الجهة الثانية - الجهة الثالثة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4865

الثانية: قد ظهر مما ذكرناه نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية، وهي مسألة النهي في العبادات، وهي أنّ النزاع في تلك المسألة كبروي، فإنّ

ــ[362]ــ

المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة، بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى، وهي تعلق النهي بالعبادة، وأمّا النزاع في مسألتنا هذه فقد عرفت أ نّه صغروي، لفرض أنّ المبحوث عنه فيها هو سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر، وعدم سرايته.
وعلى ضوء هذا فالبحث في هذه المسألة بحث عن إثبات الصغرى للمسألة الآتية، فانّها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به، تكون من إحدى صغرياتها ومصاديقها دون القول الآخر.
فالنتيجة: أنّ النقطة الرئيسية لامتياز إحدى المسألتين عن الاُخرى هي أنّ جهة البحث في إحداهما صغروية وفي الاُخرى كبروية.
ومن هنا يظهر فساد ما أفاده المحقق صاحب الفصول (قدس سره) (1) من الفرق بين المسألتين، وحاصل ما أفاده: هو أنّ هذه المسألة تمتاز عن المسألة الآتية في أنّ النزاع في هذه المسألة فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة والذات، وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق كما إذا أمر المولى عبده بالحركة ونهاه عن القرب في مكان مخصوص، فانّ عنوان الحركة وعنوان القرب عنوانان متغايران بالذات، مع أنّ النسبة بينهما بحسب الخارج عموم مطلق، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بتغاير ما تعلق به الأمر وما تعلق به النهي، لا بكون النسبة بينهما عموماً من وجه، وإن كان الغالب أنّ النسبة بين الطبيعتين المتغايرتين كذلك عموم من وجه، وقلّما يتّفق أن تكون النسبة بينهما عموماً مطلقاً. والنزاع في تلك المسألة فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي متحدان بحسب الذات والحقيقة، ومخـتلفان بمجرد الاطلاق والتقييد، بأن تعلق الأمر بالطبيعة
ـــــــــــــــــــــ
(1) الفصول الغرويّة: 124.

ــ[363]ــ

المطلقة كالصلاة مثلاً، والنهي تعلق بحصة خاصة منها، وهي الصلاة في الدار المغصوبة.
وتوضيح فساده: هو أنّ مجرد اختلاف متعلقي الأمر والنهي في هذه المسألة واتحادهما في تلك المسألة، لا يكون ملاكاً لامتياز إحداهما عن الاُخرى ما لم تكن هناك جهة اُخرى للامتياز، ضرورة أ نّه لا يفرق في البحث عن تلك المسألة، أعني البحث عن أنّ تعلق النهي بعبادة هل يستلزم فسادها أم لا، بين أن يكون النهي متعلقاً بعبادة بعنوانها، كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوه، وأن يكون متعلقاً بعنوان آخر منطبق عليها في الخارج، كالنهي عن الغصب مثلاً إذا فرض انطباقه على الصلاة فيها خارجاً، فإذن لا محالة تكون الصلاة منهياً عنها ومتعلقاً للنهي.
ومن الواضح جداً أنّ مجرد تعلق النهي بها بعنوان آخر لا يوجب عقد ذلك مسألة اُخرى في قبال تلك المسألة، بعد ما كان ملاك البحث في تلك المسألة موجوداً فيه، وكان الغرض المترتب عليها مترتباً على ذلك أيضاً، وهو فساد العبادة. وعليه فلا أثر لمجرد الاختلاف في المتعلق، وعدم الاختلاف فيه، فانّ ميزان تعدد المسألة ووحدتها في أمثال هذا العلم إنّما هو بتعدد الغرض وجهة البحث ووحدتهما، لا باختلاف الموضوع والمحمول وعدم اختلافهما، كما هو واضح.
وبكلمة اُخرى: أنّ صِرف تعلق الأمر والنهي بطبيعتين مختلفتين على نحو العموم من وجه أو المطلق في هذه المسألة، وعلى نحو الاطلاق والتقييد في تلك المسألة، لا يوجب الامتياز بينهما إذا فرض عدم اختلافهما من جهة البحث، ضرورة أ نّه إذا فرض أنّ جهة البحث فيهما ترجع إلى نقطة واحدة، فلا معنى عندئذ لجعل هذه المسألة مسألة اُخرى في قبال تلك، كما هو ظاهر.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الضـابط لامتياز هذه المسألة عن تلك، هو ما

