ثبوت المفهوم للشرط على مختار المصنف في بابي الاخبار والانشاء 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5212


ــ[211]ــ

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ ما ذكروه من الوجوه لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً لا يتم شيء منها، ومن هنا قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) عدم دلالتها على المفهوم إلاّ فيما قامت قرينة على ذلك، ولكن أين هذه من دلالتها عليه وضعاً أو إطلاقاً.
فالصحيح في المقام أن يقال: إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء، ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في البابين، فلنا دعويان:
الاُولى: عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم على وجهة نظرية المشهور في هذين البابين، لا بالوضع ولا بالاطلاق.
الثانية: دلالتها عليه على وجهة نظريتنا فيهما.
أمّا الدعوى الاُولى: فقد ذكرنا في محلّه أنّ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه، والجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إيجاد المعنى في الخارج. وعلى ضوء ذلك فلا يمكن إثبات المفهوم للقضية الشرطية لا من ناحية الوضع ولا من ناحية الاطلاق، لما تقدم من أنّ غاية ما تدل القضية عليه هو ترتب الجزاء على الشرط وتفرّعه عليه، سواء أكانت القضية في مقام الاخبار أم كانت في مقام الانشاء. وأمّا كون الجزاء معلولاً للشرط فقد عرفت عدم دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق فضلاً عن الوضع، وعلى تقدير التنزل عن ذلك وتسليم دلالتها عليه، إلاّ أ نّها لا تدل على كون هذا الترتب على نحو ترتب
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 194 ـ 196.

ــ[212]ــ

المعلول على علته المنحصرة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث السابقة بشكل موسّع.
أمّا الدعوى الثانية: فقد ذكرنا في بحث الانشاء والاخبار أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه، وذلك لأمرين:
الأوّل: أ نّها لا تدل على ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه ولو دلالة ظنّية مع قطع النظر عن حال المخبر من حيث وثاقته وما شاكل ذلك وقطع النظر عن القرائن الخارجية، مع أنّ من الطبيعي أنّ دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع، وعليه فما فائدته.
وعلى الجملة: فاذا افترضنا أنّ الجملة الخبرية لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا تكشف عنها ولو كشفاً ظنياً فما معنى كونها موضوعة بازائها، فبطبيعة الحال يكون وضع الجملة لها لغواً محضاً فلا يصدر من الواضع الحكيم.
الثاني: أنّ الوضع على ضوء نظريتنا عبارة عن التعهد والالتزام النفساني المبرز بمبرز مّا في الخارج وتوضيحه كما حققناه في محلّه: أنّ كل متكلم من أهل أيّ لغة كان تعهّد والتزم في نفسه أ نّه متى ما أراد تفهيم معنىً خاص يبرزه بلفظ مخصوص، وعليه فاللفظ بطبيعة الحال يدل بمقتضى قانون الوضع على أنّ المتكلم به أراد تفهيم معنىً خاص.
ثمّ إنّ من الطبيعي أنّ التعهد والالتزام لا يتعلقان إلاّ بالفعل الاختياري، ضرورة أ نّه لا معنى لتعهد الشخص بالاضافة إلى الأمر الخارج عن اختياره، فالتعهد إنّما يتعلق بالفعل في إطاره الخاص وهو الفعل الاختياري، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه في

