القسم الثاني - القسم الثالث 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4777


وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعاً، فلا يخلو من أن يكون أحدهما أسبق من الآخر زماناً أم لا.
أمّا الأوّل: فيقدّم فيه ما كان الأسبق من الآخر زماناً في الفعلية وتحقق موضوعه في الخارج، وذلك لأنّ ما كان متقدّماً بالزمان على غيره صار فعلياً بفعلية موضوعه خارجاً، وهو القدرة عليه تكويناً وتشريعاً. أمّا تكويناً فظاهر، وأمّا تشريعاً فلأجل أنّ الرافع للقدرة الشرعية في المقام ليس إلاّ وجود خطاب إلزامي فعلي في عرضه يقتضي الاتيان بمتعلقه، فانّه يوجب عجز المكلف عن امتثاله تشريعاً فينتفي بانتفاء موضوعه، والمفروض عدم وجود خطاب كذلك، فاذن لا مانع من فعليته أصلاً، ومثاله ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الصبح مثلاً والقيام في صلاة الظهر، بأن لا يقدر المكلف على الجمع بينهما في الخارج، فلو صلّى صلاة الصبح قائماً فلا يقدر على القيام في صلاة الظهر، وإن ترك القيام في صلاة الصبح فيقدر عليه في صلاة الظهر، ففي مثل ذلك لا إشكال في وجوب تقديم القيام في صلاة الصبح على القيام في صلاة الظهر، ولا يجوز تركه فيها تحفظاً على القدرة عليه في صلاة الظهر.
والوجه فيه واضح، وهو أنّ وجوب صلاة الصبح مع القيام فعلي عليه بفعلية موضوعه، وهو قدرته على إتيانها قائماً عقلاً وشرعاً، وعدم مانع في البين، لأنّ وجوب صلاة الظهر قائماً في ظرفه ليس بفعلي في هذا الحين ليكون مانعاً منه، فانّه إنّما يصير فعلياً بعد دخول الوقت، ومن الواضح جداً أ نّه لا يجوز ترك الواجب الفعلي مقدمةً لحفظ القدرة على إتيان الواجب في ظرفه.

ــ[46]ــ

فالنتيجة: أ نّه كلّما وقع التزاحم بين واجبين طوليين بأن يكون أحدهما متقدماً على الآخر زماناً، فلا إشكال في تقديم السابق على اللاّحق، ولا يفرق فيه بين أن يكون الواجب اللاّحق أهم من السابق أم لا، فانّ الملاك في الجميع واحد، وهو أنّ الواجب اللاّحق حيث إنّه لا يكون فعلياً في هذا الحال فلا يكون مانعاً عن فعلية وجوب السابق، وعليه فلا يجوز ترك صلاة الصبح في وقتها قائماً مقدمة لحفظ القدرة على صلاة الظهر كذلك، وهذا واضح.
ولكن ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) أنّ هذا المرجح إنّما يكون مرجحاً فيما إذا لم يكن هناك جهة اُخرى توجب تقديم أحد الواجبين على الآخر ولو كان متأخراً عنه زماناً، ومثّل لذلك بما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه، فانّ النذر وإن كان سابقاً بحسب الزمان على أشهر الحج، كمن نذر في شهر رمضان مثلاً المبيت ليلة عرفة عند مشهد الحسين (عليه السلام) وبعد ذلك عرضت له الاستطاعة، فانّه مع ذلك يقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.
وأفاد في وجه ذلك: أنّ وجوب الوفاء في أمثال هذه الموارد مع اشتراطه بالقدرة شرعاً مشروط بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضاً، والوفاء بالنذر هنا حيث إنّه يستلزم ترك الواجب في نفسه، مع قطع النظر عن تعلق النذر به، فلا تشمله أدلة وجوب الوفاء به، فاذن ينحل النذر بذلك، ويصير وجوب الحج فعلياً رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه.
ثمّ أورد على نفسه بأنّ وجوب الوفاء بالنذر غير مشروط بالقدرة شرعاً، وعليه فلا وجه لتقديم وجوب الحج المشروط بالقدرة شرعاً في لسان الدليل
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 37.

ــ[47]ــ

عليه. ولو سلّمنا أنّ وجوب الوفاء أيضاً مشروط بها، إلاّ أ نّه لا وجه لتقديم وجوب الحج على وجوبه، لفرض أنّ كل واحد منهما صالح لأن يكون رافعاً لموضوع الآخر في حد نفسه، ولكن النذر من جهة تقدّمه زماناً يكون رافعاً للاستطاعة.
وأجاب عن الاشكال الأوّل، بأنّ وجوب الوفاء تابع لما تعلق به النذر سعةً وضيقاً، ومن المعلوم أنّ النذر تعلق بالفعل المقدور، ضرورة أنّ حقيقته عبارة عن الالتزام بشيء لله تعالى، ومن الطبيعي أنّ العاقل الملتفت لا يلتزم بشيء خارج عن اختياره وقدرته، فنفس تعلق الالتزام بفعل يقتضي اعتبار القدرة فيه، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه، ومن هنا قلنا إنّ متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم، وعليه فلا محالة يكون متعلق النذر فيما نحن فيه حصة خاصة، وهي الحصة المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها، وهذا عين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً الكاشف عن اختصاص الملاك بخصوص الحصة المقدورة، لا الجامع بينها وبين غير المقدورة.
وأجاب عن الاشكال الثاني، وهو دعوى كون النذر رافعاً للاستطاعة بوجهين:
الأوّل: أنّ صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً في نفسه في ظرف العمل، وإلاّ فلا ينعقد، وبما أنّ في المقام متعلقه ليس براجح في ظرف العمل فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.
الثاني: أ نّا لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا عدم اعتبار رجحان متعلق النذر في ظرف العمل في صحته وانعقاده وشمول أدلة وجوب الوفاء له، وقلنا بكفاية رجحان متعلقه حين النذر وإن لم يكن راجحاً حين العمل، فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته في المقام، لاشتراط صحته بعدم كون متعلقه مخالفاً للكتاب أو

ــ[48]ــ

السنّة، وموجباً لترك الواجب أو فعل الحرام، وبما أنّ متعلقه في مفروض الكلام يوجب في نفسه ترك الواجب باعتبار استلزامه ترك الحج، فلا يمكن الحكم بصحته ووجوب الوفاء به، وعليه فيقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر أو ما شاكله.
وعلى الجملة: فلا مانع من فعلية وجوب الحج على الفرض غير وجوب الوفاء بالنذر، وحيث إنّه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه محللاً للحرام، فلا يكون فعلياً في مفروض المقام ليكون مانعاً عن فعلية وجوب الحج ومزاحماً له. وعلى هذا فلا محالة يكون وجوب الحج فعلياً ورافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه، وأمّا وجوب الوفاء به فلا يعقل أن يكون رافعاً لملاك الحج، ضرورة أنّ فعليته تتوقف على عدم التكليف بالحج، لئلاّ يلزم منه تحليل الحرام، فلو كان عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب النذر لزم الدور.
وهذا الذي ذكرناه يجري في كل ما كان وجوبه مشروطاً بعدم كونه محللاً للحرام، كموارد الشرط والحلف واليمين وما شابهها، فعند مزاحمته مع ما هو غير مشروط به يقدّم غير المشروط به، ولو فرض أ نّه أيضاً مشروط بالقدرة شرعاً.
ثمّ قال (قدس سره) وأمّا ما عن السيِّد (قدس سره) في العروة(1) من أنّ المعتبر هو أن يكون متعلق النذر راجحاً في ظرف العمل ولو بلحاظ تعلق النذر به، وبذلك صحّح جواز نذر الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات، فيظهر فساده مما قدّمناه من أنّ المعتبر في صحة النذر وانعقاده هو كون متعلقه راجحاً وغير موجب لتحليل الحرام في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به، وإلاّ لأمكن تحليل جميع المحرّمات بالنذر وهذا ضروري البطلان.
ـــــــــــــــــــــ
(1) العروة الوثقى 1: 381 المسألة [ 1207 ]، 2: 348 [ 3219 ].

