القول بابتناء التداخل على القول بمعرفية العلل الشرعية - اختصاص محل النزاع بما إذا كان الشرط قابلاً للتكرار 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4818

الرابع: ما نسب إلى فخر المحققين (1) من أنّ القول بالتداخل وعدمه يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباباً أو معرّفات، فعلى الأوّل لا يمكن القول بالتداخل، وعلى الثاني لا مانع منه حيث إنّ اجتماع معرّفات عديدة على شيء واحد بمكان من الوضوح.
ـــــــــــــــــــــ
(1) نسبه إليه في مطارح الأنظار: 175.

ــ[257]ــ

وغير خفي أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً، والسبب فيه: أ نّه إن اُريد بكونها معرّفات أ نّها غير دخيلة في الأحكام الشرعية كدخل العلة في المعلول، فهو وإن كان متيناً جداً، لما ذكرناه في بحث الشرط المتأخر من أ نّه لا دخل للاُمور التكوينية في الأحكام الشرعية أصلاً، ولا تكون مؤثرةً فيها كتأثير العلة في المعلول وإلاّ لكانت تلك الأحكام معاصرة لتلك الاُمور التكوينية ومسانخة لها بقانون التناسب والسنخية، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، بداهة أنّ وجوب صلاتي الظهرين مثلاً ليس معلولاً لزوال الشمس وإلاّ لكان معاصراً له من ناحية وأمراً تكوينياً من ناحية اُخرى بقانون التناسب. وكذا الحال في وجوب صلاتي المغرب والعشاء فانّه ليس معلولاً لغروب الشمس، ووجوب صلاة الفجر فانّه ليس معلولاً لطلوع الفجر، ووجوب الحج فانّه ليس معلولاً للاستطاعة ونحوها، ووجوب الصوم فانّه ليس معلولاً لدخول شهر رمضان ونحوه من شرائطه.
وعلى الجملة: فالأحكام الشرعية بأجمعها اُمور اعتبارية فرفعها ووضعها بيد الشارع وفعل اختياري له، ولا يؤثر فيها شيء من الاُمور الطبيعية. نعم، الملاكات الموجودة في متعلقاتها وإن كانت اُموراً تكوينية إلاّ أنّ دخلها في الأحكام الشرعية ليس كدخل علة طبيعية في معلولها، بل هي داعية لجعل الشارع واعتباره إيّاها. أو فقل إنّها تدعو الشارع لجعلها واعتبارها كبقية الدواعي للأفعال الاختـيارية، لا أ نّها تؤثر في نفسها. فان اُريد من كون الأسباب الشرعية معرّفات ذلك فهو وإن كان متيناً من هذه الناحية إلاّ أ نّه يرد عليه من ناحية اُخرى، وهي أ نّه لا ملازمة بين عدم دخلها في الأحكام الشرعية وكونها معرّفات، بل هنا أمر ثالث وهو كونها موضوعات لها، يعني أنّ الشارع جعل الأحكام على تلك الموضوعات في مرحلة الاعتبار والانشاء

ــ[258]ــ

على نحو القضية الحقيقية، مثلاً أخذ الشارع زوال الشمس مع بقية الشرائط في موضوع وجوب صلاتي الظهرين في تلك المرحلة، وكذا أخذ الاستطاعة مع سائر الشرائط في موضوع وجوب الحج وهكذا، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنّ عدم دخل الأسباب الشرعية في أحكامها كدخل العلة الطبيعية في معلولها لا يستلزم كونها معرّفات محضة، بل هي موضوعات لها وتتوقف فعليتها على فعلية تلك الموضوعات، ولا تنفك عنها أبداً، ومن هنا تشبه العلة التامة من هذه الناحية، أي من ناحية استحالة انفكاكها عن موضوعاتها.
وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لموضوعات الأحكام في الواقع، ولا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد واجتماعه عليه، مثلاً عنوان الافطار في نهار شهر رمضان ليس بنفسه موضوعاً لوجوب الكفارة، بل هو معرّف لما هو الموضوع له في الواقع. وكذا الحال في مثل عنوان البول والنوم وما شاكلهما، فانّ هذه العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ليست بأنفسها موضوعات للأحكام بل هي معرّفات لها، ومن الطبيعي أ نّه لا مانع من اجتماع معرّفات متعددة على موضوع واحد.
فيرد عليه: أنّ ذلك وإن كان أمراً ممكناً في نفسه إلاّ أنّ ظواهر الأدلة لا تساعد على ذلك، حيث إنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها بأنفسها موضوعات للأحكام، لا أ نّها معرّفات لها، فالحمل على المعرّف يحتاج إلى قرينة وبدونها لا يمكن. وعلى الجملة: فالظاهر من الدليل عرفاً أنّ عنوان