ــ[213]ــ

القضايا أمر خارج عن الاختيار، يعني عن اختيار المتكلم بها، بل هو تابع لثبوت عللها وأسبابها في الواقع، وعليه فلا يمكن تعلق التعهد والالتزام به. ومن ناحية ثالثة: أنّ ما هو بيد المتكلم واختياره في تلك القضايا إنّما هو إبراز قصد الحكاية فيها والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع وهو قابل لأن يتعلق به التعهد والالتزام.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي تعيّن تعلق التعهد والالتزام بابراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً.
ومن هذا البيان قد ظهر أمران:
الأوّل: أ نّه بناءً على ضوء نظريتنا في باب الوضع لا يمكن وضع الجملة الخبرية للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.
الثاني: تعين وضعها للدلالة على إبراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً، ونتيجة هذا أنّ الجملة الخبرية ـ بمقتضى تعهد الواضع بأ نّه متى ما قصد الحكاية عن ثبوت شيء في الواقع أو نفيه عنه أن يتكلم بها ـ تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها وتحققها في الخارج ذلك، وعليه فبطبيعة الحال تكون الجملة بنفسها مصداقاً للحكاية والاخبار.
ثمّ إنّ هذه الدلالة لا تنفك عن الجملة أبداً حتى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقـام التفهيم والافادة في الواقع ما لم ينصب قرينةً على الخلاف في مقام الاثبات، غاية الأمر أنّ تكلّمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهّده والتزامه على ما تقدم في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع، ومن هنا قلنا إنّ الجملة الخبرية لا تتصف بالصدق مرّةً وبالكذب اُخرى من ناحية الدلالة الوضعية، لما عرفت من أنّ تلك الدلالة ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب، فقولنا:

ــ[214]ــ

زيد عدل مثلاً يدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية عن ثبوت العدالة لزيد والاخبار عنه، وأمّا أ نّه مطابق للواقع أو غير مطابق فالجملة لا تدل عليه وأ نّه لا صلة لها بما لها من الدلالة الوضعية بهذه الجهة أصلاً.
ولأجل ذلك قلنا إنّ الجملة الخبرية تشترك مع الجملة الانشائية في الدلالة الوضعية، فكما أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم إبراز الأمر الاعتباري النفساني، فكذلك الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الواقع فلا فرق بينهما من هذه الناحية، ولذا لا تتصف الجملة الخبرية كالجملة الانشائية بالصدق والكذب من هذه الجهة، والفرق بينهما إنّما هو من ناحية اُخرى وهي أنّ لمدلول الجملة الخبرية واقعاً موضوعياً دون مدلول الجملة الانشائية، ولذا تتصف الاُولى بالصدق والكذب بملاحظة مطابقة مدلولها للواقع وعدم مطابقته له دون الثانية، هذا ملخّص القول في الجملة الخبرية.
وأمّا الجملة الانشائية فقد حققنا في محلّها أ نّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ولم توضع للدلالة على إيجاد المعنى فيه كما اشتهر في ألسنة الأصحاب، وذلك لما ذكرناه هناك من أ نّهم لو أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني الخارجي كايجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات، ولا نحتمل أ نّهم أرادوا ذلك، كيف فانّ الموجودات الخارجية بشتى أنواعها وأشكالها ليست مما توجد بالانشاء، بداهة أنّ الألفاظ لم تقع في سلسلة عللها وأسبابها. وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة والملكية والزوجية وما شاكل ذلك، فيرد عليه: أ نّه يكفي في إيجاد هذه الاُمور نفس اعتبار المعتبر من دون حاجة إلى التكلم بأيّ كلام والتلفظ بأيّ لفظ، لوضوح أنّ الأمر الاعتباري بيد من له الاعتبار رفعاً ووضعاً، فله إيجاده في عالم

ــ[215]ــ

الاعتبار سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.
نعم، اللفظ مبرز له في عالم الخارج لا أ نّه موجد له، وتقدّم تفصيل ذلك بصورة موسّعة فلاحظ.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنّ مفاد الجملة الشرطية إذا كانت إخبارية فهو الدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت شيء في الواقع على تقدير ثبوت شيء آخر فيه، لا على نحو الاطلاق والارسال بل على تقدير خاص وفي إطار مخصوص، مثلاً جملة إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود، تدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية والاخبار عن وجود النهار، لا على نحو الاطلاق وإلاّ لكان كاذباً، بل على تقدير خاص وهو تقدير طلوع الشمس، ومن الطبيعي أنّ لازم هذه النكتة يعني كون إخباره على تقدير خاص هو انتفاؤه عند انتفاء هذا التقدير، لفرض أ نّه لم يخبر عنه على نحو الاطلاق وإنّما أخبر عنه على تقدير خاص وفي إطار مخصوص، وعليه فبطبيعة الحال ينتفي إخباره بانتفاء هذا التقدير، وهذا معنى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم، مثلاً في جملة: لو شرب زيد سمّاً لمات، أو لو قطع رأسه لمات، فقد أخبر المتكلم عن وقوع الموت في الخارج على تقدير خاص وهو تقدير شرب السم أو قطع الرأس لا مطلقاً، ولازم ذلك قهراً انتفاء إخباره بانتفاء هذا التقدير.
ومن ضوء هذا البيان يظهر: أنّ إخباره عن موت زيد على هذا التقدير لا يتصف بالكذب عند انتفائه، يعني انتفاء هذا التقدير خارجاً وعدم تحققه فيه، والسبب في ذلك: هو أنّ المناط في اتصاف القضية الشرطية بالصدق تارةً وبالكذب اُخرى ليس صدق التالي ومطابقته للواقع وعدم مطابقته له، بل المناط في ذلك إنّما هو ثبوت الملازمة بين المقدّم والتالي وعدم ثبوتها، فان