ــ[49]ــ

نلخّص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى: تسليم أنّ التزاحم بين وجوب الوفاء بالنذر ووجوب فريضة الحج إنّما هو من صغريات التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، وليس من صغريات الكبرى المتقدمة، وهي المزاحمة بين واجبين يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً.
الثانية: تسليم أ نّه داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون أحدهما أسبق زماناً من الآخر.
الثالثة: أنّ الأسبق زماناً إنّما يكون مرجّحاً ومقدّماً على الآخر فيما إذا لم تكن هناك جهة اُخرى تقتضي تقديم الآخر عليه، كما هو الحال فيما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر، فانّ النذر وإن كان متقدّماً على الحج زماناً، كما إذا كان قبل أشهر الحج، إلاّ أنّ الوفاء به بما أ نّه يستلزم ترك الواجب فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.
الرابعة: أنّ وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مشروط بكون متعلقه راجحاً في ظرف العمل، وبما أنّ متعلق النذر في مفروض المقام ليس براجح في ظرف العمل، لاستلزامه تحليل الحرام وهو ترك الحج، فلايكون مشمولاً لأدلة وجوب الوفاء. ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا كفاية الرجحان حين النذر وإن لم يكن راجحاً حين العمل، فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته، لفرض اشتراط انعقاده بأن لايكون متعلقه في نفسه محللاً للحرام، وبما أ نّه في المقام موجب له فلاينعقد.
الخامسة: أنّ اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعاً إنّما هو باقتضاء نفس الالتزام النذري، فانّه يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه، وهذا عين

ــ[50]ــ

اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً.
السادسة: أنّ لازم ما ذكره السيِّد (قدس سره) في العروة هو جواز تحليل المحرّمات بالنذر، وهذا باطل قطعاً.
ولنأخذ بالمناقشة في عدّة من هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فيرد عليها أنّ المقام غير داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، والوجه فيه هو أنّ ذلك يبتني على ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً، كما هو المناسب لمعناها لغةً، فعندئذ لا محالة يكون المقام داخلاً في تلك الكبرى، وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من تفسيرها بأن يكون عنده الزاد والراحلة مع أمن الطريق كما في الروايات(1) فلا يكون داخلاً
ـــــــــــــــــــــ
(1) منها: رواية هشام بن الحكم «عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله عزّ وجل: (وللهِ على النّاس حجّ البيت مَن استطاع إليه سبيلاً ) ما يعني بذلك ؟ قال: من كان صحيحاً في بدنه ومخلىً سربه له زاد وراحلة»(1) صحيحة.
ومنها: رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في ضمن كتابه إلى المأمون «قال: وحجّ البيت فريضة على من استطاع إليه سبيلاً. والسبيل: الزاد والراحلة مع صحة البدن»(2) صحيحة.
ومنها: رواية محمّد بن مسلم قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قوله تعالى: (وللهِ على النّاس حجّ البيت مَن استطاع إليه سبيلاً ) قال: يكون له ما يحج به»(3) صحيحة. =

ـــــــــــــــــــــ
(1)، (2)، (3)، الوسائل 11: 35 / أبواب وجوب الحج ب 8 ح 7، 6، 1.

ــ[51]ــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= ومنها: رواية الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن قوله الله (عزّ وجل): (وللهِ على النّاس حجّ البيت مَن استطاع إليه سبيلاً ) ما السبيل ؟ قال: أن يكون له ما يحج به»(1) صحيحة. وغيرها من الروايات الواردة في الباب.
أقول: لا يخفى أنّ صحة البدن المذكورة في الصحيحة الاُولى والثانية ليست شرطاً لأصل وجوب فريضة الحج، ضرورة أنّ تلك الفريضة واجبة على من كان عنده زاد وراحلة مع أمن الطريق مطلقاً، أي سواء أكان صحيحاً في بدنه أم لم يكن، ولذا تجب عليه الاستنابة عنها إذا منعه عن أدائها مرض أو نحوه، وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة:
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث «قال: وإن كان موسراً وحال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله فيه فانّ عليه أن يحج عنه من ماله صرورة لا مال له»(2) وغيرها من الروايات والنصوص.
نعم، لو كنّا نحن وهاتين الصحيحتين ولم تكن هناك روايات اُخر تدل على عدم سقوط وجوب الحج عن المكلف بتعذره عليه بمرض أو نحوه لقلنا بكونها شرطاً له على الاطلاق لتكون نتيجته سقوطه بتعذره، ولكن عرفت أنّ الأمر ليس كذلك، وأ نّه لا يسقط بسقوطه وتعذره.
وبتعبير آخر: أنّ صحة البدن شرط لوجوب أداء فريضة الحج على المكلف مباشرةً لا مطلقاً، بمعنى أ نّه لو كان صحيحاً في بدنه وجب عليه إتيانها بالمباشرة، فلا تشرع في حقّه الاستنابة، والصحيحتان المذكورتان ناظرتان إلى شرطيتها من هذه الجهة، =

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11: 35 / أبواب وجوب الحج ب 8 ح 3.
(2) الوسائل 11: 63 / أبواب وجوب الحج ب 24 ح 2.

ــ[52]ــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= وأمّا إذا لم يكن صحيحاً في بدنه فتجب عليه الاستنابة، لدلالة جملة من الروايات على ذلك كما عرفت.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ صحة البدن ليست شرطاً لوجوب الحج على الاطلاق لتكون نتيجته سقوط وجوبه بفقدانها، وإنّما هي شرط له على نحو المباشرة. هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ الاستطاعة في الصحيحتين الأخيرتين وإن فسّرت بقوله (عليه السلام): «يكون له ما يحج به» إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا التفسير ليس تفسيراً مغايراً لتفسيرها في الصحيحتين الاُوليين، بل هو عبارة اُخرى عن تفسيرها بوجدان الزاد والراحلة مع أمن الطريق، والوجه فيه واضح وهو أنّ قوله (عليه السلام): «يكون له ما يحج به» ظاهر في أن يكون للمكلف ما يتمكن بسببه من أداء فريضة الحج فعلاً، ومن الواضح جداً أ نّه لا يتحقق إلاّ بملكه الزاد والراحلة مع أمن الطريق، إذ مع تحقق هذه الاُمور ووجدانها يتمكن من أداء تلك الفريضة فعلاً وإلاّ فلا.
ثمّ إنّه لا يخفى أ نّه يعتبر في وجوب فريضة الحج أمر آخر أيضاً زائداً على الاُمور المزبورة، وهو وجود مؤونة العيال وكفايتهم حتّى يرجع إليهم بمقتضى قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن محبوب «فما السبيل ؟ قال فقال (عليه السلام): السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقي بعضاً لقوت عياله، أليس قد فرض الله الزكاة فلم يجعلها إلاّ على من يملك مائتي درهم»(1) وهو يدل على اعتبار وجود مؤونة العيال إلى زمان الرجوع إليهم في وجوب الحج، وانّه لا يكفي في وجوبه وجود ما يفي بحجه فحسب. وعليه فلا محالة تكون هذه الصحيحة مقيدة لاطلاقات الروايات المتقدمة بصورة ما إذا كان المال =

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11: 37 و 38 / أبواب وجوب الحج ب 9 ح 1، 2.

