياري وتعليق طلب الجمع على أمر اختياري لا مانع منه، بداهة أنّ طلب الجمع محال مطلقاً ولو كان معلّقاً على أمر يمكن رفعه، وعدم إيجاده في الخارج، فلا فرق في استحالة طلب إيجاد الضدّين معاً أو النقيضين بين أن يكون مطلقاً، وأن يكون معلّقاً على أمر اختـياري، كأن يقول الآمـر إذا صعدت السطح مثلاً، فاجمع بين الضدّين أو النقيضين، أو إذا سافرت فاجمع بينهما إلى غير ذلك، فانّ استحالة طلب المحال وقبحه ـ ولو مشروطاً بشرط يكون وجوده وعدمه تحت اختيار المكلف ـ من الضروريات الأوّلية.
وأمّا ما نسب إلى السيد العلاّمة الميرزا الكبير الشيرازي (قدس سره) من أ نّه اعترف بأنّ الترتب وإن استلزم طلب الجمع، إلاّ أ نّه لا محذور فيه بعد ما كان عصيان الأهم الذي هو مأخوذ في موضوع المهم تحت اختيار المكلف، لتمكنه من الفرار عن هذا المحذور بترك العصيان والاتيان بالأهم، فلا يخلو ما في هذه النسبة، ضرورة أنّ صدور مثل هذا الكلام عنه (قدس سره) في غاية البعد، فانّه من عمدة مؤسسي الترتب في الجملة، فكيف يعترف بهذا المحذور.

ــ[426]ــ

ومن هنا قال شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّ هذه النسبة ليست مطابقة للواقع، بل يستحيل صدور ذلك منه (قدس سره) ولعلّه تعرّض لمناسبة أنّ العصيان أمر اختياري فتوهم المتوهم منه أ نّه أراد به تصحيح الترتب(1). والأمر كما أفاده (قدس سره).
هذا تمام كلامنا في أدلة الترتب.
بقي هنا شيء تعرّض له شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لتوضيح محل البحث في المقام ولا بأس بعطف الكلام عليه.
فنقول: قد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) أنّ الأمرين المتعلقين بفعلين إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً على قسمين:
الأوّل: أن لا يكون أحد الخطابين المجتمعين في الزمان ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر وهدمه.
الثاني: أن يكون أحدهما ناظراً إلى رفع موضوع الآخر.
أمّا القسم الأوّل : فالشرط الذي يترتب عليه الخطاب والأمر لا يخلو من أن يكون اختيارياً كالسفر والحضر وقصد الاقامة وما شاكل ذلك، وأن يكون غير اختياري كزوال الشمس وغروبها وكسوفها وخسوف القمر وما يشبهها، وعلى كلا التقديرين فعند تحقق الشرط يصير كلا الخطابين فعلياً، وحينئذ فان كان كل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بمتعلق الآخر، أو كان أحدهما مشروطاً بذلك دون الآخر، فلا شبهة في استحالة وقوع متعلقيهما في الخارج على صفة المطلوبية، وتعلّق الطلب بالجمع بينهما، وذلك على ضوء ما بيّناه من أنّ اجتماع

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 75.
(2) أجود التقريرات 2: 73 وما بعدها.