ــ[216]ــ

كانت الملازمة بينهما ثابتة في الواقع فالقضية الشرطية صادقة وإلاّ فهي كاذبة، من دون فرق في ذلك بين كون المقدّم والتالي صادقين أم كاذبين، بل لا يضر بصدقها كونهما مستحيلين في الخارج، وذلك كقوله سبحانه وتعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا)(1) فانّ القضية صادقة على الرغم من كون كلا الطرفين مستحيلاً، فلا يكون إخباره تعالى عن فساد العالم على تقدير وجود الآلهة كاذباً وغير مطابق للواقع، بل هو صادق ومطابق له، حيث إنّ إخباره سبحانه عنه لا يكون مطلقاً، بل يكون على تقدير خاص وهو تقدير وجود الآلهة في هذا العالم. نعم، لو لم يقع الفساد فيه على تقدير وجود الآلهة لكانت القضية كاذبة لكشف ذلك عن عدم الملازمة بينهما في الواقع.
والسر في ذلك: أي في أنّ صدق القضية الشرطية وكذبها يدوران مدار ثبوت الملازمة بينهما في الواقع ونفس الأمر وعدم ثبوتها فيه ولا يدوران مدار صدق طرفيهما وكذبهما، هو أنّ المخبر به فيها إنّما هو قصد الحكاية والاخبار عن الملازمة بينهما لا عن وجودي المقدّم والتالي، لوضوح أنّ المتكلم فيها غير ناظر إلى أ نّهما موجودان أو معدومان ممتنعان أو ممكنان، وعليه فان كانت الملازمة في الواقع ثابتة وكان لها واقع موضوعي فالقضية صادقة وإلاّ فهي كاذبة.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ القضية الشرطية على ضوء نظريتنا موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن وجود التالي على تقدير وجود المقدّم، وعليه فبطبيعة الحال تدل بالالتزام على انتفاء الاخبار عنه على تقدير انتفائه أي المقدّم، وهذا معنى دلالتها على المفهوم بالدلالة الالتزامية الوضعية، يعني
ـــــــــــــــــــــ
(1) الأنبياء 21: 22.

ــ[217]ــ

أ نّها لازمة للدلالة المطابقية باللزوم البين بالمعنى الأخص.
وأمّا الجمل الانشائية فهي على نوعين:
الأوّل: ما يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً وتكويناً كقولنا: إن رزقت ولداً فاختنه، وإن ملكت شيئاً تصدق به وما شاكل ذلك.
الثاني: ما لا يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً بل يكون التعليق والتوقف بجعل المولى واعتباره كقولنا: إن كان زيد عالماً فأكرمه وما شابه ذلك.
أمّا النوع الأوّل: فهو خارج عن محل الكلام ولا يدل على المفهوم، والسبب في ذلك: هو أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين: الاُولى: أن يكون الموضوع فيها غير الشرط وهو الذي علّق عليه الجزاء. الثانية: أن لا يكون التعليق والتوقف عليه عقلياً، وعلى ذلك فأيّة قضية شرطية كانت فاقدة لهاتين الركيزتين أو لاحداهما فلا مفهوم لها، والأوّل كالمثالين المتقدمين والثاني كقولنا: إن جاءك أمير فاستقبله، فانّ الشرط في هذه القضية وإن كان غير الموضوع إلاّ أنّ توقف الجزاء عليه عقلي.
وعلى الجملة: فتوقف الجزاء على الشرط في أمثال هذه القضايا عقلي وتكويني ولا دخل لجعل المولى إياه مترتباً على الشرط ومعلّقاً عليه أصلاً، ضرورة أنّ توقف الجزاء عليه واقعي موضوعي وأ نّه يستحيل وجوده وتحققه في الخارج بدون وجوده وتحققه، ومن هنا لا يفرق في ذلك بين ما لو جيء به على نحو القضية الشرطية، وما لو جيء به على نحو القضية الوصفية، فانّ توقفه عليه على كلا التقديرين واقعي وانتفاءه بانتفائه عقلي، ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً كما هو الحال في جميع موارد انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. فاذن كيف يمكن عدّ هذا الانتفاء من المفاهيم، وقد تقدم أنّ المفاهيم مداليل للألفاظ