ــ[53]ــ

فيها، ضرورة أنّ وجوب الحج على هذا ليس مشروطاً بالقدرة شرعاً، بل هو مشروط بوجدان الزاد والراحلة وأمن الطريق، فعند وجود هذه الاُمور واجتماعها يجب الحج، كان هناك واجب آخر في عرضه أم لم يكن.
وعلى هذا الأساس فلا يكون وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه، فانّ موضوعه ـ وهو وجدان الزاد والراحلة مع أمن الطريق ـ موجود بالوجدان، بل الأمر بالعكسس، فانّ وجوب الحج على هذا مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه، حيث إنّ وجوب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= واسعاً بحيث يفي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع معاً، ولا يكفي مجرد وفائه للأوّل دون الثاني.
نعم، لو كنّا نحن وإطلاقات تلك الروايات مع الغض عن هذه الصحيحة لكان مقتضاها وجوب الحج على من كان عنده مال يفي بحجه فحسب وإن لم تكن عنده كفاية عياله إلى يوم الرجوع، إلاّ أنّ تلك الصحيحة تدل على اعتبار وجود الكفاية فيه.
وقد تحصّل مما ذكرناه أمران:
الأوّل: أنّ وجود مقدار قوت العيال إلى وقت الرجوع شرط لوجوب فريضة الحج.
الثاني: أ نّه لا وجه لتفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور، لما عرفت من أنّ الروايات مطبقة على خلاف هذا التفسير، وأ نّه تفسير خاطئ بالنظر إلى الروايات والنصوص الواردة في هذا الباب.
ونتيجة ما قدّمناه لحدّ الآن: هي أنّ الشرط لوجوب الحج على ما يستفاد من جميع روايات الباب هو وجدان الزاد الكافي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع والراحلة مع أمن الطريق.

ــ[54]ــ

الوفاء به منوط بكون متعلقه مقدوراً للمكلف عقلاً وشرعاً، ومن الواضح أنّ وجوب الحج عليه معجّز مولوي عن الوفاء به فلايكون معه قادراً عليه، فإذن ينتفي وجوب الوفاء به بانتفاء موضوعه.
ونتيجة ذلك هي: أنّ التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ليس داخلاً في الكبرى المزبورة ـ التزاحم بين واجـبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ـ بل هو داخل في الكبرى الاُولى وهي التزاحم بين واجبين يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بالقدرة عقلاً، وذلك لما عرفت الآن من أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً فحسب، ولا يعتبر في وجوبه ما عدا تحقق الاُمور المزبورة، ووجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة عقلاً وشرعاً.
وقد تقدّم أ نّه في مقام وقوع المزاحمة بينهما يتقدّم ما كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية على ما كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية، فانّ الأوّل يوجب عجز المكلف عن امتثال الثاني، فيكون منتفياً بانتفاء موضوعه، ولا يوجب الثاني عجزه عن امتثال الأوّل، لأنّ المانع من فعليته إنّما هو عجزه التكويني، والمفروض أ نّه لا يوجب ذلك.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التزاحم بينهما من صغرى التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، لا يمكن المساعدة عليه.
وأمّا النقطة الثانية: فيرد عليها أنّ مسألة مزاحمة وجوب الحج مع وجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه خارجة عن كبرى مسألة التزاحم بين واجبين يكون أحدهما متقدّماً زماناً على الآخر، وليس خروجها عن تلك الكبرى خروجاً حكمياً كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بل خروجها عنها خروج موضوعي بمعنى أ نّها حقيقة ليست من صغريات تلك الكبرى، وهي لا تنطبق عليها أبداً.

ــ[55]ــ

والوجـه في ذلك هو أنّ النذر وإن فرض تقدّمه على حصول الاستطاعة زماناً، إلاّ أنّ العبرة إنّما هي بتقدّم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر كتقدّم زمان صلاة الفجر على زمان صلاتي الظهرين مثلاً وهكذا، ولا عبرة بتقدّم زمان أحد الوجوبين على زمان الآخر.
وعلى الجملة: أ نّا لو تنزّلنا عمّا ذكرناه وسلّمنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً بناءً على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور، فمع ذلك ليست المزاحمة بينه وبين وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه داخلة في الكبرى المتقدمة، لما عرفت من عدم تقدّم زمان الوفاء بالنذر على زمان الحج وإن فرض تقدّم سبب وجوبه على سبب وجوب الآخر، فانّه لا عبرة به، والعبرة إنّما هي بتقدّم أحد الواجبين على الآخر زماناً، والمفروض أ نّهما في عرض واحد فلا تقدّم لأحدهما على الآخر أصلاً.
وعليه فلا يبقى مجال لتوهّم تقدّم وجوب الوفاء بالنذر على وجوب الحج بملاك تقدّم الواجب السابق على الواجب اللاّحق. فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المقام داخل في الكبرى المزبورة فيما إذا فرض تقدّم النذر بحسب الزمان على أشهر الحج لا يرجع إلى أصل صحيح، لما عرفت من أ نّه غير داخل في تلك الكبرى حتّى على هذا الفرض والتقدير، من جهة أنّ العبرة إنّما هي بتقدّم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر، ولا عبرة بتقدّم سبب أحدهما على سبب الآخر أصلاً، كما مرّ.
ولا يفرق في ذلك بين القول باستحالة الواجب المعلق كما هو مختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) والقول بامكانه وصحّته، كما هو المختار عندنا (2)، فانّه
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1: 201.
(2) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 173 وما بعدها.

ــ[56]ــ

على كلا القولين لا تقدّم لأحد الواجبين على الآخر بحسب الزمان، غاية ما في الباب على القول بالاستحالة فكما لا وجوب فعلاً للوفاء بالنذر قبل تحقق ليلة عرفة، فكذلك لا وجوب فعلاً للحج قبل تحقق وقته ومجيئه، فإذن عدم تقدّم أحدهما على الآخر زماناً واضح، وعلى القول بالامكان فكما أنّ وجوب الوفاء بالنذر فعلي قبل مجيء وقت الواجب، فكذلك وجوب الحج فعلي قبل وقته، فالوجوبان عرضيان وكل منهما قابل لرفع موضوع الآخر. ودعوى أنّ وجوب الوفاء بالنذر على هذا سابق على وجوب الحج باعتبار أنّ سببه مقدّم على سببه، مدفوعة بأ نّه لا أثر لمجرد حدوث وجوبه قبل حصول الاستطاعة بعد فرض أ نّه مزاحم بوجـوب الحج بقاءً، بل قد عرفت أ نّه لا مزاحمة بين الواجبين إلاّ في زمانهما وهو زمان الامتثال والعمل لا في زمان وجوبهما كما هو ظاهر.
وبعد ذلك نقول: إنّه لا بدّ من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه في مقام المزاحمة، وذلك لوجهين:
الأوّل: أنّ وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه لأمكن لكل مكلف رفع وجوبه عن نفسه بايجاب شيء ما عليه بنذر أو نحوه في ليلة عرفة المنافي للاتيان بالحج، كمن نذر أن يصلي ركعتين من النافلة مثلاً في ليلة عرفة في المسجد الفلاني، كمسجد الكوفة أو نحوه، أو نذر أن يقرأ سورة مثلاً في ليلة عرفة فيه أو في مكان آخر مثلاً وهكذا، ومن الواضح جداً أنّ بطلان هذا من الضروريات فلا يحتاج إلى بيان وإقامة برهان، كيف فانّ لازم ذلك هو أن لا يجب الحج على أحد من المسلمين، إذ لكل منهم أن يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذر أو شبهه يكون منافياً ومضاداً له، وهذا ممّا قامت ضرورة الدين على خلافه، كما هو ظاهر.