ــ[427]ــ

الأمرين كذلك لا يرجع إلى طلب الجمع بل يناقضه.
وأمّا إذا كانا مطلقين من هذه الناحية، فعندئذ إن لم يكن بين متعلقيهما تضاد في الوجود الخارجي، وتمكن المكلف من إيقاعهما في الخارج وإيجادهما فيه، فلا إشكال في وجوبه. وأمّا إن كانت بينهما مضادة في عالم الوجود فيدخلان في كبرى باب التزاحم وتجري عليهما أحكامه من تقييد إطلاق كل واحد منهما بعدم الاتيان بالآخر إذا لم يكن في البين أهم، وإلاّ يتعين تقييد إطلاق خطاب المهم بعدم الاتيان بالأهم دون العكس، ولا يلزم فيه محذور طلب الجمع ونحوه كما سبق.
ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط المزبور اختيارياً أو غير اختياري، وذلك لما عرفت من أنّ الحكم لا يقتضي وجود شرطه في الخارج. إذن كونه اختيارياً لا أثر له من هذه الناحية.
وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر، فهو على نحوين:
أحدهما: ما إذا كان أحد الخطابين رافعاً لموضوع الخطاب الآخر بامتثاله وإتيانه في الخارج.
ثانيهما: ما إذا كان رافعاً له بصرف وجوده وتحققه في الخارج.
أمّا النحو الأوّل : فهو من محل الكلام هنا جوازاً وامتناعاً، باعتبار أنّ توجه خطابين كذلك إلى شخص واحد في زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج كما تخيله المنكرون للترتب، أو لا يستلزم ذلك كما هو الصحيح؟ وقد تقدّم الكلام في هذا النحو من الخطابين ضمن عدّة من الفروعات الفقهية بصورة مفصّلة، فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان الخطاب بصرف وجوده رافعاً لموضوع

ــ[428]ــ

الآخر، فهو خارج عن محل البحث والكلام، وذلك لامتناع اجتماع الخطابين حينئذ في زمان واحد، إذ المفروض أ نّه بمجرد تحقق أحد الخطابين يرتفع الخطاب الآخر بارتفاع موضوعه، فلا يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد، بداهة أنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه، ومن الواضح أ نّها مستحيلة في فرض وجود الرافع لموضوعه، فيكون المقام نظير الأمارات القائمة في موارد الاُصول، فانّها رافعة لموضوعها، ولا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها، وقد عرفت أنّ محل البحث هنا هو ما إذا كان الخطابان مجتمعين في زمان واحد، وأمّا إذا لم يكونا مجتمعين فيه، فلا يكونان داخلين في محل البحث، وقد ذكر (قدس سره) لذلك فروعاً كثيرة:
1 ـ مسألة الحج : ببيان أنّ موضوعها ـ وهو الاستطاعة ـ يرتفع بصرف تحقق خطاب آخر وهو الخطاب بأداء الدين مثلاً، فانّه بمحض وجوده رافع لموضوع الخطاب بالحج، ومعه لا يكون المكلف مستطيعاً إذا لم يكن المال الموجود عنده وافياً بأداء الدين ومصارف الحج معاً، نعم هو واف بالمصارف وحدها، فلو لم يكن مديوناً لكان مستطيعاً وكان الحج واجباً عليه، ولكن دينه مانع عن وجوبه ورافع لموضوعه، وعليه فلو لم يؤدّ دينه وعصى أمره وحج، فلا يكون حجه من حجة الاسلام، ولا يكون مجزئاً، لعدم جريان الترتب في ذلك.
وعلى الجملة: فهذا خارج عن محل الكلام في المقام، لعدم امكان اجتماع الخطاب بأداء الدين والخطاب بالحج في زمان واحد، ففي زمان تحقق الخطاب بأداء الدين يرتفع موضوع الخطاب بالحج، والمفروض أنّ الخطاب بأداء الدين في زمان عصيانه وترك متعلقه أيضاً موجود، لما سبق مفصّلاً من أنّ التكليف ثابت في حال عصيانه أيضاً. وعلى هذا فلا يمكن فرض وجود الخطاب بالحج