ــ[259]ــ

الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة، لا أ نّه معرّف لما هو الموضوع له واقعاً، وكذا عنوان البول والنوم ونحوهما.
وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لملاكاتها الواقعية، ففيه: أ نّها ليست بكاشفة عنها بوجه، فانّ الكاشف عنها إجمالاً إنّما هو نفس الحكم الشرعي، وأمّا ما سمي سبباً له فلا يكون بكاشف عنها أصلاً.
فالنتيجة في نهاية المطاف: أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً. هذا إذا كان المراد من الأسباب الشرعية موضوعات الأحكام وشرائطها كما هو كذلك. وأمّا لو اُريد بها ملاكاتها الواقعية فالأمر في غاية الوضوح حيث إنّه لا معنى لدعوى كونها معرّفات كما هو ظاهر.
الخامس: أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان الشرط قابلاً للتعدد والتكرر، وأمّا إذا لم يكن قابلاً له فهو خارج عن محل الكلام، لعدم الموضوع عندئذ للقول بالتداخل وعدمه، وذلك كالافطار متعمداً في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة، حيث إنّه من العناوين التي لا تقبل التعدد والتكرر، فلو أكل الصائم عالماً عامداً في نهار شهر رمضان مرّةً واحدةً صدق عليه عنوان الافطار العمدي، وأمّا إذا أكل بعده مرّةً ثانيةً فلا يصدق عليه هذا العنوان، وبما أنّ موضوع وجوب الكفارة بحسب لسان الروايات(1) هو عنوان الافطار دون الأكل أو الشرب، فبطبيعة الحال لا يجري فيه النزاع المتقدم، ومن هنا لو أكل أو شرب في نهار شهر رمضان مرّات عديدة لم يجب
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10: 44 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 8.

ــ[260]ــ

عليه إلاّ كفارة واحدة. نعم، في خصوص الجماع والاستمناء تتعدد الكفارة بتعددهما، نظراً إلى أنّ الجماع والاستمناء بعنوانهما قد اُخذا في موضوع الكفارة في لسان الروايات(1)، ومن الطبيعي أ نّها تتعدد بتعددهما خارجاً.
وبكلمة اُخرى: أنّ غير الجماع والاستمناء من المفطرات بما أ نّها لم تؤخذ في موضوع وجوب الكفارة بعناوينها الأوّلية وإنّما اُخذت فيه بعنوان المفطر فمن الطبيعي أنّ عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب في نهار شهر رمضان، باعتبار أنّ الصوم قد اُفطر ونقض به فلا يصدق هذا العنوان على وجوده الثاني، لوضوح أنّ ما نقض غير قابل للنقض مرّةً ثانية، وإن كان الامساك بعد النقض والافطار أيضاً واجباً عليه إلاّ أ نّه ليس بعنوان الصوم الواجب، ومن هنا يجب قضاؤه ولا يكون الامساك المزبور مجزئاً عنه.
فالنتيجة: أنّ عنوان المفطر يتحـقق بصرف وجـود الأكل أو الشرب فلا يصدق على وجوده الثاني والثالث وهكذا، ولذا لا تتعدد الكفارة بتعدده، وهذا بخلاف الجماع والاستمناء حيث إنّ المأخوذ في لسان الرواية عنوان إتيان الأهل في نهار شهر رمضان وعنوان الاستمناء وهما من العناوين القابلة للتعدد والتكرر خارجاً، وعليه فلا محالة تتعدد الكـفارة بتعددهما، فلو أتى أهله أو استمنى في نهار شهر رمضان متعدداً وجبت عليه الكفارة كذلك، هذا.
ولكنّ السيد الطباطبائي صاحب العروة (قدس سره) (2) قال في جواب بعض المسائل التي سئل عنها: إنّ الكفارة تتعدد بتعدد الجماع والأكل، بدعوى
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10: 39 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 4.
(2) [ ولكنّه في العروة الوثقى 1: 33 المسألة 2 [ 2471 ] حكم بوحدة الكفارة في غير الجماع ].