ــ[57]ــ

الثاني: أ نّه قد ثبت في محلّه أنّ صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً، فلو نذر ترك واجب أو فعل حرام لم يصح، بل لو نذر ترك مستحب أو فعل مكروه كان كذلك، فضلاً عن أن ينذر ترك واجب أو فعل محرّم. ومن هنا لو نذرت المرأة أن تصوم غداً ثمّ رأت الدم فلا ينعقد نذرها ولا يجب عليها الصوم في الغد بمقتضى وجوب الوفاء بالنذر، لعدم رجحانه في هذه الحالة.
وعلى الجملة: فلا شبهة في اعتبار رجحان متعلقه في نفسه في انعقاده، كزيارة الحسين (عليه السلام) والصلاة في المسجد مثلاً وما شاكلهما، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: يعتبر في صحته وانعقاده أيضاً أن لا يكون محللاً للحرام بمعنى أنّ الوفاء به لا يستلزم ترك واجب أو فعل محرم. والحاصل أ نّه لا إشكال في فساد النذر أو الشرط المخالف للكتاب أو السنّة وما يكون محللاً للحرام، وقد دلّت على ذلك عدّة من الروايات (1) ويترتب على هذا أنّ النذر في مفروض المقام بما أنّ متعلقه في نفسـه محلل للحرام، لاستلزامه ترك الواجب وهو الحج فلا ينعقد، لما قد عرفت من اشتراط صحته بعدم كون متعلقه كذلك، وعليه فلا مناص من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.
أو فقل: إنّه لا مانع من فعلية وجوب الحج هنا على الفرض ما عدا وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه، وحيث إنّه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه مستلزماً لترك واجب أو فعل حرام، فلا محالة لا يكون فعلياً في هذا الفرض ـ أي فرض مزاحمته مع وجوب الحج ـ ليكون مانعاً عن فعلية وجوبه، لاستلزام الوفاء به ترك الواجب وهو الحج، وعليه فلا محالة يكون وجوب الحج فعلياً ورافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر، كما هو واضح.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 23: 317 / كتاب النذر ب 17.

ــ[58]ــ

وعلى هذا الأساس نستنتج من ذلك كبرى كلّية وهي أنّ كل واجب لم يكن وجوبه مشروطاً بعدم كون متعلقه في نفسه محللاً للحرام يتقدّم في مقام المزاحمة على واجب كان وجوبه مشروطاً بذلك، كالواجبات الإلهية التي ليست بمجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً، بل هي مجعولة بعناوين ثانوية كالنذر والعهد والحلف والشرط في ضمن عقد وما شاكل ذلك، فانّ وجوب الوفاء بتلك الواجبات جميعاً مشروط بعدم كونها مخالفة للكتاب أو السنّة ومحللة للحرام، فتؤخذ هذه القيود العدمية في موضوع وجوب الوفاء بها.
وعلى ذلك يترتب أنّ تلك الواجبات لا تصلح أن تزاحم الواجبات التي هي مجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً، كالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك، لعدم أخذ تلك القيود العدمية في موضـوع وجوبها، وعليه ففي مقام المزاحمة لا موضوع لتلك الواجبات، فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.
فالنتيجة: أنّ عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلتها عن شمولها في هذه الموارد ـ أعني بها موارد مخالفة الكتاب أو السنّة وتحليل الحرام في نفسها ـ لانتفاء موضوعها، لا لوجود مانع في البين، ومن هنا قلنا إنّ أدلة وجوب الوفاء بها ناظرة إلى الأحكام الأوّلية، ودالة على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخـالفة لشيء من تلك الأحكام. وأمّا في صورة المخالفة فتسقط بسقوط موضوعها كما عرفت، وتمام الكلام في ذلك في محلّه.
وأمّا النقطة الثالثة: وهي أنّ الأسبق زماناً إنّما يكون مرجحاً فيما إذا لم تكن هناك جهة اُخرى تقتضي تقديم الآخر عليه، فهي في غاية الوضوح، لأنّ كل مرجح وإن كان يستدعي تقديم صاحبه على غيره، إلاّ أنّ استدعاءه ليس على نحو العلة التامة، بل هو على نحو الاقتضاء، فلو كان هناك مانع من تقديمه

ــ[59]ــ

أو كانت هناك جهة اُخرى تقتضي تقديم غيره عليه فلا أثر له.
وعلى الجملة فلا شبهة في أنّ أسبقية أحد الواجبين زماناً على الواجب الآخر من المرجحات في مقام المزاحمة، ولكن من المعلوم أ نّها إنّما تقتضي التقديم فيما إذا لم يكن هناك مانع عن اقتضائها ذلك، أو لم تكن هناك جهة اُخرى أقوى منها تقتضي تقديم الواجب اللاّحق على السابق، وهذا ظاهر.
وأمّا النقطة الرابعة: وهي أنّ صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحاً في ظرف العمل ولا يكون محللاً للحرام، فهي تامة بالاضافة إلى ناحية، وغير تامة بالاضافة إلى ناحية اُخرى.
أمّا بالاضافة إلى ناحية أنّ الوفاء بالنذر في ظرفه مستلزم لترك الواجب وهو الحج فهي تامة، لما عرفت من أنّ صحة النذر وأشباهه مشروطة بعدم كون الوفاء به محللاً للحرام، وحيث إنّه في مفروض الكلام موجب لذلك فلا يكون منعقداً.
وأمّا بالاضافة إلى ناحية أنّ متعلقه ليس براجح في نفسه في ظرف العمل لاستلزامه ترك الواجب فهي غير تامة، ضرورة أنّ المعتبر في صحته هو رجحان متعلقه في نفسه، والمفروض أ نّه كذلك في المقام، ومجرد كونه مضاداً لواجب فعلي لا يوجب مرجوحيته، إلاّ بناءً على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، وقد تقدّم فساد هذا القول بشكل واضح(1)، وقلنا هناك إنّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه بوجه. على أ نّه نهي غيري لا ينافي الرجحان الذاتي كما هو واضح.
وأمّا النقطة الخامسة: وهي أنّ نفس الالتزام النذري يقتضي كون متعلقه
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 335.

ــ[60]ــ

حصة خاصة وهي الحصة المقدورة نظير اقتضاء نفس التكاليف ذلك، فقد ظهر فسادها مما تقدّم وملخصه: أنّ ذلك لا يتمّ حتّى على مسلك المشهور من أنّ حقيقة التكليف عبارة عن البعث أو الزجر إلى الفعل أو عنه، فضلاً عما حققناه من أنّ حقيقته عبارة عن اعتبار فعل على ذمة المكلف، أو اعتبار تحريمه وبُعد المكلف عنه، وإبرازه في الخارج بمبرز، ولانعقل لغير ذلك معنىً محصلاً للتكليف.
ومن الطبيعي أنّ اعتبار شيء على الذمة لا يقتضي اشتراطه بالقدرة لا عقلاً ولا شرعاً، ومن هنا قلنا إنّ القدرة لم تؤخذ في متعلق التكليف لا من ناحية العقل ولا من ناحية الشرع، فالقدرة إنّما هي معتبرة في مقام الامتثال فحسب، ولا يحكم العقل باعتبارها بأزيد من ذلك، وقد سبق الكلام في ذلك بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الاعادة.
ومن ذلك يظهر الكلام فيما نحن فيه، وذلك لأنّ حقيقة النذر أو ما شابهه بالتحليل ليست إلاّ عبارة عن اعتبار الناذر الفعل على ذمته لله تعالى، وقد عرفت أنّ اعتبار شيء على الذمة لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه لا عقلاً ولا شرعاً، ضرورة أ نّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغيره على الذمة أصلاً، فاذن لا يقتضي تعلق النذر بشيء اعتبار القدرة فيه عقلاً وشرعاً، فما أفاده (قدس سره) من اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعاً من هذه الناحية غير تام.
على أنّ ما أفاده (قدس سره) هنا من اختصاص الملاك بخصوص الفعل المقدور مناقض لما أفاده سابقاً (1).
وملخص ما أفاده هناك: هو أنّ القدرة مرّة مأخوذة في متعلق الطلب لفظاً
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 26.