ــ[429]ــ

مترتباً على عصيان الأمر بأداء الدين. هذا بناءً على ما هو المعروف من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً.
وأمّا بناءً على تفسيرها بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق كما في الرواية (1) ـ وهو الصحيح ـ فالتكليفان متزاحمان ولا مانع من اجتماعهما على نحو الترتب، فانّه عند عصيان الأمر بأداء الدين متمكن من الزاد والراحلة، وعندئذ فلا مانع من وجوب الحج عليه، بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه.
2 ـ إنّ الخطاب باخراج الخمس في بعض الموارد بصرف وجوده وتحققه رافع لموضوع وجوب الزكاة ومانع عنه، وذلك كما إذا فرضنا أنّ شخصاً ملك عشرين شاة في أوّل محرّم مثلاً، ثمّ ملك عشرين شاة اُخرى في آخره، فإذا مضى على الطائفة الاُولى حول كامل تعلّق الخطاب باخراج الخمس منها، وهو أربع من تلك الشياه. ومن المعلوم أنّ هذا الخطاب بصرف وجوده مانع عن وجوب الزكاة ورافع لموضوعه وهو بلوغها حدّ النصاب ـ أعني به أربعين شاة ـ فان هذه الأربعة عندئذ صارت ملكاً للإمام (عليه السلام) والسادة، فلم يبق في ملك المالك إلاّ ست وثلاثون شاة، وهي غير بالغة حدّ النصاب الذي هو موضوع لوجوب إخراج الزكاة.
أو إذا فرضنا أ نّه ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة من الأرباح، فعندئذ لا محالة بمجرد إكمال سنة التجارة، وقبل تمامية حول الزكاة تعلّق الخطاب بإخراج الخمس منها، الموجب لخروجها عن كونها ملكاً طلقاً له بمشاركة الإمام (عليه السلام) والسادة إيّاه في ذلك المال ـ أعني به الشياه ـ ومن الواضح أ نّها بذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة، إذ لم يبق في ملكه الطلق بعد خروج ثمان

ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع الوسائل 11: 33 / أبواب وجوب الحج وشرائطه ب 8.

ــ[430]ــ

منها إلاّ اثنتان وثلاثون شاة، وهي لا تبلغ حدّ النصـاب، ففي هذا المثال وما شـاكله لا يمكن القـول بالترتب، إذ الخـطاب بإخراج الخمس بصرف تحـققه وفعليتـه مانع عن وجـوب الزكاة ورافع لموضـوعه، لا بامتثـاله وإتيانه في الخارج، ليمكن الالتزام بوجوب الزكاة في ظرف عصيان الخطاب بالخمس وعدم امتثاله.
وعلى الجملة: ففعلية الخطاب باخراج الزكاة إنّما هي بفعلية موضوعه، وهو بلوغ المال النصاب، وهذا المال وإن كان في نفسه داخلاً في النصاب مع قطع النظر عن وجوب إخراج الخمس منه، إلاّ أنّ وجوب ذلك مخرج له عن كونه ملكاً تاماً له بمشاركة الإمام (عليه السلام) والسادة إيّاه في ذلك المال، فبذلك يخرج عن موضوع وجوب الزكاة. وأمّا الباقي في ملكه فليس يبلغ حدّ النصاب، هذا بناءً على ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الرافع لموضوع وجـوب الزكاة في مثل هذا المـورد صرف تحـقق الخـطاب باخراج الخمـس وفعليته.
وأمّا بناءً على ما حققناه في محلّه، فالأمر ليس كما أفاده (قدس سره) والوجه في ذلك: هو أنّ الترتب وإن كان غير جار بين هذين الخطابين وما شاكلهما، ولكن لا من ناحية ما ذكره شـيخنا الاُستاذ (قدس سره) بل لأجل ما ذكرناه من أنّ الرافع لموضوع وجوب الزكاة إنّما هو تعلّق الخمس بالربح، وكون غير المالك شريكاً معه في خمس هذا المال، وبذلك يخرج عن كونه ملكاً طلقاً له بمشاركة غيره إيّاه في ذلك، فعندئذ يخرج عن موضوع وجوب الزكاة، لفرض عدم بلوغ الباقي في ملكه حدّ النصاب، هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى: أنّ المفروض ـ كما حقق في محلّه (1) ـ أنّ الخمس إنّما تعلّق

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة 25: 275 ذيل المسألة 72 [ 2948 ].