 
 

ــ[261]ــ

أنّ عنوان الافطار كناية عن نفس الأكل والشرب ونحوهما من دون أن تكون له خصوصية، فأخذه في لسان الروايات إنّما هو بعنوان المعرّف لما هو الموضوع له واقعاً، ثمّ قال: وتدل عليه الروايات أيضاً.
وفيه: ما تقدم (1) من أنّ ظاهر الروايات هو أنّ عنوان الافطار بنفسـه موضوع لوجوب الكفارة لا أ نّه كناية عن الأكل والشرب، فحمله على المعرّف والكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة على الفرض. وأمّا ما أفاده (قدس سره) من دلالة الروايات على ذلك فيردّه: أ نّا لم نجد في هذا الموضوع ولا رواية واحدة تدل على ترتب وجوب الكفارة على عنوان الأكل والشرب فلا ندري ما هو مقصوده (قدس سره) من الروايات الدالة على ذلك. وبعد ذلك نقول:
أمّا الكلام في المقام الأوّل: وهو التداخل في الأسباب فيقوم على أساس أنّ القضية الشرطية ظاهرة في نفسها في التداخل أو في عدمه، فلو أتى المكلف أهله في نهار شهر رمضان مرّات عديدة، فان قلنا بالأوّل لم تجب عليه إلاّ كفارة واحدة، وإن قلنا بالثاني وجبت عليه كفارات متعددة.
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما إليك نصه: والتحقيق أ نّه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه، وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط، كان الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقةً أو وجوداً محالاً، ضرورة أنّ لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل: إذا بلت فتوضأ، وإذا نمت فتوضأ، أو فيما إذا بال مكرراً أو نام كذلك، محكوماً بحكمين متماثلين وهو واضح
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 259.

ــ[262]ــ

الاستحالة كالمتضادين، فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرف فيه إمّا بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرد الثبوت، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلاّ أ نّه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط(1) إلاّ أنّ الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً لها كما في: أكرم هاشمياً وأضف عالماً، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة، ضرورة أ نّه بضيافته بداعي أمرين يصدق أ نّه امتثلهما ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته وإن كان له امتثال كل منهما على حدة كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة، وأضاف العالم غير الهاشمي(2).
ما أفاده (قدس سره) يحتوي على عدة نقاط:
1 ـ أنّ القضية الشرطية في نفسها ظاهرة في الحدوث عند الحدوث، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط في القضية بنفسه سبباً للجزاء أو يكون كاشفاً عن السبب.
2 ـ أنّ الأخذ بهذا الظاهر لا يمكن، نظراً إلى أنّ متعلق الجزاء بما أ نّه حقيقة واحدة فلازم الأخذ به هو اجتماع الحكمين المتماثلين فيها وهو مستحيل كاجتماع المتضادين.
3 ـ أ نّه على القول بالتداخل لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين: إمّا أن يلتزم برفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث، وإمّا أن يلتزم
ـــــــــــــــــــــ
(1) [ في المصدر إضافة قوله: متصادقة على واحد، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشروط... ].
(2) كفاية الاُصول: 202.

ــ[263]ــ

بأنّ متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلاّ أ نّه متعدد واقعاً.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط: أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة. وأمّا النقطة الثانية: فيرد عليها ـ مضافاً إلى ما سوف يأتي في ضمن البحوث التالية ـ ما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا مانع من اجتماع الحكمين المتماثلين في شيء واحد، غاية الأمر أ نّه يوجب التأكد والاندكاك وصيرورتهما حكماً واحداً مؤكداً. ومن ذلك يظهر حال النقطة الثالثة حيث إنّه لا موجب لرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث، كما أ نّه لا معنى لدعوى أنّ الوضوء أو ما شاكله حقائق متعددة في الواقع ونفس الأمر، هذا.
ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام كلام وهو في غاية الصحة والجودة وإليك نصه: والحق هو القول بعدم التداخل مطلقاً، وتوضيح ذلك إنّما يتم ببيان أمرين:
الأوّل: ما تقدم سابقاً من أ نّه لا إشكال في أنّ كل قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية، كما أنّ كل قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، فالمعنى المستفاد منهما في الحقيقة شيء واحد، وإنّما الاختلاف في كيفية التعبير عنه، وعليه فكما أنّ الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة، إذ المفروض أنّ فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له، كذلك ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه، لأنّ أدوات الشرط اسمية كانت أم حرفية إنّما وضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير وإثبات التالي على هذا الفرض، فلا يكون بين القضية الشرطية والحقيقية فرق من جهة الانحلال أصلاً، وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجوداً، كما يتعدد بتعدد موضوعه في الخارج.