 
 

ــ[61]ــ

كما في آيتي الحج والوضوء وما شاكلهما، فالتقييد في مثل ذلك لا محالة يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعاً، ضرورة أ نّها لو لم تكن دخيلة فيه في مقام الثبوت والواقع لم يكن معنى لأخذها في متعلقه في مقام الاثبات والدلالة، وعلى ذلك يترتب أ نّه بانتفاء القدرة ينتفي الملاك، لاختصاصه بخصوص الحصة المقدورة دون الأعم، وعليه فلا يمكن تصحيح الوضوء بالملاك في موارد الأمر بالتيمم. ومرّة اُخرى لم تؤخذ في متعلقه في مرتبة سابقة على الطلب، بل كان اعتبارها فيه من ناحية تعلق الطلب به، سواء أكان باقتضاء نفس الطلب ذلك أو من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فالتقييد في مثل ذلك بما أ نّه كان في مرتبة لاحقة وهي مرتبة عروض الطلب، فيستحيل أن يكون تقييداً في مرتبة سابقة على تلك المرتبة وهي مرتبة معروضه.
أو فقل: إنّ الطبيعة التي يتعلق بها الطلب وإن كانت مقيدة بالقدرة عليها حال تعلقه بها، إلاّ أ نّها مطلقة في مرتبة سابقة عليه، ومن الواضح أنّ إطلاقها في تلك المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك، وأ نّها باطلاقها واجدة للملاك التام، وإلاّ لكان على المولى تقييدها في تلك المرتبة. إذن فمن الاطلاق في مقام الاثبات يستكشف الاطلاق في مقام الثبوت.
أقول: هذا البيان بعينه يجري فيما نحن فيه، فانّ متعلق النذر في مرتبة سابقة على عروض النذر عليه، ووجوب الوفاء به مطلق، والتقييد إنّما هو في مرتبة لاحقة، وهي مرتبة عروض النذر عليه ووجوب الوفاء به، وقد عرفت أنّ مثل هذا التقييد لا يكشف عن دخل القدرة في المتعلق، ضرورة أ نّه لا يصلح أن يكون بياناً ومقيداً للاطلاق في مرتبة سابقة عليه، إذن ذات الفعل الذي هو معروض الالتزام النذري واجد للملاك على إطلاقه، والمفروض عدم الدليل على تقييده في تلك المرتبة بخصوص الحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة.

ــ[62]ــ

وعلى الجملة: فما أفاده (قدس سره) هنا من أنّ اعتبار القدرة في متعلق النذر باقتضاء نفس الالتزام به يلازم اعتبار القدرة في متعلق الوجوب شرعاً الكاشف عن اختصاص الملاك بالفعل المقدور، لايلائم ما ذكره هناك من التفرقة بين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً واعتبارها فيه باقتضاء نفس التكليف أو من جهة حكم العقل به من باب قبح تكليف العاجز كما عرفت.
فالصحيح في المقام أن يقال: إنّ الدليل على اشتراط وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه بالقدرة شرعاً هو ما دلّ على تقييده بعدم كونه مخالفاً للكتاب أو السنّة مرّة، وبعدم كونه محللاً للحرام مرّة اُخرى.
ونتيجة ذلك أ نّها لا تنعقد إذا كان الوفاء بها مستلزماً لترك واجب أو فعل محرّم، لانطباق عنوان محلل الحرام عليه، ومن الواضح أنّ هذا عين اعتبار القدرة في متعلقه شرعاً، وقد تبيّن لحدّ الآن أنّ الصحيح في وجه اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعاً هو ما ذكرناه، لا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كما مرّ.
وأمّا النقطة السادسة: وهي أنّ الاكتفاء في صحة النذر برجحان متعلقه في مقام العمل ولو باعتبار تعلق النذر به، يستلزم جواز تحليل المحرمات بالنذر، فيردّها أنّ ما ذكره السيِّد (قدس سره) في العروة لا يستلزم ما أفاده، والوجه فيه هو أ نّه لا إشكال في اعتبار رجحان متعلق النذر في صحته، وأ نّه لا بدّ أن يكون راجحاً ولو من جهة تعلق النذر به، هذا من جانب.
ومن جانب آخر أ نّه لا يمكن أن يقتضي وجوب الوفاء بالنذر رجحان متعلقه، ضرورة استحالة اقتضاء الحكم لوجود شرطه وتحقق موضوعه في الخارج.

ــ[63]ــ

فالنتيجة على ذلك: هي أنّ رجحان متعلق النذر مرّة يكون باقتضاء ذاته مع قطع النظر عن عروض أيّ عنوان عليه، ومرّة اُخرى يكون بعروض عنوان خارجي طارئ عليه، ولا يكون ذلك إلاّ باقتضاء دليل خارجي ولا ثالث لهما، بمعنى أنّ الشيء إذا لم يكن في نفسه راجحاً، فصحة تعلق النذر به تحتاج إلى دليل من الخارج يدل على صحة النذر الكاشفة عن طروء الرجحان عليه، فان دلّ دليل على صحته كما هو الحال في الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر، حيث قد قام الدليل من الخارج على صحة نذرهما، مع أ نّهما ليسا براجحين في نفسهما، فنلتزم بها، وإلاّ فلا. ومراد السيِّد (قدس سره) من الرجحان الجائي من قبل النذر هو ما ذكرناه من قيام الدليل الخـارجي على صحة النذر الكاشف عن رجحان متعلقه بعنوان ثانوي وهو عنوان تعلق النذر به، وليس مراده منه الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء بالنذر ليلزم منه جواز تحليل المحرّمات، لما عرفت من استحالة اقتضاء وجوب الوفاء بالنذر ذلك، أعني رجحان متعلقه.
فما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) على السيِّد (قدس سره) إنّما يتمّ لو كان مراده من الرجحان الناشئ من قبل النذر، الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء به.
وعلى هذا البيان قد ظهر أنّ ما ذكره السيِّد (قدس سره) في العروة لا يستلزم جواز تحليل المحرّمات بالنذر، ضرورة أنّ ما أفاده (قدس سره) أجنبي عن ذلك تماماً، وخاص بما إذا قام دليل على صحة النذر.
وإن شئت فقل: إنّ إطلاق أدلة المحرّمات كافية لاثبات عدم الرجحان، والمفروض أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يقتضي رجحان متعلقه كما عرفت. ومن الواضح جداً أ نّه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه أبداً.
نعم، إذا قام دليل على صـحة تعلق النذر بفرد ما من أفراد المحرّمات، فلا

ــ[64]ــ

مناص من الالتزام بصحته وانعقاده، وتقييد إطلاق دليل التحريم بغير هذا الفرد، ولا يفرق فيه بين القول باعتبار رجحان متعلقه في نفسه، والقول بكفاية الرجحان الناشئ من تعلق النذر به، ضرورة أ نّه على كلا القولين لا مناص من الالتزام بالصحة، غاية الأمر على القول الأوّل يلزم أن يكون الدليل المزبور مخصصاً لأدلة اشتراط صحة النذر بكون متعلقه راجحاً في نفسه دون القول الثاني، ولكن لا تترتب على ذلك أيّة ثمرة عملية.
وقد تحصّل مما ذكرناه عدّة اُمور:
الأوّل: أنّ وجـوب الحج ليس مشروطاً بالقدرة شرعاً، فانّه يبتني على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً، ولكنّك عرفت أ نّه تفسير خاطئ بالنظر إلى الروايات الواردة في تفسيرها وبيان المراد منها، حيث إنّها قد فسّرت في تلك الروايات بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق، وفي بعضها وإن زاد صحة البدن أيضاً ولكن من المعلـوم أ نّها ليست شرط الوجوب مطلقاً، بل هي شرط له على نحو المباشرة، ونتيجة ذلك هي أ نّه عند وجود الزاد والراحلة وأمن الطريق يجب الحج، سواء أكان هناك واجب آخر أم لم يكن.
وعلى هذا الأساس فلا مجال لتوهم أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً، فانّ منشأ هذا التوهم ليس إلاّ التفسير المزبور، وقد عرفت أ نّه تفسير غير مطابق للواقع. فإذن يتقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر في مقام المزاحمة وإن فرض أنّ وجوب الوفاء بالنذر سابق عليه زماناً، لما مضى من أنّ الواجب المشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة شرعاً مطلقاً، أي سواء أكان في عرضه أو سابقاً عليه بحسب الزمان أو متأخراً عنه.