ــ[431]ــ

بالربح من حين وجوده، ولا يتوقف تعلقه به على إكمال سنة التجارة، غاية الأمر أنّ الشارع قد رخّص المالك في التصرف في الأرباح إلى حين إكمال السنة، وهذا مجرد ترخيص في التصرف من قبل الشارع في المال المشترك بينه وبين غيره، فلا ينافي كون خمسها ملكاً للغير.
فالنتيجة على ضوء هاتين الجهتين: هي أنّ موضوع وجوب الزكاة يرتفع من حين تعلّق الخمس بها، وهو أوّل زمان تحققها وحصولها في الخارج، سواء أتحقق الخطاب باخراج الخمس في ذلك الزمان أم لم يتحقق، فانّه لا دخل لتحقق الخطاب وفعليته في ذلك أبداً، مثلاً في المثالين المتقدمين بمجرد أنّ المالك ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة أو عشرين شاة، تعلّق بها الخمس الموجب لخروجها عن كونها ملكاً طلقاً له بمشاركة غيره إيّاه فيها، فبذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة، ضرورة أ نّه بعد صيرورة أربع منها في المثال الأوّل، وثمان منها في المثال الثاني ملكاً لغير المالك، لم يبق في ملكه ما يبلغ حدّ النصاب، فيرتفع الموضوع من زمان حصول ذلك الربح وهو زمان ملك المالك أربعين أو عشرين شاة، ولا يتوقف ارتفاعه على وجود الخطاب وتحققه أصلاً، بداهة أنّ الموجب لارتفاعه إنّما هو صيرورة خمس تلك الأرباح ملكاً لغير المالك، فانّه يمنع عن بلوغها حدّ النصاب، لا وجود الخطاب، إذ الالزام بالاخراج إنّما يتحقق بعد مضي الحول وتمام السنة. نعم، يستحبّ الاخراج من زمان الربح لا أ نّه واجب.
3 ـ ما إذا تعلّق الخطاب باخراج شيء زكاة، فانّه في بعض الموارد بنفسه وبصرف وجوده مانع عن وجوب الخمس ورافع لموضوعه، وذلك كثيراً ما يتفق في الغلات الأربع، كما إذا ملك المكلف أثناء سنة التجارة من الغلاّت مقداراً يبلغ حدّ النصاب فوجب عليه إخراج زكاته، وهي مقدار عشر هذا

ــ[432]ــ

المال مثلاً، فيخرج بذلك هذا العشر عن فاضل المؤونة الذي هو موضوع وجوب الخمس.
أو فقل : إنّ تعلّق الخطاب باخراج الزكاة عن ذلك المال يخرجه عن كونه ملكاً طلقاً له بمشاركة الفقير إيّاه في عشر ذلك، وعليه فلا يكون عشره من فاضل مؤونته ليتعلق به الخمس. ولا يفرق في عدم تعلّق الخمس به بين أن يخرجه ويعطي للفقير أم لا، فلا يمكن اجتماع هذين الخطابين في زمان واحد ليمكن تصحيح وجوب الخمس بالترتب. هذا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وأمّا بناءً على وجهة نظرنا فقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الرافع للموضوع في أمثال هذا المورد ليس الخطاب بصرف وجوده وتحققه، بل الرافع له هنا هو نفس تعلّق الزكاة بعين هذا المال الموجب لخروجه عن كونه ملكاً تاماً له بمشاركة الفقير إيّاه في ذلك المال، فبذلك يخرج عشره عن فاضل المؤونة من جهة أ نّه صار ملكاً لغيره، ومن الواضح جداً أ نّه لا دخل في ذلك لوجود الخطاب باخراج الزكاة وعدم وجوده أصلاً، وهذا بمكان من الوضوح.
4 ـ ما إذا كان المكلف مديوناً بدين صرفه في مؤونة سنته، فالخطاب بأدائه بصرف تحققه وفي نفسه يخرج ربح هذه السنة عن عنوان فاضل المؤونة إن كان دينه مستوعباً لتمام الربح، كما إذا كان مائة دينار وربحه أيضاً كذلك، وإن لم يكن مستوعباً لتمامه كما إذا كان دينه خمسين ديناراً وربحه في تلك السنة مائة دينار، فيخرج عن الربح بمقدار الدين عن فاضل المؤونة، فلا يتعلق به الخمس دون الزائد، وعلى هذا لو عصى الأمر بأداء الدين ولم يؤدّ دينه فلا يجب عليه إخراج الخمس عنه بمقدار دينه، هذا بناءً على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره).