ــ[364]ــ

ذكرناه، من أنّ جهة البحث في هذه المسألة غير جهة البحث في تلك المسألة، فإذن لا بدّ من عقدها مسألة اُخرى في قبالها، كما تقدّم بصورة مفصّلة.
وقد يتخيّل أنّ نقطة الفرق بين هاتين المسألتين هي أنّ البحث في مسألتنا هذه عقلي، فانّ الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها إنّما هو العقل، بملاك تعدد المجمع في مورد التصادق والاجتماع ووحدته فيه، وليست للفظ أيّة صلة في البحث عنها، والبحث في المسألة الآتية لفظي، بمعنى أنّ النهي المتعلق بعبادة، هل يدل على فسادها أم لا.
ولكن هذا الخيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك:
أمّا أوّلاً: فلأن هذه المسألة تغاير تلك المسألة ذاتاً، فلا اشتراك لهما، لا في الموضوع ولا في المحمول ولا في الجهة ولا في الغرض، وهذا معنى الامتياز الذاتي، ومعه لا نحتاج إلى امتياز عرضي بينهما، وهو أنّ البحث في إحداهما عقلي وفي الاُخرى لفظي، فانّ الحاجة إلى مثل هذا الامتياز إنّما هو في فرض الاشتراك بينهما ذاتاً، وأمّا إذا فرض أ نّه لا اشتراك بينهما أصلاً فلا معنى لجعل هذا جهة امتياز بينهما، كما هو واضح.
وأمّا ثانياً: فلما سيجيء عن قريب إن شاء الله تعالى (1) من أنّ البحث في تلك المسألة أيضاً عقلي، ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً، ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها فيها إنّما هي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة، ومن الواضح جداً أنّ البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي، بل يعمّ الجميع، بداهة أنّ المبحوث عنه في تلك المسألة والمهم فيها إنّما هو البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه، ومن
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب ص 135.

ــ[365]ــ

المعلوم أ نّه لا يفرق فيه بين أن تكون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غيره، وإن كان عنوان البحث فيها على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم اختصاص محل النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي، إلاّ أنّ هذا من جهة الغلبة، حيث إنّ الحرمة غالباً مستفادة من اللفظ دون غيره، كما هو ظاهر.
الثالثة: قد تقدّم أنّ متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّية التي يمكن انطباقها على الأفراد والمصاديق الخارجـية بشتّى ألوانها وأشكالها، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ تلك الطبائع الكلّية قد قيّدت بقيودات كثيرة وجودية وعدمية، مثلاً الصلاة مقيدة بقيودات وجودية، كالطهور والقيام واستقبال القبلة والاستقرار وما شاكل ذلك، وقيودات عدمية، كترك لبس ما لا يؤكل والحرير والذهب والميتة والنجس، وترك القهقهة والتكلم ونحو ذلك.
ومن ناحية ثالثة: أنّ تلك القيودات لا توجب إلاّ تضييق دائرة انطباقها على أفرادها في الخارج ولا توجب خروجها عن الكلّية.
وعلى الجملة: فانّ للطبائع الكلّية عرضاً عريضاً، ولكل حصة منها نحو سعة وكلّية، وأنّ التقييد مهما بلغ عدده لا يوجب إلاّ تضييق دائرة الانطباق على ما في الخارج، إلاّ إذا فرض بلوغ التقييد إلى حد يوجب انحصار المقيد في الخارج بفرد واحد، ولكنّه مجرد فرض لعلّه غير واقع أصلاً.
ومن هنا تكون التقييدات الواردة على الصلاة من نواح عديدة: 1 ـ من ناحية الزمان حيث إنّها واجبة في زمان خاص لا مطلقاً. 2 ـ من ناحية المكان حيث إنّه يشترط في صحتها أن تقع في مكان مباح. 3 ـ من ناحية المصلي فلا تصح من كل شخص كالحائض ونحوها. 4 ـ من ناحية نفسها حيث إنّها مقيدة

ــ[366]ــ

بقيودات عديدة كثيرة وجودية وعدمية، لا توجب إلاّ تضييق دائرة انطباقها على ما في الخارج، ولا توجب خروجها عن الكلّية وإمكان انطباقها على الأفراد الكثيرة في الخارج.
ومن ناحية رابعة: أنّ المراد من الواحد في محل الكلام هو مقابل المتعدد لا في مقابل الكلّي، بمعنى أنّ المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد وليس بمتعدد، بأن يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهي عنه وإلاّ لخرج عن محل الكلام ولا إشكال عندئذ أصلاً.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أنّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق كلّي قابل للانطباق على كثيرين وليس واحداً شخصياً، ضرورة أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة ليست واحدة شخصاً بل هي واحدة نوعاً ولها أفراد عرضية وطولية تصدق عليها، لما عرفت من أنّ التقييد لا يوجب إلاّ تضييق دائرة الانطباق، فتقييد الصلاة بكونها في الدار المغصوبة لايوجب خروجها عن الكلّية، وإنّما يوجب تضييق دائرة انطباقها على خصوص الأفراد الممكنة التحقق فيها من العرضية والطولية، فانّها كما تصدق على الصلاة قائماً فيها، تصدق على الصلاة قاعداً وعلى الصلاة مع فتح العينين ومع غمضهما وفي هذه الدار وتلك... وهكذا، وعلى الصلاة في هذا الآن، وفي الآن الثاني والثالث... وهكذا.
وبكلمة اُخرى: أنّ الواحد قد يطلق ويراد منه ما لا يكون متعدداً، فيقال إنّ الصلاة في الأرض المغصوبة واحدة فلا تكون متعددة، بمعنى أ نّه ليس في الدار شـيئان أحدهما كان متعلق الأمر والثاني متعلق النهي، بل فيها شيء واحد ـ وهو الصلاة ـ يكون مجمعاً لمتعلقيهما، فالغرض من التقييد بكون المجمع لهما واحداً، في مقابل ذلك، أي في مقابل ما ينطبق المأمور به على شيء والمنهي عنه على شيء آخر، لا في مقابل الكلّي كما ربّما يتوهّم.