ــ[65]ــ

أمّا وجه تقديمه في الصورتين الاُوليين فواضح، لفرض أنّ التكليف به بما أ نّه فعلي يكون معجّزاً مولوياً بالاضافة إلى الآخر وموجباً لانتفائه بانتفاء موضوعه، دون العكس.
وأمّا في الصورة الأخيرة، فلأنّ المفروض أنّ ملاكه حيث إنّه تام في ظرفه فلا يجوز تفويته، إذ لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه، فكما أنّ الأوّل قبيح عنده فكذلك الثاني، وعليه فيجب التحفظ على ملاكه وعدم تفويته، وبما أنّ الاتيان بالواجب الآخر موجب لتفويته فلا يجوز، وهذا معنى عدم قدرة المكلف على إتيانه شرعاً.
الثاني: أ نّه لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً بناءً على صحة التفسير المزبور، فأيضاً لا وجه لتقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه عليه، وذلك لما عرفت من عدم دخول ذلك في كبرى تزاحم واجبين كان أحدهما أسبق زماناً من الآخر، فانّ العبرة في ذلك إنّما هي بتقدم أحد الواجبين على الآخر زماناً كما مرّ، ولا عبرة بتقدم سبب وجوب أحدهما على سبب وجـوب الآخر، أو بتقدم حدوث وجوب أحدهما على حدوث وجوب الآخر بعد كونه مزاحماً به بقاءً.
الثالث: أ نّه لو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ وجوب الوفاء بالنذر وما شاكله مقدّم على وجوب الحج زماناً، فمع ذلك لا وجه لتقديمه عليه، وذلك لما عرفت من الوجهين المتقدمين، ونتيجتهما هي أنّ حصول الاستطاعة في زمن متأخر كاشف عن بطلان النذر من الأوّل وعدم انعقاده.
ومن ذلك البيان قد ظهر فساد ما ذهب إليه جماعة منهم صاحب الجواهر (قدس سره) (1) من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الجواهر 17: 258.

ــ[66]ــ

بملاك أنّ النذر مقدّم عليه زماناً، فيكون رافعاً للاستطاعة، ولا عكس. أو فقل: إنّ وجوب الوفاء به مطلق ووجوب الحج مشروط فلا يمكن أن يزاحم الواجب المشروط الواجب المطلق.
ووجه فساده ما عرفت من منع ذلك صغرى وكبرى، فلا حاجة إلى الاعادة.
ثمّ إنّه من الغريب ما صدر عن السيِّد الطباطبائي (قدس سره) في العروة في المسألة 32 من مسائل الحج وإليك نص كلامه: إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين (عليه السلام) في كل عرفة، ثمّ حصلت لم يجب عليه الحج، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافره أن يعطي الفقير كذا مقداراً، فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه، بل وكذا لو نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك، فان هذا كلّه مانع عن تعلق وجوب الحج به، وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة ولم يمكن الجمع بينه وبين الحج، ثمّ حصلت الاستطاعة، وإن لم يكن ذلك الواجب أهم من الحج، لأنّ العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب.
وأمّا لو حصلت الاستطاعة أوّلاً، ثمّ حصل واجب فوري آخر لا يمكن الجمع بينه وبين الحج يكون من باب المزاحمة، فيقدّم الأهم منهما، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدّم على الحج، وحينئذ فان بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب الحج فيه وإلاّ فلا، إلاّ أن يكون الحج قد استقرّ عليه سابقاً فانّه يجب عليه ولو متسكعاً (1).
ثمّ قال في مسألة اُخرى ما لفظه: النذر المعلق على أمر قسمان، تارةً يكون
ـــــــــــــــــــــ
(1) العروة الوثقى 2: 242 [ 3029 ].

ــ[67]ــ

التعليق على وجه الشرطية، كما إذا قال إن جاء مسافري فللّه عليّ أن أزور الحسين (عليه السلام) في عرفة، وتارةً يكون على نحو الواجب المعلق كأن يقول: لله عليّ أن أزور الحسين (عليه السلام) في عرفة عند مجيء مسافري، فعلى الأوّل يجب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل مجيء مسافره، وعلى الثاني لا يجب، فيكون حكمه حكم النذر المنجّز في أ نّه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافياً لها لم يجب الحج، سواء حصل المعلق عليه قبلها أو بعدها، وكذا لو حصلا معاً لا يجب الحج من دون فرق بين الصورتين، والسر في ذلك أنّ وجوب الحج مشروط والنذر مطلق، فوجوبه يمنع عن تحقق الاستطاعة(1).
أقول: نتيجة ما ذكره (قدس سره) اُمور:
الأوّل: أنّ وجوب الوفاء بالنذر يتقدّم على وجوب الحج مطلقاً، إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة، وكان منجّزاً ثمّ حصلت الاستطاعة، لأنّ وجوب الوفاء بالنذر رافع لموضوع وجوب الحج وهو الاستطاعة، فلا يكون المكلف معه قادراً على أداء فريضة الحج شرعاً.
الثاني: أ نّه إذا كان هناك واجب مطلق فوري قبل تحقق الاستطاعة، ثمّ تحققت ولم يتمكن المكلف من الجمع بينه وبين الحج، قدّم ذلك الواجب على الحج وإن لم يكن أهم منه.
الثالث: أن يكون وجوب الحج مزاحماً بواجب فوري بعد حصول الاستطاعة، ففي مثل ذلك يقدّم الأهم، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدّم على الحج.
الرابع: أنّ النذر المعلق إذا كان على نحو الواجب المشروط فلا يكون مانعاً عن وجوب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل تحقق الشرط، وإن كان على نحو
ـــــــــــــــــــــ
(1) العروة الوثقى 2: 243 المسألة 33 [ 3030 ].

ــ[68]ــ

الواجب المعلق، بأن يكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً، فيكون مانعاً عن وجوب الحج ولو كان تحقق الاستطاعة قبل حصول المعلق عليه في الخارج.
ولكنّ للمناقشة في هذه الاُمور مجالاً:
أمّا الأمر الأوّل: فقد ظهر فساده مما قدّمناه بصورة مفصّلة فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا الأمر الثاني: فانّ الواجب المطلق الفوري الثابت على ذمة المكلف لا يخلو من أن يكون مشروطاً بالقدرة عقلاً، أو يكون مشروطاً بها شرعاً.
فعلى الفرض الأوّل، فإن كان أهم من الواجب الآخر وهو الحج في مفروض المثال، فلا إشكال في تقديمه عليه مطلقاً، أي سواء أكان سابقاً عليه زماناً أم مقارناً معه أم متأخراً عنه، والوجه فيه ما سيأتي بيانه إن شاء الله (1) من أنّ الواجب الأهم يتقدّم في مقام المزاحمة على المهم مطلقاً، ولو كان متأخراً عنه، وعلى هذا فلا أثر لفرض كون ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة أو بعده كما عن السيِّد (قدس سره) بل لا أثر لفرض كونه قبل زمان الواجب الآخر وهو الحج ـ هنا ـ أو بعده، فانّه يتقدّم عليه في مقام المزاحمة على جميع هذه التقادير والفروض.
وإن كان بالعكس بأن يكون وجوب الحج أهم من ذلك الواجب الآخر فلا إشكال في تقديمه عليه، بلا فرق بين كونه متقدماً عليه زماناً أو مقارناً معه أو متأخراً عنه، والوجه في ذلك: ما ذكرناه من أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً لا شرعاً، من جهة ما عرفت من أنّ الاستطاعة عبارة عن حصول الزاد والراحلة مع أمن الطريق، وليست عبارة عمّا هو المشهور من التمكن من أداء
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 76.