ــ[433]ــ

والصحيح أنّ الرافع لموضـوع وجوب الخمس هنا إنّما هو نفس وجوب الدين، إذ معه لا يتحقق له في هذه السنة ربح ليتعلق به الخمس، لا الخطاب بأدائه، فانّه لا دخل له في ذلك أصلاً، ولذا لو فرض أ نّه لم يكن خطاب بأدائه لمانع من الموانع لم يتعلق به الخمس أيضاً، لعدم الموضوع له، وهو الفاضل عن مؤونة السنة. هذا إذا كان دينه من جهة الصرف في المؤونة. وأمّا إذا كان دينه من غير تلك الجهة، كما إذا كان من ناحية الضمان أو نحوه، فهل هو أيضاً رافع لموضوع وجوب الخمس أم لا، ففيه كلام وإشكال، وتمام الكلام في باب الخمس(1) إن شاء الله تعالى.
وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ هذه الفروعات وما شاكلها جميعاً خارجة عن محل الكلام في المسألة، ولا يجري الترتب في شيء منها، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ عدم جريانه من جهة أنّ أحد الخطابين رافع لموضوع الخطاب الآخر بصرف وجوده وتحققه، فلا يمكن اجتماعهما في زمان واحد، بل لما ذكرناه من أنّ الرافع له شيء آخر، وهو المانع عن اجتماعهما في زمان واحد، ولا دخل لوجود الخطاب وعدمه في ذلك أبداً.
نعم، ما ذكره (قدس سره) بالاضافة إلى الأمارات وأ نّها رافعة لموضـوع الاُصول وأ نّه لا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها صحيح، بل لا يختص هذا بالأمارات والاُصول، فيعم جميع موارد الحكومة والورود، إذ لا يبقى موضوع لدليل المحكوم والمورود بعد ورود دليل الحاكم والوارد، ولكن قياس هذه الفروعات بتلك الموارد قياس مع الفارق.
ونتائج أبحاث الترتب إلى هنا عدّة نقاط :

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة 25: 269 ذيل المسألة 71 [ 2947 ].

ــ[434]ــ

الاُولى : أنّ البحث عن الترتب إنّما يكون ذا ثمرة إذا لم يمكن تصحيح العبادة المزاحمة لواجب أهم بالأمر ولا بالملاك، وإلاّ فلا تترتب على البحث عنه ثمرة كما عرفت.
الثانية : أنّ البحث عن هذه المسألة بحث عقلي لا يرتبط بعالم اللفظ أبداً.
الثالثة : أنّ ما كان محلاً للبحث هو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان مضيّقين، أحدهما أهم من الآخر، وأمّا إذا كانا موسّعين، أو كان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّقاً، فقد سبق أنّ هاتين الصورتين خارجتان عن محل البحث والكلام. نعم، ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ الصورة الأخيرة داخلة في محل الكلام. ولكن قد عرفت أنّ ما ذكره إنّما يتم على مسلكه (قدس سره) لا مطلقاً، كما تقدّم تفصيلاً.
الرابعة : أنّ إمكان الترتب كاف لوقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى دليل، فالبحث فيه متمحض في جهة إمكانه.
الخامسة : أنّ الترتب لا يجري في أجزاء واجب واحد وشرائطه، فإذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاُولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية مثلاً فلا يجري الترتب فيه، لعدم كونهما من المتزاحمين ليترتب عليهما أحكامهما ومنها الترتب. نعم، ذكر جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ التزاحم يجري بينهما كما يجري بين واجبين نفسيين، ولكن قد عرفت فساد ذلك.
السادسة : أ نّه لا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على نحو الترتب على إحراز الملاك فيه، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد أنكر جريانه فيما لم يحرز كونه واجداً للملاك، وقلنا إنّ الترتب لا يتوقف على ذلك، والأصل فيه ما تقدّم من أ نّه لا يمكن إحراز الملاك في شيء مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به، من دون فرق في ذلك بين اعتبار القدرة في موضوع التكليف عقلاً أو شرعاً.