ــ[264]ــ

وأمّا تعدد الحكم بتعدد شرطه جنساً فهو إنّما يستفاد من ظهور كل من القضيتين في أنّ كلاً من الشرطين مستقل في ترتب الجزاء عليه مطلقاً، فانّ ظاهر قضية: إذا بلت فتوضأ، هو أنّ وجوب الوضوء مترتب على وجود البول ولو قارنه أو سبقه النوم مثلاً، وكذلك ظاهر قضية: إذا نمت فتوضأ، هو ترتب وجوب الوضوء على النوم ولو قارنه أو سبقه البول مثلاً، فاطلاق كل من القضيتين يستفاد منه استقلال كل من النوم والبول في ترتب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير، ولازم ذلك هو تعدد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج ووجودهما فيه.
الثاني: أنّ تعلق الطلب بشيء لا يقتضي إلاّ إيجاد ذلك الشيء خارجاً ونقض عدمه المطلق، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجود من وجودات الطبيعة، يكون الاتيان به مجزئاً في مقام الامتثال عقلاً. وأمّا توهم أنّ ذلك من جهة تعلق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أوّل الوجودات فهو فاسد، إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلق الطلب بعد عدم كونه مدلولاً عليه بالهيئة ولا بالمادة، ضرروة أنّ المادة لم توضع إلاّ لنفس الماهية المعرّاة عن الوجود والعدم. وأمّا الهيئة فهي لا تدل إلاّ على طلب إيجادها ونقض عدمها المطلق الصادق قهراً على أوّل الوجودات، وليس هناك ما يدل على اعتبار صرف الوجود في متعلق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئةً ومادةً، وعليه فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه، بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجـاد متعلقه خارجاً ونقض عدمه المطلق، فاذا فرض تعلق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كل منهما إيجاد تلك الماهية، فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرتين، كما هو الحال بعينه في تعلق إرادتين تكوينيتين

ــ[265]ــ

بماهية واحدة، فتعدد الايجاد تابع لتعدد الارادة تشريعيةً كانت أم تكوينية.
وبالجملة: أنّ كل أمر في نفسه لا يدل إلاّ على الطلب المقتضي لايجاد متعلقه، وأمّا كون هذا الطلب واحداً أو متعدداً فليس في الأمر بهيئته ومادته دلالة عليه قطعاً. نعم، إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدد الطلب وقد فرض تعلق الأمر بالطبيعة كان الطلب واحداً قهراً، إلاّ أ نّه من جهة عدم المقتضي لتعدده لا من جهة دلالة اللفظ عليه، فاذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلال وتعدد الطلب، أو فرض تعدد القضية الشرطية في نفسها، كان ظهور القضية في تعدد الحكم موجباً لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب ـ أعني به عدم المقتضي للتعدد ـ ووارداً عليه.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب، لكان ذلك من جهة عدم ما يدل على التعدد. فاذا دلت الجملة الشرطية بظهورها في الانحلال أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد الطلب، كان هذا الظهور لكونه لفظياً مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب. ومن هنا يظهر الفرق بين المقام الذي التزمنا فيه بتعدد الطلب، ومسألة تعلق الأمر بشيء واحد مرتين كما إذا قال المولى: صم يوماً، ثمّ قال: صم يوماً، التي التزمنا فيها بحمل الأمر الثاني على التأكيد كما تقدم، وذلك لأنّ ظهور الأمر الثاني في التأسيس وتعدد الحكم ليس ظهوراً لفظياً ليكون قرينة على صرف ظهور وحدة المتعلق في وحدة الحكم، بل هو من الظهورات السياقية، فكما يمكن أن يكون هو قرينة على التأسيس والتعدد، كذلك يمكن أن تكون وحدة المتعلق قرينة على الوحدة والتأكد فلا ينعقد حينئذ للكلام ظهور في التأسيس، ومعه لا مناص من الرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد على المتيقن فتكون النتيجة نتيجة التأكيد. وهذا بخلاف المقام فان ظهور القضية الشرطية في تعدد الحكم بما أ نّه ظهور لفظي