ــ[218]ــ

وقد دلت عليها القضية بالدلالة الالتزامية ولم تكن أجنبية عنها أصلاً.
وأمّا النوع الثاني: وهو ما لا يتوقف الجزاء بنفسه على الشرط بل إنّما هو بجعل المولى وتعليقه عليه وذلك مثل قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، فبما أنّ الركيزتين المتقدمتين قد توفرتا فيه فبطبيعة الحال يدل على المفهوم، بيان ذلك: أنّ الموضوع في هذا النوع من القضية الشرطية غير الشرط المذكور فيها، يعني أنّ له حالتين، فالجزاء معلّق على إحداهما دون الاُخرى، ولا يكون هذا التعليق عقلياً وإنّما هو بجعل المولى وعنايته، كما هو الحال في المثال المذكور فانّ الموضوع فيه هو زيد والشرط فيه هو مجيؤه، ولا يكون توقف الجزاء وهو وجوب الاكرام عليه عقلياً، ضرورة عدم توقف إكرامه عليه بل يمكن ذلك في كلتا الحالتين، فمثل هذه القضية الشرطية يدل على المفهوم لا محالة بناءً على ضوء النكتة التي ذكرناها في تفسير الانشاء.
وحاصلها: هو أنّ حقيقة الانشاء عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز مّا، ومن الطبيعي أنّ هذا الاعتبار قد يكون مطلقاً، وقد يكون معلّقاً على شيء خاص وتقدير مخصوص كما في مثل المثال السابق حيث إنّ المولى لم يعتبر إكرام زيد على ذمة المكلف على نحو الاطلاق، وإنّما اعتبره على تقدير خاص وهو تقدير تحقق مجيئه وإبرازه في الخارج بقوله: إن جاءك زيد فاكرمه، فانّه بطبيعة الحال يكشف عن ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت المجيء وتحققه بالمطابقة وعن انتفائه عند انتفائه في الخارج وعدم تحققه فيه بالالتزام، وقد تقدم أنّ الملازمة بينهما بيّنة بالمعنى الأخص، والسر فيه ما عرفت من أنّ اعتبار المولى إذا كان مقيداً بحالة خاصة فلازمه عدم اعتباره عند انتفاء هذه الحالة، ومن الطبيعي أنّ هذا اللازم بيّن بالمعنى الأخص، حيث إنّ النفس تنتقل إليه من مجرد تصور عدم الاطلاق في اعتبار المولى وأ نّه يكون