ــ[435]ــ

السابعة : أ نّه لا فرق في جريان الترتب بين ما إذا كانت القدرة معتبرة في موضوع التكليف بالمهم عقلاً، وما إذا كانت معتبرة فيه شرعاً كما في الوضوء، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث منع عن جريان الترتب في الثاني بدعوى أنّ نفس التكليف بالأهم رافع لموضوع وجوب الوضوء لا امتثاله، ولكن قد عرفت فساده، وأنّ نفس التكليف بالأهم لا يكون رافعاً لموضوعه، لفرض أنّ التصرف في الماء الموجود عنده مباح وليس بحرام، غاية الأمر يجب صرفه في واجب أهم كحفظ النفس المحترمة أو نحوه، ولكن المكلف عصى ولم يصرفه فيه. إذن يكون المكلف واجداً للماء ولا مانع من صرفه في الوضوء لا عقلاً كما هو واضح، ولا شرعاً لأنّ التصرّف في هذا الماء مباح له على الفرض، والعصيان إنّما هو من جهة ترك ذلك الواجب، لا من جهة التصرف فيه، وعليه فعلى القول بامكان الترتب لا مانع من الالتزام به في مثل المقام. نعم، لو كان التصرف في الماء في نفسه حراماً فلا يمكن تصحيح الوضوء بالترتب، لأنّ نفس الحرمة رافعة لموضوع وجوبه لا امتثالها.
الثامنة : أنّ ما دلّ على إمكان الترتب اُمور ثلاثة: الوجدان، الدليل الإنّي الدليل اللمي.
التاسعة : أنّ الترتب قد وقع في عدّة من الفروعات الفقهية ولا مناص من الالتزام به في تلك الفروعات، كما تقدّمت جملة منها فلاحظها.
العاشرة : أنّ الواجب الأهم إذا كان آنيّاً غير قابل للدوام والبقـاء، وكان الواجب المهم تدريجياً قابلاً لذلك، فلا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على القول بامكان الترتب، ولذا قلنا إنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام، فان ما كان محلاً للكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم مع قطع النظر عن القول بالترتب.