ــ[266]ــ

يكون رافعاً لظهور الجزاء في وحدة الحكم فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل(1).
ملخّص ما أفاده (قدس سره) نقطتان:
الاُولى: أنّ القضية الشرطية ظاهرة في انحلال الحكم بانحلال شرطه، حيث إنّ الشرط فيها هو الموضوع في القضية الحقيقية بعينه، ولا شبهة في انحلال الحكم فيها بانحلال موضوعه، ونتيجة ذلك هي تعدد الحكم بتعدد سببه وشرطه من دون فرق بين أن يكون التعدد بحسب الأفراد أو الأجناس.
الثانية: أنّ تعلق الطلب بشي والبعث نحوه يقتضي إيجاده في الخارج ونقض عدمه، فاذا فرض تعلق الطلب به ثانياً فهو يقتضي في نفسه إيجاده كذلك، نظراً إلى أنّ تعدد البعث يقتضي تعدد الانبعاث نحو الفعل لا محالة. ودعوى أنّ متعلق الطلب والبعث بما أ نّه صرف الوجود فهو غير قابل للتكرر، وعليه فبطبيعة الحال تكون نتيجة الطلبين إلى طلب واحد، بمعنى أنّ الطلب الثاني يكون مؤكداً للأوّل خاطئة جداً، وذلك لأن متعلق الطلب والبعث إيجاد الطبيعة، ومن المعلوم أنّ إيجادها يتعدد بتعدد وجوداتها في الخارج، فيكون لكل وجود منها فيه إيجاد خاص فلا مانع من تعلق كل طلب بايجاد فرد منها، ولا موجب لحمل الطلب والبعث الثاني على التأكيد، فانّه يحتاج إلى قرينة وإلاّ فكل بعث نحو فعل يقتضي في نفسه انبعاث المكلف إلى إيجاده، غاية الأمر في صورة التعدد يقتضي إيجاده متعدداً فيكون إيجاد كل فرد متعلقاً لبعث، كما هو مقتضى انحلال الحكم بانحلال شرطه وموضوعه.
فالنتيجة على ضوء هاتين النقطتين: هي أ نّه لا موضوع للتعارض بين ظهور
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 266 ـ 269.

ــ[267]ــ

القضية الشرطية في الانحلال والحدوث عند الحدوث وبين ظهور الجزاء في وحدة التكليف، حيث لا ظهور للجزاء في ذلك، بل قد عرفت أنّ تعدد الطلب والبعث ظاهر في نفسه في تعدد الانبعاث والمطلوب، فالحمل على التأكيد يحتاج إلى قرينة من حال أو مقال، كما إذا علم من الخارج أنّ الأمر الثاني للتأكيد أو علم ذلك من جهة ذكر سبب واحد لكلا الأمرين، كما إذا كرّر نفس السبب في القضية الاُولى مرّةً ثانية من دون التقييد بقيد كمرّةً اُخرى أو نحوها، مثل ما إذا قال المولى: إن جامعت فكفّر ثمّ قال: إن جامعت فكفّر، ففي مثل ذلك لا محالة يكون الأمر في القضية الثانية للتأكيد دون التأسيس، حيث إنّ ذكر سبب واحد لكليهما معاً قرينة على ذلك.
وأمّا إذا لم تكن قرينة في البين فلا محالة يكون تعدد الأمر ظاهراً في تعدد المطلوب فيكون تكليفان متعلقان بطبيعة واحدة، فاذا أتى المكلف بها مرّةً سقط أحدهما من دون تعيين، وإذا أتى بها مرّةً ثانية سقط الآخر، ونظير ذلك: ما إذا أتلف أحد درهماً من شخص واستقرض منه درهماً آخر، فحينئذ الثابت في ذمته درهمان: أحدهما من ناحية الاتلاف والآخر من ناحية القرض، فاذا أدّى أحد الدرهمين سقط أحدهما عن ذمته وبقي الآخر من دون تعيين وتمييز في أنّ الساقط هو الدرهم التالف أو الدرهم القرض، حيث إنّه لا تمييز بينهما في الواقع وفي ظرف ثبوتهما ـ وهو الذمة ـ وكذا إذا كان الثابت في ذمته صوم يومين أو أزيد من جهة نذر أو عهد أو قضاء صوم شهر رمضان أو ما شاكل ذلك، ففي مثل ذلك لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما عن ذمته من دون تعيين، لفرض عدم واقع معيّن لهما حتى في علم الله تعالى. وكذا الحال فيما إذا كان مديوناً بصلاتين متماثلتين بناءً على عدم اعتبار الترتيب بينهما.
والنكتة في ذلك: أنّ ما ثبت في الذمة من تكليف كالصلاة والصوم ونحو