ــ[219]ــ

على تقدير خاص ومقيداً به، فالقضية الشرطية التي تدل على الأوّل بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ولا تتوقف هذه الدلالة على أيّة نكتة ومقدمة اُخرى.
والسبب في ذلك: ما تقدم من أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، وعلى هذا الضوء فاذا كانت الجملة الانشائية شرطيةً كقضية إن استطعت فحج مثلاً أو نحوها، دلت على أنّ اعتبار المولى مفاد الجزاء على ذمة المكلف كالحج لا يكون على نحو الاطلاق، بل هو على تقدير خاص وهو تقدير تحقق الشرط كالاستطاعة، ولازم ذلك دلالتها على عدم اعتباره على تقدير عدم تحققه، غاية الأمر أنّ دلالتها على الأوّل بالمطابقة وعلى الثاني بالالتزام.
وبكلمة ثانية: أنّ اعتبار الفعل في مقام الثبوت على ذمة المكلف أو اعتبار ملكية شيء لشخص مثلاً إذا كان معلّقاً على تقدير ثبوت شيء ولم يكن مطلقاً كاعتبار الصلاة مثلاً على تقدير تحقق الزوال أو الحج على تقدير الاستطاعة أو اعتبار الموصي ملكية ماله لشخص على تقدير موته وهكذا، كان مردّه إلى أمرين: أحدهما: اعتبار هذا الشيء على هذا التقدير الخاص. وثانيهما: عدم اعتباره عند عدم تحقق هذا التقدير، لفرض أنّ الشارع لم يعتبر الصلاة مثلاً على ذمة المكلف عند فرض عدم تحقق الزوال أو الحج عند فرض عدم الاستطاعة، وكذا الموصي لم يعتبر ملكية ماله له على تقدير عدم موته، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ هذين الأمرين متلازمان على نحو يكون اللزوم بينهما من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص، هذا بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الاثبات فالكاشف عن ذلك إن كان هو القضية الوصفية فهي لا تدل على المفهوم، أي الانتفاء عند الانتفاء وإنّما تدل على أنّ الحكم في

ــ[220]ــ

القضية لم يجعل على نحو الاطلاق كما سيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية(1). وإن كان هو القضية الشرطية فهي تدل عليه بمقتضى التعليق، أي تعليق الجزاء على الشرط، غاية الأمر أنّ دلالتها على الثبوت عند الثبوت بالمطابقة وعلى الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.
فالحاصل: أنّ دلالتها على المفهوم نتيجة النكتة المتوفرة فيها ولم تكن متوفرة في غيرها وهي تعليق المولى مفاد الجزاء على الشرط واعتباره متوقفاً عليه ومترتباً بعد ما لم يكن كذلك في نفسه.
ثمّ إنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع، أي وضع أدوات الشرط للدلالة على ذلك ككلمة «إن» و «إذا» و «لو» وما شاكل ذلك في أيّة لغة كانت، ولم تكن مستندةً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة، لفرض أ نّها لازمة بيّنة بالمعنى الأخص لدلالتها المطابقية وهي دلالتها على التعليق والثبوت، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون تعليق مدلول الجزاء على شرط واحد كقولنا إن جاءك زيد فأكرمه أو ما شاكله، أو يكون على شرطين بمثل العطف بالواو كقولنا: إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه، أو العطف بأو كقولنا: إن جاءك زيد أو عمرو فاعط له هذا المال، فعلى الأوّل يكون الشرط في الحقيقة مجموع الأمرين بحيث يكون كل واحد منهما جزءه لاتمامه، وعلى الثاني أحدهما، ومن الطبيعي أ نّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً، ضرورة أنّ ملاك دلالتها في الجميع واحد وهو تعليق المولى الجزاء على الشرط ثبوتاً وإثباتاً، غاية الأمر إذا كان الشرط مجموع الأمرين انتفى الجزاء
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع مبحث مفهوم الوصف ص 274.

 
 