ــ[436]ــ

الحادية عشرة : أنّ محل الكلام هو ما إذا كان كل من الواجب الأهم والمهم تدريجياً أو كان كلاهما آنياً.
الثانية عشرة : أنّ شرط فعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم مستمراً إلى آخر أزمنة امتثال الأمر بالمهم على نحو الشرط المتأخر، لا صرف وجود عصيانه في الآن الأوّل، وإن تبدل بالاطاعة في الآن الثاني، فانّ هذا لا يدفع محذور طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث كما تقدّم.
الثالثة عشرة : أنّ زمان المعتبر والمجعول ـ وهو زمان فعلية الحكم بفعلية موضوعه ـ دائماً متحد مع زمان الواجب، وهو زمان عصيانه وامتثاله، بناءً على القول باستحالة الواجب المعلّق والشرط المتأخر، وأمّا بناءً على القول بامكانهما ـ كما هو الصحيح ـ فلا مانع من أن يكون زمان المعتبر مقدّماً على زمان الواجب كما سبق.
الرابعة عشرة : أ نّه لا فرق في القول بامكان الترتب واستحالته بين القول بامكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما، فان ملاك الامكان والاستحالة في الترتب شيء وهناك شيء آخر كما عرفت.
الخامسة عشرة : أنّ الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وامتثاله، كما أ نّه ثابت حال الأمر بالمهم على ما تقدّم.
السادسة عشرة : أنّ ثبوت الأمر بالأهم في حالي عصيانه وامتثاله إنّما هو بالاطلاق على وجهة نظرنا ومن جهة ثبوت المؤثر حال تأثيره على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
السابعة عشرة : أنّ اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لايستلزم طلب الجمع، بل هو يناقضه ويعانده بملاك تقييد مطلوبية المهم بترك الأهم،

ــ[437]ــ

وقد تقدّم أنّ اقتضاء اجتماع الأمرين للجمع بين متعلقيهما في الخارج يتصور في صور، وما نحن فيه ليس بشيء منها.
الثامنة عشرة : أنّ النقطة التي ينطلق منها إمكان الترتب بل ضرورته هي أ نّه لا تنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم في ذاتهما، مع قطع النظر عن اقتضائهما للاتيان بمتعلقيهما، فالمنافاة إنّما هي بين متعلقيهما من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما، ومن الواضح أنّ هذه المنافاة ترتفع بتقييد فعلية الأمر بالمهم بترك الأهم وعصيان أمره، مع عدم اقتضائه لعصيانه وتركه، لما عرفت من استحالة اقتضاء الحكم لوجود موضوعه في الخارج، وعلى ضوء ذلك فلا منافاة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم أصلاً، لا بالذات كما عرفت، ولا باعتبار اقتضائهما لمتعلقيهما، فان متعلق الأمر بالأهم مطلوب على الاطلاق وليس في عرضه مطلوب آخر ليزاحمه، وعلى تقدير تركه وعدم الاتيان به فالمهم حينئذ مطلوب، والمفروض أ نّه في هذا الظرف مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً، فإذا كان كذلك فلا مانع من تعلّق الأمر به، وليس فيه تكليف بالمحال والجمع أبداً، ومجرد ثبوت الأمر بالأهم في هذا الحال لا ينافيه لا ذاتاً ولا اقتضاءً، ولعلّ المنكرين للترتب لم ينظروا إلى هذه النقطة نظرة عميقة صحيحة، بل نظروا إليها نظرة سطحية، وتخيّلوا أنّ اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد غير معقـول. وكيف ما كان فامكان الترتب على ضوء بياننا هذا قد أصبح أمراً ضرورياً، فلا مناص من الالتزام به أصلاً.
التاسعة عشرة : أ نّه لا تنافي ولا تزاحم بين الملاك القائم بالمهم في ظرف ترك الأهم وعصيان أمره، والملاك القائم بالأهم على وجه الاطلاق، كما أ نّه لا تنافي بين إرادة المهم في هذا الظرف وإرادة الأهم على الاطلاق كما عرفت.
العشرون : أنّ الخطاب الناظر إلى موضوع خطاب آخر على قسمين:

ــ[438]ــ

أحدهما: ما كان رافعاً لموضوعه بصرف وجوده وتحـققه، وقد مثّل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لذلك بفروع كثيرة، ولكن قد عرفت أنّ الرافع للموضوع في تلك الفروعات ليس هو صرف وجود الخطاب، بل الرافع له شيء آخر كما عرفت.
وثانيهما: ما كان رافعاً له بامتثاله والاتيان بمتعلقه، وقد تقدّم أنّ القسم الأوّل خارج عن محل الكلام، ولا يمكن فيه فرض الترتب، والقسم الثاني داخل فيه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net