ــ[268]ــ

ذلك أو وضع إذا كان له طابع خاص وإطار مخصوص من ناحية الزمان أو المكان أو ما شاكل ذلك، فلا بدّ في مقام الوفاء من الاتيان بما ينطبق عليه ما له طابع خاص وإلاّ لم يف به، كما إذا نذر صوم يومي الخميس والجمعة مثلاً حيث إنّ لكل منهما طابعاً خاصاً في الواقع فلا ينطبق على غيره. وأمّا إذا لم يكن له طابع خاص وخصوصية مخصوصة كما إذا نذر صوم يومين من الأيام من دون اعتبار خصوصية في شيء منهما، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال لا يكون بينهما ميز في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله سبحانه باعتبار أ نّه لا واقع له ما عدى ثبوته في الذمة، فعندئذ لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما لا بعينه من دون تمييز، حيث لا يتوقف سقوطه على وجود ميز في الواقع.
ودعوى أ نّه لا يمكن الحكم بالسقوط في أمثال المقام، فانّ الحكم بسقوط هذا دون ذاك ترجيح من دون مرجّح والحكم بسـقوط كليهما بلا موجب فلا محالة يتعين الحكم بعدم سقوط شيء منهما خاطئة جداً، حيث إنّ المفروض أ نّه لا تعيّن ولا ميز بينهما في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله تعالى ليقال إنّ الساقط هذا أو ذاك، فانّ الاشارة تستدعي أن يكون بينهما ميز في الواقع، وقد عرفت عدمه. فاذن لا محالة يكون الساقط أحدهما المبهم غير المميز والمعيّن في الواقع لانطباقه على المأتي به في الخارج جزماً وهو واضح.
أمّا الكلام في المقام الثاني ـ وهو التداخل في المسببات ـ فلا شبهة في أنّ مقتضى القاعدة هو عدم التداخل، لوضوح أنّ تعدد التكليف يقتضي تعدد الامتثال، والاكتفاء بامتثال واحد عن الجميع يحتاج إلى دليل، وقد قام الدليل على ذلك في باب الغسل، حيث قد ثبت أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الأغسال المتعددة ولو كان ذلك هو غسل الجمعة يعني لم يكن واجباً. وأمّا فيما لم يقم

ــ[269]ــ

دليل على ذلك فلا مناص من الالتزام بتعدد الامتثال، كما إذا وجبت على المكلف كفارة متعددة من ناحية أ نّه أتى أهله مثلاً في نهار شهر رمضان مرّات متعددة، أو من ناحية اُخرى ففي مثل ذلك لا تكفي كفارة واحدة عن الجميع حيث قد عرفت أنّ مقتضى الأصل عدم سقوط التكاليف المتعددة بامتثال واحد.
نعم، يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين متعلقي التكليفين عموماً وخصوصاً من وجه كما في قضيتي أكرم عالماً وأكرم هاشمياً، فانّ مقتضى القاعدة فيه هو سقوط كلا التكليفين معاً باتيان المجمع وامتثاله ـ وهو إكرام العالم الهاشمي ـ لانطباق متعلق كل منهما عليه، ومن الطبيعي أ نّه لا يعتبر في تحقق الامتثال عقلاً إلاّ الاتيان بما ينطبق عليه متعلق الأمر.
وبكلمة اُخرى: أنّ مقتضى إطلاق متعلق كل من الدليلين هو جواز امتثالهما منفرداً ومجتمعاً، حيث إنّ إكرام العالم لا يكون مقيداً بغير الهاشمي وبالعكس، وعليه فلا محالة إذا أتى المكلف بالمجمع بينهما انطبق عليه متعلق كل منهما، وهذا معنى سقوط كلا التكليفين بفعل واحد.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ المقام ليس من تأكد الحكم في مورد الاجتماع أصلاً كما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وذلك لأنّ التأكد في أمثال المقام إنّما يتصور فيما إذا تعلق كل من الحكمين بنفس مورد الاجتماع، كما إذا كان التكليف في كل من العامين من وجه انحلالياً، فعندئذ يكون مورد الالتقاء والاجتماع بنفسه متعلّقاً لكلا الحكمين معاً فيحصل التأكد بينهما فيصبحان حكماً واحداً مؤكداً، لاستحالة بقاء كل منهما بحدّه، وهذا بخلاف ما إذا كان التكليف في كل منهما بدلياً كما هو المفروض في المقام، فعندئذ لا يكون المجمع