ــ[221]ــ

بانتفاء واحد منهما، وإذا كان أحدهما لا بعينه لم ينتف إلاّ بانتفاء الجميع.
وإن شئت قلت: إنّ مفاد القضية الشرطية هو تعليق الجزاء على الشرط، وأمّا كون الشرط واحداً أو متعدداً وعلى تقدير التعدد كان ملحوظاً على نحو العموم المجموعي أو العموم الاستغراقي فكل هذه الخصوصيات خارجة عن مفادها فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة، نظير ذلك لفظ «كل» فانّه موضوع للدلالة على إرادة العموم والشمول بالاضافة إلى أفراد مدخوله ومتعلقه، ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة لا تختلف باختلاف مدخوله سعةً وضيقاً، ضرورة أ نّه غير ناظر إلى ذلك أصلاً، فلا فرق بين قولنا: أكرم كل عالم، وقولنا: أكرم كل إنسان، فانّ كلمة «كل» في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد، وهو الدلالة على إرادة عموم أفراد مدخوله.
إلى هنا قد ظهر لنا هذه النتيجة وهي الفرق بين القضية الشرطية والقضية الحقيقية مثل قولنا: يجب على المسافر القصر وعلى الحاضر التمام وما شاكل ذلك، فانّ المبرز عن اعتبار المولى إن كان هو القضية الحقيقية فهي لا تدل على المفهوم، لما تقدم من أنّ مدلولها هو قصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع الخاص المفروض وجوده في الخارج، ولا يستلزم نفيه عن غيره كما هو واضح وأشرنا إليه آنفاً أيضاً، وهذا بخلاف القضية الشرطية كقولنا: إن سافرت فقصّر، فانّها كما تدل على ثبوت وجوب القصر عند ثبوت السفر وتحققه، كذلك تدل على نفيه عند عدم تحققه، والحجر الأساسي لهذا الفرق هو أنّ عنوان المسافر أو نحوه بما أ نّه قد اُخذ موضوعاً للحكم بنفسه في القضية الحقيقية فبطبيعة الحال لا تدل إلاّ على ثبوته لهذا الموضوع الخاص ولا تدل على نفيه عن غيره. ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وأمّا في القضية الشرطية فالموضوع فيها هو نفس المكلف في المثال المتقدم

ــ[222]ــ

وحيث إنّ له حالتين: حالة سفره، وحالة عدم سفره، فالمولى قد علّق الحكم على إحدى حالتيه وهي حالة سفره، وعليه فلا محالة تدل على انتفائه عند انتفاء هذه الحالة. ومن هنا قلنا إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين: هما كون الموضوع فيها غير الشرط، وأن لا يكون توقف الجزاء عليه عقلياً.
قد وصلنا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة: وهي أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم بناءً على وجهة نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء من الواضحات، وأمّا بناءً على نظرية المشهور في هذين البابين فلا يمكن إثبات دلالتها عليه.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:
الاُولى: أنّ المراد من المفهوم ليس كل معنى يفهم من اللفظ، بل المراد منه حصة خاصة من المعنى، في مقابل المنطوق حيث إنّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة، والمفهوم يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية المستندة إلى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم.
الثانية: تمتاز الملازمة بين المفهوم والمنطوق عن الملازمة في مباحث الاستلزامات العقلية ـ كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته وبين وجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك ـ في نقطة، وهي أنّ الملازمة بينهما هنا من اللزوم البيّن بخلاف الملازمة هناك فانّها غير بيّنة، وعلى ضوء هذه النقطة قد خرجت دلالة الاقتضاء والاشارة والتنبيه عن المفهوم حيث إنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن فتحتاج إلى ضم مقدمة خارجية، وهذا بخلاف اللزوم في موارد الدلالة على المفهوم، فانّه بيّن فلا تحتاج الدلالة عليه إلى ضم مقدمة خارجية، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث جعل اللزوم في

ــ[223]ــ

تلك الموارد من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم، وقد تقدم نقده.
الثالثة: أنّ كون مسألة المفاهيم من المسائل الاُصولية واضح حيث تتوفر فيها ركائزها، وإنّما الكلام في أ نّها من المسائل الاُصولية العقلية أو اللفظية، وقد تقدم أنّ لها حيثيتين واقعيتين: فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاُصولية العقلية، ومن الاُخرى تناسب أن تكون من المسائل الاُصولية اللفظية، ولكن لا أثر للبحث عن هذه الجهة أصلاً.
الرابعة: أنّ محل الكلام ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده، بل إنّما هو في أصل وجوده كما هو الحال في جميع مباحث الألفاظ.
الخامسة: أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركائز، وتلك الركائز وإن تتم بعضها ولكن بما أ نّها لا تتم جميعاً فلا دلالة لها على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.
السادسة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد أخذ طريقاً آخر لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وهو التمسك باطلاق الشرط. وقد تقدم نقده بشكل موسّع.
السابعة: أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء، ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في هذين البابين. وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسّعة.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net