مبحث النسخ 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5304


ــ[203]ــ
 

النسـخ

غير خفي أنّ الوجوب إذا نسخ فلا دلالة فيه على بقاء الجواز، لا بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص، والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ ما توهم دلالته عليه لا يخلو من أن يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ، وشيء منهما لا يدل على هذا. أمّا الأوّل فلأنّ مفاده إنّما هو رفع الوجوب الثابت بدليل المنسوخ، فلا يدل على أزيد من ذلك أصلاً. وأمّا الثاني فلأنّ مفاده ثبوت الوجوب وقد ارتفع على الفرض ولا دلالة له على غيره.
ودعوى أنّ الوجوب ينحل إلى جواز الفعل مع المنع من الترك، فالمرفوع بدليل الناسخ إنّما هو المنع من الترك، وأمّا الجواز الذي هو بمنزلة الجنس فلا دليل على ارتفاعه أصلاً، فإذن لا محالة يكون باقياً، خاطئة جداً غير مطابقة للواقع في شيء، وذلك لأنّ دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمّت فانّما تتم في المركبات الحقيقية كالانسان والحيوان وما شاكلهما، وأمّا في البسائط الخارجية فلا تتم أصلاً، ولا سيّما في الأحكام الشرعية التي هي اُمور اعتبارية محضة وتكون من أبسط البسائط، ضرورة أنّ حقيقتها ليست إلاّ اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلف أو محروميته عنه.
ومن هنا قلنا إنّ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شيء منها مجعولاً شرعياً، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار، غاية الأمر إن نصب الشارع قرينةً على الترخيص في

ــ[204]ــ

الترك فينتزع العقل منه الاستحباب، وإن لم ينصب قرينةً عليه فينتزع منه الوجوب.
وعلى ضوء هذا، فلا يعقل القول بأنّ المرفوع بدليل الناسخ إنّما هو فصل الوجوب دون جنسه، ضرورة أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله، بل المجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار، ومن الواضح جداً أ نّه لا جنس ولا فصل له، بل هو بسيط في غاية البساطة، ولأجل ذلك فلا يتصف إلاّ بالوجود مرّة وبالعدم مرّة اُخرى، ولا ثالث لهما، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ حقيقة النسخ بحسب مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده، بمعنى أنّ سعة الجعل من الأوّل ليست بأزيد من ذلك، ومن هنا كان النسخ في الحقيقة تخصيصاً بحسب الأزمان في مقابل التخصيص بحسب الأفراد، فلا يكون في الواقع رفع بل فيه دفع وانتهاء الحكم بانتهاء مقتضيه. نعم، بحسب مقام الاثبات وظاهر الدليل يكون رفعاً.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنّ معنى النسخ انتهاء اعتبار المجعول بانتهاء أمده، والكاشف عن ذلك في مقام الاثبات إنّما هو دليل الناسخ، وعليه فلا موضوع للبحث عن أ نّه بعد نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا، ضرورة أنّ الوجوب والجواز بكلا معنييه ليسا من المجعولات الشرعية ليقع البحث عن أ نّه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز أم لا، بل هما أمران منتزعان بحكم العقل كما عرفت.
وقد تحصّل من هذا البيان اُمور:
الأوّل: أ نّه لا موضوع لما اشتهر بين الأصحاب قديماً وحديثاً من أ نّه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا، لما عرفت من

ــ[205]ــ

أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليقع الكلام في ذلك.
الثاني: أ نّه لا موضوع لدعوى ابتناء النزاع في المسألة على إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل، لما مرّ من أنّ الاعتبار بسيط في غاية البساطة فلا جنس ولا فصل له.
الثالث: أ نّه لا مجال لدعوى استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب، ضرورة أنّ هذه الدعوى ترتكز على أن يكون كل من الوجوب والجواز مجعولاً شرعياً، وقد عرفت خلافه وأ نّهما أمران انتزاعيان، والمجعول الشرعي إنّما هو اعتبار المولى لا غيره، والمفروض أ نّه قد ارتفع بدليل الناسخ، فإذن لا موضوع للاستصحاب.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً، فمع ذلك لا دليل لنا على بقاء الجواز، والوجه في ذلك أمّا أوّلاً: فلأنّ الوجوب أمر بسيط وليس مركباً من جواز الفعل مع المنع من الترك، وتفسيره بذلك تفسير بما هو لازم له لا تفسير لنفسه، وهذا واضح. وأمّا ثانياً: فلو سلّمنا أنّ الوجوب مركب إلاّ أنّ النزاع هنا في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب وعدم بقائه ليس مبتنياً على النزاع في تلك المسألة، أعني مسألة إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم امكانه، وذلك لأنّ النزاع في تلك المسألة إنّما هو في الامكان والاستحالة العقليين، وأمّا النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو في الوقوع الخارجي وعدم وقوعه بعد الفراغ عن أصل إمكانه، وكيف كان فإحدى المسألتين أجنبية عن المسألة الاُخرى بالكلّية.
وأمّا دعوى جريان الاستصحاب في هذا الفرض، بتقريب أنّ الجواز قبل نسخ الوجوب متيقن، وبعد نسخه نشك في بقائه فنستصحب فمدفوعة، فانّه مضافاً إلى أ نّه من الاستصحاب في الأحكام الكلّية، وقد ذكرنا غير مرّة أ نّه

ــ[206]ــ

لا يجري فيها على وجهة نظرنا، غير جار في نفسه في المقام، وذلك لأ نّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، لأنّ المتيقن لنا وهو الجواز في ضمن الوجوب قد ارتفع يقيناً بارتفاع الوجوب، والفرد الآخر منه مشكوك الحدوث، فإذن قد اختلّت أركان الاستصحاب فلا يجري.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أ نّه بعد نسخ الوجوب لا دليل على ثبوت شيء من الأحكام غيره، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى العموم أو الاطلاق لو كان، وإلاّ فإلى الأصل العملي وهو يختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى.
ونتيجة البحث عن هذه المسألة عدّة اُمور:
الأوّل: أنّ الوجوب إذا نسخ فلا دليل على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص، بل قد عرفت أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً، والمجعول الشرعي إنّما هو نفس الاعتبار القائم بالمعتبر، ومعنى نسخه هو انتهاء ذلك الاعتبار بانتهاء أمده، فإذن لا معنى للبحث عن هذا ولا موضوع له.
الثاني: أنّ ابتناء النزاع في المسألة على النزاع في إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه باطل، فانّ الحكم حيث إنّه أمر اعتباري بسيط في غاية البساطة فلا جنس له ولا فصل.
الثالث: أ نّه بناءً على ما ذكرناه فلا مجال للتمسك بالاستصحاب في المقام، مضافاً إلى أ نّه من الاستصحاب في الحكم الكلّي من ناحية، ومن القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي من ناحية اُخرى.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net