ــ[367]ــ

وقد يطلق الواحد ويراد منه ما لا يكون كلّياً فيقال هذا واحد ليس بكلّي قابل للانطباق على كثيرين، والنسبة بين الواحد بهذا المعنى والواحد بالمعنى الأوّل هي عمـوم مطلق، فانّ الأوّل أعم من هذا لشـموله الواحد بالشخص والواحد بالنوع والواحد بالجنس، دون هذا فانّه خاص بالأوّل فحسب. وبعد ذلك نقول: إنّ المراد من الواحد في محل الكلام هو الواحد بالمعنى الأوّل دون الثاني، بمعنى أنّ هذه الحصة من الصلاة مثلاً وهي الصلاة في الأرض المغصوبة مجمع لمتعلقي الأمر والنهي ومورد لتصادقهما، وإن كانت في نفسها كلّياً قابلاً للانطباق على الأفراد الكثيرة في الخارج العرضية والطولية، كما عرفت.
فالنتيجة: أنّ هذه الحصة بما لها من الأفراد مجمع لهما ومحل للتصادق والاجتماع في مقابل ما إذا لم يكن كذلك، بأن يكون مصداق المأمور به حصة، ومصداق المنهي عنه حصة اُخرى مباينة للاُولى بما لها من الأفراد الدفعية والتدريجية.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل السجدة والقتل والكذب وما شاكلها من الطبائع الكلّية التي يتعلق الأمر بحصة منها والنهي بحصة اُخرى منها عن محل الكلام في المسألة، فانّ هذه الطبائع وإن كانت واحدةً بالنوع أو الجنس، إلاّ أ نّها ليست مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي معاً، فانّ الأمر تعلق بحصة منها وهي السجود لله تعالى، والنهي تعلق بحصة اُخرى منها وهي السجود لغيره تعالى، وهاتان الحصتان متباينتان فلا تجتمعان في مورد واحد، ولا تنطبق إحداهما على ما تنطبق عليه الاُخرى، وليس هنا شيء يكون مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي، ومحلاً لاجتماعهما فيه، ضرورة أنّ طبيعي السجود بما هو ليس مجمعاً للأمر والنهي ليكون داخلاً في محل البحث في هذه المسألة، بل الأمر كما عرفت تعلق بحصة، والنهي تعلق بحصة مباينة لها، فلا تجتمعان في مورد أصلاً.

ــ[368]ــ

وكذا الحال في القتل، فانّ الأمر تعلق بحصة خاصة منه ـ وهي قتل الكافر أو غيره ممن وجب قتله ـ والنهي تعلق بحصة اُخرى منه ـ وهي قتل المؤمن ـ ومن الواضح أ نّهما لا تتصادقان على شيء واحد، ولا تجتمعان في محل فارد فإذن ليس هنا شيء واحد اجتمع فيه الأمر والنهي، بل الأمر تعلق بحصة يمكن انطباقها على أفرادها الكثيرة في الخارج العرضية والطولية، والنهي تعلق بحصة اُخرى كذلك. وكذا الحال في الكذب ونحوه.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ الغرض من تقييد المجمع بكونه واحداً إنّما هو التحرز عن مثل هذه الموارد التي لا يتوهّم اجتماع الأمر والنهي فيها في شيء واحد، لا التحرز عن مطلق الواحد النوعي أو الجنسي كما عرفت.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل: أ نّه إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه في الخارج ومبايناً له، فهو خارج عن مفروض الكلام في المسألة، ولا كلام ولا إشكال فيه أبداً.
الثاني: أنّ محل الكلام فيها ما إذا كان مصداق المأمور به والمنهي عنه واحداً، وذلك الواحد يكون مجمعاً لهما، سواء أكانت وحدته شخصية أو صنفية أو نوعية أو جنسية، لما مرّ من أنّ المراد من الواحد في مقابل المتعدد ـ وهو ما إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه خارجاً ـ لا في مقابل الكلّي، وسواء أكانت وحدته حقيقية أم انضمامية.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net