ــ[270]ــ

بنفسه مورداً لكل من الحكمين، بل هو مما ينطبق عليه متعلق كل منهما، حيث إنّ متعلق التكليف في العموم البدلي هو الطبيعي الجامع الملغى عنه الخصوصيات، فالفرد المأتي به ليس بنفسه متعلقاً للأمر ليتأكد طلبه عند تعلق الأمرين به، بل هو مصداق لما يتعلق به الطلب والأمر. فالنتيجة: أنّ التداخل في أمثال المقام على القاعدة فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة.
وتظهر ثمرة ذلك في الفقه فيما إذا كانت النسبة بين الواجب والمستحب عموماً من وجه وكان كل من الوجوب والاستحباب متعلقاً بالطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات، أو كانت النسبة بين المستحبين كذلك. والأوّل كالنسبة بين صوم الاعتكاف، وصوم شهر رمضان أو قضائه أو صوم واجب بالنذر أو نحوه، حيث إنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فاذا أتى المكلف بالمجمع بينهما فانّه يجزئ عن كليهما معاً، لانطباق متعلق كل منهما عليه. والثاني كالنسبة بين صلاة الغفيلة ونافلة المغرب، حيث إنّ الأمر المتعلق بكل منهما مطلق فلا مانع من الجمع بينهما في مقام الامتثال باتيان المجمع بأن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب، فانّها تجزئ عن كليهما معاً، لانطباق متعلق كل منهما عليها، وكذا الحال بين صلاة جعفر ونافلة المغرب.
نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:
الاُولى: أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط، وأمّا انتفاء شخص الحكم المعلّق عليه بانتفائه فهو قهري فلا صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم، فالمراد منه انتفاء فرد آخر من الحكم عن الموضوع المذكور فيها بانتفاء الشرط. وعلى هذا فلا يكون انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه من المفهوم في شيء، ولا يفرق في ذلك بين كون الحكم المستفاد من الجزاء

ــ[271]ــ

مدلولاً إسمياً أو حرفياً.
الثانية: أ نّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً، كان تعدده على نحو التركيب أو التقييد.
الثالثة: أنّ الحكم الثابت في طرف الجزاء المعلّق على الشرط قد يكون انحلالياً وقد يكون غير انحلالي، وعلى الأوّل فهل مفهومه إيجاب جزئي أو كلي؟ اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) الثاني، والصحيح هو الأوّل وقد تقدم تفصيل ذلك بشكل موسّع.
الرابعة: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فمقتضى القاعدة فيه هو أنّ الشرط أحدهما، حيث إنّها تقتضي تقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، فالنتيجة من ذلك هي نتيجة العطف بكلمة أو.
الخامسة: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل القاعدة تقتضي التداخل في الأسباب أو المسببات أو لا هذا ولا ذاك، وقد تقدم أنّ مقتضى القاعدة عدم التداخل في كلا المقامين، فالتداخل يحتاج إلى دليل، وقد قام الدليل عليه في بابي الوضوء والغسل على تفصيل قد سبق.
السادسة: أنّ كون الأسباب الشرعية معرّفات لا يرجع عند التحليل إلى معنىً صحيح ومعقول.
السابعة: أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان كل من الشرط والجزاء قابلاً للتعدد والتكرر وإلاّ فلا موضـوع لهذا البحث على ما عرفت بشكل موسّع.
الثامنة: أنّ مقتضى القاعدة التداخل في المسبب فيما إذا كانت النسبة بين

ــ[272]ــ

الدليلين عموماً من وجه وكان العموم فيهما بدلياً، فانّ الاتيان بالمجمع في مورد الاجتماع يجزئ عن كلا التكليفين، لانطباق متعلق كل منهما عليه.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net