كلام المحقق النائيني في المقام 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4814

ولكن لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) في المقام كلام، وهو أنّ التزاحم قد
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 52.

ــ[10]ــ

ينشأ من عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين في مقام الامتثال كما هو الغالب، وقد ينشأ من جهة اُخرى غير ذلك.
أمّا الأوّل فقد قسّمه (قدس سره) على خمسة أقسام:
الأوّل: ما إذا كان عدم القدرة اتفاقياً كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر فيما إذا لم يقدر المكلف على انقاذ كليهما معاً.
الثاني: ما إذا كان التزاحم من جهة وقوع التضاد بين الواجبين اتفاقاً، لما عرفت من أنّ التضاد بينهما إذا كان دائمياً فيقع التعارض بين دليليهما، فتكون المصادمة عندئذ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال والفعلية.
الثالث: موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان اتّحدتا في الخارج بنحو من الاتحاد، كالصلاة والغصب مثلاً بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها، فوقتئذ تقع المزاحمة بينهما، وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة كاكرام العالم الفاسق المنطبق عليه إكرام العالم المحكوم بالوجوب، وإكرام الفاسق المحكوم بالحرمة، فانّ مورد الاجتماع على هذا يدخل في باب التعارض دون التزاحم. وكذا إذا كانت هناك ماهيتان متعددتان بناءً على سراية الحكم من إحداهما إلى الاُخرى، وسيأتي بيان ذلك تماماً في بحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
الرابع: ما إذا كان الحرام مقدمة لواجب، كما إذا توقف إنقاذ الغريق مثلاً أو نحوه على التصرف في مال الغير، هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائمياً، وإلاّ فيدخل في باب التعارض، كما هو واضح.
الخامس: موارد التلازم الاتفاقي فيما إذا كان أحد المتلازمين محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة، ومثال ذلك استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن في العراق وما شاكله من البلاد، فانّه لا تلازم بينهما بالذات،

ــ[11]ــ

فالتلازم إنّما يتّفق بينهما لخصوص أهل العراق أو ما سامته من النقاط. وأمّا إذا كان التلازم دائمياً فيدخل في باب التعارض.
وأمّا الثاني، وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً من شيء آخر لا من عدم قدرة المكلف، فقد مثّل له بما إذا كان المكلف مالكاً من الإبل بمقدار النصاب الخامس ـ وهو خمس وعشرون إبلاً ـ الذي يجب فيه خمس شياه، ثمّ بعد مضي ستّة أشهر ملك ناقة اُخرى فتحقق النصاب السادس الذي يجب فيه بنت مخاض، وعلى هذا فمقتضى أدلة وجوب الزكاة هو وجوب خمس شياه بعد انقضاء سنة النصاب الخامس، ووجوب بنت مخاض بعد تمامية حول النصاب السادس، والمكلف قادر على دفع كليهما معاً، ولم تنشأ المزاحمة من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال، بل هي ناشئة من ناحية قيام الدليل من الخارج على أنّ المال الواحد لا يزكّى في السنة الواحدة مرّتين.
وللمناقشة فيما أفاده (قدس سره) هنا مجال.
أمّا ما ذكره من أنّ التزاحم الناشئ من ناحية عدم قدرة المكلف فينقسم إلى خمسة أقسام فيرد عليه:
أوّلاً: أ نّه لا أثر لهذا التقسيم أصلاً، ولا تترتب عليه أيّة ثمرة، فيكون نظير تقسيم أنّ التزاحم قد يكون بين وجوبين، وقد يكون بين تحريمين، وقد يكون بين وجوب وتحريم وهكذا، فلو كان مثل هذه الاعتبارات موجباً للقسمة لازدادت الأقسام بكثير كما لا يخفى.
وثانياً: أنّ أصل تقسيمه إلى تلك الأقسام لا يخلو عن إشكال، والوجه في ذلك: هو أنّ القسم الثاني ـ وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً عن التضاد بين الواجبين اتفاقاً ـ داخل في القسم الأوّل، وهو ما إذا كان التزاحم فيه ناشئاً عن عدم القدرة اتفاقاً، ضرورة أنّ المضادة بين فعلين من باب الاتفاق لا يمكن