ــ[69]ــ

فريضة الحج عقلاً وشرعاً لتكون نتيجته اشتراط وجوبه بالقدرة الشرعية. وعلى هذا لايفرق بين فرض كون وجوب ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة ثمّ حصلت أو بعده، وسيجيء بيان ذلك من هذه الجهة بصورة مفصلة.
وأمّا إذا كان الواجبان متساويين، بأن لا يكون أحدهما أهم من الآخر ولا محتمل الأهمّية، فيتخيّر المكلف بين صرف قدرته في امتثال هذا وصرفها في امتثال ذاك على ما سنبيِّن إن شاء الله تعالى.
وعلى الفرض الثاني، وهو ما إذا كان الواجب المطلق مشروطاً بالقدرة شرعاً، لا إشكال في تقديم فريضة الحج عليه ولو كانت الاستطاعة متأخرة عنه زماناً، وذلك لما عرفت من أنّ الواجب المشروط بالقدرة شرعاً لا يصلح أن يزاحم الواجب المشروط بالقدرة عقلاً، وبما أ نّا قد ذكرنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً فيتقدّم عليه مطلقاً ولو كان متأخراً عنه.
ومن ذلك يظهر حال الأمر الثالث أيضاً فلا حاجة إلى البيان.
فما أفاده السيِّد (قدس سره) من التفرقة بين كون الواجب المطلق الفوري ثابتاً في الذمة قبل حصول الاستطاعة ثمّ حصلت، وكونه ثابتاً فيها بعد حصولها، وأ نّه على الأوّل يتقدّم على الحج مطلقاً، وعلى الثاني لا بدّ من ملاحظة الأهمّية في البين، لا يرجع إلى معنىً صحيح، لما عرفت من أ نّه لا عبرة بالتقدّم أو التأخّر الزماني أصلاً.
وأمّا الأمر الرابع: فيظهر فساده مما تقدّم من أنّ النذر مطلقاً ـ أي سواء أكان على نحو الواجب المشروط أم على نحو الواجب المعلق، بأن يكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً ـ لا يكون مانعاً عن وجوب الحج، بل قد عرفت أنّ وجوب الحج مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه.

ــ[70]ــ

وقد تبيّن لحدّ الآن أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب ـ من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة، باعتبار أنّ وجوبه مطلق ووجوب الحج مشروط، فهو رافع لموضوعه ومانع عن حصول شرطه ـ لا أصل له، ولا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
وأمّا الثاني: وهو ما إذا كان الواجبان المشروطان بالقدرة شرعاً عرضيين، فهل يلاحظ فيه الترجيح فيقدّم الأهم على غيره أم لا؟ ثمّ على فرض عدم ملاحظة الترجيح بينهما، وعدم تقديم الأهم على غيره، فهل التخيير الثابت بينهما عقلي أو شرعي، فهنا مقامان:
الأوّل: أنّ كبرى مسألة تقديم الأهم على غيره هل تنطبق على المقام ـ وهو ما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ـ أم لا؟
الثاني: أنّ الحاكم بالتخيير بينهما في صورة تساويهما أو من جهة أ نّه لا وجه لتقديم الأهم على غيره هل هو الشرع أو العقل ؟.
أمّا المقام الأوّل: فقد ذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) إلى أ نّه لا وجه لتقديم الأهم على غيره، وقد أفاد في وجه ذلك أنّ الأهمّية إنّما تكون سبباً للتقديم فيما إذا كان كل من الواجبين واجداً للملاك التام فعلاً، وأمّا في مثل مقامنا هذا حيث يكون كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعاً فيستحيل أن يكون كل منهما واجداً للملاك بالفعل، لفرض أنّ القدرة دخيلة فيه، والمفروض هنا أ نّه لا قدرة للمكلف على امتثال كليهما معاً، والقدرة إنّما هي على امتثال أحدهما دون الآخر، وعليه فيكون الملاك في أحدهما لا في غيره، ومن الظاهر أنّ أهمّية طرف لاتكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف الآخر، ضرورة أ نّا
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1: 41.

ــ[71]ــ

كما نحتمل أن يكون الملاك فيه كذلك نحتمل أن يكون في الطرف الآخر، ومجرّد كونه أهم على فرض وجود الملاك فيه لا يكون دليلاً على تحققه ووجوده فيه واقعاً وحقيقة، دون ذلك الطرف.
وبتعبير ثان: حيث إنّ المفروض اشتراط كل من الواجبين بالقدرة شرعاً وأنّ لها دخلاً في الملاك ولا ملاك بدونها، فلا محالة يكون كل منهما صالحاً لأن يكون رافعاً لملاك الآخر من جهة عدم القدرة عليه بحكم الشارع، من دون فرق فيه بين أن يكون الملاكان متساويين أو يكون أحدهما أهم من الآخر على فرض وجوده وتحققه، وعلى هذا فأهمّية طرف لا تكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف الآخر في مقام المزاحمة، وذلك لصلاحية كل منهما لأن يكون رافعاً لملاك الآخر ولو كان أحدهما أهم من الآخر، ومجرد كون الملاك في طرف أهم على تقدير وجوده لا يوجب كونه واجداً له دون الآخر، فاذن لا وجه لتقديمه عليه في مقام التزاحم.
وأمّا المقام الثاني: فقد اختار (قدس سره) أنّ التخيير الثابت فيه تخيير شرعي لا عقلي، غاية الأمر أ نّه قد كشف عنه العقل، والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ كلاً من الواجبين واجد للملاك في ظرف القدرة عليه عقلاً وشرعاً، وأمّا إذا وقع التزاحم بينهما فيكون أحدهما لا بعينه واجداً للملاك دون الآخر.
أو فقل: إنّ في فرض التزاحم بما أنّ أحدهما لا بعينه مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً، لعدم المانع منه لا من قبل العقل ولا من قبل الشرع، فلا محالة يكون واجداً للملاك الالزامي، فاذا كان واجداً له فلا مناص من الالتزام بايجابه، بداهة أ نّه لا يجوز للمولى الحكيم أن يرفع اليد عن التكليف به مع فرض كونه واجداً للملاك بمجرد عجز المكلف عن امتثال كليهما معاً، وعليه فلا مناص من الالتزام بوجوب واحد منهما لا معيّناً، لاستقلال العقل بقبح ترخيص المولى في

ــ[72]ــ

تفويت الملاك الملزم، ونتيجة إيجابه هي التخيير شرعاً، أعني به وجوب هذا أو ذاك.
وخلاصة ما أفاده (قدس سره) نقطتان:
الاُولى: أنّ أهمّية أحد واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ليست من المرجحات، فالوظيفة هي التخيير بينهما مطلقاً.
الثانية: أنّ التخيير الثابت بينهما شرعي لا عقلي.
ولكن كلتا النقطتين خاطئة:
أمّا النقطة الاُولى: فيردّها أنّ مناط تقديم الأهم على المهم في محل الكلام وترجيحه عليه في مقام المزاحمة لا يكون بملاك أ نّه واجد للملاك دون غيره، ليقال بعدم إحرازه فيه في هذا المقام، بل هو بمناط آخر.
بيانه: أنّ المانع عن تقديم الأهم على المهم في المقام لا يخلو من أن يكون عقلياً أو شرعياً فلا ثالث لهما. أمّا المانع عقلي ـ وهو عدم القدرة عليه تكويناً ـ فغير موجود بالضرورة، إذ المفروض أ نّه مقدور تكويناً ووجداناً، وهذا واضح. وأمّا المانع الشرعي ـ وهو أمر الشارع بصرف القدرة في غيره الموجب للعجز عن صرفها فيه ـ فأيضاً كذلك، ضرورة أ نّه لا نعني به إلاّ أمر الشارع باتيان شيء لايقدر المكلف معه على الاتيان بالأهم في الخارج ومقام الامتثال، فمثل هذا الأمر لا محالة يكون مانعاً عن فعلية الأمر بالأهم، ولكن المفروض هنا عدم أمر من قبل الشارع بصرف القدرة في غير الأهم ليكون مانعاً عن فعلية أمره. فاذن لا مانع من الأخذ بالأهم وتقديمه على المهم أصلاً.
وعلى الجملة: فالمهم وإن كان مقدوراً عقلاً إلاّ أ نّه من ناحية مزاحمته مع الأهم غير مقدور شرعاً، وقد عرفت أنّ القدرة الشرعية دخيلة في متعلقه،