ــ[12]ــ

تحققها إلاّ من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الاتيان والامتثال، وعليه فلا معنى لجعله قسماً ثانياً من التزاحم في قبال القسم الأوّل، بل هو هو بعينه.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليلي حكميهما، ففي غاية الصحة والمتانة في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما، ضرورة أ نّه لا يعقل تعلق الأمر بهما حتّى على نحو الترتب، كما تقدّم (1).
وأمّا في الضدّين اللذين لهما ثالث كالقيام والقعود والسواد والبياض ونحوهما فالأمر ليس كما أفاده، وذلك لأنّ المعارضة في الحقيقة ليست بين نفس دليليهما، كما هو الحال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما، وإنّما هي بين إطلاق كل منهما وثبوت الآخر، وعليه فلا موجب إلاّ لرفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بعدم الاتيان بمتعلق الآخر، لوضوح أ نّه لا معارضة بين أصل ثبوت الخطاب بهذا في الجملة وثبوت الخطاب بذاك كذلك، وإنّما تكون المعارضة بين إطلاق هذا ووجود الآخر وبالعكس، وهي لا توجب إلاّ رفع اليد عن إطلاق كل منهما لا عن أصله، فيكون إطلاق كل واحد منهما مترتباً على عدم الاتيان بالآخر.
ونتيجـة ذلك: هو الالتزام بالترتب من الجانبين أو الالتزام بالوجوب التخييري، إلاّ فيما إذا علم بكذب أحدهما وعدم صدوره في الواقع، فعندئذ تقع المعارضة بينهما، فيرجع إلى قواعد باب التعارض.
وأمّا موارد اجتماع الأمر والنهي، فان قلنا بالامتناع ـ إمّا لدعوى سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر، وإمّا لدعوى أنّ التركيب بينهما اتحادي ـ فهي
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 468.

ــ[13]ــ

من صغريات مسألة التعارض دون التزاحم. وعليه فلا معنى للقول بالترتب فيها أصلاً، وإن قلنا بالجواز وتعدد المجمع، فإن كانت هناك مندوحة وتمكّن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا تزاحم بينهما أصلاً كما تقدّم، وإن لم تكن هناك مندوحة فتقع المزاحمة بينهما لا محالة، ولكن عندئذ يدخل هذا القسم في القسم الخامس، ولا يكون قسماً آخر في قباله، بل هو من أحد مصاديقه، وسيأتي بيان كل واحد من هذه الأقسام بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى (1).
والغرض من التعرّض هنا الاشارة إلى عدم صحّة هذا التقسيم، وأنّ منشأ التزاحم في جميع تلك الأقسام نقطة واحدة وهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين متعلقي الحكمين في ظرف الامتثال والاطاعة، كما اعترف (قدس سره) بذلك، ومن الواضح أ نّه لا يفرق في هذا بين أن يكون التزاحم بين واجبين متضادين من باب الاتفاق أو بين واجب وحرام، سواء أكانا متلازمين أو كان أحدهما متوقفاً على الآخر، فانّ الجميع بالاضافة إلى تلك النقطة على نسبة واحدة.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ التزاحم قد لا ينشأ من جهة عدم قدرة المكلف بل من جهة اُخرى كالمثال المتقدم فهو غريب منه (قدس سره) وذلك لأنّ المثال المذكور وما شاكله داخل في باب التعارض، وليس من باب التزاحم في شيء، والوجه فيه: هو أنّ ما دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى في السنة الواحدة مرّتين يوجب العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين، أعني بهما ما دلّ على وجوب خمس شياه على من ملك النصاب الخامس ومضى عليه الحول، وما دلّ على وجوب بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه الحول، وإن كان لا تنافي بينهما بالذات ومع قطع النظر عمّا دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى مرّتين في عام واحد، فيكون نظير ما دلّ على وجوب صلاة الجمعة في
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 159 تذييل.

ــ[14]ــ

يوم الجمعة، وما دلّ على وجوب الظهر فيه، فانّه لا تنافي بين دليليهما بالذات أصلاً، لتمكن المكلف من الجمع بينهما ولكن العلم الخارجي بعدم وجوب ستّة صلوات في يوم واحد أوجب التنافي بينهما، إذن فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة، ولا مساس لأمثال هذا المثال بباب المزاحمة أبداً، ولذا لو لم يكن ذلك الدليل الخارجي لقلنا بوجوب كليهما معاً من دون أيّة منافاة ومزاحمة في البين. ولكن العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كيف غفل عن ذلك وأدخل المقام في باب المزاحمة.
ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن: هي أنّ التزاحم بين تكليفين في مقام الامتثال لا يعقل إلاّ من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في ذلك المقام، وعليه فالتزاحم منحصر في قسم واحد ولا ثاني له.
إلى هنا قد تمّ بصورة واضحـة بيان كل من التزاحم في الملاكات بعضها ببعض، والتزاحم في الأحكام، وعلى ضوء ذلك البيان قد ظهر أ نّه لا اشتراك بينهما أصلاً لنحتاج إلى بيان نقطة امتياز أحدهما عن الآخر.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net