ــ[73]ــ

فلا يكون الأمر به فعلياً بدون تلك القدرة، فاذا لم يكن الأمر المتعلق به فعلياً فلا مانع من فعلية الأمر بالأهم.
وممّا ذكرناه ظهر أ نّه يمكن إحراز الملاك في الأهم وكونه واجداً له دون المهم، والوجه في ذلك أنّ الأهم مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً. أمّا عقلاً فواضح. وأمّا شرعاً فأيضاً كذلك، ضرورة أ نّه لا مانع منه ما عدا تخيّل أنّ الأمر بالمهم مانع، وقد عرفت أنّ هذا خيال لم يطابق الواقع، وذلك لاستحالة كون الأمر بالمهم في حال مزاحمته مع الأمر بالأهم فعلياً، ضرورة عدم قدرة المكلف في تلك الحال على امتثاله بحكم الشرع، حيث إنّه يوجب تفويت واجب أهم منه، ومن المعلوم أ نّه لا يجوز امتثال ما يوجب تفويت ما هو أهم منه بنظر الشرع، ونتيجة ذلك هي أ نّه لا مانع من كون الواجب الأهم واجداً للملاك الملزم في هذا الحال لا عقلاً ولا شرعاً.
وعليه فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ وجود الملاك في كل منهما مشكوك فيه، لصلاحية كل واحد منهما لأن يكون رافعاً لملاك الآخر من دون فرق بين تساوي الملاكين وكون أحدهما أهم من الآخر، لايمكن المساعدة عليه بوجه، وذلك لما عرفت من الضابط لتقديم الأهم على المهم في المقام من ناحية، وكونه واجداً للملاك من ناحية اُخرى، وإن كانت الناحية الاُولى مترتبة على الناحية الثانية، كما هو واضح. هذا تمام الكلام فيما إذا كان أحدهما معلوم الأهمّية.
وأمّا إذا كان محتمل الأهمّية، فهل يتقدّم في مقام المزاحمة على الطرف الآخر الذي لا تحتمل أهمّيته أصلاً كما هو الحال فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً أم لا ؟ وجهان.
الظاهر أ نّه لا مانع من التقـديم، والوجـه في ذلك: هو أنّ المكلف بعد ما

ــ[74]ــ

لايتمكن من امتثال كلا الواجبين معاً، ويتمكن من امتثال أحدهما دون الآخر، فلا محالة يدور أمره بين امتثال أحدهما تخييراً، وامتثال خصوص ما تحتمل أهمّيته، وعليه فيدخل المقام في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال، وقد ذكرنا في غير مورد أنّ في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في غير مقام الامتثال والحجية وإن كان الصحيح هو جريان البراءة عن التعيين، إلاّ أنّ في هذين المقامين لا مناص من الاشتغال والالتزام بالتعيين، وذلك لأنّ حصول البراءة بامتثال ما تحتمل أهمّيته معلوم، إمّا من جهة التعيين أو التخيير، وأمّا حصولها بامتثال ما لا تحتمل أهمّيته فغير معلوم، ومن الواضح جداً أنّ العقل لايكتفي في مقام الامتثال بالشك فيه بعد اليقين بالتكليف، بل يلزم بتحصيل اليقين بالبراءة عنه، بقاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، وكذا الحال في مقام الحجـية، فانّ حجية ما يحتمل تعيينه معلومة ولا مناص من الالتزام به، وحجية ما لايحتمل تعيينه مشكوكة، وقد حققنا أنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فعلاً، وهذا هو السر في افتراق هذين المـقامين عن غيرهما.
ونتيجة ما ذكـرناه لحدّ الآن: هي أنّ الأهم وكذا محتمل الأهمّية من المرجحات في المقام، كما أ نّهما من المرجحات في واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً فحسب.
وأمّا النقطة الثانية: فيردّها أنّ المفروض قدرة المكلف على امتثال كل من الواجبين المتزاحمـين في نفسه، وفي ظرف ترك الآخر عقلاً وشرعاً، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الشارع لم يأمر بخصوص أحدهما المعيّن، لأ نّه ترجيح من دون مرجح.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أ نّه لا مانع من أمر الشارع بكليهما

ــ[75]ــ

طولاً وعلى نحو الترتب، بأن يكون تعلق الأمر بكل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر ومترتباً عليه، بل لا مناص من الالتزام بذلك، والوجه فيه هو أنّ الأمر في المقام يدور بين أن يرفع اليد عن إطلاق كل من دليليهما بتقييد الأمر في كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر، وأن يرفع اليد عن أصل وجوب كل منهما رأساً، ومن المعلوم أنّ المتعين هو الأوّل دون الثاني، ضرورة أنّ رفع اليد عن أصل الأمر بهما بلا سـبب، إذ أ نّه لا يقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاق كل منهما مع التحفظ على أصله.
ونتيجة ذلك هي الالتزام بالترتب من الجانبين، بمعنى أنّ تعلق الأمر بكل من الفعـلين مشروط بعدم الاتيـان بمتعلق الآخر، ولا مانع من ذلك أصـلاً لا عقلاً كما هو واضح، إذ المفروض أنّ كلاً منهما مقدور عقلاً في ظرف ترك امتثال الآخر والاتـيان بمتعلقه، ولا شرعاً لفرض أ نّه ليس هناك أيّ مانع شرعي عن تعلق الأمر بكل واحد منهما في نفسه، وفي ظرف ترك الآخر، إذ المفروض أنّ كلاً من الفعلين في ذاته ومع قطع النظر عن الآخر سائغ، ومعه لا مانع من تعلق الأمر بهما كذلك، وبه نستكشف وجود الملاك في كل منهما في نفسه، وعند ترك الآخر.
وعلى الجملة: فقد ذكرنا سابقاً أ نّه لا فرق في جريان الترتب بين ما يكون كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة عقلاً، وما يكون مشروطاً بها شرعاً، فكما أ نّه يجري في الأوّل، فكذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة.
ودعوى أنّ جريان الترتب في مورد يتوقف على إحراز الملاك فيه، وهو في المقام لا يمكن، لفرض دخل القدرة الشرعية فيه، مدفوعة بما ذكرناه هناك من أنّ جريان الترتب لا يتوقف عليه، ضرورة أنّ إحرازه لا يمكن إلاّ بعد إثبات الأمر، فلو توقف إثبات الأمر على إحرازه لدار، كما قدّمناه بشكل واضح.

ــ[76]ــ

فتحصّل: أ نّه لا مانع من الالتزام بالترتب هنا، وقد تقدّم أ نّه لا فرق في إمكان الترتب واستحالته بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين. وأمّا عدم التزام شيخنا الاُستاذ (قدس سره) به في المقام مع أ نّه من القائلين به مطلقاً من دون فرق بين أن يكون من طرف أو من طرفين، فمن جهة ما بنى (قدس سره) على أصل فاسد، وهو أنّ الترتب لا يجري فيما إذا كانت القدرة المأخوذ فيه شرعية كما عرفت.
وعلى هذا الأساس يترتب أنّ التخيير بينهما تخيير عقلي، كالتخيير بين واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً، فانّ المكلف بعد ما لا يتمكن من امتثال كلا التكليفين معاً فلا محالة يكون مخيراً بين امتثال هذا وامتثال ذاك بحكم العقل، فلا موضوع عندئذ للتخيير الشرعي أصلاً. وتظهر الثمرة في المقام بين كون التخيير شرعياً وكونه عقلياً، فيما إذا كان المكلف تاركاً لامتثال كلا الواجبين معاً، فانّه على الأوّل يستحق عقاباً واحداً، لوحدة التكليف على الفرض. وعلى الثاني يستحق عقابين، لما عرفت من أنّ لازم القول بالترتب هو تعدد العقاب من جهة تعدد التكليف، وقد ذكرنا أ نّه لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب، بل لا مناص عنه، وأ نّه لا يكون عقاباً على ترك ما ليس بالاختيار، فانّ تعدد العقاب من جهة الجمع بين التركين، لا من جهة ترك الجمع بينهما، وقد مرّ بيان ذلك بصورة واضحة فلا حاجة إلى الاعادة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net